بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِحَدِيثِ النَّفْسِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَكَلَّمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «عَمَّا تُوَسْوِسُ بِهِ صُدُورُهَا» بَدَلُ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا وَزَادَ فِي آخِرِهِ: «وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» قَالَ الْمُصَنِّفُ وَأَظُنُّ الزِّيَادَةَ هَذِهِ مُدْرَجَةً كَأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ مِنْ حَدِيثٍ فِي حَدِيثٍ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِحَدِيثِ النَّفْسِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ بِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَقَوَّاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ أَثِمَ وَكَذَلِكَ مَنْ قَذَفَ مُسْلِمًا بِقَلْبِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ دُونَ اللِّسَانِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَخْبَرَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ الْأُمَّةَ بِحَدِيثِ نَفْسِهَا، وَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}[البقرة/286] وَحَدِيثُ النَّفْسِ يَخْرُجُ عَنْ الْوُسْعِ.
(الشرح)
مثلما قَالَ في وسوسة القلب ما دام لم يعمل شَيْئًا ما يضره, ولا يزال هذا حديث نفس, القذف ما يكون إِلَّا بالنطق, ينطق بالشيء الذي يدور في نفسه, وَلَكِن إذا لم يتكلم ولم يعمل شَيْئًا ولم يؤذي الشخص, ولم يعمل شَيْئًا يكون سبب في إيذائه فَإِن مجرد حديث النفس لا يكون قذف.
(المتن)
نَعَمْ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ النَّفْسِ فِي بَاطِلِ أَحَادِيثِهَا يُصَيِّرُ الْعَبْدَ عَازِمًا عَلَى الْفِعْلِ فَيُخَافُ مِنْهُ الْوُقُوعُ فِيمَا يَحْرُمُ.
(الشرح)
إذا انتقل من درجة الحديث إِلَى درجة الإرادة والعزم صار هذا حكمًا آخر, هَذِه درجات؛ الأول: هاجس, ثم حديث نفس, ثم إرادة, ثم عزم وتصميم, ثم فعل, لَكِنْ ما دام حديث نفس فلا يؤخذ الإنسان بالهاجس وحديث النفس.
(المتن)
فَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسَارِعَ بِقَطْعِهِ إذَا خَطَرَ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ بِالْكُفْرِ وَالرِّيَاءِ، فَلَا يَخْفَى أَنَّهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَهُمَا مَخْصُوصَانِ مِنْ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ وَقَصْدَ الرِّيَاءِ قَدْ خَرَجَا عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ.
(الشرح)
فيقال: إنه من أعمال القلوب هذا عمل قلبي وليس بحديث نفس إِنَّمَا تجاوز حديث النفس, وانتقل من كونه حديث نفس.
(المتن)
وَأَمَّا الْمُصِرُّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَالْإِثْمُ عَلَى عَمَلِ الْمَعْصِيَةِ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْإِصْرَارِ، فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتُبْ عَنْهَا وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَتَبَ الطَّلَاقَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَزَمَ بِقَلْبِهِ وَعَمِلَ بِكِتَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَشَرَطَ مَالِكٌ فِيهِ الْإِشْهَادَ عَلَى ذَلِكَ وَسَيَأْتِي.
(الشرح)
الصواب: أَنَّه لا يحتاج إِلَى إشهاد, إذا كتب وقع الطلاق ولو لم يُشهد, لَكِنْ لو أنكر هذا بينه وبين الله.
(المتن)
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَا يَثْبُتُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ إنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَكَذَا قَالَ فِي أَوَاخِرِ الْأَرْبَعِينَ لَهُ.
وَلِلْحَدِيثِ أَسَانِيدُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ إنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْ أَسَانِيدِهِ، فَقَالَ هَذِهِ أَحَادِيثُ مُنْكَرَةٌ كُلُّهَا مَوْضُوعَةٌ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْعِلَلِ سَأَلْت أَبِي عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ جِدًّا، وَقَالَ لَيْسَ يُرْوَى هَذَا إلَّا عَنْ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَنَقَلَ الْخَلَّالُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ مَرْفُوعٌ، فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ الْخَطَأِ الْكَفَّارَةَ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الْأُخْرَوِيَّةَ مِنْ الْعِقَابِ مَعْفُوَّةٌ عَنْ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ إذَا صَدَرَتْ عَنْ خَطَأٍ، أَوْ نِسْيَانٍ، أَوْ إكْرَاهٍ.
وَأَمَّا ابْتِنَاءُ الْأَحْكَامِ وَالْآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهَا، فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَاخْتَلَفُوا فِي طَلَاقِ النَّاسِي فَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ كَالْعَمْدِ إلَّا إذَا اشْتَرَطَ.
(الشرح)
متى يشترط؟ عند الزواج يقول: طلاقي إذا نسيت لا ينفذ! هذا ناسي وطلق ناسي, نسي زوجته, هل يقع النسيان في مثل هذا؟ يمكن لِأَنّ بعض الناس كثير النسيان ويتصور أَنَّه أعزب, وبعيد هذا لَكِنْ قد يصدر.
(المتن)
أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ وَعَنْ عَطَاءٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا لِلْحَدِيثِ وَكَذَا ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْخَاطِئِ وَعَنْ الْحَنَفِيَّةِ يَقَعُ وَاخْتُلِفَ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ فَعِنْدَ الْجَمَاهِيرِ لَا يَقَعُ.
(الشرح)
والمخطأ مثل الذي يريد أن يقول: طاهر فَقَالَ: طالق, هذا أخطأ, هل يقع؟ لا يقع, والدليل قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}[البقرة/286], قَالَ الله: «قد فعلت», ولحديث: «إِنَّمَا الأعمال بالنيات وَإِنَّمَا لكل امرئ ما نوى», ومثل هذا الرجل الذي ضاعت منه ناقته وعليها طعامه وشرابه فَلَمّا رآها من شدة الفرح قَالَ: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك, قالها من شدة الفرح» فلم يؤاخذه الله تعالى مع أن هَذِه كلمة كفرية.
(المتن)
وَيُرْوَى عَنْ النَّخَعِيِّ وَبِهِ قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ إنَّهُ يَقَعُ وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل/106]، وَقَالَ عَطَاءٌ الشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ الطَّلَاقِ.
(الشرح)
وهذا صحيح, مكره يَعْنِي: مهدد وَلَكِن ما يجزم بأنه سينفذ, أحد وضع السلاح عَلَى وجهه هذا يكون مُكره.
(المتن)
وَقَرَّرَ الشَّافِعِيُّ الِاسْتِدْلَالَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا وَضَعَ الْكُفْرَ عَمَّنْ تَلَفَّظَ بِهِ حَالَ الْإِكْرَاهِ وَأَسْقَطَ عَنْهُ أَحْكَامَ الْكُفْرِ كَذَلِكَ سَقَطَ عَنْ الْمُكْرَهِ مَا دُونَ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْأَعْظَمَ إذَا سَقَطَ سَقَطَ مَا هُوَ دُونَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
