شعار الموقع

سورة البقرة - 31

00:00
00:00
تحميل
4

[قال الله عز وجل: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} [البقرة:177].

هذه الآية آية عظيمة سماها آية البر، ذكر الله فيها خصال البر القولية والفعلية اشتملت على هذه الخصال العظيمة، فمن حقق هذه الصفات واستقام عليها فهو الصادق في إيمانه وبره وتقواه وهو المتقي، وهو من المتقين حقا.

[قال الحافظ رحمه الله: اشتملت هذه الآية على جمل عظيمة وقواعد عميمة، وعقيدة مستقيمة، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبيد بن هشام الحلبي، حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عامر بن شفي، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن أبي ذر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ فتلا عليه {ليس البر أن تولوا وجوهكم} إلى آخر الآية، قال: ثم سأله أيضا، فتلاها عليه، ثم سأله فقال: «إذا عملت حسنة أحبها قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك» وهذا منقطع، فإن مجاهدا لم يدرك أبا ذر، فإنه مات قديما، وقال المسعودي: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن قال: جاء رجل إلى أبي ذر، فقال: ما الإيمان؟ فقرأ عليه هذه الآية {ليس البر أن تولوا وجوهكم} حتى فرغ منها، فقال الرجل: ليس عن البر سألتك]

المسعودي ضعيف، السند منقطع، لكن المعنى صحيح أن المؤمن إذا عمل الحسنة سرته، وإذا عمل السيئة ساءته.

[فقال الرجل: ليس عن البر سألتك فقال أبو ذر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه فقرأ عليه هذه الآية فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده «المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها» ورواه ابن مردويه، وهذا أيضا منقطع، والله أعلم]

لكن المعنى صحيح دلت عليه النصوص وهو أن المؤمن إذا عمل حسنة سرته ووجد ثوابها، وإذا عمل سيئة أحزنته فخاف عقابها.

[وأما الكلام على تفسير هذه الآية، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجه واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه، ولهذا قال {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} الآية، كما قال في الأضاحي والهدايا {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}[الحج: 37]

البر في امتثال أمر الله واجتناب نهيه، فالمؤمن عبد لله مطيع إذا وجه إلى بيت المقدس توجه، وإذا وجه إلى الكعبة توجه وهكذا، فليس البر أن تتوجه إلى هذه الجهة ولا هذه الجهة إلا إذا أمر الله بذلك، لهذا بين الله سبحانه وتعالى لبعض المؤمنين أو لغيرهم ممن تأثر لما حولت القبلة بين الله أن الإيمان هو اتباع ما جاء عن الله وعن رسوله r، البر طاعة الله، فالناس عبيد مأمورون إذا وجههم الله إلى هذه الجهة اتجهوا، وإذا وجهوا إلى جهة أخرى اتجهوا.

[وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا، فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود، فأمر الله بالفرائض والعمل بها، وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك، وقال أبو العالية: كانت اليهود تقبل قبل المغرب، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق، فقال الله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله وقال مجاهد ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل، وقال الضحاك: ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها وقال الثوري {ولكن البر من آمن بالله} الآية قال: هذه أنواع البر كلها، وصدق رحمه الله، فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله وأنه لا إله إلا هو، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله.

{والكتاب} وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين]

وهذه الآية هي آية البر ذكر الله فيها خصال البر، فسر البر بالإيمان، وذلك لأن البر إذا أطلق يشمل الإيمان والإسلام، يشمل أمور الدين كلها، كلها تسمى بر، تسمى تقوى، تسمى إسلام، تسمى إيمان، فالإيمان إذا أطلق دخل فيه الإسلام، والإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان، قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران:19] يعني: والإيمان، إن الدين عند الله الإسلام وهو الإيمان {ومن يبتغ غير الإسلام دينا} [آل عمران:85] وهو الإيمان، {فلن يقبل منه}[آل عمران:85] وهو البر، وهو التقوى  وهو الهدى، كلها هذه المعاني إذا أطلق واحد منها دخل فيه جميع أمور الدين، والإيمان أصله التصديق ثم يتبعه أعمال القلوب، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين}.

أصل الإيمان التصديق بهذه الأمور المذكورة في الآية؛ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، هذه أركان الإيمان، والركن السادس: الإيمان بالقدر، كما في قوله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر:49]، وكما في حديث جبريل لما سأل النبي r عن الإيمان قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، فالإيمان أصله التصديق، ثم تتبعه أعمال القلوب.

وأصل الإسلام الانقياد والذل والخضوع بالأعمال، بأعمال الجوارح ولهذا فسر الإسلام بالشهادتين والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ثم تتبعه بقية الأعمال، والإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان، ليس هناك إسلام بلا إيمان، الأعمال لابد من إيمان يصححها، وكذلك الإيمان إذا أطلق دخل فيه الإسلام، لابد للإيمان من أعمال يتحقق بها، فلا إسلام بلا إيمان ولا إيمان بلا إسلام ثم ذكر بقية خصال البر كما قال الحافظ رحمه الله، آية عظيمة جمعت خصال البر، جمعت أمور الدين، والعقيدة السليمة.

[وقوله: {وآتى المال على حبه} أي أخرجه وهو محب له راغب فيه، نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر» وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة والثوري عن منصور، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {وآتى المال على حبه} أن تعطيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش وتخشى الفقر ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه قلت: وقد رواه وكيع عن الأعمش، وسفيان عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود موقوفا، وهو أصح، والله أعلم.

وقال تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} [الإنسان: 8- 9] وقال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] وقوله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9] نمط آخر أرفع من هذا، وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له]

يعني: الإطعام يتنوع وبعضه أرفع من بعض، فإذا أطعم المال وهو محتاج إليه ليس عنده غيره فهذا أفضل ممن أطعم الطعام على حبه وهو يجد غيره، وكل منهما له فضل لكن هذا أرفع: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} هو محتاج إلى الطعام ثم يعطيه غيره، يحتاج ما عنده غيره، ثم يؤثر المسكين على نفسه، والثاني أن يطعم الطعام وهو محتاج إليه، وهو يحبه، لكن يجد غيره.

[وقوله: {ذوي القربى} وهم قرابات الرجل وهم أولى من أعطى من الصدقة]

يعني: {وآتى المال على حبه} وهو يحبه، هذه الأصناف: {ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب} يعني: أنفقه في هذه الوجوه، على القرابات قرابة الإنسان من جهة الأب ومن جهة الأم، واليتامى من فقدوا آبائهم وهم صغار دون البلوغ، والمساكين وهم الفقراء، والسائلين، وفي الرقاب.

[كما ثبت في الحديث «الصدقة على المساكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة، فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك» وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز واليتامى هم الذين لا كاسب لهم، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب، وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن جويبر، عن الضحاك عن النزال بن سبرة، عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتم بعد حلم»]

هذا ضعيف لكن معناه صحيح أنه إذا بلغ الحلم زال عنه اليتم، قال تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم}[النساء:6] هذا صحيح أنه إذا بلغ الحلم زال عنه اليتم، ما يسمى يتيم، إذا بلغ ارتفع عنه اليتم، لكن الحديث هذا ضعيف، واليتيم إنما يعطى من المال إذا لم يكن عنده مال، إذا لم يخلف له وارثه شيء، أما إذا كان عنده مال  لا يعطى من الزكاة، لكن الله تعالى نص عليه لأن الغالب أنهم يكونوا محتاجين، إذا كان اليتيم قد خلف له وارثه؛ أبوه مال يكفيه فلا يعطى من الزكاة، يعطى من صدقة التطوع لا بأس.

[{والمساكين} وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم]

لمدة سنة، الفقير يعطى ما يكفيه لمدة سنة من نفقة، وكسوة، وسكنى؛ لأن الزكاة من العام إلى العام، وإذا كان عنده بعض الشيء لكن ما يكفيه، أو عنده مرتب ولا يكفيه، أو يكسب ولا يكفيه يكمل له ما يكفيه، إذا كان مثلا يكسب فقير له مرتب في الشهر ثلاثة آلاف لكن عنده عائلة كبيرة ما يكفيهم إلا ستة آلف فيعطى ثلاثة آلاف حتى يكمل، أو يستأجر بيت يستطيع يسدد نصف الأجر ولا يستطيع أن يسدد الباقي يعطى ما يكمل له من الزكاة.

في العادة ينظر إذا كانت من الضروريات، لكن قد لا يكون محتاج إليها؛ لأن السيارة مكلفة الآن وتحتاج إلى نفقات الآن، وثمنها ينزل ما هو بحاجة، كونه يوميا يستأجر أوفر له للفقير، لو استأجر كل يوم عدة مشاوير أرخص من السيارة، السيارة ينزل ثمنها وتحتاج إلى مصاريف، وإصلاحات، فيتحرى غلبة الظن.

[وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه».

يعني: هذا نفي الوصف ممن هو موجود فيه لإثباته لمن هو أولى منه، الرسول r نفى المسكنة عن هذا وهي موجودة فيه ليثبتها لمن هو أولى منه: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه» هذا أشد منه، والأول مسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، هذا مسكين لكن أشد منه الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يقوم ويسأل الناس، «ولا يفطن له فيتصدق عليه» المسكين الذي يأتي ويدق الأبواب ويشحذ هذا يعطيه ريال، وهذا يعطيه عشرة، وهذا يعطيه خمسة ويتجمع عنده شيء، لكن أشد منه مسكنة من يستحي، يستحي ما يسأل، وليست عليه علامة الفقر ظاهرة، فهو لا يسأل الناس لأنه يستحي، ولا يفطن له فيتصدق عليه؛ لأنه ليست عليه علامة الفقر ظاهرة، ولا يجد غنى يغنيه، ما عنده شيء، ويستحي أن يسأل وليس عليه علامة الفقر، هذا هو الذي ينبغي أن يبحث عنه، هذا أشد مسكنة من الأول وإلا الأول مسكين، لكن هذا أشد منه، النبي r نفى المسكنة عن من هو موجود فيه ليثبتها لمن هو أولى منه مثل الحديث الآخر: «ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» الصرعة الذي يصرع الناس شديد وقوي، لكن أشد منه الذي يملك نفسه عند الغضب، «ليس الشديد بالصرعة» الذي يصرع الناس، ويطرح الناس، هذا شديد وقوي، لكن أشد منه «الذي يملك نفسه عند الغضب» ومثل الحديث الآخر: «ليس الرقوب الذي لا يولد له إنما الرقوب الذي لم يقدم شيئا من الولد» العقيم الذي لا يولد له يسمى رقوب، لكن أشد منه الذي لم يقدم ولدا، لأن الأولاد وهم صغار يكونوا حجاب من النار، فهذا نفى النبي r الوصف لمن هو موجود فيه ليثبته لمن هو أولى منه.

[{وابن السبيل} وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو جعفر الباقر والحسن وقتادة والضحاك والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان]

الضيف له حق يعطى حق الضيافة من غير الزكاة، يجب أن يعطى حق الضيافة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه وجائزته يوم وليلة» والضيافة ثلاثة أيام، المقصود: أن الضيف يعطى حق الضيافة من غير الزكاة، وإذا أراد أن يسافر وهو ليس عنده شيء يعطى من الزكاة؛ لأنه ابن سبيل.

بعضهم يكون عنده تخريف في العقيدة، الفقير يعطى، فقير وابن سبيل.

[{والسائلين} وهم الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات، كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا: حدثنا سفيان عن مصعب بن محمد، عن يعلى بن أبي يحيى، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها قال عبد الرحمن حسين بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «للسائل حق وإن جاء على فرس» رواه أبو داود]

هذا ضعيف، مصعب بن محمد، هو ضعيف، وكذلك يعلى بن أبي يحي عن فاطمة كذلك منقطع، فهو ضعيف الحديث: «للسائل حق وإن جاء على فرس» لكن السائل قال الله تعالى: {والسائلين} في هذه الآية، وقال في آية أخرى {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} [المعارج:24-25]

السائل على ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: أن يعلم أنه فقير وأنه محتاج، فهذا يعطى.

الحالة الثانية: أن يعلم أنه غير محتاج وأنه كذاب، هذا لا يعطى ينصح ويزجر، ويرفع به إلى ولاة الأمور إذا لم يرتدع.

الحالة الثالثة: أن تجهل حاله ما يعلم أنه فقير ولا يعلم عن حاله، فهذا يعطى بعض الشيء؛ لأنه قد يكون محتاج وأنت لا تعلم حاله، هو داخل في عموم الآية: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} [المعارج:24-25].

مصعب بن محمد بن عبد الرحمن بن شرحبيل العبدي المكي، عن أبي أمامة الباهلي روى عنه السفيانان وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.

يعلى روى عن فاطمة.

[{وفي الرقاب} وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم، وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصدقات من براءة إن شاء الله تعالى]

الرقاب: العبيد الذين يشترون أنفسهم، المكاتبون، أو يشترى عبيد، ويدخل في ذلك الأسير الذي عند الكفار من المسلمين يفك من الزكاة، والعبد الذي اشترى نفسه يعطى ما يسدد دينه.

[وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا شريك عن أبي حمزة عن الشعبي، حدثتني فاطمة بنت قيس، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة؟ قالت: فتلا علي {وآتى المال على حبه} ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن إياس ويحيى بن عبد الحميد كلاهما عن شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «في المال حق سوى الزكاة» ثم قرأ {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} إلى قوله: {وفي الرقاب} وأخرجه ابن ماجه والترمذي، وضعف أبا حمزة ميمونا الأعور]

يعني الترمذي ضعف أبا حمزة وهو ميمون الأعور، والحديث ضعيف، ولكن المال فيه حقوق أخرى سوى الزكاة، لكن لها أسباب، المال حق، كالنفقة على الوالدين، النفقة على الزوجة، النفقة على الأولاد، والنفقة على الضيف، كل هذه حقوق لها أسباب، وكما مر معنا في صحيح مسلم في الإبل أنه وجب حلبها على الماء للمساكين وإعارة دلوها ومنيحتها، وحمله عليها في سبيل الله؛ هذه كلها حقوق زائدة على الزكاة وهي غير الزكاة لكن لها أسباب.

لكن هذا الحديث ضعيف لكن معناه صحيح: المال فيه حقوق أخرى غير الزكاة بأسبابها، لها أسباب، المتزوج عليه أن ينفق على زوجته وأولاده، ومن عنده والدان ينفق عليهما إذا كانا محتاجين، وهكذا، وإذا نزل به الضيف وجب عليه أن ينفق عليه ويقوم بواجب الضيافة، لها أسباب غير الزكاة.

(يعلي بن أبي يحي عن فاطمة بنت الحسين، وعنه مصعب بن محمد، قال أبو حاتم: مجهول، ووثقه ابن حبان) المقصود أن الحديث ضعيف: «للسائل حق وإن جاء على فرس» ضعيف.

[وضعف أبا حمزة ميمونا الأعور وقد رواه سيار وإسماعيل بن سالم عن الشعبي]

ذكر الحافظ أن الترمذي ضعفه.

[وقوله{وأقام الصلاة وآتى الزكاة} أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي وقوله{وآتى الزكاة} يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة كقوله{قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}[الشمس 9- 10] وقول موسى لفرعون {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى}[النازعات: 18] وقوله تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة}[فصلت: 7] ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال، كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين، إنما هو التطوع والبر والصلة، ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس أن في المال حقا سوى الزكاة، والله أعلم]

الأقرب: أنها زكاة المال، وأما زكاة النفس ذكرت في قوله: {وآتى المال على حبه} هذا من زكاة النفس {قد أفلح من زكاها} يعني: طهرها، هذا تزكية النفس داخلة في {وآتى المال على حبه} ويكون في هذه الآية الزكاة هي زكاة المال.

[وقوله: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} كقوله: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} [الرعد: 20] وعكس هذه الصفة النفاق كما صح في الحديث «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وفي الحديث الآخر: «وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».

وقوله: {والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس} أي في حال الفقر وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام وهو الضراء وحين البأس أي في حال القتال والتقاء الأعداء]

هذه أمور شديدة تحتاج إلى صبر وتحمل، الفقر، والبأساء، الفقر يحتاج إلى صبر وتحمل، فلا يجزع ولا يتسخط، ولا يتكلم بما لا يليق، ولا يفعل شيئا يغضب الله، وكذلك الصبر عند الضراء، عند الأمراض والأسقام، وكذلك الصبر عند البأس وعند ملاقاة العدو في الشدة مقارعة الأعداء والرمي بالنبال والسيوف هذا يحتاج إلى صبر وتحمل الله تعالى أثنى على الصابرين في هذه المواضع الثلاثة {والصابرين في البأساء} عند الفقر، {والضراء} عند الأمراض والأسقام، {وحين البأس} عند الحرب والقتال.

[{وحين البأس} أي في حال القتال والتقاء الأعداء قاله ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومرة الهمداني]

الهمداني بالدال نسبة إلى قبيلة همدان، أما بالذال تكون همذان، نسبة إلى بلدة في الشرق همذان، لكن همداني نسبة إلى القبيلة بإسكان الميم والدال المهملة، أما همذان بفتح الميم والذال المعجمة، هذه بلدة في إيران في الشرق.

[ومرة الهمداني ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وأبو مالك والضحاك وغيرهم، وإنما نصب الصابرين على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته والله أعلم]

يعني أمدح الصابرين على تقدير فعل محذوف

 [وهو المستعان وعليه التكلان وقوله: {أولئك الذين صدقوا}، أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا، {وأولئك هم المتقون} لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات]

لا شك أنهم هم الصادقون صدقت أفعالهم وأعمالهم أقوالهم، آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ثم عملوا هذه الأعمال العظيمة، وهم المتقون الذين اتقوا المحارم، اتقوا الشرك والمعاصي، واستقاموا على طاعة الله، هذه آية عظيمة نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.

[قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:178-179]

يقول تعالى: كتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون، حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة والنضير، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم، فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به، بل يفادى بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية القرظي، فأمر الله بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين المخالفين لأحكام الله فيهم كفرا وبغيا، فقال تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني عبد الله بن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} يعني: إذا كان عمدا الحر بالحر، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل العبد منا الحر منهم، والمرأة منا الرجل منهم، فنزل فيهم {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} منها منسوخة نسختها النفس بالنفس]

العبارة الأخيرة فيها بعض القلق منها منسوخة نسختها النفس بالنفس لعلها منسوخة بدون منها، أو وهي منسوخة، العبارة خطية تراجع.

[وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قوله: {والأنثى بالأنثى} وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله {النفس بالنفس والعين بالعين} فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس وجعل العبيد مستويين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: {النفس بالنفس}]

يعني: هذا يبين العبارة السابقة أنها منسوخة بـ النفس بالنفس.

أنه ليس هناك نسخ، وإنما هذه الآية مخصصة، مخصصة لآية: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن} [المائدة:45] خصصتها هذه الآية، وآية المائدة وإن كانت في بني إسرائيل إلا أنها مما وافقت فيه الشريعة المحمدية الشريعة الموسوية؛ لأن الله تعالى ساقها وأقرها ولم يأت ما يخالفها فهذه الآية مخصصة آية البقرة: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} مخصصة لآية المائدة: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين} خصصت: {الحر بالحر والعبد بالعبد}.

وهذه الآية آية عظيمة وجه الله تعالى الخطاب فيها للمؤمنين قال: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} والقصاص: قتل القاتل بمثل ما قتل به، وهي أحكم من العبارة التي تروى: القتل أنفى للقتل، قال بعضهم: إنها مثل، قالها بعض الحكماء القتل أنفى للقتل لكن هذه العبارة أحسن وأقل حروف منها {القصاص في القتلى} فالقصاص: قتل القاتل بمثل ما قتل به، أما القتل أنفى للقتل لا تفيد هذا قتل القاتل بمثل ما قتل به الصواب: أنه ليس هناك نسخ 

[مسألة: ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود، وهو مروي عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم، قال البخاري وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده، لعموم حديث الحسن عن سمرة «ومن قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن خصاه خصيناه» وخالفهم الجمهور فقالوا: لا يقتل الحر بالعبد، لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر، لما ثبت في البخاري عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولا يقتل مسلم بكافر» ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة]

وما ذهب إليه أبو حنيفة ضعيف، الصواب: ما ذهب إليه الجمهور من أن الحر لا يقتل بالعبد؛ لأنه ليس مكافئا له، ولأنه سلعة يباع ويشترى، ولأنه لا يقاد بالطرف فلا يقاد بالنفس، وأما الحديث الذي استدل به الإمام أبو حنيفة فهو حديث ضعيف: «ومن قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن خصاه خصيناه» هذا ضعيف؛ لأنه من رواية الحسن عن سمرة وهو لم يسمع من سمرة، ثم أيضا هو مخالف للأحاديث الصحيحة وكذلك أيضا السيد إذا قتل عبده فلا يقتل به خلافا لأبي حنيفة، أبو حنيفة يرى أن السيد يقتل به فلا يقتل به، ويدل على هذا حديث: «من قذف عبده فإنه يقاد به يوم القيامة» ولم يقل: يقاد به في الدنيا، فإذا كان لا يقاد به في القذف فالقتل من باب أولى، وأما هذا الحديث ضعيف من رواية الحسن عن سمرة، وكذلك عنعنة قتادة، وكذلك الصواب: أن المسلم لا يقتل بالكافر خلافا لأبي حنيفة رحمه الله في حديث البخاري: «لا يقتل مسلم بكافر» وأما استدلال الإمام أبو حنيفة بآية المائدة نقول: آية البقرة مخصصة لها.

[مسألة: قال الحسن وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه السلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة]

والصواب: أن الرجل يقتل بالمرأة، ويدل على ذلك الأحاديث الصحيحة منها أن النبي r قتل اليهودي الذي قتل جارية بأوضاح لها لما رض رأسها بين حجرين أمر النبي r أن يرض رأسه بين حجرين ولعموم الحديث: «المسلمون تتكافأ دماؤهم».

[مسألة: ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر في غلام: قتله سبعة فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع، وحكي عن الإمام أحمد رواية: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة، وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير وعبد الملك بن مروان والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت، ثم قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة، وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر]

والصواب: القول الأول وهو أن الجماعة يقتلون بالواحد، لعموم الآية: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} ولإجماع الصحابة على ذلك، ولأنه ذهب إليه عمر وهو الخليفة الراشد، فقد أمرنا باتباعه، وهو كالإجماع، ولأن فيه سدا لذريعة القتل؛ لأن الجماعة لو لم يقتلوا بالواحد لصار من أراد أن يقتل واحدا اشترك مع غيره حتى لا يقتل، وصار هذا فيه مفاسد، لو كان اثنين وثلاثة ما يقتلون بالواحد لصار من أراد أن يقتل واحد أتى بشخص آخر ويقول: شاركني حتى لا يقتل، وهذا مفسدة عظيمة، الصواب: أنه يقتل الجماعة بالواحد.

آية المائدة عامة، وهذه آية البقرة خاصة.

جاءت أدلة صحيحة كثيرة في أن الرجل يقتل بالمرأة لحديث اليهودي الذي رض الجارية وغيرها، وفيه أحاديث أخرى.

[وقوله: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} قال مجاهد عن ابن عباس: فمن عفي له من أخيه شيء فالعفو أن يقبل الدية في العمد، وكذا روي عن أبي العالية وأبي الشعثاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وقال الضحاك عن ابن عباس: {فمن عفي له من أخيه شيء} يعني: فمن ترك له من أخيه شيء يعني أخذ الدية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو {فاتباع بالمعروف} يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية {وأداء إليه بإحسان} يعني من القاتل من غير ضرر ولا معك يعني المدافعة]

المعنى: أن ولي الدم إذا عفا عن القصاص إلى الدية فعلى الجاني أن يؤدي الدية بإحسان من غير مماطلة؛ لأن ولي القصاص أحسن إليه وعفا عن قتله إلى الدية، فعليه أن يؤدي الدية بإحسان، ويبادر بأدائها، ولأن تأخيرها قد يفضي إلى أن يعتدي عليه بعض الورثة فيقتلوه، فكونه يبادر بأداء الدية هذا هو المطلوب، هذا هو المناسب للعفو، أحسن إليه ولي القصاص فعفا عن قتله إلى الدية فعليه أن يبادر ويؤديها بإحسان.

[وروى الحاكم من حديث سفيان عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما ويؤدي المطلوب بإحسان، وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان]

والمطلوب هو الجاني والقاتل الذي عفي عنه.

[مسألة: قال مالك رحمه الله في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأحمد في أحد قوليه: ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل، وقال الباقون: له أن يعفو عليها وإن لم يرض]

الصواب: أن المسألة فيها تفصيل، ولي الدم له أن يعفو إلى دية واحدة بغير رضا القاتل، لا يشترط رضاه، لكن إذا أراد أن يعفو عنه إلى أكثر من دية فلابد من رضا القاتل، إذا عفا عنه قال: تعطيني دية واحدة هذا لا يحتاج إلى أن يرضى؛ لأن الدية مقابل معروف، لكن إذا أراد أن يعفو قال: ما أعفو إلا بديتين أو ثلاث أو أربع فلابد من رضا القاتل؛ لأنه قد يقول: إما أن تعفو عني بدية واحدة وإلا أسلم نفسي فاقتص، ولا أريد أكثر من دية، لكن إذا رضي بأكثر من دية قال: لا بأس تعفو عني بديتين أو ثلاثة أو أربعة فلا حرج، فلابد من رضاه، إذا كان العفو إلى دية واحدة فلا يحتاج إلى رضاه، وإن كان العفو على أكثر من دية فلابد من رضا القاتل.

[مسألة: وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو، منهم الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث والأوزاعي، وخالفهم الباقون]

والصواب: أن النساء لهم العفو لعموم الآية: {فمن عفي له من أخيه شيء} هذا عام في الورثة كلهم، ولعموم قوله r: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين» وفي لفظ: «فأهله بخير النظرين» وأهله تشمل الذكور والإناث، الصواب: أن العفو يشمل الذكور والإناث.

[وقوله: { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} يقول تعالى: إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفا من الله عليكم ورحمة بكم مما كان محتوما على الأمم قبلكم من القتل أو العفو، كما قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، أخبرني مجاهد عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء} فالعفو أن يقبل الدية في العمد ذلك تخفيف مما كتب على بني إسرائيل من كان قبلكم]

هذا الحديث لا بأس بسنده سعيد بن منصور، فيه: أن بني إسرائيل هم أهل التوراة كان فيهم القصاص، يخير بين القصاص والعفو وليس فيهم الدية، إما أن يقتل وإما أن يعفو مجانا، ويقال: إن شريعة النصارى فيهم الدية أو العفو وليس فيهم القصاص والقتل، إما الدية أو العفو، فجاءت شريعتنا كاملة بالتخيير بين ثلاثة أمور: بالقصاص، أو العفو إلى الدية، أو العفو مجانا.

[فالعفو أن يقبل الدية في العمد ذلك تخفيف مما كتب على بني إسرائيل من كان قبلكم {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} وقد رواه غير واحد عن عمرو وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس بنحوه وقال قتادة {ذلك تخفيف من ربكم} رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ولم تحل لأحد قبلهم فكان أهل التوراة: إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش]

الأرش يعني: الدية.

[وكان أهل الإنجيل: إنما هو عفو أمروا به وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش]

ظاهر هذا أن أهل الإنجيل ما فيه دية وأنه عفو مجانا، وأن الدية خاصة بهذه الأمة.

[وهكذا روي عن سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس نحو هذا

وقوله {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها، فله عذاب من الله أليم موجع شديد، وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية، كما قال محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريح الخزاعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة، فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها» رواه أحمد]

الحديث ضعيف فيه: عنعنة ابن إسحاق، وفيه: سفيان بن أبي العوجاء ضعيف، لكن معناه صحيح أنه يخير بين ثلاثة أمور فإن اختار الرابعة؛ يعني: اختار القتل، فله عذاب أليم في الآخرة ويستحق القتل أيضا أو يستحق القصاص، والقصاص في الدنيا، معناه صحيح لكن الحديث سنده ضعيف، لكن الإنسان مخير بين ثلاثة فإذا اختار الدية فليس له أن يقتل فإن قتل فله عذاب أليم في الآخرة ويستحق القصاص في الدنيا.

خبل يعني العرج، الرابعة كونه يقتل بعد العفو، يعفو إلى الدية ثم يقتل، والحديث ضعيف لكن معناه صحيح أنه يخير بين الأمور الثلاثة وإذا اختار واحدة وبعدها اعتدى فله عذاب أليم، ودلت عليه الآية، لا شك أن العفو أفضل، كونه يأخذ الدية هذا أولى من القصاص، لكن ينظر في هذا الأولياء ينظرون في هذا وينبغي أن يختلف هذا باختلاف أحوال الناس، إذا كان هذا الشخص يعني مجرم وله سوابق ينبغي أن يقتص منه، أما إذا كان ما هو معروف بهذا فالعفو مرغب فيه.

الدية مئة بعير؛ هذه الدية، لكن له أن يصطلح معه على أكثر من دية، يعني يقول: ما أصفح عنك إلا بديتين أو ثلاث أو أربع أو خمس، له ذلك إذا وافق القاتل، وإذا لم يوافق يسلم نفسه للقصاص، أما دية واحدة ما يحتاج رضاه يمكن تكون بدون رضاه، ما يؤخذ رأيه، إذا أراد أن يتنازل عن القصاص إلى دية واحدة هنا لا يحتاج رضا القاتل، وإذا أراد أن يأخذ أكثر من دية فلابد من رضاه.

[وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية» يعني لا أقبل منه الدية، بل أقتله]

وهذا ضعيف الحسن لم يسمع من سمرة والعنعنة

[قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية» يعني لا أقبل منه الدية، بل أقتله

وقوله: {ولكم في القصاص حياة} يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم، وهو قتل القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس، وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز]

صحيح، أوجز لأنها أقل حروف: {القصاص حياة} حروفها قليلة، لكن القتل أنفى للقتل، {القصاص حياة} ثمانية حروف، لكن: القتل أنفى للقتل تقارب اثني عشر حرف أو كذا، فهي أخف وأوجز، ثم أيضا القصاص معناها سليم الآية كريمة: {القصاص حياة} القصاص: قتل القاتل بمثل ما قتل به، وأما القتل أنفى للقتل لا تفيد هذا والمعنى أيضا غير سليم، قد يكون القتل أنفى للقتل وقد لا يكون أنفى، إذا كان القتل بظلم يزيد القتل، ما هو بأنفى للقتل، بخلاف الآية: {القصاص حياة} القصاص: قتل القاتل بمثل ما قتل به، حياة، {القصاص حياة}، أما القتل أنفى للقتل المعنى ليس بسليم، أحيانا يكون أنفى وأحيانا لا يكون أنفى بل يزيد في القتل مع أن هذه أوجز وأقصر: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}[النساء:82]، {تنزيل من حكيم حميد}[فصلت:42].

[{ولكم في القصاص حياة} قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل]

لأنه إن علم أنه سيقتل انكف عن القتل سلمت نفسه ونفس من يريد قتله ولهذا صار القصاص حياة

[وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان.

{يا أولي الألباب لعلكم تتقون} يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه، والتقوى اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات]

(ذكر مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والليث وحماد بن أبي سليمان من أنه إذا قتل الرجل أو المرأة وله أولاد كبار وصغار أن على الكبار أن يقتلوا القاتل ولا ينتظر بلوغ الصغار لأن الحسن بن علي قتل عبد الرحمن بن ملجم ولم ينتظر بلوغ أولاد علي الصغار وقال الشافعي وأحمد في المشهور عنه وطائفة من العلماء: بل ينتظر بلوغ الصغار لأن لهم حقا، وربما عفا بعضهم، وقد قال الله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء})

الصواب الأخير هذا هو الذي عليه العمل الآن

(إذا عفا ولي الدم عن القصاص والدية أطلق القاتل في مذهب الشافعي وأحمد والجمهور، وقال مالك والليث والأوزاعي بل يضرب مئة ويحبس سنة، وقال أبو ثور: إذا كان مشهورا بالشر أدبه الإمام بحبسه، وقد استحسن قول أبي ثور القرطبي في تفسيره)

إذا كان هكذا معروف بالشر ما ينبغي أن يعفى عنه، ينبغي لولي الدم أن يكون عنده بصيرة ويختار القصاص ولا يكفي كون الإمام يؤدبه، قد يؤدبه ولا يؤثر فيه مثلما فعل النبي r مع اليهودي لما رض رأس الجارية بين حجرين رض رأسه أيضا بين حجرين، يقتل بمثل ما قتل به إلا إذا كان حرق، فالتحريق بالنار لا، التحريق بالنار محرم لا يقتل به، فإذا رماه من شاهق يرمى من شاهق، إذا قتله بالخنق يخنق، إذا قتله بالسم يعطى سم وهكذا، هذا القصاص، وهو: قتل القاتل بما قتل به.

[{كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين (180) فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم (181) فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} [البقرة:180-182]

قال الحافظ بن كثير رحمه الله تعالى: اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، وقد كان ذلك واجبا على أصح القولين قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتما من غير وصية ولا تحمل منة الموصي]

يعني: لأن الله تعالى هو الذي قسمها بنفسه ليس فيها منة، هذا ملك قهري يدخل في ملكه قهر يسمى الملك القهري، إذا مات صار المال للورثة قهريا، فإذا أراد أن يتبرع به فهو مال له حلال وإثمه على من ورثه إذا كان من غير طريق شرعي.

[ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث».

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين، قال: جلس ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما فقرأ سورة البقرة حتى أتى هذه الآية {إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين} فقال: نسخت هذه الآية وكذا رواه سعيد بن منصور، عن هشيم، عن يونس به، ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرطهما، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {الوصية للوالدين والأقربين} قال: كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين، فأنزل الله آية الميراث، فبين ميراث الوالدين وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء، عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في قوله {الوصية للوالدين والأقربين} نسختها هذه الآية {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا} [النساء: 7].

ثم قال ابن أبي حاتم، وروي عن ابن عمر وأبي موسى وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وعكرمة وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وطاوس وإبراهيم النخعي وشريح والضحاك والزهري: أن هذا الآية منسوخة، نسختها آية الميراث.

والعجب من أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي رحمه الله، كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة]

وله تفسير كبير يسمى مفاتيح الغيب تفسير الرازي مفاتيح الغيب ضمنه أشياء كثيرة حتى بالغ بعضهم وقال: فيه كل شيء إلا التفسير، فيه الطب، وفيه كذا، لكن ليس بصحيح، فيه أشياء ينقلها عن الحافظ بن كثير، لكن من المعروف أن الرازي رحمه الله من أهل الكلام حتى إنه قرر في كتابه: وجوب تعلم السحر، كما سبق نقل الحافظ عنه عنه ورد عليه.

[كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة وإنما هي مفسرة بآية المواريث، ومعناه كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين من قوله: {يوصيكم الله في أولادكم}[النساء: 11] قال: وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء، قال: ومنهم من قال: إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث، وهو مذهب ابن عباس والحسن ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد قلت: وبه قال أيضا سعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان، ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا في اصطلاحنا المتأخر، لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية]

وإنما يسمى تخصيصا لا يسمى نسخا وإنما يسمى تخصيصا، والصواب الذي عليه الجمهور: أنها منسوخة وليست تخصيصا، أما قول الرازي: أنها تخصيص فليس بظاهر.

[لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية لأن الأقربين أعم ممن يرث ومن لا يرث، فرفع حكم من يرث بما عين له، وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى، وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم: إن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندبا حتى نسخت، فأما من يقول: إنها كانت واجبة وهو الظاهر من سياق الآية، فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء]

وهو الصواب، والصواب: أنها كانت واجبة لقوله: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية} كتب الوصية، كتب تفيد الوجوب، كانت الوصية واجبة ثم نسخت لما شرع الله المواريث.

[فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع]

لقوله: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث».

[بل منهي عنه للحديث المتقدم «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» فآية الميراث حكم مستقل ووجوب من عند الله لأهل الفروض والعصبات، يرفع بها حكم هذه بالكلية، بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم يستحب له أن يوصى لهم من الثلث استئناسا بآية الوصية وشمولها، ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي. والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جدا]

ولهذا تكون الوصية لغير الأقارب مستحبة، استنئناسا بهذه الآية، وللأدلة التي فيها الإحسان للأقارب، وبذل المعروف لهم، فالذي لا يرث يستحب أن يوصى له بالثلث فأقل، كأن يوصي مثلا لأبناء أبنائه لأنهم محجوبين بالأبناء، ويوصي لإخوته، لأخ له قريب، أو أخت له، أو عمة، أو خالة، أو أبناء بنت بنات له لأنهم لا يرثون مع البنات، وحتى أبناء الأبناء لا يرثون مع وجود الأبناء، محجوبون.

وأما الوصية فيها تفصيل إن كان له ديون على الناس ليس بها بينة يجب عليه أن يوصي؛ لأنه إذا لم يوصي أخذها الورثة، إذا كان له حقوق للناس وليس عليها بينة يجب عليه أن يوصي، أما إذا لم يكن له وليس عليه فالوصية مستحبة، مستحبة يوصي بالثلث فأقل في أعمال البر، في أعمال الخير، يوصي لبعض الأقارب غير الوارثين.

[وقال عبد بن حميد في مسنده: أخبرنا عبد الله عن مبارك بن حسان، عن نافع قال: قال عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: «يا ابن آدم ثنتان لم يكن لك واحدة منهما: جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك به وأزكيك، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك»]

أخذت بكظمك يعني: الموت

(وقال عبد بن حميد في مسنده: أخبرنا عبد الله عن مبارك بن حسان، عن نافع قال: قال عبد الله).

وهذا صحيح

[وقوله: {إن ترك خيرا} أي مالا، قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبو العالية وعطية العوفي والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم ثم منهم من قال: الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر كالوراثة ومنهم من قال: إنما يوصي إذا ترك مالا جليلا، ثم اختلفوا في مقداره]

(مبارك بن حسان السلمي البصري نزيل مكة عن الحسن وعطاء وهنه الثوري ووثقه ابن معين وقال أبو داود: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بالقوي في حديثه قال ابن حبان: يخطئ ويخالف

على كل حال المعنى صحيح وأن الله تعالى تفضل على الإنسان.

[ثم اختلفوا في مقداره فقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: قيل لعلي رضي الله عنه: إن رجلا من قريش قد مات وترك ثلاثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص؟ قال: ليس بشيء إنما قال الله {إن ترك خيرا} وقال أيضا: وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبدة يعني ابن سليمان، عن هشام بن عروة عن أبيه: أن عليا دخل على رجل من قومه يعوده، فقال له: أوص؟ فقال له علي: إنما قال الله {إن ترك خيرا الوصية} إنما تركت شيئا يسيرا فاتركه لولدك.

وقال الحكم بن أبان حدثني عكرمة عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما {إن ترك خيرا} قال ابن عباس: من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا، قال الحكم: قال طاوس: لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا، وقال قتادة: كان يقال: ألفا فما فوقها]

والصواب: أن هذا يختلف، المال الجليل يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأشخاص، فإذا ترك الإنسان مالا جليلا يستحب له الوصية، أما إذا ترك مال قليل فالأولى أن يعطيه لورثته، لقول النبي r: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» لكن إذا ترك مالا جليلا كثيرا هذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص، قد يكون في زمن مال جليل وفي زمن آخر مال قليل، مثلا في زمننا لو ترك ألف ريال أو ألفين ما هو بمال جليل، لكن في أزمنة سابقة الذي يترك ألف هذا يعتبر من التجار الكبار يختلف المال الجليل باختلاف الأحوال الألف ريال ما له قيمة الآن، لكن في بعض الأزمنة إذا ترك ألف يكون من الأغنياء الكبار، يختلف هذا المال الجليل باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة، أيضا حتى في الزمان الواحد في مكان يكون عندنا الآن ألف ريال قليل، لكن في بعض الأماكن الفقيرة كثير، هذا يختلف، أما تحديد بعضهم ستين دينارا أو كذا فهذا ليس بجيد

فالصواب: أن هذا يختلف باختلاف الأحوال، والأزمان، والأمكنة، والأشخاص، ما عد في زمنه مال كثير ومال جليل هذا يوصي، وإن كان مال قليل ليس له شأن فيبقيه للورثة، إذا كان له ورثة كثير وترك ألفين أو ثلاث ماذا يعملون به؟ هم ستة أو سبعة أو عشرة، إذا أراد أن يوصي ما عنده إلا ألف ريال، يوصي بثلاث مائة وثلاثة وثلاثين، ماذا تعمل؟ قليلة، فالأولى يبقيه للورثة، لكن إذا ترك شيئا كثيرا، جليلا، معروفا، ترك آلاف مثلا مائتين ألف، ثلاثمائة ألف، والورثة قلة مثلا هذا يستحب له أن يوصي.

[وقوله:{بالمعروف}أي بالرفق والإحسان، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار، حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قوله: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت} فقال: نعم الوصية حق على كل مسلم أن يوصي إذا حضره الموت بالمعروف غير المنكر، والمراد بالمعروف أن يوصي لأقربيه وصية لا تجحف بورثته من غير إسراف ولا تقتير، كما ثبت في الصحيحين أن سعدا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «يا رسول الله، إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: فبالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث؟ قال الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس».

وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الثلث والثلث كثير»]

يوصي مثلا بالخمس، بالسدس، بالربع، أوصى بعض السلف بالسدس، الصديق وجماعة، بعض الناس الآن ما يتعدى السدس، يعني: ثلث، ربع، خمس، سدس، حسب ما يظهر له من احتياج الورثة.

يزيد عن الثلث؟ لا، ما يجوز له يزيد عن الثلث، آخر حد الثلث إلا بإذن الورثة، وكذلك الوصية للوارث لا يوصى له بشيء لا بقليل ولا بكثير إلا بإذن الورثة.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد