شعار الموقع

شرح كتاب الطلاق من سبل السلام_8

00:00
00:00
تحميل
6

بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:

(المتن)

قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:

بَابُ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ وَالْكَفَّارَةِ.

الْإِيلَاءُ لُغَةً الْحَلِفُ, وَشَرْعًا الِامْتِنَاعُ بِالْيَمِينِ مِنْ وَطْءِ الزَّوْجَةِ.

وَالظِّهَارُ: بِكَسْرِ الظَّاءِ مُشْتَقٌّ مِنْ الظَّهْرِ لِقَوْلِ الْقَائِلِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.

وَالْكَفَّارَةُ: وَهِيَ مِنْ التَّكْفِيرِ التَّغْطِيَةُ.

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ وَحَرَّمَ وَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا وَجَعَلَ لِلْيَمِينِ كَفَّارَةً» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ, وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ إرْسَالَهُ عَلَى وَصْلِهِ.

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ حَلِفِ الرَّجُلِ مِنْ زَوْجَتِهِ وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالْإِيلَاءِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَهُوَ الْحَلِفُ مِنْ وَطْءِ الزَّوْجَةِ وَاعْلَمْ أَنَّهَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي سَبَبِ إيلَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَفِي الشَّيْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى رِوَايَاتٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ بِسَبَبِ إفْشَاءِ حَفْصَةَ لِلْحَدِيثِ الَّذِي أَسَرَّهُ إلَيْهَا وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَسَرَّهُ إلَيْهَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَأُجْمِلَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ وَفَسَّرَهُ فِي رِوَايَةٍ

أَخْرَجَهَا الشَّيْخَانِ بِأَنَّهُ تَحْرِيمُهُ لِمَارِيَةَ، وَأَنَّهُ أَسَرَّهُ إلَى حَفْصَةَ فَأَخْبَرَتْ بِهِ عَائِشَةَ، أَوْ تَحْرِيمُهُ لِلْعَسَلِ وَقِيلَ: بَلْ أَسَرَّ إلَى حَفْصَةَ أَنَّ أَبَاهَا يَلِي أَمْرَ الْأُمَّةِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ لَا تُخْبِرِي عَائِشَةَ بِتَحْرِيمِي مَارِيَةَ.

وَثَانِيهَا: السَّبَبُ فِي إيلَائِهِ «أَنْ فَرَّقَ هَدِيَّةً جَاءَتْ لَهُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَلَمْ تَرْضَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ بِنَصِيبِهَا فَزَادَهَا مَرَّةً أُخْرَى فَلَمْ تَرْضَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَقَدْ أَقْمَتْ وَجْهَك تَرُدُّ عَلَيْك الْهَدِيَّةَ، فَقَالَ: لَأَنْتُنَّ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يَغُمَّنِي لَا أَدْخُلُ عَلَيْكُمْ شَهْرًا» أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ، وَقَالَ ذَبَحَ ذَبْحًا.

ثَالِثُهَا: أَنَّهُ بِسَبَبِ طَلَبِهِنَّ النَّفَقَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.

فَهَذِهِ أَسْبَابٌ ثَلَاثَةٌ إمَّا لِإِفْشَاءِ بَعْضِ نِسَائِهِ السِّرَّ وَهِيَ حَفْصَةُ وَالسِّرُّ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ إمَّا تَحْرِيمُهُ مَارِيَةَ، أَوْ الْعَسَلَ، أَوْ بِتَحْرِيجِ صَدْرِهِ مِنْ قِبَلِ مَا فَرَّقَهُ بَيْنَهُنَّ مِنْ الْهَدِيَّةِ، أَوْ تَضْيِيقِهِنَّ فِي طَلَبِ النَّفَقَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَاللَّائِقُ بِمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعَةِ صَدْرِهِ وَكَثْرَةِ صَفْحِهِ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سَبَبًا لِاعْتِزَالِهِنَّ, وَقَوْلُهَا وَحَرَّمَ أَيْ حَرَّمَ مَارِيَةَ أَوْ الْعَسَلَ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لِلْجِمَاعِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِيلَاءِ الشَّرْعِيِّ، فَلَا وَجْهَ لِجَزْمِ ابْنِ بَطَّالٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَنَعَ مِنْ جِمَاعِ نِسَائِهِ ذَلِكَ الشَّهْرَ إنْ أَخَذَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ لَمْ أَقِفْ عَلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ دُخُولِهِ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا تَدْخُلَ إحْدَاهُنَّ عَلَيْهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي اعْتَزَلَ فِيهِ إلَّا إنْ كَانَ الْمَكَانُ الْمَذْكُورُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَتِمُّ اسْتِلْزَامَ عَدَمِ الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ مَعَ اسْتِمْرَارِ الْإِقَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ لِامْتِنَاعِ الْوَطْءِ فِي الْمَسْجِدِ.

 وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَقَفَ الْمُولِي حَتَّى يُطَلِّقَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

(الشرح)

والصحيح أن النَّبِيِّ r إِنَّمَا حرم عَلَى نفسه مارية أو العسل وهذا يُكفر عن يمينه, في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التحريم/1], ليس تحريم الزوجة, وتحريم الزوجة فيهِ خلاف كما سيأتي, والصواب الذي عليه الجمهور تحريم الزوجة يكون ظِهار, وأما ما عداها يُكفر إذا حرم عَلَى نفسه العسل, النَّبِيِّ r حرم عَلَى نفسه العسل أو سُرية مارية فيُكفر عن يمينه.

(المتن)

الْحَدِيثُ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}[البقرة/226]، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَسَائِلَ مِنْ الْإِيلَاءِ:

الْأُولَى: فِي الْيَمِينِ، فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ بِكُلِّ يَمِينٍ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْوَطْءِ سَوَاءٌ حَلَفَ بِاَللَّهِ، أَوْ بِغَيْرِهِ، وَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا مَا كَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَشْمَلُ الْآيَةُ مَا كَانَ بِغَيْرِهِ.

قُلْت: وَهُوَ الْحَقُّ.

الثَّانِيَةُ: فِي الْأَمْرِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْإِيلَاءُ، وَهُوَ تَرْكُ الْجِمَاعِ صَرِيحًا، أَوْ كِنَايَةً، أَوْ تَرْكُ الْكَلَامِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّصْرِيحِ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْوَطْءِ لَا مُجَرَّدَ الِامْتِنَاعِ

عَنْ الزَّوْجَةِ، وَلَا كَلَامَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِيلَاءِ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}[البقرة/226] الْآيَةَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ لِإِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ إطَالَةِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يُولِي مِنْ امْرَأَتِهِ سَنَةً وَسَنَتَيْنِ فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَأُنْظِرَ الْمُولِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ، أَوْ يُطَلِّقَ.

الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَآخَرُونَ يَنْعَقِدُ بِقَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}[البقرة/226] وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ إذْ قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ الْمُدَّةَ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}[البقرة/ 226] فَالْأَرْبَعَةُ قَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ مُدَّةَ الْإِمْهَالِ وَهِيَ كَأَجَلِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ فَاءُوا}[البقرة/ 226] بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَهُوَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ فَلَوْ كَانَتْ الْمُدَّةُ أَرْبَعَةً أَوْ أَقَلَّ لَكَانَتْ قَدْ انْقَضَتْ، فَلَا يُطَالَبُ بَعْدَهَا وَالتَّعْقِيبُ لِلْمُدَّةِ لَا لِلْإِيلَاءِ لِبُعْدِهِ.

وَالرَّابِعَةُ: أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بَلْ إذَا مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ طَلُقَتْ الْمَرْأَةُ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمُضِيِّهَا طَلَاقًا أَنَّهُ تَعَالَى خَيَّرَ فِي الْآيَةِ بَيْنَ الْفَيْئَةِ وَالْعَزْمِ عَلَى الطَّلَاقِ فَيَكُونَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ يَقَعُ بِمُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ وَالْفَيْئَةُ بَعْدَهَا لَمْ يَكُنْ تَخْيِيرًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُخَيَّرِ فِيهِمَا أَنْ يَقَعَ أَحَدُهُمَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ الْآخَرُ كَالْكَفَّارَةِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ عَزْمَ الطَّلَاقِ إلَى الرَّجُلِ وَلَيْسَ مُضِيُّ الْمُدَّةِ مِنْ فِعْلِ الرَّجُلِ، وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا الَّذِي نَحْنُ فِي سِيَاقِهِ، وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا، فَهُوَ مُقَوٍّ لِلْأَدِلَّةِ.

الْخَامِسَةُ: الْفَيْئَةُ هِيَ الرُّجُوعُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِمَاذَا تَكُونُ فَقِيلَ: تَكُونُ بِالْوَطْءِ عَلَى الْقَادِرِ وَالْمَعْذُورِ يُبَيِّنُ عُذْرَهُ بِقَوْلِهِ لَوْ قَدَرْت لَفِئْت؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}[البقرة/286] وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ رَجَعْت عَنْ يَمِينِي، وَهَذَا لِلْهَادَوِيَّةِ كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمُرَادُ رُجُوعُهُ عَنْ يَمِينِهِ لَا إيقَاعُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَقِيلَ: تَكُونُ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَوْبَةٌ يَكْفِي فِيهَا الْعَزْمُ وَرُدَّ بِأَنَّهَا تَوْبَةٌ عَنْ حَقِّ مَخْلُوقٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ إفْهَامِهِ الرُّجُوعَ عَنْ الْأَمْرِ الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ.

السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا هَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى مَنْ فَاءَ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ تَجِبُ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ قَدْ حَنِثَ فِيهَا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِحَدِيثِ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَقِيلَ: لَا تَجِبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة/226] وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْغُفْرَانَ يَخْتَصُّ بِالذَّنْبِ لَا بِالْكَفَّارَةِ وَيَدُلُّ لِلْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ قَوْلُهُ.

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَدْرَكْت بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّهُمْ يَقِفُونَ الْمُولَى» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ.

(وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ فَسِينٌ مُهْمَلَةٌ مُخَفَّفَةٌ بَعْدَ الْأَلِفِ رَاءٌ هُوَ أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَخُو عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ كَانَ سُلَيْمَانُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ ثِقَةً فَاضِلًا وَرَعًا حُجَّةً، هُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً قَالَ: «أَدْرَكْت بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّهُمْ يَقِفُونَ الْمُولَى» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ.

وَفِي الْإِرْشَادِ لِابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ اهـ. يُرِيدُ أَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ بِضْعَةَ عَشَرَ. وَقَوْلُهُ: يَقِفُونَ بِمَعْنَى يَقِفُونَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ كَمَا أَخْرَجَهُ إسْمَاعِيلُ هُوَ ابْن أَبِي إدْرِيس عَنْ سُلَيْمَانَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ أَدْرَكْنَا النَّاسَ يَقِفُونَ الْإِيلَاءَ إذَا مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ فَإِطْلَاقُ رِوَايَةِ الْكِتَابِ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُقَيَّدَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْت اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ الرَّجُلِ يُولِي، فَقَالُوا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَيُوقَفُ، فَإِنْ فَاءَ وَإِلَّا طَلَّقَ وَأَخْرَجَ إسْمَاعِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ» وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «أَيُّمَا رَجُلٍ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ أَوْ يَفِيءَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ إذَا مَضَتْ حَتَّى يُوقَفَ».

وَفِي الْبَابِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ السَّلَفِ كُلُّهَا قَاضِيَةٌ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مِنْ إيقَافِ الْمُولِي وَمَعْنَى إيقَافِهِ هُوَ أَنْ يُطَالَبَ إمَّا بِالْفَيْءِ وَإِمَّا بِالطَّلَاقِ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ وَعَلَيْهِ دَلَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ إذْ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة/227].

يَدُلُّ قَوْلُهُ سَمِيعٌ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِقَوْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ السَّمْعُ، وَلَوْ كَانَ يَقَعُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لَكَفَى قَوْلُهُ عَلِيمٌ لِمَا عُرِفَ مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ فَوَاصِلَ الْآيَاتِ تُشِيرُ إلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ، فَإِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ رَجْعِيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَلِغَيْرِهِمْ تَفَاصِيلُ لَا يَقُومُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كَانَ إيلَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ فَوَقَّتَ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ» أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ, وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا عَنْهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْلِفُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ, وَفِي لَفْظٍ: «كَانُوا يُطَلِّقُونَ الطَّلَاقَ وَالظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ فَنَقَلَ تَعَالَى الْإِيلَاءَ وَالظِّهَارَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ إيقَاعِ الْفُرْقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ إلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُهُمَا فِي الشَّرْعِ وَبَقِيَ حُكْمُ الطَّلَاقِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ» وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ مَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِيلَاءُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ.

(الشرح)

وهذا هو الصواب, وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد