شعار الموقع

شرح كتاب الحدود من سبل السلام_16

00:00
00:00
تحميل
6

بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:

(المتن)

قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:

بَابُ حَدِّ الشَّارِبِ وَبَيَانِ الْمُسْكِرِ.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ قَالَ أَيْ أَنَسٌ وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, الْخَمْرُ مَصْدَرُ خَمَرَ كَضَرَبَ وَنَصَرَ خَمْرًا يُسَمَّى بِهِ الشَّرَابُ الْمُعْتَصَرُ مِنْ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَقُذِفَ بِالزَّبَدِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَتُذَكَّرُ, وَيُقَالُ: خُمْرَةٌ.

(الشرح)

هذا في الأصل؛ أن الخمر هو عصير العنب, والصواب: أن كل ما خامر العقل وغطاه من أي شيء فَإِنَّهُ يسمى خمر, سواء كَانَ من عصير العنب أو الذرة أو الشعير أو التمر أو التفاح أو غير ذلك من الأنواع, وكان النَّبِيِّ r يأمر بالنبيذ فيُنتبذ من التمر ومن غيره يُصب عليه الماء ويُحلى ويُترك أيام الصيام, وكان يشربه اليوم الأول والثاني ثم في الثالث إما أن يهريقه وإما أن يعطيه الخادم؛ لِأَنَّهُ تخمر, هو يتخمر من أي شيء كَانَ من شدة الحر, وإن كَانَ الأصل أَنَّه من عصير العنب لَكِنْ الخمر هو: كل ما خامر العقل وغطاه.

وقد خطب عمر رضي الله عنه الناس عَلَى منبر النَّبِيِّ r وقال: "يا أيها الناس إن الله قد حرم الخمر وهي من خمسة: وذكر منها العنب, العسل, الذرة, الشعير, التمر" وليست خاصة بهذه الأشياء, بل كل ما خامر العقل وغطاه من أي شيء كَانَ, قد يكون حبوب وأقراص في هذا الزمان تُجعل الخمر عَلَى شكل حبوب وأقراص يأكلها فيتخمر.

فكل ما يُزيل العقل ويغطيه يسمى خمرًا بأي شكل سواءٌ كَانَ مشروبًا أو مشمومًا أو حبوبًا يبتلعها أو غير ذلك.

(المتن)

وَفِي الْحَدِيثِ مَسَائِلُ:

الْأُولَى: أَنَّ الْخَمْرَ تُطْلَقُ عَلَى مَا ذُكِرَ حَقِيقَةً إجْمَاعًا.

(الشرح)

لَكِنْ الأحناف يرون أن الخمر خاصٌ بعصير العنب.

(المتن)

وَتُطْلَقُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا أَسْكَرَ مِنْ الْعَصِيرِ أَوْ مِنْ النَّبِيذِ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذَا الْإِطْلَاقُ حَقِيقَةٌ أَوْ لَا؟ قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الْعُمُومُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ خَمْرُ عِنَبٍ.

(الشرح)

الخمر: هو كل ما خامر العقل وغطاه, فكل ما خامر العقل وغطاه يسمى خمرًا.

(المتن)

مَا كَانَ إلَّا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ انْتَهَى.

وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ الْعُمُومَ حَقِيقَةٌ وَسُمِّيَتْ خَمْرًا، قِيلَ: لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ الْعَقْلَ أَيْ تَسْتُرُهُ فَيَكُونُ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ السَّاتِرَةِ لِلْعَقْلِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُغَطَّى حَتَّى تَشْتَدَّ يُقَالُ: خَمَرَهُ أَيْ غَطَّاهُ فَيَكُونُ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُخَالِطُ الْعَقْلَ مِنْ خَامَرَهُ إذَا خَالَطَهُ وَمِنْهُ هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ أَيْ مُخَالِطٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُتْرَكُ حَتَّى تُدْرِكَ؛ وَمِنْهُ اخْتَمَرَ الْعَجِينُ: أَيْ بَلَغَ إدْرَاكَهُ وَقِيلَ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْكُلِّ لِاجْتِمَاعِ الْمَعَانِي هَذِهِ فِيهَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْأَوْجُهُ كُلُّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى أَدْرَكَتْ وَسَكَنَتْ فَإِذَا شُرِبَتْ خَالَطَتْ الْعَقْلَ حَتَّى تَغْلِبَ عَلَيْهِ وَتُغَطِّيَهُ.

قُلْت: فَالْخَمْرُ تُطْلَقُ عَلَى عَصِيرِ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ حَقِيقَةً إجْمَاعًا، وَفِي النَّجْمِ الْوَهَّاجِ: الْخَمْرُ بِالْإِجْمَاعِ الْمُسْكِرُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَإِنْ لَمْ يُقْذَفْ بِالزَّبَدِ, وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُقْذَفَ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ.

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُقُوعِ الْخَمْرِ عَلَى الْأَنْبِذَةِ.

(الشرح)

الشارح أطال في هذا, والمقصود: أن الخمر هو كل ما خامر العقل وغطاه, في الحديث يقول: «كل مسكرٍ خمر وكل خمرٍ حرام».

(المتن)

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: «فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ، وَادَّعَى فِيهِ الْإِجْمَاعَ وَنُوزِعَ فِي دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنَصَّ عَلَى حَدٍّ مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا ثَبَتَ عَنْهُ الضَّرْبُ الْمُطْلَقُ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ الْجَلْدُ بِالْجَرِيدِ وَهُوَ سَعَفُ النَّخْلِ, وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَتَعَيَّنُ الْجَلْدُ بِالْجَرِيدَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَقْرَبُهَا جَوَازُ الْجَلْدِ بِالْعُودِ غَيْرِ الْجَرِيدِ وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الضَّرْبِ بِالْيَدَيْنِ وَالنِّعَالِ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَجْمَعُوا عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ بِالسَّوْطِ وَقَالَ الْمُصَنِّفُ تَوَسَّطَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَعَيَّنَ السَّوْطَ لِلْمُتَمَرِّدِينَ وَأَطْرَافَ الثِّيَابِ وَالنِّعَالَ لِلضُّعَفَاءِ وَمَنْ عَدَاهُمْ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِمْ وَقَدْ عَيَّنَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ, «نَحْوَ أَرْبَعِينَ» مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَحْمَدُ بِلَفْظِ «فَأَمَرَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ رَجُلًا فَجَلَدَهُ كُلُّ وَاحِدٍ جَلْدَتَيْنِ بِالْجَرِيدَةِ وَالنِّعَالِ» قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا يَجْمَعُ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى تَشَعُّبِهِ، وَأَنَّ جُمْلَةَ الضَّرَبَاتِ كَانَتْ أَرْبَعِينَ لَا أَنَّهُ جَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ أَرْبَعِينَ.

(الشرح)

يَعْنِي: يُجلد نحو أربعين, هذا يجلده بالنعال, وهذا باليد, وهذا بالسوط, أو يوكل إِلَى شخص واحد يضربه بالسوط نحو أربعين, فتكون عدد الضربات أربعين, وإن زاد إِلَى ثمانين كما فعل عمر رضي الله عنه لما كثر الفساق وكثر شراب الخمر زاد عمر إِلَى ثمانين, وهذا من باب التعزير وليس من باب الحد.

(المتن)

 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ "فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ إلَى آخِرِهِ" سَبَبُ اسْتِشَارَتِهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ " أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ كَتَبَ إلَى عُمَرَ: إنَّ النَّاسَ قَدْ انْهَمَكُوا فِي الْخَمْرِ وَتَحَاقَرُوا الْعُقُوبَةَ قَالَ وَعِنْدَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَسَأَلَهُمْ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَضْرِبَ ثَمَانِينَ " وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ " أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ فِي الْخَمْرِ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ فَإِنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَجَلَدَ عُمَرُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ".

(الشرح)

يَعْنِي: كما أن المفتري الذي يقذف غيره بالزنا يُجلد ثمانين لافترائه, فهذا صاحب الخمر يفتري فشبهه بِهِ, قَالَ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}[النور/4].

فالمفتري القاذف يُجلد ثمانين, الصحابة استنبطوا من ذلك قالوا: إذا شرب سكر وإذ1ا سكر هذى وإذا هذى افترى, فيُجلد حد المفتري ثمانين.

(المتن)

وَهَذَا حَدِيثٌ مُعْضِلٌ وَلِهَذَا الْأَثَرِ عَنْ عَلِيٍّ طُرُقٌ وَقَدْ أَنْكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ كَمَا سَلَفَ، وَفِي مَعْنَاهُ نَكَارَةٌ لِأَنَّهُ قَالَ: إذَا هَذَى افْتَرَى وَالْهَاذِي لَا يُعَدُّ قَوْلُهُ فِرْيَةً؛ لِأَنَّهُ لَا عَمْدَ لَهُ وَلَا فِرْيَةَ إلَّا عَنْ عَمْدٍ, وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: جَاءَتْ الْأَخْبَارُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّ فِي الْخَمْرِ شَيْئًا» وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَدِيثَ الْآتِي يُؤَيِّدُهُ.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ حَقَّقْنَاهَا فِي مِنْحَةِ الْغَفَّارِ عَلَى ضَوْءِ النَّهَارِ وَفِيهَا أَنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ عَلِيًّا بِجَلْدِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فِي الْخَمْرِ.

(الشرح)

الوليد بْنُ عقبة كَانَ أميرًا عَلَى الكوفة, وكان بينه وبين عثمان قرابة من جهة الأم, فَلَمّا شرب قَالَ لعلي: اجلده.

(المتن)

فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ اجْلِدْهُ فَجَلَدَهُ فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ؛ قَالَ: أَمْسِكْ «جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ الْخَمْرَ فَقَالَ عُثْمَانُ: إنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا» يُرِيدُ أَنَّهُ أَحَبُّ إلَيْهِ مَعَ جُرْأَةِ الشَّارِبِينَ لَا أَنَّهُ أَحَبُّ إلَيْهِ مُطْلَقًا فَلَا يُرَدُّ أَنَّهُ كَيْفَ يَجْعَلُ فِعْلَ عُمَرَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(الشرح)

يَعْنِي عثمان يقول: (أحب إليه) لِأَنّ الناس تجرئوا وأكثروا من شرب الخمر فيكون في الثمانين ردعٌ لهم.

(المتن)

فَإِنَّ ظَاهِرَ الْإِشَارَةِ إلَى فِعْلِ عُمَرَ وَهُوَ الثَّمَانُونَ، وَلَكِنَّهُ يُقَالُ: إنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: أَمْسِكْ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ الْأَحَبَّ إلَيْهِ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ "أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ الْوَلِيدَ ثَمَانِينَ" وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَاَلَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ أَرْجَحُ وَكَأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ، أَمَرَ عَبْدِ اللَّهِ بِتَمَامِ الثَّمَانِينَ وَهَذِهِ أَوْلَى مِنْ الْجَوَابِ الْآخَرِ وَهُوَ أَنَّهُ جَلَدَهُ بِسَوْطٍ لَهُ رَأْسَانِ فَضَرَبَهُ أَرْبَعِينَ فَكَانَتْ الْجُمْلَةُ ثَمَانِينَ، فَإِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِعَدَمِ مُنَاسَبَةِ سِيَاقِهِ لَهُ؛ وَالرِّوَايَاتُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ جَلَدَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ» كَثِيرَةٌ، إلَّا أَنَّ فِي أَلْفَاظِهَا نَحْوَ أَرْبَعِينَ وَفِي بَعْضِهَا بِالنِّعَالِ فَكَأَنَّهُ فَهِمَ الصَّحَابَةُ أَنَّ ذَلِكَ يَتَقَدَّرُ بِنَحْوِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى السَّكْرَانِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً قَالُوا: لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ عُمَرَ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ, وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَدَاوُد أَنَّهُ أَرْبَعُونَ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلُهُ، وَلِأَنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ مَا فِي الرِّوَايَاتِ وَاخْتِلَافِهَا عَلِمَ أَنَّ الْأَحْوَطَ الْأَرْبَعُونَ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عَلَى الْوَلِيدِ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ الْخَمْرَ فَقَالَ عُثْمَانُ: إنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا» فِي مُسْلِمٍ: «أَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ وَشَهِدَ عَلَيْهِ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّؤُهَا».

(الشرح)

حُمران مولاه.

(المتن)

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذَا دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ مَنْ تَقَيَّأَ الْخَمْرَ يُحَدُّ حَدَّ شَارِبِ الْخَمْرِ؛ وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَهَا جَاهِلًا كَوْنَهَا خَمْرًا أَوْ مُكْرَهًا عَلَيْهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْحُدُودِ، وَدَلِيلُ مَالِكٍ هُنَا أَقْوَى؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى جَلْدِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

(الشرح)

لَكِنْ إذا ثبت أَنَّه شربها جاهلًا أو مكرهًا فلا يُحد فهو معذور.

(المتن)

قُلْت: وَبِمِثْلِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ قَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ اقْتِصَارَ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْمُشَاهَدِ بِالْقَيْءِ وَحْدَهُ تَقْصِيرٌ لِإِيهَامِهِ أَنَّهُ جَلَدَ الْوَلِيدَ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ عَلَى التَّقَيُّؤِ, وليس كذلك كما عرفنا لا بما ذكره مسلمٌ من روايات, فلا يتم الدليل عَلَى أن الشهادة عَلَى القيء كافية في ثبوت الحد إِلَّا أن يقوم دليلٌ غير ما هنا.

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ: إذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ» إِلَى آخر الحديث, اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي قَتْلِهِ هَلْ يُقْتَلُ إنْ شَرِبَ الرَّابِعَةَ أَوْ إنْ شَرِبَ الْخَامِسَةَ؟ فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ أَبَانَ الْقَصَّارِ وَذَكَرَ الْجَلْدَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بَعْدَ الْأُولَى ثُمَّ قَالَ: "فَإِنْ شَرِبُوا فَاقْتُلُوهُمْ" وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ فِي الْخَامِسَةِ "فَإِنْ شَرِبَهَا فَاقْتُلُوهُ" وَإِلَى قَتْلِهِ فِيهَا ذَهَبَ الظَّاهِرِيَّةُ، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ ابْنُ حَزْمٍ وَاحْتَجَّ لَهُ وَادَّعَى عَدَمَ الْإِجْمَاعِ عَلَى نَسْخِهِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَلَمْ يَذْكُرُوا نَاسِخًا صَرِيحًا إلَّا مَا يَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَعَنْ الزُّهْرِيِّ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْقَتْلَ فِي الرَّابِعَةِ» وَقَدْ يُقَالُ: الْقَوْلُ أَقْوَى مِنْ التَّرْكِ فَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ, والله أعلم.

وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَأَخْرَجَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُد صَرِيحًا عَنْ الزُّهْرِيِّ يُرِيدُ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ إذَا شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ, قَالَ: فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ قَدْ شَرِبَ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ قَدْ شَرِبَ فَجَلَدَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الرَّابِعَةَ فَجَلَدَهُ فَرُفِعَ الْقَتْلُ عَنْ النَّاسِ فَكَانَتْ رُخْصَةً» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا يُرِيدُ نَسْخَ الْقَتْلِ, مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِثْلُهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(الشرح)

هذا هو الصواب الذي عليه العلماء والمحققون أنه منسوخ.

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد