شعار الموقع

سورة البقرة - 16

00:00
00:00
تحميل
6


قال الله تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون} [البقرة:80].
 : [يقول تعالى إخبارا عن اليهود في ما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى: {قل أتخذتم عند الله عهدا} أي: بذلك، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده، ولكن هذا ما جرى ولا كان، ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل، أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.
قال محمد بن إسحاق عن سيف بن سليمان عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود كانوا يقولون: إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة، فأنزل الله تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} إلى قوله: {خالدون} ثم رواه عن محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
وقال العوفي: عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة، زاد غيره: وهي مدة عبادتهم العجل، وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة.
وقال الضحاك: وقال ابن عباس: زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم التي هي نابتة في أصل الجحيم.
وقال أعداء الله: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم، فتذهب جهنم وتهلك، فذلك قوله تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة}  يعني: الأيام التي عبدنا فيها العجل.
وقال عكرمة: (خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قوم آخرون يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم: بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد فأنزل الله عز وجل: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة}

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن جعفر حدثنا محمد بن محمد بن صخر حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ حدثنا ليث بن سعد حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا فلان: قال: كذبتم، بل أبوكم فلان، فقالوا: صدقت وبررت، ثم قال لهم: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم! وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسئوا، والله لا نخلفكم فيها أبدا، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم! قال: هل جعلتم في هذه الشاة سما؟ فقالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك) رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي من حديث الليث بن سعد بنحوه].
فهذه الآية الكريمة فيها بيان الأماني التي يتمناها اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وأنهم قالوا: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} وهذه الأيام المشهور أنها الأيام التي يزعمون أنهم عبدوا فيها العجل، وقيل غير ذلك.
وفي هذا الحديث الصحيح الثابت أنهم قالوا: نمكث فيها يسيرا ثم تخلفونا، فهم ادعوا هذه الدعوى وهذه الدعوى من باب الأماني، والأماني التي ليس عليها دليل لا يعول عليها وهي باطلة، ولهذا أنكر الله عليهم ذلك، قال: {قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده} [البقرة:80].
اليهود الذين ماتوا على الكفر خالدون مخلدون فيها نسأل الله العافية، كل من مات على الكفر فهو مخلد في النار لا يخرج منها أبد الآباد، وأما دعوى اليهود أنهم يمكثون فيها يسيرا، أو مدة أربعين يوما، أو مدة سبعة أيام، كل هذا من الأماني الباطلة التي قال الله في نظيرها لما قالوا: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} [البقرة:111] قال الله {تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [البقرة:111].
فالواجب على المسلم ألا يدعي دعوى إلا بدليل، وينبغي للمسلم أن يبتعد عن الأماني الباطلة، وأن يكون جادا في العمل، فيتوب إلى الله عز وجل ويعمل الأعمال الصالحة، ويترك التعلق بالأماني الباطلة، والتعلق بما عليه الآباء والأجداد، لا ينفع الإنسان إلا عمله، ولهذا قال النبي عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) والأنساب والأحساب والأموال والجاه والسلطان والأماني كلها ما تنفع الإنسان، ما ينفع الإنسان إلا ما قدم من عمل صالح.
قوله الله تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} [البقرة:81 - 82].
 : [يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة، بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار.
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي: آمنوا بالله ورسوله، وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا} [النساء:123 - 124].
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (بلى من كسب سيئة) أي: عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره، فماله من حسنة، وفي رواية عن ابن عباس قال: الشرك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه.
وقال الحسن أيضا والسدي: السيئة الكبيرة من الكبائر.
وقال ابن جريج عن مجاهد: (وأحاطت به خطيئته) قال: بقلبه.
وقال أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن: (وأحاطت به خطيئته) قال: أحاط به شركه.
وقال الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم: (وأحاطت به خطيئته) قال: الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب. وعن السدي وأبي رزين نحوه.
وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما وقتادة والربيع بن أنس: (وأحاطت به خطيئته) الموجبة الكبيرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى. والله أعلم].
المراد بالسيئة في الآية: سيئة الشرك، وهي قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) فمن أحاطت به خطيئته فلم يبق له حسنة زالت حسنة التوحيد بسيئة الشرك، وإلا فالسيئة التي دون الشرك تحت مشيئة الله، كما قال سبحانه: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء:48]. (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته)
[ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا سليمان بن داود حدثنا عمرو بن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سوادا، وأججوا نارا فأنضجوا ما قذفوا فيها)].
محقرات الذنوب هي: ما يحقرها الإنسان من المعاصي والذنوب، ويكون في نفسه صغيرا فالصغائر تجتمع صغيرة مع صغيرة حتى تهلك الإنسان، كما في هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم: قوم كانوا في برية أرادوا أن يطبخوا طعاما، وليس عندهم حطب، هذا جاء بعود وهذا جاء بعود، فاجتمع شيء سواد فأججوا نارا وأنضجوا به طعامهم، وكذلك السيئات هذه سيئة وهذه سيئة وهذه صغيرة تجتمع على الإنسان حتى تهلكه.
[وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} [البقرة:82] أي: من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له].
الصواب أن الجنة والنار باقيتان دائمتان لا تفنيان، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وأما ما روي عن بعض السلف أن النار تفنى، محمول عند بعض أهل العلم على طبقة العصاة نار العصاة، وهذا أحسن ما يحمل عليه، ثم الآثار في هذا كلها مطعون فيها لا تثبت.
شيخ الإسلام قرر أن النار باقية لا تفنى، ليس بصحيح ما يقال غيره وابن القيم ليس أيضا بصريح له في شفاء العليل أطال في نقل هذا القول واستدل له، وله قول آخر لعل له في المسألة قولان يحمل على أن له قولين في المسألة، وأنه رجع عن أحدهما.
[قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون} [البقرة:83]. يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذه ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصدا وعمدا وهم يعرفونه، ويذكرونه، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء:25].
وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل:36]، وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها؛ وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين، كما قال تعالى: {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} [لقمان:14]، وقال تبارك وتعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء:23] إلى أن قال: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} [الإسراء:26].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود، رضي الله عنهما: (قلت: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (أن رجلا قال: يا رسول الله! من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك، ثم أدناك، ثم أدناك)].
أي: بر أمك ثم أباك، وأباك: مفعول لفعل محذوف.
[وقوله تعالى: {لا تعبدون إلا الله} [البقرة:83]. قال الزمخشري: خبر بمعنى الطلب وهو آكد، وقيل: كان أصله: (ألا تعبدوا إلى الله) كما قرأها من قرأها من السلف، فحذفت أن فارتفع، وحكي عن أبي وابن مسعود أنهما قرآها: (لا تعبدوا إلا الله). ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه.
قال: واختاره الكسائي والفراء].
وهذا العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل مأخوذ هذه الأمة؛ وهو توحيد الله والإخلاص له وإخلاص الدين له، وهذا آكد الحقوق، فكل إنسان كتب عليه هذا العهد والميثاق أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا، وأن يبر والديه، وأن يحسن إلى اليتامى والمساكين، كما قال الله تعالى في آية الحقوق العشرة: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} [النساء:36] أعظمها وآكدها حق الله عز وجل، هذا مأخوذ على كل إنسان أخذه الله على الثقلين الجن والإنس، خلقهم لهذا الأمر العظيم، وأرسل الرسل وأنزل الكتب من أجله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56]، {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل:36].
ثم يأتي بعد حق الله عز وجل حق الوالدين؛ لأنه هم السبب في وجود الإنسان، هم أعظم الناس عليك حقا حقهما آكد الحقوق بعد حق الله عز وجل، ثم الإحسان إلى الأقارب،

[{واليتامى} [النساء:36] وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء، {والمساكين} [النساء:36] الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء التي أمرنا الله تعالى بها صريحا في قوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} [النساء:36] الآية.
وقوله تعالى: {وقولوا للناس حسنا} [البقرة:83] أي: كلموهم طيبا، ولينوا لهم جانبا، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وقولوا للناس حسنا} [البقرة:83] فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم ويعفو ويصفح، ويقول للناس حسنا كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا أبو عامر الخزاز عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تحقرن من المعروف شيئا، وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق)، وأخرجه مسلم في صحيحه والترمذي وصححه من حديث أبي عامر الخزاز، واسمه صالح بن رستم به].
وفي لفظ: (ولو أن تلق أخاك بوجه طلق)، وفي لفظ: (ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)، فمنطلق أو طلق أو طليق بمعنى واحد، أي: منبسط، والمعنى: يلقى أخاه منبسط الوجه، هذا من المعروف.
جاء في الأثر الآخر: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، وفي الحديث الآخر: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة).
[وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنا بعدما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي، ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة، فقال: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة:43]].
فالصلاة هي عبادة لله عز وجل عبادة بدنية، والزكاة عبادة مالية، فيها الإحسان إلى خلق الله

[ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة، فقال: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي: تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به إلا القليل منهم، وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} [النساء:36] فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها، ولله الحمد والمنة].
سيئة الكفر هي سيئة الشرك، المشرك هو الذي عبد مع الله غيره، والكافر هو الذي جحد توحيد الله وجحد حقه وعبد الشيطان، فالمشرك كافر والكافر مشرك، إذا كان الشرك أكبر فإنه يخرج من الملة، وكذا النفاق الأكبر.
[ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره: قال حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا عبد الله بن يوسف يعني التنيسي حدثنا خالد بن صبيح عن حميد بن عقبة عن أسد بن وداعة: أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهوديا ولا نصرانيا إلا سلم عليه، فقيل له: ما شأنك تسلم على اليهودي والنصراني؟ فقال: إن الله تعالى يقول: {وقولوا للناس حسنا} [البقرة:83] وهو السلام.
قال: وروي عن عطاء الخراساني نحوه].
عبد الله بن يوسف التنيسي ينسب إلى بلدة التنيس بمصر.
هذا إن صح عنه فهو محمول على أنه لم يبلغه النص في المنع من ابتداء أهل الكتاب بالسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه).
ورجاله ثقات، إلا حميد بن عقبة، وأسد بن وداعة صحابي.
[قلت: وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدءون بالسلام. والله أعلم].
قال الله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} [البقرة:84 - 86].
 : [يقول تبارك وتعالى منكرا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم، قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر؛ وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة].
قوله: استفكوا، يعني: طلبوا فك الأسارى.
[ولهذا قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [البقرة:85]. وقال تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} [البقرة:84] أي: لا يقتل بعضكم بعضا، ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم} [البقرة:54]؛ وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)].
قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء:29] مثل قوله تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم} [الحجرات:11] يعني: لا يقتل بعضكم بعضا، ولا يعب بعضكم بعض؛ لأن المؤمنين كالجسد الواحد، كالنفس الواحدة، وكل مسلم يتألم بألم أخيه، ويسره ما يسر أخاه، ويحزنه ما يحزنه. كالنفس الواحدة
وكذلك بنو إسرائيل كالنفس الواحدة، لا تقتلون أنفسكم يعني لا يقتل بعضكم بعضا، وأقروا بذلك، فعملوا ببعض الكتاب ولم يعملوا بالبعض الآخر، فادوهم عملا بالكتاب، وقاتلوهم مخالفة لكتابهم، عاب الله عليهم وأنكر عليهم، فهم يعملون ببعض الكتاب ولا يعملون بالبعض الآخر: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [البقرة:85].
 : [وقوله تعالى: {ثم أقررتم وأنتم تشهدون} [البقرة:84]، أي: ثم أقررتم بمعرفة هذا النفاق وصحته، وأنتم تشهدون به
قال الله تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم} [البقرة:85] الآية.
قال محمد بن إسحاق بن يسار حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم} [البقرة:85] الآية.
قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير، وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس].
ذكروا أن قريظة مع الأوس، وقينقاع وبني النضير مع الخزرج كما سبق.
 : [فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة، يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا نارا ولا بعثا ولا قيامة ولا كتابا ولا حلالا ولا حراما، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة وأخذ به بعضهم من بعض].
أي: أن الله حرم عليهم في التوراة أن يقتل بعضهم بعضا، وأن يخرجه من داره وأمره أن  يفاديه إذا وجده  أسيرا، فعملوا ببعض الكتاب، وهو مفاداة الأسرى بعد أن تضع الحرب أوزارها أن يفادي بعضهم بعضا وكفروا بالكتاب فلم يعملوا بما فيه من النهي عن القتل والإخراج، فقتل بعضهم بعضا، وأخرجه من داره ونهب أمواله وأخرجه من داره، ثم إذا وضعت الحرب فاداه عملا بالكتاب، يقتله أولا ويخرجه من داره يخالف الكتاب ثم إذا وضعت الحرب فاداه عملا بالكتاب فعمل ببعض الكتاب وكفر ببعض، فيه دليل على أن من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه فهو كافر بالجميع ولا يفيد عمله بالبعض، ولهذا قال سبحانه: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة:85].
ومن كفر بكتاب من كتب الله فقد كفر بالجميع، يجب على كل إنسان أن يؤمن بكتب الله جميعا، فمن آمن ببعض كتب الله وكفر بالبعض الآخر فهو كافر، كما أن من عمل ببعض الكتاب ولم يعمل بالبعض الآخر فهو كافر أيضا، وكذلك الرسل من آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم فهو كافر بالجميع؛ لأن الرسل متضامنون، المتقدم بشر بالمتأخر، والمتأخر صدق المتقدم، كما قال الله عن عيسى: {مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف:6]. ولهذا أخبر الله عن الأمم الكافرة التي كذبت نبيها أنها كفرت بجميع الرسل: {كذبت قوم نوح المرسلين} [الشعراء:105] {كذبت عاد المرسلين} [الشعراء:123]، {كذبت ثمود المرسلين} [الشعراء:141]، {كذب أصحاب الحجر المرسلين} [الحجر:80] كذبوا نبيا واحدا، لكن تكذيبهم لهذا النبي تكذيب لجميع الأنبياء والمراد جنس المرسلين {كذبت قوم نوح المرسلين} وليس قبل نوح رسول، أول رسول، ومع ذلك أخبر الله أنهم كذبوا المرسلين، فالرسل جاءوا بعد نوح، لكن المراد جنس المرسلين، فكذلك هؤلاء فتوعدهم الله بالنار، وبين أن هذا كفر بالجميع نعوذ بالله، وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك اليهود والنصارى فيصيبها ما أصابهم، فيه تحذير لهذه الأمة أن تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض
الواجب على كل إنسان أن يؤمن بجميع رسل الله وكتبه، واجب على هذه الأمة أن تؤمن بكتابها ونبيها وأن تعمل بالكتاب وتتبع الرسول عليه الصلاة والسلام وتحذر من جعل الكتاب عضين يؤمن ببعضه ويكفر ببعضه، {الذين جعلوا القرآن عضين} [الحجر:91] أجزاء، يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه، ومن كفر ببعض الكتاب فقد كفر بالجميع.
[يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم.
يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [البقرة:85]، أي: تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم، وفي حكم التوراة ألا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا].
وهم الأوس والخزرج كانوا أهل أوثان وكانوا يظاهرون أهل الأوثان على إخوانهم ويقتلونهم معهم ويظاهرون يعني يعاونون الأوس والخزرج عليهم.
[ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة].
المفاداة هذه مفاداة الأسرى فقط أما القتلى والإخراج من الديار هذا ليس فيه مفاداة؛ لأن الله تعالى عاب عليهم كونهم يقتلون أنفسهم ويسفكون دماءهم، ونفي المفاداة في سفك الدم ما فيه دية إنما في مفاداة الأسرى فقط
[وقال أسباط عن السدي: كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب بينهم، فتقاتلا بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفائهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم، فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن تستذل حلفاؤنا، فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى، فقال تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم} [البقرة:85] الآية.
وقال أسباط عن السدي عن الشعبي: نزلت هذه الآية في قيس بن الخطيم: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم}  الآية. وقال أسباط عن السدي، عن عبد خير].
عبد خير معروف يروي عن علي.
 : [قال: غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها، ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا، واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة، فلما مر برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد الله: يا رأس الجالوت! هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك تشتريها مني؟ قال: نعم، قال: أخذتها بسبعمائة درهم، قال: فإني أربحك سبعمائة أخرى، قال: فإني قد حلفت ألا أنقصها من أربعة آلاف، قال: لا حاجة لي فيها، قال: والله لتشترينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه، قال: ادن مني، فدنا منه، فقرأ في أذنه مما في التوراة: إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقه: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم} [البقرة:85] قال: أنت عبد الله بن سلام؟ قال: نعم، قال: فجاء بأربعة آلاف، فأخذ عبد الله ألفين ورد عليه ألفين وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: حدثنا أبو جعفر يعني الرازي، قال حدثنا الربيع بن أنس، أخبرنا أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرض، فقال عبد الله: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره، وغير ذلك من شئونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا} [البقرة:85]، أي: بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره: {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} [البقرة:85]، جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم: {وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة:74].
قال تعالى: {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} [البقرة:86].
 : [{أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} أي: استحبوها على الآخرة واختاروها: {فلا يخفف عنهم العذاب} أي: لا يفتر عنهم ساعة واحدة، {ولا هم ينصرون} أي: وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه].
ولا شك أن اليهود قوم بهت، وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تفعل فعل اليهود فيصيبهم ما أصابهم من الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. نسأل الله العافية.

[وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} [البقرة:89]].
والأحفاد على سيرة الأجداد، اليهود الموجودون في فلسطين الآن هم على آثار آبائهم وأجدادهم، فلا يرجى منهم خير، واليهود قوم بهت، ولم يسلم من اليهود إلا قلة منذ عهود طويلة، بخلاف النصارى فإنه يسلم منهم الآن المئات والآلاف في المراكز الإسلامية، لكن ما سمعنا أن يهوديا أسلم، فاليهود قوم بهت خبثاء، قلة منهم مثل عبد الله بن سلام رضي الله عنه. جاء في حديث ما معناه: (لو أسلم عشرة لأسلم أو لتبعهم الكثير)، فاليهود قوم بهت عندهم حسد وعناد وعتو وجبروت وقسوة في القلوب، نعوذ بالله، والنصارى أرق منهم وأقرب إلى قبول الحق، ولهذا يسلم الآن المئات في المراكز الإسلامية وغيرها وفي مكاتب الدعوة، وفي الشركات وخلق كثير من النصارى أما اليهود قوم خبثاء قليل منهم من يسلم
قال الله تعالى: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين} [البقرة:90].
 : قال مجاهد: ((بئسما اشتروا به أنفسهم)) يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه.
قوله: شروا الحق، يعني باعوا الحق شروه باعوه، مثل قوله: {وشروه بثمن بخس} [يوسف:20] يعني  باعوه بثمن بخس، بئس ما اشتروا به أنفسهم يعني باعوا واعتاضوا والمراد بالاشتراء الاعتياض.
[وقال السدي: (بئسما اشتروا) يقول: باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم عن تصديقه ومؤازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية بأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، ولا حسد أعظم من هذا.
قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة وسعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده} أي: أن الله جعله من غيرهم، {فباءوا بغضب على غضب} قال ابن عباس في الغضب على الغضب: فغضب عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم. قلت: ومعنى: باءوا: استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب.

فائدة (زيادة في نسخة)
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب قال حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش وكان من أهل بدر قال: كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنا على بردة مضطجعا فيها بفناء أصلي، فذكر البعث والقيامة والحساب، والميزان، والجنة والنار، قال ذلك بأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون بعثا كائنا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا؛ أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ فقال: نعم، والذي يحلف به، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غدا، قالوا له: ويحك، وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا فآمنا به، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا: ويلك يا فلان ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى وليس به.
تفرد به أحمد.
وحكى القرطبي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن يهود خيبر اقتتلوا في زمان الجاهلية مع غطفان، فهزمتهم غطفان، فدعا اليهود عند ذلك فقالوا: اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا بإخراجه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، قال فنصروا عليهم، قال: وكذلك كانوا يصنعون يدعون الله فينصرون على أعدائهم ومن نازلهم.
قال الله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا} أي: من الحق وصفة النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به فلعنة الله على الكافرين.

[قال ابن عباس في الغضب على الغضب: فغضب عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم. قلت: ومعنى: باءوا: استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب
وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، وعن عكرمة وقتادة مثله.
قال السدي: أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العجل، وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس مثله].
ولا منافاة بين هذه الأقوال، فالله غضب عليهم بتركهم العمل بالتوراة، ثم بكفرهم بعيسى، ثم بعبادتهم العجل، غضب الله عليهم بعد ذلك بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا منافاة بين هذه الأقوال، كلها حق.
[وقوله تعالى: {وللكافرين عذاب مهين} [البقرة:90]: لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر:60])) [الأعراف:206]، أي: صاغرين حقيرين ذليلين راغمين.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى قال حدثنا ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له بولس، تعلوه نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار)].
ابن عجلان فيه كلام، فقد حصل له اختلاف في حديث أبي هريرة، والحديث صحيح، ولا شك أن المتكبرين الذين يتكبرون عن الحق وعن الإيمان وعن التوحيد وعن الإيمان بالله وبرسوله لا شك أن لهم الصغار ولهم الإهانة ولهم عذاب النار.
قال الله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين * ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} [البقرة:91 - 92].
 : [يقول تعالى: (وإذا قيل لهم) أي: لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب (آمنوا بما أنزل الله) على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) أي: يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك (ويكفرون بما وراءه) يعني: بما بعده (وهو الحق مصدقا لما معهم) أي: وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (الحق مصدقا لما معهم) منصوبا على الحال، أي: في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} [البقرة:146]، ثم قال تعالى: {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} [البقرة:91] أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغيا وعنادا واستكبارا على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي، كما قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة:87].
وقال السدي في هذه الآية: يعيرهم الله تبارك وتعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد! ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا بما أنزل الله، قالوا نؤمن بما أنزل علينا لم تقتلون -إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله- أنبياء الله يا معشر اليهود! وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم؛ وذلك من الله تكذيب لهم في قوله: {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة:91] وتعيير لهم].
[{ولقد جاءكم موسى بالبينات} [البقرة:92]. أي: بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله، والآيات البينات: هي الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وفرق البحر، وتظليلهم بالغمام، والمن والسلوى، والحجر، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها: {ثم اتخذتم العجل} أي: معبودا من دون الله في زمان موسى وأيامه. وقوله {من بعده} أي: من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل، كما قال تعالى: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار} [الأعراف:148]، {وأنتم ظالمون} أي: وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف:149]].
وهم صنعوه العجل من الحلي من الذهب أخذوا الحلي من آل فرعون، ثم صنع السامري من الحلي الذهب هذا صنع عجلا له خوار، يعني: صوت حين تدخل الريح من فمه وتخرج من دبره، صنع عجلا يرون يشاهدون له خوار فصنع لهم عجلا فعبدوه من دون الله، عقلاء لكن الله أعمى بصائرهم، عقلاء ورجال ويفهمون ويعقلون وبينهم نبيهم هارون، لكنهم استضعفوه وكادوا يقتلونه، لما نهاهم عن ذلك قالوا: {قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [طه:91]. نرى إذا جاء موسى وقال ليس بإله تركناه ولا نقبل كلامك ولهذا لما غضب {قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين} [الأعراف:150]. يشاهدون ذهب يحملونه معهم قطع ذهب جاء السامري ومعروف أن الذهب مع الشيء يكون لينا مثل العجين صنع منه عجل وقال هذا يشاهدون ذهب يحملونه معهم قطع ذهب جاء السامري ومعروف أن الذهب مع الشيء يكون لينا مثل العجين صنع منه عجل وقال هذا إلهكم وإله موسى فعبدوه يشاهدونه ذهب أخذوه معهم نسأل الله السلامة والعافية أين ذهبت العقول إذا أعمى الله البصائر ولهذا قال تعالى {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار}[الأعراف:148] قال الله { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين} وكيف يصلح أن يكون إلها لا يكلم ولا يرد الجواب، ولا يأخذ ولا يعطي، ولا يهدي سبيلا نسأل الله السلامة والعافية ثم بعد ذلك لما جاءهم موسى وأنكر عليهم، وحرق العجل وهم ينظرون، سقط في أيديهم وعلموا أنهم قد ضلوا: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف:149].
قول الله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} [البقرة:93].
 : [يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم، ومخالفتهم للميثاق، وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه، ولهذا قالوا: {قالوا سمعنا وعصينا} وقد تقدم تفسير ذلك

{وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} قال: أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن خالد بن محمد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبك الشيء يعمي ويصم)، ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بقية عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به].
وهذا الحديث بسنديه ضعيف، الأول فيه أبو بكر بن أبي مريم، والثاني فيه أيضا أبو بكر بن أبي مريم، وفيه أيضا بقية بن وليد، مدلس وقد عنعن، ولكن المعنى صحيح. حبك الشيء يعمي ويصم
ومعنى حبك الشيء يعمي ويصم، أي: يعمي عن نظر الحق، ويصم عن سماع الحق ويبكم عن التكلم بالحق في الغالب إذا ضعف الإيمان فإن حب الإنسان للشيء يعميه عن الحق، فلا يراه واضحا، ويصمه فلا يسمعه، ويبكمه فلا يتكلم به.
وهؤلاء-والعياذ بالله- أشربوا في قلوبهم العجل يعني حب العجل، يرون السامري أخذ الذهب الذي جاءوا به من مصر يعجنه بيده ويصوره ويجعله عجل، ثم يعبدونه من دون الله وهم يشاهدون ويقول {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} [طه:88]، ثم يتابعونه ويعبدونه إذا عميت البصائر فلا حيلة، كيف يشاهدونه ذهب أتوا به معهم من مصر يصنع منه عجل ثم يعبدونه إلها نسأل الله السلامة والعافية من عمى البصيرة إذا عميت البصائر فلا حيلة وإلا كيف عقلاء يشاهدون عجل مصنوع من ذهب وهم يشاهدونه والذهب أتوا به معهم ثم يعبدونه إلها حبك الشيء يعمي ويصم، {وأشربوا في قلوبهم العجل} يعني: حب العجل والعياذ بالله على تقدير حذف المضاف، وهذا أسلوب عربي معروف، فالقرآن نزل بلغة العرب. يحذف الشيء إذا كان واضحا
[وقال السدي: أخذ موسى عليه الصلاة والسلام العجل فذبحه بالمبرد، ثم ذراه في البحر، ثم لم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء، ثم قال لهم موسى: اشربوا منه، فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول الله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} [البقرة:93].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عمير وأبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال: عمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد].
ظاهر السند أنه لا بأس به، لكن هذه الأخبار من أخبار بني إسرائيل، ولا شك أن موسى عليه السلام حرق العجل وذراه في البحر، هذا نص الله عليه في كتابه، قال تعالى: {وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا} [طه:97].لكن كونه شربوا منه فاصفرت وجوههم أو ظهر عليهم الذهب من أخبار بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب
عمارة بن عمير لم يسمع من علي، لكنه مقرون بـ أبي عبد الرحمن السلمي وهو عبد الله بن حبيب وقد سمع من علي، والحديث رجاله رجال الصحيح، لكن أبا إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث، وهذا والذي قبله من كلام السدي لا يعتمد عليهما؛ لاحتمال أن القصة من قصص بني إسرائيل.
وعلى كل حال السند لا بأس به، لكنه من أخبار بني إسرائيل.
قال: [عن علي رضي الله عنه قال: عمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد، فبرده بها وهو على شاطئ نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب.
وقال سعيد بن جبير: {وأشربوا في قلوبهم العجل} [البقرة:93] قال: لما أحرق العجل برد ثم نسف، فحسوا الماء حتى عانت وجوههم كالزعفران.
وحكى القرطبي عن كتاب القشيري: أنه ما شرب أحد منه ممن عبد العجل إلا جن.
ثم قال القرطبي: وهذا شيء غير ما هاهنا؛ لأن المقصود من هذا السياق أنه ظهر على شفاههم ووجوههم، والمذكور هاهنا أنهم أشربوا في قلوبهم العجل، يعني: في حال عبادتهم له، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة:

تغلغل حب عثمة في فؤادي      فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب      ولا حزن ولم يبلغ سرور

تكاد إذا ذكرت العهد منها     أطير لو أن إنسانا يطير

وقوله: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} [البقرة:93]. أي: بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمور عليكم، إذ كفرتم بخاتم الرسل، وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق وكفركم بآيات الله وعبادتكم العجل من دون الله].
المقصود من هذا تحذير هذه الأمة من أن تسلك مسلك بني إسرائيل فيصيبهم ما أصابهم، فالله تعالى أخذ عليهم الميثاق أن يعملوا بالتوراة ويتابعوا موسى عليه الصلاة والسلام، ورفع فوقهم جبل الطور حتى يقبلوا فقبلوا ثم خالفوا؛ لعتوهم وعنادهم، والله تعالى قص علينا أخبارهم لنحذرها؛ لأن أفعال اليهود أفعال شنيعة وأفعال قبيحة؛ خالفوا الرسل، وقتلوا الأنبياء، وخالفوا أوامر الله، فالواجب على الأمة الإسلامية أن تسابق إلى الخيرات وأن تعمل الصالحات، واجب على كل مسلم أن يؤمن بالله ورسوله وباليوم الآخر، وأن يحكم الكتاب والسنة، وأن يعمل بكتاب ربه وسنة نبيه، وألا يتشبه باليهود ومن سلك سبيلهم في مخالفة الأنبياء ومخالفة الأوامر والعناد.
قول الله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون} [البقرة:94 - 96].
 : [قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [البقرة:94]، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين} [البقرة:95] أي: بعلمهم بما عندهم من العلم، بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات ].
يعني: لا يتمنوه بسبب ما عندهم من العلم بأنهم على الباطل، هم على الباطل يعلمون أنهم على الباطل فلا يتمنون الموت؛ لأنهم إذا تمنوا الموت ضاعت عليهم الدنيا، وهم يعلمون أنهم هالكون في الآخرة، هم مريدون الدنيا الآن؛ لأنها هي التي لهم الآن، فإذا تمنوا الموت خسروا الدنيا مع الآخرة، فلا يتمنون الموت.
وكذلك المباهلة وهم يعلمون إذا باهلوا النبي ﷺ يباهلهم يقول إذا كنتم صادقين فادعوا بالموت على الكاذب منا أو منكم، والمباهلة يعاجل بالعقوبة على الكاذب، ولهذا امتنع نصارى نجران لما باهلهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يعلمون أنهم على الباطل، وهؤلاء اليهود امتنعوا كذلك.
ورد عن ابن عباس أنه طلب المباهلة في بعض المسائل الخلافية.

[أي: بعلمهم بما عندهم من العلم، بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات وقال الضحاك عن ابن عباس: {فتمنوا الموت} [البقرة:94]]
أيضا كذلك ورد عن عمر وبلال في مسائل المباهلة، وأن عمر دعا قال: اللهم اكفني بلالا وذويه، كأنه إما مباهلة أو قريب من المباهلة، وابن عباس كان أيضا يقول: من يباهلني في بعض المسائل الخلافية، إذا اشتد النزاع بينه وبين خصمه، وتأكد أنه على الحق، وأن خصمه على الباطل، لكن الواجب في المسائل الخلافية الرجوع إلى الكتاب والسنة، والمسلمون يرجعون إلى الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء:59]، ولكن قد يتعصب بعض الناس وقد يشتد النزاع، وقد يكون الفريق الآخر مبتدع.
المباهلة الكاذب يعاجل بالعقوبة كما في آية نصارى نجران امتنعوا وكما في الآية هذه اليهود امتنعوا من المباهلة لأنهم يعلمون أنهم على الباطل

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد