شعار الموقع

الإيمان لأبي عبيد القاسم 1 من بداية الكتاب إلى قوله: "فلما أثاب الناس إلى الإسلام وحسنت فيه رغبتهم..."

00:00
00:00
تحميل
151

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد..

فإنَّا إن شاء الله في هذه الدورة سوف نتكلم على هذه الرسالة (كتاب الإيمان) الذي صنَّفه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلَّام وهذه الرسالة موضوعها كما هو معلوم الإيمان ومعالمه والسنن واستكماله ودرجاته, المؤلف رحمه الله من علماء القرن الثاني والثالث الهجري فإنَّ ولادته سنة سبع وخمسين ومائة من الهجرة ووفاته سنة أربع وعشرين ومائتين وهو عاش في القرن الثاني والقرن الثالث, ألَّف هذه الرسالة ليُبيِّن فيها حقيقة الإيمان وما دلَّت عليه النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ, ومع ما قرَّره أهل العلم وفهموه من النصوص ويرد على المخالفين وهم المرجئة وهم طائفتان كما سيأتي؛ المرجئة المحضة الذين قولهم منكر, وطائفة ثانية مرجئة الفقهاء الذين وافقوا جمهور أهل السنة في المعنى وخالفوهم في اللفظ ، ولكن خلافهم له آثار تترتب عليه فإنهم وإن وافقوا أهل السنة والجماعة في أنَّ الأعمال لا بد منها وأنَّ الواجبات واجبات وأنَّ المحرمات محرمات وأنَّ فاعل الواجب يستحق الثواب ويُمدَح على فعله, وفاعل المعصية والكبيرة يُذَم ويستحق الوعيد ويُقام عليه الحد إن كان لهذه المعصية حد إلا أنَّ خلافهم له آثار ترتَّبت عليه حتى قال بعض أهل العلم إنَّ فتنتهم أشد من فتنة الأزارقة وهم الخوارج وذلك أنهم خالفوا النصوص لفظًا وإن وافقوها معنًى والواجب على المسلم أن يتأدَّب مع النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وأن يوافِق النصوص لفظًا ومعنًى وليس للإنسان أن يُخالِف النصوص لا لفظًا ولا معنًى, ومن هذه الآثار أنَّ خلاف مرجئة الفقهاء وهم الأحناف أول مَن قال بالإرجاء حماد بن سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة حماد بن سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة فإن خلافهم مع جمهور أهل السنة وقولهم إن الأعمال ليست داخلةً في مسمى الإيمان ، فتحوا باب للمرجئة المحضة وهم الجهمية فقالوا أن الأعمال ليست واجبة وليست مطلوبة, ومن الآثار التي ترتبت على خلافهم أنهم فتحوا بابا للعصاة والفسقة ليأتي السكير العربيد فيقول أنا مؤمنٌ كإيمان جبريل وميكائيل وكإيمان أبي بكرٍ وعمر, فإذا قيل له إن أبا بكر وعمر لهما أعمالٌ عظيمة, فقال ليس الخلاف في الأعمال, الأعمال شيء والإيمان شيءٌ آخر أنا مُصدِّق وأبو بكر وعمر مصدِّقان كلٌ منهما مصدِّق, وكذلك من الآثار ترتَّبت على خلاف الأحناف ومرجئة الفقهاء مع جمهور أهل السنة مسألة الاستثناء في الإيمان وهي قول (أنا مؤمن إن شاء الله) فإنَّ مرجئة الفقهاء لا يرون الاستثناء ويمنعون من الاستثناء ويقولون إنَّ مَن استثنى فهو شاكٌّ في إيمانه ويسمون الذين يستثنون في إيمانهم الشكَّاكة, أما جمهور أهل السنة فإنهم يُفصِّلون ويرون أنَّ المستثني إن قصد الشك في أصل إيمانه فهو ممنوع من الاستثناء, أما إن نظر إلى أعمال الإيمان وأنها متعددة وأن الواجبات كثيرة وأن الإنسان لا يُزكِّي نفسه ولا يُجزِم بأنه أدَّى ما عليه فإنه يستثني في هذه الحالة وكذلك إذا استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة فإنه يُستثنَى, كذلك إذا استثنى وأراد التبرُّك بذكر اسم الله فله أن يستثني؛ فالمقصود أنَّ الخلاف بين مرجئة الفقهاء وجمهور أهل السنة ليس خلافًا لفظيًا من جميع الوجوه كما قاله صاحب شارح الطحاوية رحمه الله ولكنه خلاف له آثار تترتَّب عليه كما سمعنا.

الآن نبدأ فاقرأ ترجمة المصنف الأول.

(القارئ)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

ترجمة المصنف:

الإمام ابن سلَّام هو أبو عبيد القاسم بن سلَّام البغدادي الإمام المجتهد البحر اللُغوي الفقيه صاحب المصنفات وُلِدَ بهراس نحو سنة سبعٍ وخمسين ومائة وكان أبوه عبدًا روميًا لبعض أهل هُراس, سمع جماعةً من الأئمة الثقات مثل سفيان بن عيينة وإسماعيل بن عُليَّة ويزيد بن هارون ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وحمَّاد بن سلمة وغيرهم وحدَّث عنه الإمام الدارمي وأبو بكر بن أبي الدنيا وعلي بن عبد العزيز البغوي ومحمد بن يحيى المروزي وآخرون, قال الإمام إسحاق بن راهوية: (الله يحب الحق أبو عبيد أعلم مني وأفقه), وقال أيضًا: (نحن نحتاج إلى أبي عبيد وأبو عبيدٍ لا يحتاج إلينا), وقال أحمد بن حنبل: (أبو عبيد أستاذ وهو يزداد كل يومٍ خيرًا), وسُئِل يحي بن معين عنه فقال: (أبو عبيدٌ يسأل الناس عنه!), وقال أبو داود: (ثقةٌ مأمون), قال الحافظ الذهبي: (مَن نظر في كتب أبي عبيدٍ علِم مكانه من الحفظ والعلم وكان حافظًا للحديث وعِللِه عارِفًا بالفقه والاختلاف رأسًا في اللغة, إمامًا في القراءات, له فيها مصنف وقع لي من تصانيفه كتاب (الأموال) وكتاب (الناسخ والمنسوخ).

(الشيخ

ولذلك كان مُحدِّثا يروي بالأسانيد في هذه الرسالة يروي بالأسانيد بعضها مرفوع للنبي ﷺ وبعضها موقوف على الصحابة وبعضها موقوف على مَن بعده.

(القارئ) 

وقال الخطيب البغدادي: (وكان ذا فضلٍ ودينٍ وستر ومذهبٍ حسن وكتبه مستحسَنَةٌ مطلوبةٌ في كل بلد والرواة عنه مشهورون ثقات ذو ذكرٍ ونُبلٍ وكتابه (الأموال) من أحسن ما صُنِّف في الفقه وأجوده) قلتُ ومع هذه المناقب والفضائل فإن الأئمة الستة لم يُخرِّجوا له شيئًا من الحديث.

(الشيخ) 

قوله (قلتُ) هذا الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني رحمه الله.

(القارئ) 

فذلك من الأدلة الكثيرة على أنهم لم يُخرِّجوا لجميع رواة الحديث الثقات فلا غرابة بعد هذا أن لا يُخرِّج البخاري لبعض رواة أهل البيت الثقات منهم , ومن كلام أبي عبيدٍ -رحمه الله تعالى- المُتبِّعُ للسنة كالقابض على الجمر وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله عز وجل, قلتُ: هذا في زمانه فماذا يُقال في زماننا! أقام رحمه الله ببغداد مدة ثم وَلِيَ القضاء بطرَسوس وخرج بعد ذلك إلى مكة فسكنها حتى مات بها سنة أربعٍ وعشرين ومائتين.

(الشيخ)

رحمه الله _ وبهذا يتبيَّن أنَّ الإمام أبا عبيد إمام رحمه الله مُحدِّث فقيه جمع بين الحديث والفقه, فله عناية بالحديث وبالفقه وبالتوحيد والعقيدة.

(المتن)

باب نعت الإيمان في استكماله ودرجاته

أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن معروف أعني ابن أبي نصر في داره بدمشق في صفر سنة عشرين وأربعمائة قال: حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن أحمد بن يحيى العسكري صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام هذه الرسالة وأنا أسمع، قال أبو عبيد.

(الشرح)

هذا سند الرسالة، فإن الذي رواها الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن أبي نصر، رواها عن صاحب الإمام أبي عبيد وهو أبو يعقوب إسحاق بن أحمد بن يحيى العسكري، وروى هذه الرسالة قبل وفاته بأربع سنين، وعلى هذا فتكون الرسالة ثابتة للمؤلف رحمه الله.

(المتن)

قال أبو عبيد: (أما بعد: فإنك كنت تسألني عن الإيمان، واختلاف الأمة في استكماله، وزيادته ونقصه، وتذكر أنك أحببت معرفة ما عليه أهل السنة من ذلك، وما الحجة على من فارقهم فيه, فإن هذا -رحمك الله -خطب قد تكلم فيه السلف في صدر هذه الأمة وتابعيها ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وقد كتبت إليك بما انتهى إليَّ علمه من ذلك مشروحاً ملخصاً، وبالله التوفيق).

(الشرح)

وبهذا تبيَّن أنَّ هذه الرسالة جواب لسؤال وهذا سبب تأليف الرسالة أنَّ المؤلف رحمه الله سُئِل هذا السؤال فأجاب بهذه الرسالة.

قال: (أما بعد فإنك كنت تسألني عن الإيمان) السؤال سؤال عن الإيمان واختلاف الأمة في استكماله وزيادته ونقصه, والسائل يذكر أنه أحبَّ أن يعرف ما عليه أهل السنة والجماعة من ذلك ويعرف أدلة مَن خالفهم, فالمؤلف رحمه الله أجاب بهذه الرسالة, إذًا موضوع الرسالة الجواب عن هذا السؤال وهو: الإيمان، ما الإيمان؟ وما حقيقته؟ وما الخلاف في ذلك في استكماله وزيادته ونقصه؟ هل الخلاف من خالف له حظ من النظر من خالف أهل السنة والجماعة ومن خالف السلف من الصحابة والتابعين هل له حجة وهل له دليل؟ والمؤلف رحمه الله يقول: (فإن هذا رحمك الله) هذا من نصح المؤلف رحمه الله أنه يعلمك ويدعو لك، ( اعلم رحمك الله ) (فإن هذا رحمك الله) وهذه طريقة العلماء الربانيين، يعلمون الناس ويدعون لهم.

يقول المؤلف رحمه الله : فإنَّ هذا : (خطب) يعني: أمر عظيم ليس بالأمر الهين، لا بد من تحقيقه.

 (وقد تكلم فيه السلف) أي: أن صدر هذه الأمة وتابعيها تكلم في مسألة الإيمان: هل العمل من الإيمان؟ وهل الإيمان يزيد وينقص؟ هذا الأمر عظيم، ولا بد من تحقيقه؛ لأن تحقيق هذا الأمر فيه سلامة دين المرء وإيمانه واعتقاده في ربه ونبيه ودينه، والمؤلف يقول: قد تكلم فيه السلف تكلموا في هذا من الصحابة ومن بعدهم، كما سيأتي أن المؤلف رحمه الله ساق الأدلة والنصوص عن الصحابة كقول معاذ بن جبل ، الصحابي الجليل : (اجلس بنا نؤمن ساعة) تكلم في الإيمان وبين أن العمل من الإيمان وأن الإيمان : يزيد وينقص ، لهذا قال ( اجلس بنا ساعة ) يعني يزدد إيماننا

فالسلف من الصحابة والتابعين والأئمة ومن بعدهم بينوا هذا الأمر العظيم بينوا حقيقة الإيمان، وأنه إقرار باللسان وتصديق بالقلب، وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، فهذه هي حقيقة الإيمان التي دلت عليها النصوص من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ﷺ، وبيَّنها أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم أنَّ حقيقة الإيمان قول القلب وهو إقراره وتصديقه, وقول اللسان وهو النطق, وعمل القلب والنية والإخلاص, وأعمال الجوارح.

حقيقة الإيمان تشمل هذه الأمور الأربعة: قول اللسان وهو النطق، فلا بد أن يتلفظ المسلم بالشهادتين: لا بد أن يشهد أنَّ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، ولا بد من قول القلب وهو الإقرار والاعتراف والتصديق، ولا بد من عمل القلب، وهو النية والإخلاص والصدق والمحبة والانقياد، ولا بد من عمل الجوارح، كالصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين، وصلة الرحم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والإحسان إلى الجيران، وكف المسلم نفسه عن المحرمات التي أعظمها وأغلظها الشرك بالله ، والعدوان على النفس في الدماء، والعدوان على الناس في الأموال، والعدوان على الناس في الأعراض، فينتهي عن المحرمات تديناً وإيماناً بالله، وبما جاء عن الله وبما جاء عن رسول الله ﷺ من ترك المحرمات، فهذه هي حقيقة الإيمان التي دلت عليها النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

كما قال كثير من السلف: الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان، يعني: القلب، وعمل بالأركان، يعني: الجوارح.

وقال بعضهم: الإيمان عمل ونية، عمل القلب وعمل الجوارح بالنية، وهذه هي حقيقة الإيمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (إن هذا خطب قد تكلم فيه السلف في صدر الأمة وتابعيها ومن بعدهم إلى يومنا هذا) يعني: هذا أمر واضح، ليس أمراً خفياً؛ لأن الإيمان هو المطلوب الذي أراده الله تعالى من عباده وخلقهم من أجله, فالله خلق الخلق ليعبدوه ويؤمنوا به ويوحدوه، ويمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه، ويلتزموا شرعه ودينه، ويقفوا عند حدوده، ويستقيموا على شرعه ودينه، فهذا الأمر الذي خلق الله العباد من أجله لا بد أن يكون هذا الأمر واضحاً وجلياً، ولهذا فإن النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ واضحة في هذا، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۝ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ 

فبين الله أن من صفات المؤمنين حقاً أنهم الذين توجل قلوبهم عند ذكر الله، ويزدادون إيماناً عند تلاوة آياته، ويتوكلون على الله، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهذه الأعمال شملت أعمال الجوارح وأعمال القلوب، فوجل القلب عند ذكر الله من أعمال القلوب، وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فهذه أعمال، وكلها داخلة في مسمى الإيمان، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، وقال : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، فهؤلاء هم الصادقون في إيمانهم، آمنوا بالله وبرسوله، ولم يرتابوا ولم يشكوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فدل على أن من لم يأت بالأعمال ليس صادقاً في إيمانه، فيقال: ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمن حقاً، فالفاسق والعاصي والمرتكب للكبيرة، وإن كان داخلاً في اسم الإيمان، إلا أنه لا يطلق عليه الإيمان، بل لا بد من التقييد، نفياً وإثباتاً، فلا يقال: مؤمن بإطلاق، ولا يقال: ليس بمؤمن بإطلاق، بل لا بد من التقييد في النفي وفي الإثبات، في الإثبات تقول: مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن فاسق بإيمانه، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وفي النفي تقول: ليس بمؤمن حقاً، ليس بصادق الإيمان؛ لأنك إذا أثبت له الإيمان قلت: هو مؤمن بإطلاق، وهو عاص يرتكب الكبائر، فقد وافقت المرجئة، وإذا قلت: ليس بمؤمن ونفيت عنه الإيمان، فقد وافقت الخوارج والمعتزلة، فلا بد من التقييد في النفي والإثبات، مؤمن ناقص الإيمان، وفي النفي ليس بصادق الإيمان، قال : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: الإيمان بضع وسبعون شعبة، وهذه رواية مسلم، وفي رواية البخاري: الإيمان بضع وستون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان.

فهذا الحديث دل على أن الإيمان شعب متعددة كثيرة كلها داخلة في مسمى الإيمان، ومثَّل النبي ﷺ لأعلاها وأدانها، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، أي: كلمة التوحيد، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وبين الأعلى والأدنى شعب متفاوتة منها ما يقرب من شعبة الشهادة، ومنها ما يقرب من شعبة الإماطة، والصلاة شعبة، والزكاة شعبة، والصوم شعبة، وبر الوالدين شعبة، وصلة الرحم شعبة، والأمر بالمعروف شعبة، والنهي عن المنكر شعبة، والإحسان إلى الجيران شعبة، والإحسان إلى اليتامى والأرامل والمساكين والحيوانات كلها من شعب الإيمان وهكذا.

ومثَّل النبي ﷺ للشعبة القولية بكلمة التوحيد، والشعبة العملية بإماطة الأذى عن الطريق، والشعبة القلبية بالحياء، فدل على أن أعمال الجوارح وأعمال القلوب وأقوال اللسان كلها داخلة في المسمى، وهذا هو الذي أقره أهل السنة والجماعة، ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أهل العلم والأئمة كـ سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أهل العلم، وهو الذي عليه الصحابة والتابعون والأئمة.

وفي حديث وفد عبد القيس لما جاءوا إلى النبي ﷺ وقالوا: إنه يحولوا بيننا وبينك هذا الحي من  كفار مضر ولا نستطيع أن نخلص إليك إلا بالشهر الحرام ، فمرنا بأمر فصل نعمل به ونخبر به من وراءنا، فقال النبي ﷺ: آمركم بأربع و أنهاكم عن أربع ، آمركم بأربع : شهادة أن لا إله إلا الله ، أتدرون ما شهادة أن لا إله إلا الله ؟ إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تؤدوا خمس مغانمكم ، آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن لا إله إلا الله ، إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تؤدوا خمس مغنمكم ، ففسر الإيمان بهذه الأمور الخمسة ، فسرها بشهادة كلمة التوحيد ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان وأداء الخمس وهذه أعمال، فدَّل على دخول الأعمال في مسمى الإيمان .والأدلة في هذا كثيرة ،وأقوال العلماء في هذا كثيرة ،كما بين المؤلف -رحمه الله- أبو عبيدة القاسم بن سلام وبينه غيره من أهل العلم ، قد ألف أبو العباس الشيخ ابن تيمية - رحمه الله – كتاب في الإيمان ، كتابًا كبيرًا و كتابًا صغيرًا عظيما في بيان الإيمان وما يدخل في مسماه وبيان مخالفه.

 (المتن)

اعلم -رحمك الله- أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين، فقالت إحداهما: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب، وشهادة الألسنة، وعمل الجوارح، وقالت الفرقة الأخرى: بل الإيمان بالقلوب والألسنة، فأما الأعمال فإنما هي تقوى وبر، وليست من الإيمان.

(الشرح)

قوله: اعلم رحمك الله ، (اعلم) هذا أمر؛ يعني انتبه وألقِ سمعك لهذا الأمر, أمر ليُلقِيَ طالب العلم سمعه ويحضر ذهنه حتى يعلم هذا الأمر.

ثم قال: (رحمك الله) دعاء، وهذا من نصحه رحمه الله.

قال اعلم رحمك الله: (أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر) فرقتين يعني: في مسمى الإيمان، هذا الأمر يعني مسمى الإيمان ما هو مسمى الإيمان؟ افترقوا  (فرقتين) الفرقة الأولى: الصحابة والتابعون وتابعوهم والأئمة، قالوا: إن مسمى الإيمان قول باللسان، وقول القلب وعمل القلب، وعمل الجوارح، وقالوا: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب، وشهادة الألسنة، وعمل الجوارح، هذا هو المذهب الحق وهذا هو الصواب الذي دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب؛ عمل القلوب وشهادة الألسنة, فينطق الإنسان بلسانه، ويشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمداً رسول الله، ويعمل بجوارحه، الصلاة يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويبر بوالديه ويصل رحمه ويحسن إلى جيرانه، ويحسن إلى الفقراء واليتامى والمساكين والأرامل، يكف جوارحه عمَّا حرم الله ، كلَّ هذه أعمال الجوارح داخله في مسمى الإيمان، ولهذا قال المؤلف -رحمه الله- : (فقالت إحداهما: الإيمان الإخلاص لله بالقلوب) عمل القلب، (وشهادة الألسنة) يعني: النطق باللسان، الألسنة جمع لسان، (وعمل الجوارح) الجوارح تعمل، واللسان ينطق، والقلب يكون عنده إخلاص، وبر ونية وانقياد، ومحبة وخوف ورجاء من الله ، كل هذه من أعمال القلوب، والخوف من الله والرجاء، والنية والإخلاص، والمحبة والانقياد مع قول اللسان ومع أعمال الجوارح، كل هذه داخله في مسمى الإيمان، هذه الفرقة الأولى.

قوله: (وقالت الفرقة الأخرى: بل الإيمان بالقلوب والألسنة) فأما الأعمال فليست من الإيمان, قالوا: الإيمان شيئان: إيمانٌ بالقلوب يعني تصديقٌ بالقلب, وإقرارٌ باللسان فقط, و أما الأعمال فليست من الإيمان وإنما نسميها تقوى ونسميها برًا, ولا نسميها إيمانًا ،وإن كانت واجبة, لكنها ليست من الإيمان وهذا هو مذهب مرجئة الفقهاء وهم طائفة من أهل السنة, كـ أبي حنيفة وأصحابه وأهل الكوفة ، أهل العبادة من الكوفة هكذا قرَّروا أنَّ الإيمان شيئان في القلب وفي اللسان ، في القلب التصديق والإقرار، وفي اللسان النطق، أمَّا عمل الجوارح فليست من الإيمان كالصلاة والصوم والزكاة والحج ،ليست من الإيمان، ولكنها تقوى وبر، قالوا: نسميها تقوى ونسميها براً، ولا نسميها إيماناً ولو كانت مطلوبة، قالوا: فالإنسان عليه واجبان، واجب الإيمان وواجب العمل، ولا يدخل أحدهما في مسمى الآخر.

واختلفوا في أعمال القلوب: هل هي داخله أو ليست داخله ؟ فمنهم من أدخلها ومنهم من أخرجها من مسمى الإيمان، وأمَّا جمهور أهل السنة فقالوا: الأعمال داخله في مسمى الإيمان، أعمال القلوب وأعمال الجوارح، نسميها إيماناً ونسميها تقوى ونسميها براً، هي تقوى وبر وإيمان، قال مرجئة الفقهاء : هي تقوى وبر وليست إيماناً، فالبر والتقوى غير الإيمان، الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان، وأمَّا أعمال الجوارح نسميها تقوى ونسميها براً وهي مطلوبة وواجبة، ويثاب فاعلها، ويعاقب تاركها، ويقام عليه الحد على من ارتكب كبيرة، لكن لا نسميها إيماناً، فهي ليست من الإيمان, شيءٌ آخر له اسمٌ آخر نسميها بر, نسميها تقوى, فقال جمهور أهل السنة: بل نسميها تقوى وبر وإيمان.

أيُّ الفرقتين أسعد بالدليل؟ الفرقة الأولى أسعد بالدليل.

وإذا نظرنا إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وجدنا أن النصوص أدخلت الأعمال في مسمى الإيمان كما سمعتم؛ كما سبق: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۝ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أدخل هذه الأعمال في مسمى الإيمان؛ عمل القلب وعمل الجوارح, وفي الحديث: الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) كل هذه الشُعَب, والبضع من ثلاثة إلى تسعة.

وقد ألف الإمام البيهقي رحمه الله مؤلفاً في هذا سماه شعب الإيمان، تتبع ما ورد في النصوص بتسميته إيمانًا ووضعه في كتابه، وأوصلها إلى تسع وسبعين شعبة؛ أوصل البضع إلى أعلاه.

فالمؤلف رحمه الله يقول: إن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين: جمهور أهل السنة، ومرجئة الفقهاء، كلهم من أهل العلم والدين؛ لأن مرجئة الفقهاء طائفة من أهل السنة، لكنهم خالفوا النصوص في اللفظ _ كما سمعتم _ وإن كانوا من أهل العلم والدين، إلا أن الفرقة الأولى أسعد منهم بالدليل، وهم الذين وافقوا النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ لفظاً ومعنى، وتأدبوا مع النصوص وسمَّوا الأعمال إيماناً، وأمَّا مرجئة الفقهاء فإنهم أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان ولم يدخلوها في الإيمان؛ ولهذا قال المؤلف - رحمه الله - إنهم افترقوا فرقتين: فرقةٌ أدخلت الأعمال في مسمى الإيمان, وفرقةٌ أخرجت الأعمال عن مسمى الإيمان.

وهناك فرقة ثالثة، لكنهم ليسوا من أهل العلم والدين؛ المؤلف رحمه الله قال (إنَّ أهل العلم والدين افترقوا فرقتين) وهم جمهور أهل السنة ومرجئة الفقهاء كلهم مسلمون وكلهم من أهل العلم والدين, أما الفرقة الثالثة وهم المرجئة المحضة كالجهمية وغيرهم كما سيأتي فإنهم قالوا: إن الإيمان مجرد المعرفة في القلب، ويتزعمهم الجهم بن صفوان ويقول ويقرر: الإيمان معرفة الرَّب بالقلب، والكفر هو جهل الرَّب بالقلب، فمن عرف ربَّه بإيمانه فهو مؤمن عند الجهمية، فمن عرف ربَّه بقلبه فهو مؤمن، و من جهل ربه بقلبه فهو كافر، وعلى هذا ألزم العلماء الجهم بأن إبليس مؤمن؛ لأنه عرف ربه بقلبه، قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وكذلك فرعون الذي ادعى الرُّبوبية وقال للناس: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى مؤمن على مذهب الجهم؛ لأنه يعرف ربه بقلبه، قال الله عنه وعن ملائه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، واليهود على مذهب الجهم مؤمنون؛ لأنهم يعرفون ربهم بقلوبهم ويعرفون صدق النبي ﷺ قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وأبو طالب ثبت في صحيح البخاري أنه مات على الشرك، فيكون على مذهب الجهم مؤمناً؛ لأنه يعلم صدق النبي ﷺ، قال في قصيدة مشهورة:

ولقد علمت بأنَّ دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبَّة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

وهذه الطائفة وهم الطائفة الجهمية ليسوا من أهل العلم والدين، ولهذا ما ذكرهم -رحمه الله-، قال إنَّ أهل العلم والدين افترقوا فرقتين  ويسمون المرجئة المحضة، فهم يرون أنَّ الأعمال ليست واجبة، وأن الإنسان لو ارتكب جميع الكبائر والمنكرات، وهدم المساجد وقتل الأنبياء والصالحين، وهو يعرف ربَّه بقلبه يكون مؤمناً! هذا مذهب الجهم كما بيَّن ذلك أهل العلم و العلامة ابن القيم -رحمه الله- في الكافية الشافية، لو فعل الإنسان على مذهب الجهم جميع الكبائر والمنكرات وكثيرًا من أمور الردَّة يبقى اسم الإيمان عنده ما دام يعرف ربَّه بقلبه نسأل الله العافية, والجهم بن صفوان ملحد كفَّره أهل العلم، والجهمية كفَّرهم أهل العلم, ومن العلماء من كفَّرهم بإطلاق، ومنهم من بدَّعهم، ومنهم من كفَّر غُلاتهم، وقد ذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله- أنه كفَّرهم خمسمائة عالم، قال رحمه الله في القصيدة النونية:

ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان

خمسون في عشر أي: خمسمائة.

واللالكائي قد حكاه عن هم بل حكاه قبله الطبراني

فالمقصود أن أهل العلم والدين -كما قال المؤلف رحمه الله- افترقوا في مسمى الإيمان إلى فرقتين: فرقة أدخلت أعمال القلوب وأعمال الجوارح في مسمى الإيمان مع تصديق القلب، والإقرار باللسان، وهذا هو مذهب الصحابة والتابعين والأئمة ،وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وغيرهم من أهل العلم.

والطائفة الثانية: مرجئة الفقهاء وهم أبو حنيفة وأصحابه وأهل الكوفة ومن تبعهم يرون أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان إنما هو الإقرار باللسان وتصديق القلب، وأما أعمال الجوارح وأعمال القلوب فهي مطلوبة، ويجب على الإنسان أن يؤدي الواجبات ويترك المحرمات إلا أنهم لا يسمونها إيماناً يسمونها تقوى وبراً ولا يسمونها إيمانّا، وأمَّا جمهور أهل السنة فإنهم يسمونها إيماناً ويسمونها تقوى ويسمونها براً، فهي تقوى وإيمان وبر.

(المتن)

وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين، فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً، وينفيان ما قالت الأخرى.

(الشرح)

قال - المؤلف رحمه -الله لما ذكر الخلاف في هذه المسألة ، عمل بقول الله : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وهذه هي طريقة أهل العلم، أنهم يردون ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ عملاً بقول الله : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، وقوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ.

فالواجب على المسلم أن يرد ما تنازع فيه الناس، وأن يعرض خلاف الناس وخلاف العلماء على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فما وافق كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فهو الحق، وما خالفهما فهو مردود.

فالمؤلف الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله من الراسخين في العلم، ومن أهل العلم والبصيرة، ومن أهل الفقه في الدين، ولذلك ردَّ نزاع هاتين الفرقتين إلى الكتاب والسنة، فوجد أن الكتاب والسنة يوافقان قول جمهور أهل السنة، وأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، فتبين بهذا أنه الحق، وأن قول مرجئة الفقهاء في إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان قول ليس بصحيح، يخالف النُّصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ, فيجب قبول ما دلَّ عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.

(المتن)

وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين، فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً، وينفيان ما قالت الأخرى.

والأصل الذي هو حجتنا في ذلك إتباع ما نطق به القرآن، فإن الله تعالى ذكره علواً كبيراً قال في محكم كتابه: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.

وإنا رددنا الأمر إلى ما ابتعث الله عليه رسوله وأنزل به كتابه، فوجدناه قد جعل بدأ الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فأقام النبي بمكة بعد النبوة عشر سنين أو بضع عشرة سنة يدعو إلى هذه الشهادة خاصة، وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذ سواها.

(الشرح)

يعني المؤلف رحمه الله يقول أنَّ هذه المسألة من مسائل النزاع رددناها إلى الكتاب والسنة فوجدنا الكتاب والسنة يوافِق ما ذهب إليه جمهور أهل السنة, يقول: والأصل الذي هو حجتنا إتباع ما جاء في القرآن، وقوله: (إتباع ما نطق به القرآن) أخذ من قول الله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية:29], ولهذا قال: (إتباع ما نطق به القرآن) يعني أخذًا من الآية, فيُقال: نطق القرآن, نطق الكتاب.

وبيَّن المؤلف رحمه الله أنَّ بدء الإيمان الشهادتان؛ الشهادة لله تعالى بالوحدانية، والشهادة لنبيه ﷺ بالرسالة،  أصل الدين وأساس الملة أن تشهد لله تعالى بالوحدانية، وأن تشهد لنبيه ﷺ بالرسالة، هذا أصل الدِّين وأساس الملَّة ، وأن توحد الله وتخلص له العبادة، وهذا هو الأمر الذي أنزل الله به الكتب، وأرسل به الرسل، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ.

وكل نبي بعثه الله يدعو قومه بادئ ذي بدء إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، ويأمرهم بعبادة الله، ويقول: اعبدوا الله، كما قال : لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، وقال: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وقال: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وقال: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.

هذا الأمر هو الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، والنبي ﷺ بعثه الله تعالى بالتوحيد ، بعثه الله بمكة ، بين قوم مشركين، فدعاهم إلى التوحيد، وقال لهم: قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا ومكث على هذا بضع عشرة سنة، يدعو إلى هذه الشهادة الخاصة، ولم يأمرهم بصلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج؛ لأن أصل الدين وأساس الملة هو التوحيد، لا بد من التوحيد ، فلا تصح الأعمال إلا بالتوحيد، إلا الصلاة فإنها فرضت قبل الهجرة بسنة أو بسنتين أو ثلاث على خلاف، فلما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة واستقر التوحيد في القلوب، شرع الله الشرائع ،ففرضت الزكاة في المدينة، وفرض الصوم وفرض الحج، وشرع الأذان، وشرعت الحدود، أما في مكة فإن النبي ﷺ اقتصر على دعوتهم إلى التوحيد؛ لأن التوحيد هو أصل الدين وأساس الملة ،وهو الذي تبنى عليه الأعمال، ولا تصح الأعمال إلا به، فلا بد من التوحيد ، فإذا ثبت التوحيد استقر في القلوب، عند ذلك تبنى عليه الأعمال وتصح الأعمال.

أما إذا عمل الإنسان عملاً وهو لم يوحد، وصلى وصام وزكى وحج ، وهو مشرك ما نفعه ، لا تصح الأعمال إلا بعد استقرار التوحيد و ثبات التوحيد والإيمان في القلب.

(المتن)

فأقام النبي ص بمكة بعد النبوة عشر سنين أو بضع عشرة سنة يدعو إلى هذه الشهادة خاصة، وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذ سواها، فمن أجاب إليها كان مؤمناً، لا يلزمه اسم في الدين غيره، وليس يجب عليهم زكاة، ولا صيام، ولا غير ذلك من شرائع الدين.

(الشيخ)

نعم وهذا في مكة في أول الأمر.

(المتن)

وإنما كان هذا التخفيف عن الناس يومئذ فيما يرويه العلماء رحمة من الله لعباده، ورفقاً بهم؛ لأنهم كانوا حديث عهد بجاهلية وجفائها، ولو حمَّلهم الفرائض كلها معاً نفرت منه قلوبهم، وثقلت على أبدانهم.

(الشرح)

ولأنها لا تصح إلا بعد استقرار التوحيد والثبات في القلب؛ لأن هذه الصلاة والزكاة والصوم والحج لا تصح ولا تقبل ولا تكون نافعة عند الله إلا بعد التوحيد، ولهذا بدأ النبي ﷺ بالتوحيد، وكل نبي يدعو قومه إلى التوحيد.

(المتن)

 ولو حملهم الفرائض كلها معاً نفرت منه قلوبهم، وثقلت على أبدانهم،

فجعل ذلك الإقرار بالألسن وحدها هو الإيمان المفترض على الناس يومئذ، فكانوا على ذلك إقامتهم بمكة كلها ،وبضعة عشر شهراً بالمدينة وبعد الهجرة.

فلما أثاب الناس إلى الإسلام وحسنت فيه رغبتهم, زادهم الله في إيمانهم.

(الشرح)

أثاب: يعني اجتمع, لما اجتمع الناس على الإسلام, أثابوا يعني اجتمعوا على الإسلام في المدينة واستقر التوحيد وثبت في القلوب وحسُنَت رغبتهم فيه شرع الله الشرائع, حُدِّدَت الأوقات للصلوات وشُرِعَ الأذان, وشُرِعَت الجماعة, فُرِضَت الزكاة, فُرِضَ الصوم, فُرِضَ الحج, وشُرِعَت الحدود.

(المتن)

فلما أثاب الناس إلى الإسلام وحسنت فيه رغبتهم، زادهم الله في إيمانهم أن صرف الصلاة إلى الكعبة، بعد أن كانت إلى بيت المقدس، فقال: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.

ثم خاطبهم وهم بالمدينة باسم الإيمان المتقدم لهم في كل ما أمرهم به، أو نهاهم عنه، فقال في الأمر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا، و قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، وقال في النهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.

(الشرح)

والمعنى: أنه لما هاجر النبي ﷺ والصحابة إلى المدينة، شرعت الشرائع، فناداهم الله باسم الإيمان، أمراً ونهياً، وطلب منهم امتثال الأوامر واجتناب النَّواهي؛ لأنهم موحدون فقال في الأمر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا، فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لأنهم وحدوا الله وثبت التوحيد ، فأوجب الله عليهم الصلاة ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا, وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فأمرهم بالوضوء، وفي النهي نهاهم عن الربا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، فشرعت الشرائع، وفرضت الواجبات، وحرمت المحرمات، فامتثلوا أمر الله واجتنبوا نهيه.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد