شعار الموقع

شرك كتاب مسائل الجاهلية_2

00:00
00:00
تحميل
9

بسم الله الرحمن الرحيم

القارئ:

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعد:

فقال المؤلف رحمه الله تعالى: المسألة الرابعة: أن دينهم مبني على أصول أعظمها التقليد، فهو القاعدة الكبرى لجميع الكفار أولهم وآخرهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف:23]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا ألفينا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}[لقمان:21]، فأتاهم بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةِ}[سبأ:46]، وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[الأعراف:3].

شرح الشيخ:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعد:

فالمسألة الرابعة من مسائل الجاهلية التي خالف فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكفرة من أهل الكتاب، والأميين أن أصول دينهم مبني على التقليد؛ أي: تقليد الآباء والأجداد والأسلاف ولو كانوا على الباطل؛ ولهذا أخبر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنهم أنهم يتبعون آباءهم على الضلال، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}، وفي الآية الأخرى يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[البقرة:170]؛ يعني: ما وجدنا عليه آباءنا  {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}[البقرة:170].

وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف:23]، {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا}[الزخرف:23]؛ يعني ما أرسل الله في قرية من نذير؛ يعني من نذير ينذر قومه من عذاب الله وسخطه ونقمته، ويدعوهم إلى توحيد الله إلا قال المترفون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}[الزخرف:23]إنا وجدنا آبائنا على أمة؛ يعني على دين {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف:23]، والأمة لها معاني:

  1. تطلق الأمة على الدين.
  2. وتطلق على الطائفة.
  3. وتطلق على الزمان.

تطلق على الدين: كما في هذه الآية: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف:23].

تطلق على الزمان: كقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة يوسف: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}[يوسف:45]، {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}؛ يعني: بعد زمان، وتطلق الأمة على الطائفة من الناس؛ كقوله سبحانه في سورة القصص في قصة موسى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}[القصص:23]؛ يعني طائفة، فالأمة لها معاني، والمراد بها هنا الدين في الآية: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا}[الزخرف:23]؛ يعني المترفون منهم؛ أهل الترف  {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}[الزخرف:23]؛ يعني على دين {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف:23]؛ يعني وجدنا آباءنا على هذا الدين، وسوف نسير على آثارهم، قلدوهم بالباطل.

قال: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[الزخرف:24]، فأتاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ بإبطال التقليد ، وأنه يجب على الإنسان أن يكون على بصيرة في دينه، وأن يتبع ما أنزل إليه من الله عَزَّ وَجَلَّ، يعمل بالكتاب القرآن الذي أنزله الله على محمد، ويتبع الرسول عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ ولهذا قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[الأعراف:3]، قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}[سبأ:46]، لا بد من التفكر، لا يغني الإنسان عقله، ويقلد غيره، فيكون الإنسان إمعة تبعًا لغيره، فليس هناك تقليد في العقيدة، وأصول الدين، والتوحيد، والإيمان بالله والرسول، واليوم الآخر لا تقليد في ذلك يجب على الإنسان أن يكون على بصيرة، وأن يتبع الرسول عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأن يعمل بالكتاب العظيم.

كل إنسان يعلم أن له ربًّا خالقًّا مدبرًا، وأنه هو المعبود بالحق، ويؤمن بالملائكة، ويؤمن بالكتب، ويؤمن بالرسل، ويؤمن باليوم الآخر، ويؤمن بالقدر خيره وشره، ليس في ذلك تقليد في التوحيد، وأصول الدين، والبراءة من الشرك وأهله، لا بد أن يكون المسلم على بصيرة، وعلى بينة من أمره، فلا يقلد الآباء والأجداد والأسلاف بما هم عليه من الشرك والكفر بالله، وما هم عليه من البدع والخرافات والضلال، ولكن التقليد يكون في الأشياء الدقيقة الخفية، ويكون للعامي ومن في حكمه الذي ليس عنده أهلية النظر في الأدلة يقلد من يثق بدينه وعلمه وورعه؛ كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:43].

أما في أصول الدين، في العقيدة وفي التوحيد فليس هناك تقليد، بل الواجب العمل بالكتاب المنزل واتباع الرسول عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.

فهذه المسألة العظيمة التي خالف فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ الكفرة، وهي أن الكفرة يقلدون آبائهم، وأجدادهم وأسلافهم في الضلال والباطل، فخالفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، بل هي من أكبر أمورهم، ومن أعظم أصول دينهم اتباع الآباء والأجداد والأسلاف في الباطل، فخالفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، وأمرهم أن يعلموا، وأن يتعلموا، وأن يعبدوا ربهم على بصيرة، ثم علم لا عن تقليد، أن يعلموا ما أوجب الله عليهم من التوحيد، وإخلاص الدين له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والإيمان بالرسول عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والبعد عن الشرك والبدع والخرافات، وأنه لا يجوز للإنسان أن يقلد آباءه وأجداده وأسلافه في الكفر والضلال.

أما المسائل الشرعية التي يشتبه أمرها؛ فإن العامي لا يكون في ذلك عنده أهلية النظر، وإنما يقلد من يثق بدينه وعلمه وورعه، يجتهد فيمن يسأل، ثم إذا أفتاه يأخذ بقوله؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:43]، أما من كان عنده أهلية النظر فليس له أن يقلد، بل عليه أن يعمل بالدليل.

القارئ:

المسألة الرابعة: أن دينهم مبني على أصول أعظمها التقليد، فهو القاعدة الكبرى لجميع الكفار أولهم وآخرهم، كما قال تعالى.

شرح الشيخ:

هذه أكبر المسائل، أعظم أصول دينهم، دينهم مبني على أصول أعظمها التقليد؛ من أعظم أصول دين الكفار: التقليد، ومعنى التقليد: اتباع الآباء والأجداد والأسلاف على ما كانوا عليه في الباطل والضلال؛ ولهذا إذا دعوا إلى اتباع الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والعمل بالكتاب المنزل قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، ما عليه آباءنا هو الذي نتبعه {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[لقمان:21]، قال الله ردًّا عليهم: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}[لقمان:21]، وفي الآية الأخرى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[البقرة:170]، ألفينا؛ يعني: وجدنا عليه آباءنا  {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}[البقرة:170]؛ وهذا فيه التحذير للمسلم من اتباع آباءه وأجداده في الضلال حتى لو كان في غير أصول الدين حتى في المسائل، في فروع الدين لا يتبع الإنسان ما كان عليه الآباء والأجداد حتى يعلم بالدليل أن ما عليه الآباء والأجداد حق، أما إذا كان ما عليه الآباء والأجداد مخالفًا للحق فالواجب اتباع الحق وترك ما عليه الآباء والأجداد، ويوجد عند بعض المسلمين عادات وتقاليد ورثوها عن آبائهم وأجدادهم تدخل في أصول الدين استمروا عليها، فإذا نهيت أحدهم وقلت له: أن هذا مخالف للدين، قال: قال هذا وجدنا عليه آباءنا، عرفناه من آباءنا وأجدادنا؛ هذا خطأ الواجب أن تنظر ما عليه الآباء والأجداد والأسلاف، والقبيلة والأعراف؛ أعراف القبائل، فإن كان حقًّا فعله المسلم، وإن كان باطل تركه ولو فعله الناس.

القارئ:

كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف:23]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا ألفينا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}، فأتاهم بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةِ}[سبأ:46]، وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[الأعراف:3].

شرح الشيخ:

هذه الآيات وهذه النصوص واضحة في أنه يجب على المسلم أن يتبع الدليل، وأن يعمل بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس له أن يقلد غيره إلا عند الضرورة والحاجة التي لا غنى للإنسان عنها كأن يكون عاميًّا لا يعرف الدليل، وليس عنده أهلية النظر يقلد، أو ضاق عليه الوقت ولا يستطيع أن ينظر في الأدلة لضيق الوقت، ولا بد له من العمل فلا بأس أن يقلد في هذه الحالة، لكن في أصول الدين وفي العقيدة والتوحيد والإيمان ليس للإنسان أن يقلد لا بد أن يعلم بأصول دينه، وأن يكون على بصيرة من الشرع، فلا يقلد آباءه، أو أجداده، أو أسلافه في قضية الشرك بالله؛ في الشرك الأكبر، أو في الشرك الأصغر؛ لأن هذه أمور واضحة لكل أحد، كل واحد يعلم أن له ربًّا خالقًا مدبرًا معبودًا في الحق، كل واحد يعلم أن الله تعالى حرم الشرك، وأوجب على العباد والإخلاص، كل إنسان يعلم أن الله أوجب عليه أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، لكن في المسائل التقديرية في الفروع، والمسائل الدقيقة في البيع والشراء، والمساقاة والمزارعة، في بعض مسائل النكاح، أو الطلاق، أو القصاص والحدود والمعاملات، والإيجارات وغير ذلك هذه يدخل فيها التقليد عند الحاجة، أو عند كون الإنسان عاميًّا ليس من أهل النظر؛ عملًا لقوله تعالى:  {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:43].

القارئ:

المسألة الخامسة: أن من أكبر قواعدهم الاغترار بالأكثر، ويحتجون به على صحة الشيء، ويستدلون على بطلان الشيء بغربته، وقلة أهله، فأتاهم بضد ذلك، وأوضحه في غير موضع من القرآن.

شرح الشيخ:

وهذه المسألة يخالفهم فيها، وهي مسألة واضحة؛ وهي من أكبر ما يستدل به أهل الجاهلية، الاغترار بما عليه الأكثر، الاستدلال على عدم صحة الشيء بغربته وقلة أهله، فيغترون بما عليه الأكثر، ويستدلون بذلك على أنه هو الحق، وأن ما عليه جمهور الناس وأكثر الناس هو الحق، وأن ما لم يفعله الناس، أو ما لم يفعله إلا قلة من الناس ليس هو الحق؛ هذا من مسائل الجاهلية التي خالفهم فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، وهو الاغترار بما عليه أكثر الناس والاستدلال على صحة الشيء بأن كثيرًا من الناس يفعلونه، والاستدلال على عدم صحته بغربته وقلة أهله، فبيَّن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه أن ما عليه الأكثر في الغالب يتبعون الباطل، وفي الغالب أن الأكثرون يكونون على غير طريقة الصواب، فليس العبرة بالقلة والكثرة، والعبرة بالحق الذي قام عليه الدليل حتى لو كان من عليه الحق واحد؛ ولهذا أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن الكثرة في الغالب تكون هي الهالكة، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[الأنعام:116]، وقال سبحانه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}[هود:17]، وقال سبحانه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}[يوسف:38]، وقال سبحانه: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:13]، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}[ص:24]؛ هذه النصوص تدل على أن الكثرة هي الهالكة.

وقال بعض السلف: "الزم الحق ولو كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة"؛ أنت الجماعة، فالجماعة لزوم السنة والجماعة، الجماعة من لزم الحق حتى ولو كان واحدًا، إبراهيم الخليل نبي الله عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كان على الحق وحده، فوصفه الله بأنه أمة، قال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[النحل:120]؛ قدوة، ومعلم للخير، فكان على الحق وحده، وقطع أهل الشرك، وأهل الأصنام والأوثان، وأباه معهم، وبقي وحده، فهو على الحق، ومن عداه على الباطل، ولما مرَّ بزوجه سارة في زمانه، وعلم بذلك، وقيل له: إن ها هنا رجل معه امرأة من أجمل النساء لا ينبغي أن تكون إلا لك، وعلم ذلك، قال لزوجه سارة؛ وهي أول من آمن ب: إنني سأقول: إنك أختي فلا تكذبيني، فأنت أختي في الإسلام، فليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، ليس على وجه الأرض في ذلك الوقت مؤمن غيري وغيرك، ومع ذلك ثبت على الحق عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فهو على الحق وحده، ومن عداه على الباطل؛ ولهذا جعله الله للناس إمامًا، قال الله تعالى:  {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}[البقرة:124] وقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[النحل:123]، وقال سبحانه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[النحل:120]؛ سماه الله أمة، قال بعض المفسرين: حتى يستوحش الإنسان من قلة السالكين للحق، فاثبت على الحق، والزم الحق فأنت الجماعة ولو كنت وحدك، ومن على الباطل وهم أهل الشذوذ ولو كان الناس كلهم، فالحق والجماعة والسنة من لزم الحق ومن لزم السنة ولو كان واحدًا، ولو كانوا قلة.

ومن كان على الباطل فهم أهل الشذوذ، وهم المخالفون للجماعة ولو كانوا هم الأكثرين، أما أهل الجاهلية فإنهم يستدلون بالكثرة على صحة الشيء، ويستدلون بقلة أهله على عدم صحته، فبيَّن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن الكثرة تكون في الغالب هالكة، وأن الحق في الغالب يكون مع القلة، والعبرة بالحق ليست العبرة بالكثرة ولا بالقلة، فالزم الحق واثبت على الحق ولو كنت وحدك.

القارئ:

السادسة: الاحتجاج بالمتقدمين، كقوله: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ}[المؤمنون:24].

شرح الشيخ:

السادسة: الاحتجاج بما عليه السابقون والأسلاف، الاحتجاج بما عليه المتقدمون، زيادة على صحة الشيء بأن المتقدمين يفعلونه، والاحتجاج على بطلان الشيء بأنه شيء لا يعمله المتقدمون؛ وهذه هي الحجة الشيطانية التي احتج بها فرعون على موسى قال: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]، وكذلك الحجة القرشية مثل قريش {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ}[ص:7]، وقال الكفار: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ}[المؤمنون:24]، هم يحتجون بما عليه المتقدمون فخالفهم الإسلام بأن العبرة بالحق، وليست العبرة بما عليه المتقدمون، فالحق ما قام عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الحق ما جاءت به الرسل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام ولو خالف ما عليه المتقدمون.

القارئ:

السادسة: الاحتجاج بالمتقدمين، كقوله: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ}[المؤمنون:24].

شرح الشيخ:

هذه الحجة الفرعونية، وهي الحجة القرشية، حجة الكفرة، الاحتجاج بالمتقدمين، فاحذر أن تشارك الكفرة في هذا الوقت أن تعارض الدليل بما عليه المتقدمون، إذا جاءك الدليل فاقبله واعمل به ولو خالف ما عليه المتقدمون فإن فرعون احتج بما عليه المتقدمون، احتج على موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بما عليه المقدمون، قال: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]؛ ما بال القرون الأولى لا يعرفون هذا الشيء التي أتيت به يا موسى، وكذلك هي الحجة القرشية التي احتجت بها قريش على نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ}[ص:7]؛ ما سمعنا هذا إلا منك، وقال سبحانه: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}[الأحقاف:11].

فاحذر أن تحتج بما عليه المتقدمون، وأن تعارض الحق بما عليه المتقدمون فإن هذا من صفات الكفرة، ومن مسائل الجاهلية التي خالف فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكفرة من الكتابيين والأميين.

القارئ:

المسألة السابعة: الاستدلال بقوم أعطوا قوى في الأفهام والأعمال، وفي الملك والمال والجاه، فرد الله ذلك بقوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ}[الأحقاف:26] الآية، وقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}[البقرة:89]، وقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}[البقرة:146]{يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} الآية [البقرة:146].

شرح الشيخ:

السابعة: الاستلال بقوم أتوا أفهامًا وعلومًا وملكًا وسلطانًا، وجاهًا ومالًا، فيعارض الحق بما عليه هؤلاء الذين أتوا أفهام، أو أتو مالًا، أو أتوا جاهًا، أو أتوا سلطانًا، فإذا بيِّن له الحق بالدليل، وإذا طلب منه أن يعمل بالحق عارض ذلك بأن أقوامًا لم يقبلوا هذا الأمر، وهم عندهم ذكاء، وعندهم أفهام، ولهم عقول، ولهم مكانة في المجتمع من أهل الأموال، أو من أهل السلطان، أو من أهل الجاه، ومن أهل العقل والفهم، فردَّ الله عليهم بقوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأحقاف:26]؛ هؤلاء الذين أتوا أفهامًا، ولم يوفقوا لقبول الحق لا تنفعهم أفهامهم، أتوا ذكاء ولكنهم لم يؤتوا ذكاء، أتوا عقولًا ولكنهم لم يستعملوها في طاعة الله، أتوا ملكًا وسلطًا ولكنهم لم يختموا الدين بملكهم وسلطانهم، أتوا جاهًا ولكنهم لم يسخروا جاههم في خدمة الدين، فصارت وبالًا عليهم المال والسلطان والجاه، والعقل والفهم إذا لم يستعمل الإنسان في طاعة الله، ولم يجعله خادمًا للدين وتابعًا له هلك، أما إذا أتاه الله مالًا، أو أتاه الله جاهًا، أو سلطانًا، أو فهمًا فاستعمله في خدمة الدين، وجعله خادمًا للدين وتابعًا له نفعه ذلك وصار نعمة عليه، أما إذا جعل الدين تابعًا للمال، وتابعًا للسلطان تابعًا للجاه، فإن هذا هو الهلاك.

القارئ:

المسألة السابعة: الاستدلال بقوم أعطوا قوى في الأفهام والأعمال، وفي الملك والمال والجاه، فرد الله ذلك بقوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ}[الأحقاف:26] الآية، وقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}[البقرة:89].

شرح الشيخ:

هذا في اليهود {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}[البقرة:89]، كان اليهود في المدينة قبل بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا أهل الكتاب يقرؤون الكتب السابقة التوراة التي ينسخوها على موسى، وكان الكفار في مكة أهل الأوثان ليس عندهم كتاب، وكانوا يعترفون بالفضل لأهل الكتاب اليهود، ويسألونهم عما أشكل عليهم، ويحصل بينهم نزاع وقتال وحروب، فإذا تنازعوا وحصل بينهم قتال استفتح اليهود على المشركين، وقالوا: هذا أوان مبعث نبي سوف يبعث، وهذه المهاجرة في المدينة، وسوف نتبعه إذا بعث ونقاتلكم معه، قتل عاد وإرم، وكانوا يقولون هذا أيضًا لمن كان في المدينة من الأوس والخزرج، كان الأوس والخزرج من أهل الأوثان، واليهود من أهل الكتاب، فإذا حصل بينهم نزاع وقتال استفتحوا وقالوا: موعدكم خروج النبي، إذا جاء النبي وهاجر المدينة سوف نتبعه ونقاتلكم، فلما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهاجر إلى المدينة بادر الأوس والخزرج وآمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستفادوا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مقولة اليهود السابقة، وأما الكفار اليهود فإنهم استكبروا لما بعث الله نبي من العرب، قالوا: كان يظنون أنه منهم، فاستكبروا وكفروا وسبقهم الأوس والخزرج برضوان الله عليهم، وآمنوا وقاتلوا معه اليهود، فزل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}[البقرة:89]؛ يعني اليهود لما جاءهم كتاب من عند الله وهو القرآن مصدق لما معهم التوراة{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}[البقرة:89]؛ يستفتحون على الكفار من الأوس والخزرج، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}[البقرة:89].

فهؤلاء اليهود أتوا علومًا ولكنهم ما استعملوها، ما عملوا بما أتوا به من العلم، هم أهل كتاب، وهم من أهل العلم، لكنهم لم يعملوا، فصاروا مغضوبًا عليهم، حلت عليهم اللعنة والسخط والغضب، ولهذا قال تعالى: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}[البقرة:89]، فلا يغتر بمن أوتي علمًا، ولكنه لم يعمل بعلمه، ولا يغتر بمن أوتي فهمًا ولم يعمل بفهمه، ولا يغتر بمكن أوتي مالًا، ولم يستعمله في طاعة الله، ولا يغتر بمن أوتي جاهًا وسلطًا ولم يستعمله في طاعة الله.

القارئ:

وقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}[البقرة:146].

شرح الشيخ:

وهذا أيضًا في اليهود، قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}[البقرة:146]؛ يعني يعرفون صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ كما يعرفون أبناءهم، لكن حملهم الكبر على عدم الإيمان، هم يعرفون أن محمد صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ رسول الله حقًّا، ويعرفون صفته، ولا يخفى عليهم، ولكن منعهم من الإيمان الكبر، واستكبروا وأبوا؛ ولهذا قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة:146]، يكتمون الحق مع علمهم، فالواجب على المسلم اتباع الحق والعمل بالحق، وعدم الاغترار بأهل الباطل ممن أوتي علمًا، ولم يعمل بعلمه، أو أوتي فهمًا ولم يعمل بفهمه، أو أتي مالًا، أو جاهًا وسلطانًا ولم يستعمله في طاعة الله، واستعمله في معارضة الحق، وفي معارضة الأنبياء، والصد عن سبيل الله.

القارئ:

المسألة الثامنة: الاستلال على بطلان الشيء بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء، كقوله: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ}[الشعراء:111]، وقوله: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}[الأنعام:53]، فرده الله بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}[الأنعام:53].

شرح الشيخ:

المسألة الثامنة: الاستدلال على بطلان الشيء بأن أتباعه ضعفاء؛ هذه من مسائل الجاهلية التي خالف فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ الكفرة من الأميين وأهل الكتاب الاستدلال على صحة الشيء وعلى بطلانه بأن أتباعه هم الضعفاء والفقراء؛ كقول الله تعالى عن قوم نوح أهم قالوا: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ}[الشعراء:111]، وقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}[هود:27]، وقوله سبحانه عن كفار قريش: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}[الأنعام:53]؛ يعني: الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى منَّ على هؤلاء الضعفاء مثل بلال الحبشي، وعمار وأشباههم من الضعفاء {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}[الأنعام:53]؛ اختار هؤلاء الضعفاء ومنَّ عليهم بإيمانه من بيننا، فعارضوا، واستدلوا على أن الحق لا يكون مع الضعفاء، ولو كان هذا الحق هو الحق لبادر إليه الكبراء والأغنياء والأشراف، فلما كان الضعفاء هم المتبعون للأنبياء، قالوا: هذا يدل على أنهم ليسوا على الحق، والواجب على المسلم أن يعمل بالحق الذي قام عليه الدليل، ولو كان عليه الضعفاء وغير الأشراف؛ لأن الضعفاء والفقراء في الغالب هم أتباع الرسل؛ لأنه ليس هناك مانع يمنعهم من الاستجابة والإيمان بالله ورسوله والانقياد بالشرع بخلاف الكبراء والأشراف والأغنياء والملوك والسلاطين فإن الشرف يقيدهم ويمنعهم من غرباتهم وشهواتهم المحرمة الباطلة، يمنعهم من التمادي في الباطل فلذلك يستكبرون ويأبون، أما الفقراء فإنهم يبادرون، ولما عرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدعوة عل بعض الأشراف من قريش ومن جاءه إليه وعنده بعض الضعفاء كعمار وبلال قالوا: اطرد هؤلاء فإنَّا لا نحب أن نجلس معهم، فأنزل الله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الكهف:28]، وفي الآية الأخرى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:52].

فالواجب على كل إنسان يقبل الحق، وأن يستجيب لداعي الله، وأن ينقاد للشرع المظهر، ولا يمنعه ذلك مبادرة الضعفاء إلى الإيمان، بل الحق حق أن يتبع.

القارئ:

المسألة التاسعة:الاقتداء بفسقة العلماء، فأتى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة:34].

وبقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:77].

شرح الشيخ:

(التاسعة: الاقتداء بفسقة العلماء)؛ هذه من مسائل الجاهلية التي خالف فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكفرة من الأميين وأهل الكتاب الاقتداء بفسقة العلماء، العلماء قسمان:

قسم عالمون، قسم يعملون بعلمهم؛ وهم المنعم عليهم الذين علموا وعملوا، وهم علماء الآخرة.

وقسم فسقة منحرفون؛ وهم الذين يعلمون ولا يعلمون، وهم المغضوب عليهم، فلا يقتضي بهؤلاء الفسقة؛ ولهذا شرع الله لنا في كل ركعة من ركعات الصلاة أن نسأل الله أن يجنبنا طريق هؤلاء الفسقة؛ المغضوب عليهم، وطريق الضالين.

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:6، 7]؛ هؤلاء هم المنعم عليهم، وهم العلماء الذين يعلمون ويعملون {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:7]؛ هؤلاء هم الفسقة الكفرة المنحرفون يعلمون ولا يعملون {وَلا الضَّالِّينَ}؛ يعني: غير الضالين ما يخالف الضالين؛ وهم النصارى الذين يعملون على أهوائهم كالنصارى أشباههم، فلا يجوز للمسلم أن يقتدي بمن انحرف من العلماء، وبفسقة العلماء، ليس هؤلاء قدوة؛ ولهذا قال بعض السلف: من انحرف من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن انحرف من العباد ففيه شبه من النصارى؛ ولها ردَّ الله على هؤلاء الذين يقتدون بالفسقة من العلماء والعباد بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة:34]، بيَّن سُبحَانَهُ وَتَعَالى حالهم، بالتحذير منهم، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ}[التوبة:34]، الأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة:34]؛ وهذا في أهل الكتاب، ومن فسد من علماء هذه الأمة فله شبه بهؤلاء، فهو من الأحبار المنحرفين، ومن فسد من الزهاد والعباد فهو من الرهبان المنحرفين.

في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}[النساء:171]، وفي الآية الأخرى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:77]؛ الله تعالى نهى أهل الكتاب عن الغلو واتباع غير الحق، واتباع أهواء المضلين {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:77]؛ وهذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، وفي الآية الأخرى في آية النساء يقول تعالى:  {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[النساء:171]؛ وذلك أن أهل الكتاب غلو في دينهم، فالنصارى غلو في عيس عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حتى رفعوه إلى مقام الألوهية والربوبية، وقالوا: إنه ابن الله؛ ولهذا حذرهم الله تعالى، قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ}[النساء:171]، ليس إلهًا، وليس ربًّا، وليس ابن الله، وإنما هو عبد ورسول كريم {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ}[النساء:171]؛ يعني مخلوق من كلمة الله، كلمة كن ألقاها إلى مريم وروح منه ، فلا يجوز الغلو في الدين، فالغلو في الدين يوصل الإنسان إلى الكفر والشرك والعياذ بالله.

القارئ:

المسألة العاشرة: الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله، وعدم حفظهم، كقوله:{بَادِيَ الرَّأْيِ}[هود:27].

شرح الشيخ:

(المسألة العاشرة:الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله)؛ يعني: هؤلاء الذين يعملون بالدين أفهامهم قليلة ناقصة ضعيفة؛ هذا دليل على أن ما هم عليه باطل؛ كقوله سبحانه عن قوم نوح: {بَادِيَ الرَّأْيِ}[هود:27]، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}[هود:27]؛ هؤلاء الأراذل، وهؤلاء الضعفاء، وهؤلاء الذين أفهامهم قليلة وعلومهم قليلة لا يمكن أن يكونوا على الحق، فلو كان حقًّا لسبق إليه الأغنياء، ولسبق إليه الأشراف؛ كقوله سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ}[الأحقاف:11]؛ هذه من أخلاق الجاهلية، وهو الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله؛ لأن هؤلاء الضعفاء وهؤلاء المساكين كانوا على الدين؛ هذا يدل على أنه باطل، لو كان حقًّا لسبق إليه الأشراف، لسبق إلى أهل العقول، وسبق إلى أهل المال، وأهل الجاه، وأهل السلطان، فالواجب على المسلم الحذر من رد الحق وعدم قبوله، والحذر من الاستدلال على بطلان الدين قلة أفهام أهله، فالحق حق أن يتبع.

القارئ:

المسألة الحادية عشرة: الاستدلال بالقياس الفاسد، كقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم:10].

شرح الشيخ:

(الحادية عشرة: الاستدلال بالقياس الفاسد)، كقولهم في معارض الأنبياء: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم:10]، لما بعثت الرسل إلى توحيد الله وقبول الحق، قالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم:10] ما الفرق بيننا وبينكم، كيف تأتوننا بشيء لا نعرفه؟!{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم:10]، أنت بشر ونحن بشر، قاسوا الأنبياء على عقولهم؛ هذا قياس فاسد، جعلهم بشر، لكن الله اختصهم بالنبوة والرسالة؛ ولهذا ردَّ الله عليهم، لما قال: إن أنتم إلا بشر مثلنا أخبر الله عنهم  في سورة إبراهيم أنه قائل: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}[إبراهيم:11]؛ يعني جاوب الرسل: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}[إبراهيم:11]؛ نعم صحيح الرسل بشر، لكن الله منَّ عليهم بالنبوة والرسالة، هذا من القياس الفاسد كونهم يقيسون الرسل على سائر الناس، ويقولون: لا فرق، فالواجب على المسلم أن لا يعارض النصوص بالقياس الفاسد، القياس الفاسد هو الذي يعارض به النقل، القياس نوعان:

  1. قياس صحيح.
  2. وقياس فاسد.

فالقياس الفاسد: هو الذي يكون في مقابلة النصوص، وفي معارضة النصوص، وأول من قاس القياس الفاسد إبليس؛ فقد عارض أمر الله بقياسه الفاسد لما أمره الله بالسجود لآدم قاس قال: لا، كيف أنا اسجد لآدم وأنا أفضل منه وخير منه، والفاضل لا يسجد للمفضول، {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[ص:76]؛ هذا قياس فاسد عنده النص أمره الله بالسجود {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيس}[البقرة:34]، أمرهم الله بالسجود لآدم؛ نص، وإبليس عارض النص قال: لا كيف أسجد له وأنا خير منه، عنصري خير من عنصر آدم، أنا مخلوق من نار وهو مخلوق من طين، فأنا أفضل عنصري أفضل من عنصر آدم، ولا يسجد الفاضل للمفضول؛ فهذا من القياس الفاسد، أول من قاس قياسًا فاسدًا إبليس عارض النص برأيه الفاسد وقياسه الفاسد، والواجب على المسلم أن يقبل النص وأن لا يعارض النص بالقياس، ثم أيضًا بيَّن العلماء أن ما علم الأبله إبليس أن عنصر آدم خير من عنصره، فعنصر إبليس النار، والنار من طبيعتها الطيش والعلو والخفة، ولا تبقي ولا تزر، تقضي على ما مرت عليه، وأما عنصر آدم فهو التراب والطين، ومن صفات التراب والطين: الرزانة، والثبات والركود، وما حوله ينبت ويزكو.

فهو كاذب في قوله: إن عنصره خير من عنصر آدم، وهو قد عارض النص بالقياس الفاسد، أما القياس الصحيح فهو الذي يكون عند عدم وجود النص، يقيس العلماء في الفروع، يعمل العلماء بالقياس، فمثلًا:

النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصَّ على ستة أشياء لا يجوز فيها الربا: الذهب والفضة والبر والتمر، والشعير والملح، في حديث أبي سعيد: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثل بمثله سواء بسواء يد بيد» فلا تبيع صاع بر بصاعين، بل لا بد من الثبات صاع بصاع، صاع ملح بصاعين لا، صاع تمر بصاعين لا، هذه ستة أشياء، هل يقاس عليها غيرها؟

قال بعض الفقهاء: نقيس على البر الأرز، الأرز نقيسه على البر مثله، فقالوا: "الأرز كالبر في جريان الربا في كل منهما بجامع الطعم، أو بجامع الكيل والادخار"؛ هذا قياس صحيح، قياس الأرز على البر، والعلة الجامعة بينهما الطعم، كل منهما طعم والكيل والادخار، فالبر لا يجوز لا يجوز فيه الزيادة البر ببر، أنا أقيس الأرز فلا يباع صاع بأكثر من صاع، بصاعين؛ هذا قياس صحيح، أما القياس الفاسد هو الذي يكون في مقابلة النص، عنده نص واضح صريح، ثم لا يقبل النص ويعارضه بالقياس الفاسد؛ هذا هو ما عليه أهل الجاهلية.

القارئ:

المسألة الثانية عشرة: إنكار القياس الصحيح، والجامع لهذا وما قبله عدم فهم الجامع والفارق.

شرح الشيخ:

هذه المسألة الثانية عشرة: إنكار القياس الصحيح، فهم يستعملون القياس الفاسد، وينكرون القياس الصحيح، والقياس الصحيح يقاس شيء على شيء، ولكن لا بد من العلة الجامعة بينهما، فهناك فرع، وهناك أصل، وهناك علة جامعة، وهناك حكم، فإذا وجدت العلة الجامعة بينهما فإنه يقاس الفرع على الأصل في الحكم، فمثلًا البر؛ هذا هو الأصل؛ لأن الرسول نص عليه، «البر بالبر»، والفرع: أن نقيس الأرز على البر، والعلة الجامعة بينهما: كل منهما مطعوم، كل منهما مكيل، أو مدخر، والحكم: تحريم الربا لكل منهما تحريم الزيادة، ما تبيع صاع أرز بصاع أرز مؤجل، أو زائد، حكم جريانه في كل منهما، فأهل الجاهلية يقيسون قياسًا فاسدًا، ويمنعون القياس الصحيح، وينكرون القياس الصحيح، فالواجب على المسلم أن لا يتبع أهل الجاهلية، وأن لا يعارض النص بقياس؛ لأن هذا هو القياس الفاسد، وأن لا ينكر القياس الصحيح؛ وهو قياس الفرع على الأصل بالعلة الجامعة بينهما بحكم معين عند عدم وجود النص وخفائه.

القارئ:

المسألة الثالثة عشرة: الغلو في العلماء والصالحين، كقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}[النساء:171].

شرح الشيخ:

المسألة الثالثة عشر: الغلو في العلماء والصالحين بأن يرفعهم من مقام العبودية إلى مقام الربوبية كما غلا النصارى في عيسى حتى قالوا: إنه ابن الله؛ رفعوه من مقام العبودية إلى مقام الربوبية وقالوا: إنه ابن الله، وكذلك أيضًا الغلو في الصالحين، كأن يغلو في أحد الصالحين، في أحد المقبورين، ويصرف له نوعًا من أنواع العبادة؛ أي:

  1. يدعوه من دون الله.
  2. يطلب منه المدد.
  3. يطلب منه شفاء المرضى.
  4. يطلب منه تفريج الكروبات.

كما يقول عباد القبور الآن: يا فلان مدد مدد يطلب منه المدد، أغثني فرج كربتي، يغلو في الرسول عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، يا رسول الله أغثني بعض الزوار، يقولون: أغثني فرج كربتي أنا في حصنك، أنا في جوارك، يقول: مدد يا دسوقي، مدد يا بدوي، مدد يا حسين، مدد يا عبد القادر، مدد يا نفيسة، وهكذا، أغثني، فرج كربتي؛ هذا غلو، صرف له نوع من أنواع العبادة، الدعاء خاص بالله، لا يدعى إلا الله ولا يساق إلا الله؛ فلذلك قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:77]، فالغلو في الأنبياء والصالحين من صفات أهل الجاهلية، فالواجب عن المسلم البعد عن الغلو في الصالحين، وأن ينزل العلماء والصالحين منازلهم، فالعالم والصالح يحب في الله، ويقتضى بأفعاله الطيبة، ولكن لا يعبد من دون الله.

القارئ:

المسألة الرابعة عشرة: أن كل ما تقدم مبني على قاعدة وهي النفي والإثبات، فيتبعون الهوى والظن، ويعرضون عما آتاهم الله.

شرح الشيخ:

يعني ما تقدم مبني على النفي والإثبات، فالإثبات في اتباع الهوى والظن التخرصات، والنفي إنكار الحق، فهم لا يقبلون الحق، ويعملون بالأوهام والظنون والتخرصات؛ كما قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}[النجم:23]، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28]، فالواجب على المسلم أن لا يعمل بالظنون والأوهام، وإنما يعمل بالدليل، الدليل هو الذي يفيد العلم، الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ هو الذي يفيد العلم، أما إذا اختفى الدليل جاءت الظنون والأوهام، والتخرصات؛ وهذا هو ما عليه أهل الجاهلية دينهم مبني على الهوى والتخرصات، فدينهم مبني على النفي والإثبات:

إثبات ما هم عليه من الخرافات، ومن الظنون والتخرصات والأوهام، ما عندهم دليل على صحة معبوداتهم وعلى ما هم عليه من الباطل عندهم ظنون وتخرصات، والحق ينفونه ولا يقبلونه، فدينهم مبني على النفي والإثبات؛ نفي الحق وعدم قبوله ورد الحق، وإثبات ما هم عليه من الباطل، والظنون والتخرصات والأوهام، {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28]{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}[النجم:23]

القارئ:

المسألة الخامسة عشرة: اعتذارهم عن اتباع ما آتاهم الله بعدم الفهم، كقوله: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}[البقرة:88]، {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ}[هود:91]، فأكذبهم الله، وبين أن ذلك بسبب الطبع على قلوبهم، والطبع بسبب كفرهم.

شرح الشيخ:

الخامسة عشرة:اعتذارهم عن قبول الحق بعدم فهمه؛ ولهذا قالوا الذين كفروا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}[البقرة:88]، قال تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:88]، وأخبر الله عن اليهود قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}[البقرة:88]، قال تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:88]، وأخبر الله عن كفار قريش أنهم قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}[فصلت:5]، قلوبنا في أكنه؛ يعني في غلاف، وفي آذاننا وقر، مانع وحاجز يمنع من قبول وفهم ما تقوله، وأخبر الله عن قوم شعيب أنهم قالوا: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا}[هود:91].

 فالاعتذار عن قبول الحق لعدم الفهم من صفات أهل الجاهلية؛ وهذا ليس عذرًا؛ لأن الله تعالى أعطاهم العقول والأفهام، لكن شذوذهم وإعراضهم هو الذي حملهم على ذلك، كونهم صدوا عن الحق، كونهم أعرضوا عن قبول الحق ليس هذا عذرًا، ولا يعتبر هذا على الإنسان، يفهمون الكلام، ويسمعون كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم يعرفون اللغة العربية، لكن شذوذهم وإعراضهم بعدم قبولهم الحق، وعدم اختيارهم ورضاهم بالحق؛ هو الذي جعلهم يعارضون الحق، ويعتذرون بعدم الفهم، وهذا عذر ناقص مردود، هم عندهم أفهام، لكن لم يفهموا، عندهم ذكاء، وعندهم فهم، ولكنهم لم يعطوا إيمانًا، ولا ذكاء عدلًا من الله تعالى، الله تعالى له الحكمة البالغة، فهذا ليس عذرًا لعدم قبول الحق، دعواهم أنهم لم يفهموا لا يعطيهم من قبول الحق، من وجوب قبول الحق، فيجب عليهم قبول الحق؛ لأن الآلات والأدوات قد أعطاهم الله إياها، أعطاهم سمع أعطاهم بصر، أعطاهم عقل، أعطاهم فهم، أما إذا أصيب العقل فإنه يرفع عن التكليف، إذا لم يكن الإنسان معه عقل كالمجنون، والصغير الذي لم يفهم؛ هذا الغير مكلف.

القارئ:

المسألة الخامسة عشرة: اعتذارهم عن إتباع ما آتاهم الله بعدم الفهم، كقوله: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}[البقرة:88]، {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ}[هود:91]، فأكذبهم الله، وبين أن ذلك بسبب الطبع على قلوبهم، والطبع بسبب كفرهم.

شرح الشيخ:

وهذا ليس عذرًا، هؤلاء عذرهم مردود، إظهارهم بعدم الفهم؛ عذر مردود أكذبهم الله وبيَّن أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}[النساء:155]، والطبع سببه عدم الإيمان، لما لم يؤمنوا أول مرة، ولم يقبلوا الحق طبع الله على قلوبهم عقوبة لهم، فلما جاءهم الحق وفهموه وعرفوه ثم لم يقبلوه طبع الله على قلوبهم، جعل عليها الطبع، وختم عليها عدلًا منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف:5]، فزاغوا عن الحق في أول الأمر، جاءهم الحق وعرفوه، ثم زاغوا ولم يقبلوه فأزاغ الله قلوبهم عقوبة لهم، قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام:110]؛ فهذا من عقوبة الله لهم، فاعتذارهم بعدم الفهم أكذبهم الله وبيَّن أن هذا بسبب الطبع على القلوب والختم، إغلاق معنوي حاجز يمنعهم من الإيمان بسبب عدم قبول الحق في أول الأمر، لما يقولوا الحق ولم يرضوه، ولم يختاروه مع معرفتهم به عوقبوا بالطبع، الذي جعل على قلوبهم غلاف، يغلف القلب والعياذ بالله بغلاف يكون على القلب مانع مثل الطبع، ثم الختم{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ}[البقرة:7]، ولا يجوز للإنسان أن يعتذر بهذا العذر، هذا عذر باطل وعذر مردود أكذبهم الله بعدم فهم؛ لأن الإنسان إذا كان عنده أدوات هو يفهم، أدوات السمع والعقل والبصر أدوات موجودة، وإذا وجدت هذه الأدوات كلف العقل، أما إذا فسدت الأدوات فإنه يبطل التكليف.

وفق الله الجميع لطاعته.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد