شعار الموقع

أصول السنة لابن أبي زمنين (2) من قوله: "إِنْ خَاصَمُوك بِالْقُرْآنِ فَخَاصِمهمْ بِالسُّنَّةِ" - إلى قوله: "أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"

00:00
00:00
تحميل
85

بسم الله الرحمن الرحيم

(المتن)

اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي خَالِدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إِلَى أَقْوَامٍ خَرَجُوا فَقَالَ لَهُ: "إِنْ خَاصَمُوك بِالْقُرْآنِ فَخَاصِمهمْ بِالسُّنَّةِ".

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فهذا هو الأثر التاسع من الآثار التي استدل بها المؤلف رحمه الله على الحض على لزوم السنة واتباع الأئمة فهذا الحديث يروي عن ابن وهب يعني بالإسناد السابق, والإسناد السابق, قال المؤلف: (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَسْلَمَ بْنِ عَبْد الْعَزِيز، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ, قَالَ: وَأَخْبَرَنِي خَالِدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ إِلَى أَقْوَامٍ خَرَجُوا فَقَالَ لَهُ: إِنْ خَاصَمُوك بِالْقُرْآنِ فَخَاصِمهمْ بِالسُّنَّةِ).

الحديث فيه ضعف كما سبق أن إسحاق بن إبراهيم متكلمٌ فيه، وكذلك شيخ أسلم بن عبد العزيز بن هاشم، وذكر المحقق أن فيه من لم يقف على ترجمته وهو يحيى، وكذلك خالد بن حميد، وعلى هذا سيكون الحديث أو الأثر فيه ضعف، والحديث ورد أو الأثر في مناظرة ابن عباس رضي الله عنهما للخوارج، وقصة المناظرة صحيحة وثابتة كما ذكر المحقق أخرجها الإمام أحمد في المسند، والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك، وصحح الإسناد أحمد شاكر رحمه الله وكذلك ابن كثير رحمه الله تكلم عنه.

فالمقصود أن المناظرة مناظر ابن عباس للخوارج ثابتة, أما هذا الأثر ففيه ضعف, لكن قصة المناظرة ثابتة وفيه: أن علي قال لابن عباس: (إِنْ خَاصَمُوك –أي الخوارج- بِالْقُرْآنِ فَخَاصِمهمْ بِالسُّنَّ).

لأن الخوارج أحيانًا قد لا يحتجون بالسنة يحتجون بالقرآن, فقال: إن خاصموك بالقرآن فخاصمهم بالسنة, وهذا دليل على الحض على لزوم السنة واتباعها, والسنة وحيٌ ثاني كما سبق, وكما قال الله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ[النجم/4].

والله تعالى يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا[الحشر/7] .

والله تعالى قال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [التغابن/12] .

فعلي يقول لابن عباس: إذا خاصمك الخوارج بالقرآن خاصمهم بالسنة, وبين لهم أن السنة ثابتة بالقرآن, قل لهم النصوص التي تلزمهم باتباع السنة والعمل بالسنة.

لأن الخوارج ينكرون أشياء ثابتة بالسنة، يرون أن المرأة الحائض تقضي الصلاة ولا يعملوا بالسنة التي فيها أن النبي ﷺ قال: إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم.

فالمقصود: أن قصة المناظرة ثابتة وإن كان هذا الأثر فيه ضعف، ولكن قصة مناظرة العباس للخوارج ثابتة ناظرهم ابن عباس ورجع كثيرٌ منهم، أي عدد كبير، مما يدل على أن مناظرة أهل العلم لأهل البدع أو غيرهم حتى الكفرة إذا كان يغلب على الظن أن فيها نفع وأن فيها فائدة يناظرهم لعل أن الله يهديهم ولعلهم يرجعون إلى الصواب.

 ولهذا ناظر ابن عباس الخوارج ورجع عدد كبير، ألاف رجعوا إلى الحق, وفيه أن علي قال له: " إن خاصموك بالقرآن " ؛ لأنهم يحتجون بالقرآن ولا يحتجون بالسنة فخاصمهم بالسنة، واستدلوا عليه بالسنة وأن السنة وحيٌ ثاني وأن الله أمر باتباع السنة واذكر لهم النصوص, ففعل, وهذا فيه الأمر بالحض على السنة واتباعها.

(المتن)

وَحَدَّثَنِي وَهْبٌ عَنْ اِبْنِ وَضَّاحٍ، عَنْ الصُّمَادِحِيِّ، عَنْ اِبْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ اَلشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إِلَّا اَلَّذِي بَعْدَهُ شرٌّ مِنْهُ، لَا أَعْنِي عَامًا أَخْصَبَ مِنْ عَامٍ وَلَا أَمْطَرَ مِنْ عَامٍ، وَلَكِنْ ذَهَابَ عُلَمَائِكُمْ وَخِيَارِكُمْ، ثُمَّ يُحْدِثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ اَلْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُهْدَمُ اَلْإِسْلَامُ وَيُثْلَمُ".

(الشرح)

نعم وهذا الأثر عن عبد الله بن مسعود t فيه ضعف؛ لأن في سنده مجالد, ومجالد بن سعيد ضعيف عند أهل العلم تغير في آخر حياته، ولكن يعتبر بحديثه ولا يحتج به، ولكن متن الأثر صحيح.

لأن الأثر له شاهد من حديث أنس في البخاري (قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: «اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ» سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ ﷺ. رواه البخاري.

حديث البخاري في الفتن وهو شاهد في هذا الأثر، فالأثر هذا وإن كان في مجالد بن سعيد وهو ضعيف عند المحدثين من جهة حفظه؛ إلا أن الأثر متنه صحيح وله شاهد من حديث ابن مسعود عند البخاري.

فالأثر يدل على الحض على لزوم السنة واتباعها واتباع الأئمة فإن عبد الله بن مسعود يقول: (لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إِلَّا اَلَّذِي بَعْدَهُ شرٌّ مِنْهُ، لَا أَعْنِي عَامًا أَخْصَبَ مِنْ عَامٍ وَلَا أَمْطَرَ مِنْ عَامٍ).

الخصب ضد الخدب, يعني ابن مسعود يقول: لا أقصد بقولي العام الذي هو شر منه من جهة الخصب والجدب لا, لكن من جهة الدين, يذهب العلماء والأخيار فيبقى الجهلة, فيثلم الدين.

فقول ابن مسعود : (لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إِلَّا اَلَّذِي بَعْدَهُ شرٌّ مِنْهُ) ليس من جهة الجدب والقحط ولكن من جهة الدين وذهاب العلماء والأخيار وبقاء الجهال, ولهذا قال: (لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إِلَّا اَلَّذِي بَعْدَهُ شرٌّ مِنْهُ، لَا أَعْنِي عَامًا أَخْصَبَ مِنْ عَامٍ وَلَا أَمْطَرَ مِنْ عَامٍ, وَلَكِنْ ذَهَابَ عُلَمَائِكُمْ وَخِيَارِكُمْ، ثُمَّ يُحْدِثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ اَلْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُهْدَمُ اَلْإِسْلَامُ وَيُثْلَمُ). – ولا حول ولا قوة إلا بالله-

والثلم هو: الكسر الذي يكون في الإناء أو في القدح, والمراد: النقص في الإسلام، إذا ذهب العلماء والأخيار بقي الجهال، والجهال لا علم عندهم فيعملون بغير علم فيحصل الضلال.

ومراد ابن مسعود: «لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إِلَّا اَلَّذِي بَعْدَهُ شرٌّ مِنْهُ».

ومثله حديث رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ.

المراد: أن العصور المتأخرة في الجملة شرٌ من العصور المتقدمة, وقد يأتي في العصور المتأخرة خير، ويكون في بعض العصور المتأخرة أفضل مما سبق من العصور، ولكن المراد في الجملة, في الجملة يعني: بالنسبة للعموم.

فالعصور المتأخرة والسنين المتأخرة تكون شرٌ من العصور المتقدمة بالنسبة للعموم، لكن قد يحصل في بعض العصور المتأخرة في بعض الجهات أو في بعض الأزمنة خير، مثل ما حصل من الخير في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم أظهروا السنة ونشروها وردوا على أهل البدع.

مثل ما حصل من الخير العظيم في العصور المتأخرة في القرن الثاني عشر من قيام الإمام الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب في الدعوة, دعوته إلى التوحيد وانتشار الدعوة السلفية وانتشار العلم والخير من أبنائه وأحفاده وتلاميذه, حتى صار الناس في زمانهم كأنهم في عصور الصحابة والتابعين والأمة, من جهة صفاء العقيدة ونقائها, والبعد عن الشرك والتحذير منه, انتشار الخير وانتشار المؤلفات مؤلفات الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ومؤلفات أبنائه وأحفاده.

 وهذا خير في العصور المتأخرة ولكن المراد العموم, عموم العصور المتأخرة فالمتقدمة خيرٌ منها, لكن قد يحصل في بعض العصور المتأخرة خير, فهذا شيء جزئي, وهذا مراد ابن مسعود: لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إِلَّا اَلَّذِي بَعْدَهُ شرٌّ مِنْهُ.

وكذلك حديث أنس في البخاري: «اَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ. سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ ﷺ.

وهذا فيه الحض على لزوم السنة واتباعها واتباع هدي السلف واتباع الأئمة؛ لأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم هم الذين على الجادة وعلى الهدي النبوي, ولهذا لما ذكر النبي ﷺ تفرق الأمم بيّن الفرق الناجية وقال: هم من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي.

فهذا الأثر عن ابن مسعود وكذلك عن أنس فيه الحض على لزوم السنة واتباع الأئمة, الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

(المتن)

اِبْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ اَلثَّوْرِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "اِتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ".

(الشرح)

  وهذا الأثر عن ابن مسعود أيضًا t وهو موصولٌ بالإسناد السابق, (وَحَدَّثَنِي وَهْبٌ عَنْ اِبْنِ وَضَّاحٍ، عَنْ الصُّمَادِحِيِّ، عَنْ اِبْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ اَلثَّوْرِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النخعي، عَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ قَالَ).

الأثر صحيح وليس فيه مجالد بن سعيد, في السند السابق فيه مجالد وهو ضعيف, وهنا ليس فيه مجالد؛ لأن الأثر موصول بالإسناد السابق, والإسناد السابق حدث فيه وهب عن  ابن وضاح عن الصمادحي عن ابن مهدي قال: حدثنا سفيان الثوري.

والسابق عن سفيان عن مجالد, مجالد فيه ضعف, فهذا الأثر ليس فيه مجالد فهو متنٌ صحيح وثابت عن ابن مسعود  من رواية إبراهيم النخعي عن ابن مسعود, وقد أخرجه جمع من العلماء المؤلفين أخرجه ابن بطة في الإبانة, وأخرجه أيضًا الدارمي في السنن والطبراني في الكبير والبيهقي واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد وغيرهم.

فالأثر صحيح عن ابن مسعود, يقول: «اِتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ».

اتبعوا أثر السلف الصالح من الصحابة والتابعين ولا تبتدعوا, وسبق أن البدعة هي الحدث في الدين, أي لا تحدثوا في دين الله، اتبعوا ما عليه السلف الصالح، اتبعوا هدي السلف الصالح من الصحابة والتابعون، والصحابة والتابعون مشوا على خطى النبي ﷺ, وعملوا بسنته.

«وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ», كفيتم الأمر، السنة سنها رسول الله ﷺ, فاعملوا بالسنة التي عليها الصحابة والتابعون واحذروا من البدع فقد كفيتم, كفيتم الأمر، الأمر قضي، سن النبي السنن وأمر ونهى وحذر فالزموا السنة واحذروا من البدعة, فقد كفيتم الكلام في هذه الأمور.

فإن الأمر لله ولرسوله ﷺ، والأثر واضح في دلالته على اتباع السنة لزوم السنة واتباع الأئمة.

(المتن)

اِبْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ: وَحَدَّثَنِي زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ اَلْأَزْدِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْصِنِي قَالَ: "عَلَيْكَ بِالِاسْتِقَامَةِ، اِتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ".

(الشرح)

نعم وهذا الأثر موصول بالإسناد السابق كما سبق، ابن وهب عن ابن واضح عن الصمادحي عن ابن وهب قال: حدثني زمعة بن صالح عن عثمان بن حاضر الأزدي, قال: قلت لابن عباس.

و الأثر فيه زمعة بن صالح وهو ضعيف عن أهل العلم, ضعفه أهل العلم من جهة غلطه ولكن الأثر صحيح وله شواهد ويشهد عليه الأثر السابق حديث ابن مسعود في الأثر السابق « اِتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ».

و الأثر وإن كان في سنده زمعة بن صالح اليماني ضعفه الإمام أحمد وابن معين وأبو داود وأبو حاتم، قال النسائي: ليس بالقوي وكثير الغلط عن الزهري, فهو ضعيف الحديث لكن المتن متن الأثر صحيح ويشهد له الأثر الذي في حديث ابن مسعود السابق.

والأثر دليل على لزوم السنة واتباع الأئمة, قوله: «عليك بالاستقامة», أي: استقم على دين الله واحذر من البدع, ويشهد له قول النبي ﷺ لما سأله رجل قال: أوصيني. قال: قل آمنت بالله ثم استقم, والله تعالى أثنى على الذين استقاموا قال: نَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا [فصلت/30] .

 فالاستقامة معناها لزوم الحق والعمل بالكتاب والسنة, ولأنه فسر قال: «اتبعوا ولا تبتدعوا», اتبع آثار من سبق اتبع الصحابة والتابعين والأئمة, فإنهم على الهدي  «ولا تبتدع», احذر البدع وهي المحدثات في الدين.

وهو دليل لما ترجم له المؤلف من الحض على لزوم السنة واتباع الأئمة.

(المتن)

اِبْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ: وَحَدَّثَنَا عبد المؤمن بْنُ عبيد الله قَالَ: حَدَّثَنِي مَهْدِيُّ بْنُ أَبِي أَبِي اَلْمَهْدِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَا يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ عَامٌ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً حَتَّى تَحْيَى اَلْبِدَعُ وَتَمُوتُ اَلسُّنَنُ".

(الشرح)

وهذا الأثر موصولٌ بالإسناد السابق, قال: حدثني ابن وهب عن ابن وضاح عن الصمادحي عن ابن مهدي, قال: (وَحَدَّثَنَا عبد المؤمن بْنُ عبيد الله قَالَ: حَدَّثَنِي مَهْدِيُّ بْنُ أَبِي أَبِي اَلْمَهْدِيِّ), هذا أثر عن ابن عباس ولكن الأثر ضعيف؛ لأن مهدي بن حرب العبدي الهزلي متكلم فيه عند أهل العلم.

وهذا الأثر أخرجه أبو عبد الله المروزي في السنة وابن وضاح في البدع المنهي عنها واللالكائي في شرح " أصول اعتقاد أهل السنة " كلهم من طرق عن عبد المؤمن بن عبيد الله عن مهدي بن أبي مهدي, المدار عليه كما ذكر المحقق, فمداره على مهدي بن حرب المهدي وهو ضعيف عند أهل الحديث.

فالأثر ضعيف لكن معناه صحيح, قد يقال: إن المتن يشهد له الآثار السابقة, أثر ابن مسعود: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم».

أثر ابن عباس: «عليك بالاستقامة اتبع ولا تبتدع».

وأثر ابن مسعود: لا يأتي عام إلا والذي بعده شرٌ منه. سمعته من النبي ﷺ. كل هذه تشهد له, فالإسناد وإن كان ضعيف إلا أن له شواهد, يرتقى بها إلى درجة الحسن فيكون حسن, فيكون الأثر حسن وهو دليل على ما ترجم له المؤلف من لزوم السنة واتباع الأئمة, قال: لَا يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ عَامٌ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً حَتَّى تَحْيَى اَلْبِدَعُ وَتَمُوتُ اَلسُّنَنُ ».

 وهذا هو الواقع لاسيما في العصور المتأخرة فإن أكثروا البدع وتركوا السنن, وليس معنى ذلك أن هذا من جميع الناس لا, بمعنى: أنه يوجد هذا في الناس, وليس بمعنى أنه يوجد في جميع الناس, بل هناك طائفة على الحق مستقيمة كما أخبر النبي ﷺ وهذه بشارة, قال: لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى.

ولكن المقصود من الأحاديث والآثار بيان أن هذا الأمر لابد أن يقع, وفيه التحذير من البدع والأمر بلزوم السنة, مثل قول النبي ﷺ: أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن, الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستقاء بالنجوم والنياحة على الميت.

ليس معنى ذلك أن هذه الأربع موجودة في كل شخص لا, بل المعنى: أن هذه الأربع موجودة في الأمة لا تزال, لكن الطائفة المنصورة سلمت من هذا, التي على الحق, أهل الحق وأهل الاستقامة أهل السنة والجماعة سلموا من ذلك, ولكن المعنى أن هذه الخصال من الأمم الجاهلية هي موجودة في الأمة, لابد أن تقع ولابد أن توجد.

والأمر الثاني: فيه التحريم تحريم هذه الخصال, النبي r يخبرنا أن هذه الأربع موجودة في هذه الأمة.

  • هذا الخبر يفيد فائدتين:

الفائدة الأولى: أن هذه الأمور من أمر الجاهلية لابد أن تقع في هذه الأمة.

الفائدة الثانية: التحذير منها.

كذلك هنا الأثر عن ابن عباس قوله: «لَا يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ عَامٌ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً», ليس المراد: أن هذا يحدث من كل أحد لا, بل المعنى: يوجد هذا في الأمة, وفيه التحذير من البدع الأمر بلزوم السنة واتباعها كما ترجم له المؤلف رحمه الله.

(المتن)

باب: " فِي اَلْإِيمَانِ بِصِفَاتِ اَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ " .

قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ اَلْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ يَرَوْنَ اَلْجَهْلَ بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ عِلْمًا، وَالْعَجْزَ عَمَّا لَمْ يُدَّعَ إِيمَانًا، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَنْتَهُونَ مِنْ وَصْفِهِ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ إِلَى حَيْثُ اِنْتَهَى فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، وَقَدْ قَالَ: وَهُوَ أَصْدَقُ اَلْقَائِلِينَ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.

وقال: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَقَالَ: وَيُحَذِّرُكُمُ اَللَّهُ نَفْسَهُ وَقَالَ: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وَقَالَ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَقَالَ: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي وَقَالَ: وَقَالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ وَقَالَ: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ  وَقَالَ: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى وَقَالَ:  وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا وَقَالَ: اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَالَ: اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ وَقَالَ: هُوَ اَلْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ.

وَمِثْلُ هَذَا فِي اَلْقُرْآنِ كَثِيرٌ فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَهُ وَجْهٌ وَنَفْسٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَسْمَعُ وَيَرَى وَيَتَكَلَّمُ، اَلْأَوَّلُ وَلَا شَيْءَ قَبْلَهُ، وَالْآخِرُ اَلْبَاقِي إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ لَا شَيْءَ بَعْدَهُ، وَالظَّاهِرُ اَلْعَالِي فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ وَالْبَاطِنُ بَطَنَ عِلْمُهُ بِخَلْقِهِ تَعَالَى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ٌحَيُّ قَيُّومٌ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ.

(الشرح)

انتقل المؤلف إلى الباب الثاني, الباب الأول: (الحض على لزوم السنة واتباع الأئمة).

الباب الثاني: (فِي اَلْإِيمَانِ بِصِفَاتِ اَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ).

  • الإيمان بأسماء الله وصفاته هذا هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة:
  1. توحيد الربوبية.  
  2. توحيد الأسماء والصفات.  
  3. وتوحيد الإلوهية.

لابد من الإيمان بأسماء الله وصفاته التي سمى الله بها نفسه أو سماها بها رسوله ﷺ, أو وصف بها نفسه ووصف بها رسوله ﷺ, والأسماء والصفات توقيفية, ومعنى توقيفية أنه لا يثبت لله من الأسماء ولا يوصف من الصفات إلا ما أثبته لنفسه في كتابه أو أثبته له رسول الله ﷺ في سنته.

وليس للناس أن يخترعوا لله أسماء من قبل أنفسهم ولا صفات, هذا معنى قول أهل العلم: الأسماء والصفات توقيفية, يوقف بها عند النصوص, فمثلاً قال الله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ ۝ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۝ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر/22-24] .

الله تعالى سمى نفسه بهذه الأسماء, هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب, هو الرحمن الرحيم, الملك, القدوس, السلام, كل هذه من أسماء الله, وكما سبق الاسم يشتمل على الصفة, ليست أسماء الله أصول جامدة بل هي مشتقة, وأهل السنة والجماعة أثبتوا الأسماء والصفات لله على ما يليق بجلال الله وعظمته, لم يؤولوا ولم يحرفوا ولم يجحدوا ولم ينكروا.

وضل أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة فتأولوا أسماء الله وصفاته, الجهمية أنكروا الأسماء والصفات, زعمًا منهم أنهم إذا أثبتوا الأسماء والصفات لله لصار مشابه للمخلوقات فنفوا الأسماء والصفات, فعطلوا الرب.

من المعلوم أن ليس له أسماء ولا صفات لا وجود له, إذا سُلبت الأسماء والصفات صار موجودًا في الذهن, الإنسان الآدمي لابد له من صفات, فإذا سلبت الصفات عن الآدمي لا وجود له, فلو قلت: أنا أثبت إنسان من بني آدم لكن ليس له طول ولا عرض ولا عمق ولا لون, ولا مكون من لحم ولا من دم وليس له سمع ولا بصر ولا فوق الأرض ولا تحته, إذًا يكون في الذهن, هذا العدم.

هكذا هؤلاء الملاحدة وصفوا الله بهذا قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا مباين له وما محايد له ولا متصل به وليس له سمع ولا بصر ولا علم ولا قدرة ولا إرادة, إذًا هذا عدم.

ولهذا كفر الجهمية خمسمائة عالم كما ذكر ابن القيم، خمسمائة عالم كفروا الجهمية, وقال عبد الله بن المبارك: إن كلام الجهمية يدور على أنه ليس فوق العرش شيء، أنكروا وجود الله.

قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نحكي كلام الجمهية من خبثه, نسأل الله العافية, فالجهمية أنكروا الأسماء والصفات، وإنكار الأسماء والصفات معناه إنكار لوجود الله؛ لأنه لا وجود للشيء إلا بصفاته وأسمائه.

والمعتزلة أثبتوا الأسماء وأنكروا الصفات، يقولون: نثبت الاسم لكن بلا صفة، عليم بلا علم سميع بلا سمع بصير بلا بصر, وهذا أيضًا من أبطل الباطل, والأشاعرة أثبتوا سبع صفات وهي: الحياة والكلام والبصر والسمع والعلم والقدرة و الإرادة, وتأولوا بقية الصفات.

هؤلاء أهل البدع انحرفوا عن الجادة وعن الصراط المستقيم, وأما أهل السنة والجماعة فهداهم الله بما اختلف فيه من الحق, فأثبتوا الأسماء والصفات على ما يليق بالله وعظمته.

فعلى حد قول الإمام مالك رحمه الله لما سُئِل عن الاستواء قال: " الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة " .

الاستواء معلوم يعني معلم معناه في اللغة العربية, الاستواء معناه استقر وعلا وصعد وارتفع أربع معالم له, هذه معالم الاستواء: استقر, وعلا, وصعد, وارتفع, وعلى هذه المعاني الأربع تدور تفاسير السلف للاستواء, أما كيفية  استواء الرب هذا مجهول لا يعرفه إلا الله, ولهذا قال الإمام مالك: الكيف مجهول والإيمان به واجب, يجب على الإنسان يؤمن بأسماء الله وصفاته, والسؤال عن الكيفية بدعة, وهكذا يقال في جميع الصفات.

المؤلف رحمه الله قال: (باب: فِي اَلْإِيمَانِ بِصِفَاتِ اَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ).

هو المؤلف اسمه محمد بن أبي زمنين.

(وَاعْلَمْ) اعلم يعني تيقن كما سبق أن العلم هو حكم الذهن الجازم يعني لا تشك.

(وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ اَلْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ يَرَوْنَ اَلْجَهْلَ بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ عِلْمًا).

يقول: أهل الحق أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبيائه ورسله, من هم؟ هم الصحابة والتابعون من بعدهم, يرون أن جهل الإنسان بالشيء الذي لم يخبر الله به عن نفسه علم, الشيء اللي ما أخبر الله به عن نفسه كونك تجهله هذا علم.

وهذا يؤيده ما قاله أبو يوسف الصاحب الأول لأبي حنيفة أو الشافعي يروى عن الشافعي أنه قال: الجهل بالكلام هو العلم والعلم بالكلام هو الجهل.

الكلام يعني: أهل الكلام الذين يتكلمون بآرائهم وأقيستهم في النصوص ويؤولون النصوص ويتكلمون فيها بعقولهم وآرائهم علمهم هذا هو الجهل.

والجهل بكلامهم كونك ما تعرف أدلتهم وطرقهم ومناهجهم هذا علم, إذا لم تعرف هذا علم, وكونك تعلم أدلتهم ومناهجهم هذا جهل, العلم بالكلام هو الجهل والجهل بالكلام هو العلم.

ومن هذا يُروى عن الشافعي أو يروى عن أبي يوسف قال: العلم بالكلام هو الجهل والجهل بالكلام هو العلم, يعني: أهل الكلام ما يستدلون بالنصوص, يستدلون بآرائهم وشبهاتهم يقولون: لا نثبت الأسماء والصفات؛ لأنها يلزم عليها أن يكون الله مشابه للمخلوقات إذًا لا نثبت الأسماء.

ويقول: لو قلنا: إن الله بالعلو لقنا متحيز, ولو كان متحيزًا لكان جسمًا, هذا الكلام مبني على الآراء, مبني على العقول الفاسدة فجهلك بهذا الكلام هو العلم, وعلمك به جهل, كونك تعلم  استدلالاتهم وطريقتهم هذا جهل, وكونك تجهل ما هم عليه هذا هو العلم, العلم بالكلام هو الجهل والجهل بالكلام هو العلم.

ولهذا قال المؤلف محمد بن أبي زمنين: اعلم أن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبيائه ورسله يرون أن الجهل بما لم يخبر به تبارك وتعالى عن  نفسه علمًا, كونك تجهل الشيء الذي ما أخبر الله به عنه فهذا هو العلم.

  • لأن العلم شيئان:
  1. شيءٌ تعلمه تتكلم فيه.
  2. وشيء لا تعلمه تقول: لا أدري. كما قال بعض السلف: لا أدري نصف العلم.

فالجهل بما لم يخبر به الله تعالى عن نفسه علمًا (وَالْعَجْزَ عَمَّا لَمْ يُدَّعَ إِيمَانًا)، يعني العجز عما لم يدع إليه ولم يؤمر به إيمان.

يعني كونك تعجز عن شيء لم تدع إليه ولم تؤمر به هذا هو الإيمان, ثم قال: (وَأَنَّهُمْ) يعني أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبيائه ورسله (إِنَّمَا يَنْتَهُونَ مِنْ وَصْفِهِ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ إِلَى حَيْثُ اِنْتَهَى فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ).

يعني: أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم والأئمة يقفون عند النصوص من كتاب الله وسنة رسوله, فما وصف الله به نفسه أثبتوه وما نفى الله به عن نفسه نفوه, وما وصفه نبيه به ربه وصفوه, وما نفاه نبيه عنه نفوه, ينتهون إلى حيث انتهى لا يزيدون ولا ينقصون ويقفون عند النصوص, هذا معنى قوله: (إِنَّمَا يَنْتَهُونَ مِنْ وَصْفِهِ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ إِلَى حَيْثُ اِنْتَهَى فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ).

وَقَدْ قَالَ: وَهُوَ أَصْدَقُ اَلْقَائِلِينَ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.

هذا فيه إثبات الوجه لله, وأهل البدع لا يثبتون الوجه إذا جاءوا عند تفسير هذه الآية (إلا وجهه) لو قرأت الجلالين عند كلمة وجده يكتب أي: ذاته, قصده من ذلك إنكار الوجه.

والآية فيها إثبات الذات والوجه(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ), فيها إثبات الذات والوجه لله.

وقال: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.

إيش قصد المؤلف من هذا؟ إثبات أن الله شيء, قل أي شيء أكبر قل الله, فسمى الله نفسه شيئًا وهذا من باب الخبر ليس من باب الوصف, ما يقال: إن من أوصاف الله أنه شيء, لكن يخبر عن الله أنه شيء, يخبر عنه بأنه موجود, يخبر عنه بأنه لذات, كما في الحديث عن إبراهيم لما كذب ثلاث كذبات قال: يجادل في ذات الله, وقول خبيب: كل ذلك في ذات الإله وإن لم يشأ, وأقره النبي ﷺ.

فلا يقال: إن من أسماء الله الذات ولا يقال إن من أسماء الله شيء أو موجود بل يقال: يخبر عن الله, يخبر عنه بأنه شيء وأن له ذات وأنه موجود والقاعدة عند أهل العلم أن باب الخبر أوسع من باب الأسماء والصفات, الأسماء والصفات توقيفية، وأما الخبر فهو أوسع.

ولهذا تجد الأئمة كشيخ الإسلام ابن تميمة حينما يرد على أهل البدع يخبر عنه بأنه الصانع ليس من أسماء الله سبحانه ولكن هذا من باب الخب، والمؤلف أتى بهذه الآية على أنها من الأسماء والصفات ومن باب الخبر, سمى الله نفسه شيء في قوله: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. (سورة الأنعام /19)

وَقَالَ: وَيُحَذِّرُكُمُ اَللَّهُ نَفْسَهُ في إثبات أن الله نفسًا، وهل النفس صفة؟ قال بعضهم: إنها صفة, والصواب أن نفس بمعنى على الذات, النفس هي الموصوفة بالصفات, فالله تعالى له نفس موصوفة بالصفات.

قال تعالى عن عيسى عليه السلام أنه قال: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة/116] . فأثبت الله نفسًا.

وقال سبحانه وتعالى: فإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي [الحجر/29] .

هذا أضاف الفعل إليه " سويته ونفخت فيه " فهذا يضاف إلى الله U كما أضافه لنفسه, قال: إن الله سوى آدم ونفخ فيه من روحه، المراد بالروح: الأرواح التي خلقها، والإضافة إضافة مخلوق إلى خالقه أي التشريف, ومن ذلك أن عيسى يسمى روح الله، أي روح من الأرواح التي خلقها والإضافة للتشري, كما يقال: بيت الله وعبد الله. ورسول الله. والناقة ناقة صالح ناقة الله هذه إضافة مخلوق إلى خالق للتشريف والتكريم بخلاف الصفات التي تضاف إلى الله فإنها المعاني إذا أضيفت إلى الله فهي صفاتٌ له.

وقال: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا فيه إثبات أن الله سبحانه يرى يعني بمرأى منا, أما إثبات  العين لله فهذا يؤخذ من حديث الدجال كما سيأتي: «إن ربكم ليس بأعور», صفةً له يعني.

ولا يؤخذ من هذه الآية أن لله أعين لا؛ لأن هنا جمعت الأعين وأضيفت إلى الجمع للتعظيم, المراد التعظيم, يعني فإنك بأعيننا بمرأى منا وعلى كلاءتنا وحسبنا، وفيه إثبات أن الله يرى.

وكذلك قوله: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي أي على مرأى منى وعلى عناية وحفظ، وفيه إثبات أن الله يرى, وأما إثبات العين كما سبق لا يثبت الله عيون وإنما لله عينين سليمتين كما في حديث الدجال: «إن ربكم ليس بأعور».

فالحديث دل على أن لله عينين سليمتين بخلاف الدجال فإن له عين واحدة؛ لأنه أعور.

قال: وَقَالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ المائدة/ 64

فالآية فيها إثبات أن لله يدان بل يداه مبسوطتان لأنه أتى بالتثنية وأضاف الضمير إلى نفسه سبحانه وتعالى, فدل على أن المراد الصفة " بل يداه مبسوطتان " فيه إثبات اليدين, وكما في قوله تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص/75] .

فلله يدان, أما إذا جاءت بصيغة الجمع فالمقصود منها التعظيم.

وَقَالَ: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ الزمر/ 76

في سورة الذاريات أتى بصيغة الجمع الآية التي في الذاريات أتى بصيغة الجمع, المقصود: إذا جاء الجمع فالمقصود منها التعظيم, كما في قوله: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا, جمع الأعين وأضافها إلى ضمير الجمع والمقصود التعظيم.

وَقَالَ: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ الزمر/ 76

فيه إثبات اليمين لله إثبات اليد لله وأن لله يمين، وله شمال كما جاء في الآية الأخرى أو في الحديث: «وبيده الأخرى القبض أو الفيض».

وجاء في صحيح مسلم إثبات الشمال لله سيأتي الكلام عنه إن شاء الله، إثبات اليمين لله.

وَقَالَ: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى, إثبات المعية لله معية الله لعباده.

  • والمعية معيتنان:
  1. معية خاصة.
  2. معية عامة.

والمعية العامة تكون للمؤمن والكافر ولجميع الناس, ومقتضاها الإحاطة ونفوذ القدرة والمشيئة وتأتي في سياق التخويف والتهديد كما في قوله تعالى: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة/7] . تهديد.

هذه معية تكون للكافر والمؤمن مقتضى الإحاطة أو نفوذ القدر أو المشيئة, ومثل قوله تعالى في سورة الحديد: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد/4] .

وأما المعية الخاصة تأتي في سياق المدح والثناء ومقتضاها النصر والتأييد والحفظ والكلاءة كما في هذه الآية: إِنَّنِي مَعَكُمَا فالضمير يعود إلى موسى وهارون أَسْمَعُ وَأَرَى.

وفي قوله سبحانه لنبيه r لما كان هو وصاحبه في الغار: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة/40] .

هذه معية خاصة, وكما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل/128] .

وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال/46] . هذه معية خاصة, الحفظ والكلاءة والتأييد والتوفيق والتسديد, فتأتي في سياق المدح والثناء, وتجتمع المعيتان في حق المؤمن, المعية العامة تكون في حق المؤمن والكافر وتنفرد المعية الخاصة في حق المؤمن, المعية الخاصة تكون خاصة بالمؤمنين والمعية العامة تكون للمؤمن والكافر, وهذه معية خاصة, والمعية وصف يليق بالله تعالى من صفاته, والمعية في اللغة  العربية هي مطلق المصاحبة.

(وَقَالَ: وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا  الآية فيها إثبات الكلام لله والرد على من أنكر الكلام أو قال: إن كلام الله مخلوق من المعتزلة والجهمية, أنكروا تكليم الله وأول من حدث منه إنكار الصفات شخص يقال له: الجعد بن درهم أنكر صفتين : صفة الكلام. وصفة الخلة.

أنكر أن يكلم الله موسى تكليمًا وأن يتخذ الله إبراهيم خليلاً, أنكر الخلة والتكليم, وهاتين الصفتين ترجع إليهم جميع الصفات, يعني إنكار الكلام معناه إنكار للنبوات والرسالات والكتب المنزلة؛ لأن الله أنزل كتبه تكلم بها وأرسل الرسل بالكلام, فإنكار الكلام إنكار للشرائع والنبوات والرسالات.

وكذلك إنكار الخلة معناه قطع المدد من الله لخلقه, قطع الصلة بين عباد الله وبين ربهم, ولهذا استحق القتل هذا الرجل وقتله خالد بن عبد الله القصري أمير العراق والمشرق الواسطي, وكان هذا بفتوى من علماء أهل زمانه وأكثرهم من التابعين.

لما تكلم بهذا الكلام السيئ وأنكر الخلة والمحبة أمر به الأمير فأُتي به مقيدًا وكان ذلك قرب صلاة عيد الأضحى, وكان هو الذي يصلي بالناس على عكس الأمراء, صلى بالناس العيد وخطب وقال في خطبته: ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحيٍ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليمًا.

ثم نزل وأخذ السكين وذبحه أمام الناس فأثنى عليه العلماء وشكروه ومن ذلك ابن القيم رحمه الله أثنى عليه في الكافية الشافية, قال:

ولذا ضحى بجعدٍ خالد القصري يوم ذبائح القربان
إذ قال: إبراهيم ليـــس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنةٍ لله درك من أخي قربان

ولاشك أن هذه الضحية تفوق الكثير من الضحايا في الأجر والثواب؛ لأن هذه الضحية فيها قطع دابر الشر والفساد, ولكن مع الأسف أن هذا الرجل قبل أن يموت اتصل به شخص يقال له: الجهم بن صفوان وأخذ عنه عقيدة نفي الصفات, وتوسع في نشر المذهب, وأخذ عن غيره فنشر المذهب ونسب المذهب إلى الجهم, فيقال: مذهب الجهمية, والأصوب أن يقال: مذهب  الجعدية؛ لأن الذي ابتدع المذهب هو الجعد، والذي نشره هو الجهم فنسبت الجهمية إليه.

فإذًا الجعد أنكر أن الله كلم موسى تكليمًا.

(وَقَالَ: اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

استدل المؤلف بها رحمه الله على إثبات الصفة وأن الله نور السموات والأرض وهذه الآية فيها كلام لأهل العلم, هذه الآية تدل على إثبات النور لله , منهم من فسر الآية قال: منور السموات والأرض, ومنهم من قال: هادي السموات والأرض، وأما إثبات اسم النور وأن النور من أسماء الله، وأنه صفة من صفاته فهذا أثبته المحققون كشيخ الإسلام ابن القيم وقالوا: النور من أسماء الله، والله تعالى وصفه النور واسمه النور واستدلوا نصوص, منهم من استدل بهذه الآية وبقوله: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ [النور/35] .

وفي الحديث: أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات.

(وَقَالَ: اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ. البقرة /255

إثبات اسم الحي لله واسم القيوم, والحي مشتمل على صفة الحياة والقيوم على صفة القيومية, والحي القيوم ترجع إليهما جميع الأسماء, حتى قال بعض أهل العلم: إن اسم الله الأعظم هو الحي القيوم, قد جاء الجمع بينهما بين اسم الحي والقيوم في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع:

في آية الكرسي: اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة/255].

وفي آل عمران: اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۝ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ [آل عمران/1-2] .

وفي سورة طه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه/111] .

(وَقَالَ: هُوَ اَلْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ. الحشر آية 7

فيه إثبات الأسماء الأربعة لله وأنها من أسماء الله, الأول, والآخر, والظاهر, والباطن, وقد فسر النبي r هذه الأسماء الأربعة في حديث الاستفتاح قوله في الحديث الصحيح: « اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء, وأنت الظاهر فليس فوق شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر».

فسر الأول: بأنه الذي ليس قبله شيء, والآخر: بالذي ليس بعده شيء, والظاهر: الذي ليس فوقه شيء, والباطن: الذي ليس دونه شيء, لا يحجبه شيء, لا يحجبه أحد من خلقه سبحانه وتعالى.

يقول المؤلف رحمه الله : (وَمِثْلُ هَذَا فِي اَلْقُرْآنِ كَثِيرٌ).

يعني إثبات الصفات والأسماء في القرآن كثير.

(فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

يعني أعادها مرة أخرى, فالمؤلف يرى أن الآية على ظاهرها, وإثبات أن الله نور السموات والأرض كما أخبر عن نفسه.

قال: (وَلَهُ وَجْهٌ وَنَفْسٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ).

كما سبق قال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص/88] .

وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ[آل عمران/28] .

تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة/116] .

وَيَسْمَعُ وَيَرَى وَيَتَكَلَّمُ كما في الآية: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ [طه/46] .

وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيما [النساء/164] .

قال: (اَلْأَوَّلُ وَلَا شَيْءَ قَبْلَهُ) هذا تفسير للأول.

(وَالْآخِرُ اَلْبَاقِي إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ لَا شَيْءَ بَعْدَهُ، وَالظَّاهِرُ اَلْعَالِي فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ).

فوق كل شيء مما خَلق أو ما خُلق, فوق كل شيء فسر شيء بالذي خلق يعني: فوق المخلوقات.

(وَالْبَاطِنُ بَطَنَ عِلْمُهُ بِخَلْقِهِ) يعني: لا يحجبه شيء سبحانه وتعالى, بل يعلم أحواله عباده ويراهم ولا يحسب شيء, هم محجوبون عن الله فاحتجب عن خلقه «حجابه النور, والخلق لا يحتجبون عن الله».

 (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم) كما قال الله تعالى ففيه إثبات العلم لله وأن علم الله شامل لكل شيء, ما كان في الماضي وما يكون في الحاضر وما يكون في المستقبل وما لم يكن لو كان كيف يكون.

ثم قال:(حَيُّ قَيُّومٌ) إثبات أن الله حيٌ قيوم كما في الآية.

(لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) السنة هي النعاس والنوم النوم مستغرق وهذا فيه كمال حياته وقيومتيه, بخلاف المخلوق الضعيف الذي يحتاج إلى النوم وهذا نقصٌ في حياته, يحتاج إلى نوم حتى يستريح, أما الرَّب فهو كامل سبحانه وتعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام, ولا يحتاج إلى شيء ولا يتعب، لا يصيبه تعب ولا عجز, كما في الحديث: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه, يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل».

(المتن)

وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْد اللهِ بْنِ عَبْد اللهِ بْنِ سَعِيدٍ بْنِ اَلْقَطَّانِ، عَنْ اِبْنِ وَضَّاحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْرَسُ بْنُ رَبِيعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو ظِلَالٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا ظِلَالٍ مَتَّى أُصِبْتَ فِي بَصَرِكَ? قَالَ: لَا أَعْقِلُهُ، قَالَ: أَفَلَا أُحَدِّثُك بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ نَبِيُّ اَللَّهِ ﷺ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ عَنْ رَبِّهِ أَنَّ اَللَّهَ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا ثَوَابُ عَبْدِي إِذَا أَخَذْتُ كَرِيمَتَهُ قَالَ جِبْرِيلُ: رَبِّ لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنِي، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ ثَوَابُ عَبْدِي إِذَا أَخَذْتُ كَرِيمَتَهُ اَلنَّظَرُ إِلَى وَجْهِي اِنْتَهَى.

(الشرح)

وهذا الحديث مرفوع من النبي r ولكن الحديث ضعيف السند ومتن الحديث صحيح؛ لأن له شواهد, فالحديث في سنده أحمد بن عبد الله بن سعيد بن قطان, يحتاج إلى بحث عن حاله, وفيه أيضًا أشرس بن ربيعة, وفيه أيضًا أبو ظلال, تكلم فيه العلماء وضعفوه.

ولكن الحديث له شواهد, يصح بها الحديث فتصل إلى درجة الحسن, فلو شاهد عند أبي يعلى في المسند وعن ابن حبان في صحيحه, وعند الترمذي وعند أبي هريرة فالحديث متنه صحيح وإن سنده ضعيف, سنده ضعيف كما سمعتم.

لكن الحديث له شواهد وهو يدل على إثبات النظر إلى وجه الله الكريم, ويدل على أن العبد إذا أخذ الله عينيه وصبر فإن الله يعوضه النظر إلى وجه الله الكريم, وهذا فضل عظيم, إذا صبر واحتسب ولم يجذع ولم يتسخط فله هذا الأجر.

أنس قال لأبي ظلال: ألا أحدثك بما حدثني به نبي الله عن جبريل عليه السلام عن ربه أن الله قال: «يَا جِبْرِيلُ مَا ثَوَابُ عَبْدِي إِذَا أَخَذْتُ كَرِيمَتَهُ». يعني: عينه.

«قَالَ جِبْرِيلُ: رَبِّ لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنِي، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ ثَوَابُ عَبْدِي إِذَا أَخَذْتُ كَرِيمَتَهُ اَلنَّظَرُ إِلَى وَجْهِي».

فيه إثبات رؤية الله يوم القيامة، ورؤية الله يوم القيامة ثابتة في الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة الله تعالى يقول: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة/22-23] .

وقال عليه الصلاة والسلام: «إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته». وفي لفظ: «كما ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب».

فرؤية الله ثابتة في القرآن الكريم والأحاديث متواترة في هذا, ولهذا حكم الأئمة على من أنكر رؤية الله يوم القيامة بالفكر, قال الأئمة: من أنكر رؤية الله يوم القيامة فهو كافر, هذا على العموم, لكن الشخص المعين لا يُكفر حتى تقام عليه الحجة وتوجد الشروط وتنتفي الموانع.

والحديث في إثبات النظر إلى وجه الله الكريم وهذا ثبات, وأن من أخذ الله عينه وصبر فإن الله يعوضه النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى.

(المتن)

وَحَدَّثَنِي وَهْبٌ عَنْ اِبْنِ وَضَّاحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ اَلْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ، عَنْ اَلنَّبِيِّ ﷺ قَالَ: اِحْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى يَا آدَمُ أَنْتَ أَسْكَنَك اَللَّهُ اَلْجَنَّةَ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ ... ثُمَّ ذَكَرَ اَلْحَدِيثَ.

(الشرح)

هذا الحديث سنده ضعيف لكن متنه صحيح, له شواهد في الصحيحين وغيرهما, قصة محاجة آدم وموسى ثابتة في الصحيحين في البخاري ومسلم، لكن الحديث فيه ضعف, في إسناده الأعمش وهو معنعن, إلا أن عنعنة الأعمش قليلة ويحتمل تدليسه إلا في شيوخ ما أكثر عنهم, فتدليسه محتمل, وبقية الرجال لا بأس بهم إلا محمد بن وضاح متكلم فيه, والحديث أخرجه البزار في المسند من طرق,, والحديث أيضًا له شواهد وهو حديث ثبات في الصحيحين كما سبق, في البخاري وفي مسلم أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة في الصحيح, وكذلك أيضًا في صحيح مسلم.

وفي الباب أيضًا الحديث له شواهد عن عمر بن الخطاب عند أبي داود, وعند ابن أبي عاصم في السنة وأبي يعلى في المسند, المقصود أن الحديث متنه صحيح ثابت وإن كان سند المؤلف فيه ضعف؛ لكنه ضعفٌ يسير.

في هذا الحديث قصة احتجاج آدم وموسى, وأن موسى لقي آدم وجاء في الحديث الآخر زيادة وأن موسى لقي آدم, فقال له: «أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسكنك الجنة, فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟. فقال آدم: أنت موسى الذي كلمك الله واصطفاك برسالاته وكلامه أتلومني على شيء كتبه الله عليَّ قبل أن أخُلق بأربعين سنة. قال النبي r: فحج آدم موسى, فحج آدم موسى, فحج آدم موسى».

أي: غلبه بالحجة, غلبه خصمه, وذلك أن موسى عليه السلام لام آدم عليه الصلاة والسلام على إخراج نفسه لامه على المصيبة التي لحقته وذريته بخروجه من الجنة, فاحتج آدم بأن المصيبة مكتوبة عليه, والاحتجاج بالقدر على المصائب لا بأس به, وإنما الممنوع الاحتجاج بالقدر على الذنوب والعاصي.

ليس للكافر ولا للعاصي حجة في القدر, لكن مصيبة نعم, المصائب نقول: إن لله وإن إليه راجعون قدر الله وما شاء فعل، موسى لام آدم على أخراجه, فاحتج آدم بأن المصيبة مكتوبة ولذا غلبه بالحجة.

الشاهد من الحديث: أن احتجاج آدم وموسى، في أن آدم وموسى حصلت بينهما محاورة وفيه أن موسى قال لآدم: أسكنك الله الجنة ونفخ فيك من روحه، فأضاف الأفعال إليه وله، أسكنك الجنة ونفخ فيك من روحه, وعلمك أسماء كل شيء, هذه صفات يقال: إن آدم نفخ الله فيه من روحه وأسكنه الجنة, وعلمه أسماء كل شيء, ثم احتج به المؤلف على إثبات هذه الصفات التي أضافها النبي عليه السلام إليه وأقرها النبي r والأنبياء أعلم الناس بالله.

موسى وصف آدم بهذه الصفات والله تعالى أخبر في كتابه أنه أدخله الجنة ونفخ فيه من روحه وعلمه أسماء كل شيء، فهذه صفات أثبتها الله لنفسه وأضافها إليه، استدل به المؤلف على إثبات هذه الصفات.

وكذلك أيضًا قول آدم: إن الله اصطفاك برسالاته وكلامه، فيه إثبات الصفات لله وأن الله كلم موسى واصطفاه بالرسالات، كل هذه أفعال وصفات الله ثابتةٌ لله، أنه علم آدم أسماء كل شيء، ونفخ فيه من روحه، وأسكنه جنته، واصطفى موسى برسالاته وبكلامه, هذه الصفات كلها ثابتة لله في القرآن وفي السنة.

(المتن)

وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ عَنْ أَسْلَمَ عَنْ يُونُسَ، عَنْ اِبْنِ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بنُ عِيَاضٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ اَلنَّبِيِّ ﷺ أَنَّهَا سَمِعَتْ اَلنَّبِيَّ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ وَهُوَ سَاجِدٌ: ... ثُمَّ ذَكَرَ اَلْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ: أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.

(الشرح)

هذا الحديث سنده ضعيف ولكن الحديث صحيح وثابت, في إسناده يزيد بن عياض تكلم فيه أهل العلم, قال البخاري: منكر الحديث وقال النسائي: غير متروك, وقال يحيى: ليس بثقة.

فسند الحديث ضعيف؛ لكن الحديث له طريق أخرى عن عائشة صحيح, صحيحة أخرجها الإمام مسلم رحمه الله في الصحيح, قال: «حدثنا أبو بكر بن شيبة قال حدثنا أبو أسامة قال حدثني عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة t عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله  ليلةً من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدمه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول اللهم إني أعوذ برضاك من سخط وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

فالحديث ثابت في صحيح مسلم وإن كان سند الحديث هذا فيه ضعف, لكن الحديث ثابت وفيه إثبات هذه الصفات لله .

أول الحديث: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك , إثبات صفة الرضا وصفة السخط وصفة المعافاة وصفة العقوبة, أربع صفات.

وفي الحديث دليل على الاستعانة بالصفة من صفة, استعان بصفة الرضا من صفة السخط, واستعان بفعل المعافاة من فعل العقوبة, واستعاذ بالله من الله.

فهذا الحديث حديث عظيم, اشتمل على هذه المعاني العظيمة وتكلم فيه أهل العلم وشرحه ابن القيم وبين ما فيه من الصفات العظيمة التي تقوي الإيمان, النبي r قال: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك , أعوذ بصفة الرضا من صفة السخط, وأعوذ بفعل المعافاة من فعل العقوبة, ثم قال: أعوذ بك منك, يعني: لا أعوذ من أحدٍ غيرك ولا أستعيذ من غيرك.

لأن كل شيء بقضائك وبقدرك وكل شيء بأمرك الكوني نَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس/82] .

فلا أستعيذ بأحدٍ غيرك يا الله ولا أستعين بأحدٍ غيرك «أعوذ بك منك», أعوذ بك يا الله منك, فلا أستعيذ بأحدٍ غيرك ولا أستعين من أحدٍ غيرك؛ لأن كل شيء بيده الأمر بيدك, فاستعاذ بصفة الرضا من صفة السخط.

ثم استعاذ بفعل المعافاة من العقوبة ثم استعاذ بالله من الله, ثم قال: «لا أحصي ثناءً عليك», لا يستطيع أحد من الخلق أن يحصي الثناء على الله.

ثم قال: «أنت كما أثنيت على نفسك», أنت يا الله كما أثنيت على نفسك بصفاتك وأفعالك وأسمائك, فلا يستطيع أحد أن يحصي ثناءً على الله وليس أحد بأعلم بالله من الله, ولهذا قال: «لا أحصي ثناءً عليك أنت -يا الله- كما أثنيت على نفسك», وفوق ما يثني عليك المسلمون.

ولهذا قال العلامة ابن القيم لما ذكره: لا يعلم ما في هذه الكلمات من المعاني والحقائق التي تقوي الإيمان وتدخل في القلوب خشية وخوفًا ورجاءً ومحبة إلا الله سبحانه وتعالى.

وبهذا يكون هذا الحديث فيه دليل لإثبات الصفات هذه الصفات الأربع كما بوب المصنف في إثبات الأسماء والصفات.

لعلنا نقف على هذا وفق الله الجميع لطاعته رزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد