شعار الموقع

الإيمان لأبي عبيد القاسم 5 من قوله: "باب ما عابت به العلماء من جعل الإيمان قولاً بلا عمل..." إلى قوله: وقد وجدنا لهذين النوعين من الدلائل...".

00:00
00:00
تحميل
99

                         

(المتن)

باب: ذكر ما عابت به العلماء من جعل الإيمان قولاً بلا عمل، وما نهوا عنه من مجالسهم.
قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو السيباني قال: قال حذيفة: (إني لأعرف أهل دينين، أهل ذينك الدينين في النار: قوم يقولون: الإيمان قول وإن زنى وإن سرق، وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس؟ وإنما هما صلاتان، قال: فذكر صلاة المغرب أو العشاء وصلاة الفجر) قال: وقال ضمرة بن ربيعة يحدثه عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن حميد المقرائي عن حذيفة: قارن حديث حذيفة هذا قد قرن الإرجاء بحجة الصلاة وبذلك وصفهم ابن عمر  أيضا.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد...
فهذا الباب عقده المؤلف - رحمه الله - لبيان الآثار الواردة عن السلف والصحابة والتابعين فمن بعدهم في عيب المرجئة وذمهم والنهي عن مجالستهم، وهم الذين يقولون: إن الإيمان قول بلا عمل، يعني: قول القلب وتصديقه وإقراره بلا عمل، وأن أعمال الجوارح وأعمال القلوب لا تدخل في مسمى الإيمان، ثم ذكر أثر حذيفة قال: (إني لأعرف أهل دينين أو أهل ذينك الدينين في النار: قوم يقولون: الإيمان قول وإن زنى وإن سرق)، يعني: يقولون : الإيمان كامل في القلب ولا تضرُّهُ المعاصي وإن زنى وإن سرق ما يضر إيمانه , هذا قول المرجئة , المرجئة  يقولون: إيمان العاصي كامل مثل إيمان المطيع، فإيمان الزاني والسارق مثل إيمان المطيع، سواء بسواء.
( الإيمان قولٌ , يعني : الإيمان كامل , ( قولٌ ) , يعني : تصديق , (وإقرار قلب ), هو كامل بالقلب وإن زنى وإن سرق.
 والدين الثاني: (قومٌ يقولون: ما بال الصلوات الخمس؟ وإنما هما صلاتان. قال: فذكر صلاة المغرب أو العشاء وصلاة الفجر، قال: وقال ضمرة بن ربيعة يحدثه عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن حميد المقرائي عن حذيفة), يقول : (قارِنْ حديث حذيفة هذا فإنه قد قرن الإرجاء) بمن يقول: إن الصلاة الواجبة صلاتان لا خمس صلوات ,  الأثر كان فيه بعض السقط، لكن كأنه يقول: إن حذيفة عقد مقارنة بين المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بالقلب وتصديق بالقلب ولا ينقص الإيمان ولو زنى ولو سرق، وبين من يقول: الصلاة الواجبة صلاتان في اليوم والليلة لا خمس صلوات؛ وإنما هما صلاة المغرب وصلاة الفجر، أو صلاة العشاء وصلاة الفجر فقط، فكونه قرن المرجئة بمن يقول : إن الصلاة الواجبة صلاتان , دليل على ذم المرجئة وعيبهم، وأن مذهبهم مذهب مذموم ؛ لأن من أنكر وجوب الصلوات الخمس هذا يكفر , والعياذ بالله، من قال: لا يجب في اليوم والليلة إلا صلاتان هذا كفر، أَنكَر هذا ,وإن كان من قال: إن الإيمان قول والأعمال مطلوبة لا يكفر، لكنه قرنه به في الذم.

(المتن)

وبذلك وصفهم ابن عمر  أيضاً. قال أبو عبيد: حدثنا علي بن ثابت الجزري عن ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر قال: (صنفان ليس لهم في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية).

(الشرح)

هذا فيه ذم المرجئة، لكن الحديث ضعيف , والحديث موقوف على ابن عمر لكنه ضعيف؛ لأن فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ضعيف من جهة حفظه، هو ضعيف ,لكن المرجئة لا شك أن مذهبهم مذموم من جهة أنه خالف النصوص، وكذلك القدرية الذين يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة لهم، ولم يقدرها الله.

(المتن)

حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: اجتمع الضحاك وميسرة وأبو البَختري فأجمعوا على أن الشهادة بدعة، والإرجاء بدعة، والبراءة بدعة.

 

(الشرح)

هذا فيه ذم الشهادة والإرجاء والبراءة، وهذا الأثر يقول المحشي: اسناده إلى الجمع المذكور صحيح، وهم من صفوة التابعين.

فـأبو البختري والضحاك وميسرة أجمعوا على بدعية هذه الأمور الثلاثة: الشهادة والإرجاء والبراءة، (الشهادة) , لعلها الشهادة على معيَّن من المسلمين أنه من أهل النار أو أنه كافر بدون العلم بما ختم الله له، ويحتمل أن المراد الشهادة لمؤمن معين بالجنة، لا يُشهد لشخص معين بالجنة إلا إذا ما شهدت له النصوص، فهذه بدعة ,كون الإنسان يشهد لشخص معين بأنه بالجنة أو يشهد على شخص معين بأنه من أهل النار بدون دليل وبدون علم بما ختم الله به ، أما من عُلِم أن الله ختم له بالنار -كـ أبي جهل وأبي لهب - يُشهد عليهم بالنار، لكن بدون دليل؟ بدون معرفة أن هذا الشخص مات على الكفر؟ ويحتمل أن المراد الشهادة لمؤمن معين بالجنة، وإنما يشهد للمؤمنين بالعموم، فيقال: كل المؤمنين في الجنة، أما فلان بن فلان ما يُشهد له بالجنة، لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، إلا من شهدت له النصوص، كالعشرة المبشرين بالجنة، والحسن والحسين، وكذلك بلال وابن عمر, وعكاشة بن محصن, وغيرهم ممن شهدت له النصوص.

و(الإرجاء) بدعة , والإرجاء : هو القول بأن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان , بدعة ، لكن المرجئة طائفتان:المحضة، يقولون: الأعمال ليست من الإيمان وليست مطلوبة.

ومرجئة الفقهاء، يقولون: الأعمال مطلوبة ولكنها ليست من الإيمان.

(والبراءة) بدعة , لعل المراد بالبراءة : البراءة من أبي بكر وعمر ,كما تقول الروافض، يقولون: لا ولاء إلا بالبراء.

يعني : لا يُتَوَلَّى أهل البيت إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر، يقولون : لا يُمكِن لأحد أن يتولى أهل البيت أو يتولى علياً إلا إذا تبرأ من أبي بكر وعمر، وهذا باطل، فأهل السنة يتولون الجميع، يتولون أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأهل البيت جميعاً، وينزلونهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها بالإنصاف والعدل لا بالهوى والتعصب، فقول الروافض: لا ولاء إلا بالبراء، لا يتولى أحد أهل البيت ولا يتولى أحد علياً إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر هذا بدعة وباطل.

 (المتن)

قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري قال: ما ابتُدعت في الإسلام بدعة أعزَّ على أهلها من هذا الإرجاء.

(الشرح)

هذا فيه ذم الإرجاء؛ لأن تسميتها بدعة.

(المتن)

قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن مهدي بن ميمون عن الوليد بن مسلم قال: دخل فلان - قد سماه إسماعيل، ولكن تركت اسمه أنا- على جندب بن عبد الله البَجلي فسأله عن آية من القرآن فقال: أُحرِّج عليك إن كنت مسلماً لما قمت، قال : أو قال: أن تجالسني, أو نحو هذا القول.

(الشرح)

هذا فيه ذم المرجئة، وأن جندب بن عبد الله الصحابي الجليل لما دخل عليه هذا المرجئ وسأله عن آية قال: أُحرِّج عليك إن كنت مسلماً لما قمت من مجلسي، نهى عن مجالسته، وهذا فيه ذم المرجئة وأن العلماء من الصحابة والتابعين يعيبونهم ويذمونهم وينهون عن مجالستهم.

(المتن)

قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب قال: قال لي سعيد بن جبير غير سائله ولا ذاكراً له شيئاً: لا تجالس فلاناً، وسماه أيضاً فقال: إنه كان يرى هذا الرأي.

(الشرح)

)يرى هذا الرأي) يعني : الإرجاء , فنهى عن مجالسته، فيه دليل على أن العلماء ينهون عن مجالسة المرجئة ويذمونهم.

(المتن)

والحديث في مجانبة الأهواء كثير، ولكنا إنما قصدنا في كتابنا لهؤلاء خاصة.

(الشرح)

يعني: المرجئة , يقول المؤلف : الأحاديث , يعني : الآثار في النهي عن مجالسة أهل البدع وذمهم كثيرة، لكن المقصود في كتابنا هذا النهي عن مجالسة المرجئة خاصة، أما النهي عن بقية أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل البدع فالنصوص والآثار عن الصحابة والتابعين كثيرة , لكن قصدنا النصوص التي فيها الآثار التي فيها النهي عن مجالسة هؤلاء المرجئة خاصة.

(المتن)

وعلى مثل هذا القول كان سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس ومن بعدهم من أرباب العلم وأهل السنة، الذين كانوا مصابيح الأرض وأئمة العلم في دهرهم من أهل العراق والحجاز والشام وغيرها، زارين على أهل البدع كلها، ويرون الإيمان قولاً وعملاً.

(الشرح)

يقول : الأئمة والعلماء من الصحابة والتابعين كلهم يذمون أهل البدع وينهون عن مجالستهم ويعيبونهم، منهم سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس من أهل العلم وأرباب العلم من أهل السنة الذين هم مصابيح الأرض وأئمة العلم من أهل العراق والحجاز، كلهم ينهون عن مجالسة أهل البدع ويذمونهم، ويرون أن الإيمان قول وعمل خلافاً للمرجئة الذين يرون أن الإيمان قول بلا عمل.

(المتن)

باب: الخروج من الإيمان بالمعاصي.

قال أبو عبيد: أما هذا الذي فيه ذكر الذنوب والجرائم؛ فإن الآثار جاءت بالتغليظ على أربعة أنواع: فاثنان منها فيها نفي الإيمان والبراءة من النبي ، والآخران فيها تسمية الكفر وذكر الشرك، وكل نوع من هذه الأربعة تجمع أحاديث ذوات عدة.

(الشرح)

هذا الباب عقدهُ المؤلف - رحمه الله - لبيان النصوص التي فيها أن أصحاب المعاصي يخرجون من الإيمان، وتأويلها عند أهل السنة والجماعة، فجاءت النصوص في الكتاب والسنة بنفي الإيمان عن أهل المعاصي، وهي أربعة أنواع كما ذكر المؤلف: منها النوع الأول: نفي الإيمان؛ مثل حديث: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، فما تأويل ذلك ؟ وفيها حديث: برئ النبي ﷺ من الحالقة والصالقة والشاقة فالحالقة : هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والصالقة : هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والشاقة : هي التي تشق ثوبها عند المصيبة.

وفي بعضها  تسميته بالكفر، يقع كحديث: اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت.

والنوع الرابع: تسميته بالشرك، كحديث: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك. فما تأويلها ؟

والخلاصة أن نفي الإيمان عند أهل السنة والجماعة في قوله: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن المراد به نفي كمال الإيمان، لا أصل الإيمان، فالزاني والسارق وشارب الخمر إذا لم يستحلَّه ليس كافراً، بل هو مؤمن ضعيف الإيمان، ناقص الإيمان؛ والنفي : المراد به نفي كمال الإيمان, لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن المراد : كمال الإيمان , لا أصل الإيمان ؛ لأنه ليس بكافر ؛ لأنه لو كان كافراً لقتل وأقيم عليه الحد، لحديث: من بدل دينه فاقتلوه.

والحديث: برئ النبي ﷺ من الصالقة والشاقة، لا يدل على أنه كافر، بل المراد أنه مرتكب لكبيرة، فالنبي ﷺ تبرأ من فعله.

وما جاء تسميته كفراً فالكفر (16:3) يسمونه عندهم كفراً والمراد كفر أصغر لا يخرج من الملة، فيكون صاحبه ضعيف الإيمان ناقص الإيمان، وكذلك الشرك  من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك يعني: شركاً أصغر لا يخرج من الملة، فتكون النصوص التي فيها بيان أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان على هذه الأنواع الأربعة، قد ينفى عنه الإيمان، وقد يتبرأ منه النبي ﷺ، وقد يوصف بالكفر وقد يوصف بالشرك .

(المتن)

فمن النوع الذي فيه نفي الإيمان: حديث النبي : لا يزني الرجل حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن.

(الشرح)

هذا الحديث ثابت في الصحيحين، أن النبي ﷺ قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، فالمراد بنفي الإيمان نفي كمال الإيمان، لأن إيمانه ضعيف وناقص، لا أنه كافر ، إلا إذا استحل الزنا , إذا رأى أن الزنا حلال والسرقة حلال , استحله واستباحه كفر.

(المتن)

وقوله: ما هو بمؤمن من لا يأمن جاره غوائله.

(الشرح)

هذا رواه المؤلف بالمعنى، وأصل الحديث أن النبي ﷺ قال: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه، والبوائق: الغوائل والشر، والمراد نفي كمال الإيمان, لا يؤمن الإيمان الكامل، فيكون إيمانه ضعيفاً.

(المتن)

وقوله: الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن.

(الشرح)

يعني : يمنع من الفتك , المحشي يقول : إن  الحديث أخرجه أبو داود والحاكم، الإيمان قيد الفتك يعني : يمنع المؤمن من الغدر والخيانة، فمن غدر أو خان يكون إيمانه ضعيفاً.

(المتن)

وقوله: لا يبغض الأنصارَ أحدٌ يؤمن بالله ورسوله.

(الشرح)

كذلك يعني: لا يبغض الأنصار أحد يؤمن بالله, وهو الإيمان الكامل، فيكون إيمانه ضعيفاً إذا أبغض الأنصار , وقد يكون إذا أبغض الأنصار قد يكون منافقا، فإذا أبغضهم لدينهم فهذا يكون كفراً أكبر ، أما إذا أبغضهم لأمور أخرى تتعلق بأشخاصهم فيكون هذا نقصاً في الإيمان.

(المتن)

ومنه قوله: والذي نفسي بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا.

(الشرح)

هذا ثابت في صحيح مسلم، قوله - عليه الصلاة والسلام -: والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، فإذا تباغض المسلمون فيما بينهم ولم يتحابوا دل على ضعف الإيمان ونقصه، (نفي الإيمان : نفي الكمال).

(المتن)

وكذلك قول أبي بكر الصديق : (إياكم والكذب؛ فإنه يجانب الإيمان).

(الشرح)

يعني: يجانب الإيمان الكامل، فإذا كذب ضعف إيمانه، فالمراد نفي كمال الإيمان.

(المتن)

وقول عمر : (لا إيمان لمن لا أمانة له).

(الشرح)

يعني: لا إيمان كامل، وهذا صح مرفوعاً من حديث أنس.

(المتن)

وقول سعد: (كل الخلال يُطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب).

(الشرح)

يعني: الخيانة والكذب ينافيان الإيمان الكامل.

(المتن)

وقول ابن عمر: (لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقاً، ويدع المزاحة في الكذب).

(الشرح)

(لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان), يعني : حقيقة الإيمان الكامل, فإذا لم يدع المراء، ولم يدع المزاح فإنَّ إيمانَهُ ضعيف .
هذا النوع الأول : نفي الإيمان أنا أجبت عنه , والمؤلف سيأتي الجواب عنه .
النوع الثاني :.........

الطالب :النوع الثاني الذي ذكر فيه البراءة ................

وذكر المؤلف - رحمه الله – أن النصوص التي دلت في نفي الإيمان عن أهل المعاصي أربعة أنواع : النوع الأول : نفي الإيمان , والنوع الثاني : البراءة (براءة النبي ﷺمن صاحب هذا العمل).
 (المتن)

ومن النوع الذي فيه البراءة: قول النبي: من غشنا فليس منا.

(الشرح)

وفي لفظ: من غش فليس منا، وهذا دليل على الوعيد الشديد، وليس المراد أنه كافر، لا، بل المراد أنه ضعيف الإيمان، هذا من باب الوعيد يكون مرتكباً لكبيرة , فالغاش مرتكب لكبيرة، وهو ضعيف الإيمان، ولا يكفر إلا إذا استحل الغش ورآه حلالاً , هذا كفر باستحلاله.

(المتن)

وكذلك قوله: ليس منا من حمل السلاح علينا.

(الشرح)

 نعم هذا يدل على ضعف إيمانه لكنه لا يكفر ، بل يكون ضعيف الإيمان، وليس من المؤمنين كاملي الإيمان وإنما هو ضعيف الإيمان .

(المتن)

وكذلك قوله: ليس منا من لم يرحم صغيرنا، في أشياء من هذا القبيل.

(الشرح)

نعم, فإذا لم يرحم الصغير ولم يوقر الكبير دل ذلك على ضعف الإيمان.
( في أشياء ) يعني : في أدلة كثيرة من هذا الباب.

(المتن)

ومن النوع الذي فيه تسمية الكفر.

(الشرح)

هذا النوع الثالث تسمية مرتكب الكبيرة كافراً.

(المتن)

قول النبي ﷺ حين مطروا فقال: أتدرون ما قال ربكم؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما الذي يقول: مطرنا بنجم كذا وكذا كافر بي مؤمن بالكوكب، والذي يقول: هذا رزق الله ورحمته مؤمن بي وكافر بالكوكب.

(الشرح)

الحديث رواه الشيخان من حديث زيد بن خالد الجهني، والمؤلف - رحمه الله - رواه بالمعنى، وذلك أن النبي ﷺ، قال حديث زيد بن خالد الجهني يقول: صلى لنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء من الليل, يعني: على إثر مطر فأقبل علينا بوجهه فقال : أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب، فقوله: (كافر بي) هذا فيه تفصيل: إذا اعتقد أن للنجم تأثيراً في إنزال المطر فهذا كفر أكبر؛ لأنه شرك في الربوبية، جعل المطر مدبرا ،وإن كان يعتقد أن منزل المطر هو الله لكن النجم سبب أو أن الله جرى العادة بنزول المطر عند طلوع النجم فيكون فهذا كفر أصغر لا يخرج من الملة، فيكون صاحبه ضعيف الإيمان .

(المتن)

وقوله : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.

(الشرح)

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض القتال بين المسلمين كفر, لكنه كفر أصغر لا يخرج من الملة، إلا إذا استحله , إذا قاتل أخاه واستحله ورأى أن دم أخيه حلال، فهذا كفر أكبر، لكن إذا صار القتال من أجل الشحناء والعداوة وهو يعلم أن القتال حرام ولا يجوز فهذا كفر أصغر.

(المتن)

وقوله: من قال لصاحبه: كافر، فقد باء به أحدهما.

(الشرح)

وهذا الحديث أيضاً متفق عليه: من قال لصاحبه: يا كافر! فقد باء به أحدهما  يكون كفراً أصغر ,إذا قال شخص : يا كافر , يا منافق , هذا كفر أصغر ينافي كمال الإيمان.

(المتن)

وقوله: من أتى ساحراً أو كاهناً فصدقه بما يقول، أو أتى حائضاً أو امرأة في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد ، أو كفر بما أنزل على محمد .

(الشرح)

وهذا الحديث ثابت أيضاً، وفيه الوعيد الشديد على من صدق ساحراً أو كاهناً أو أتى المرأة في دبرها، وأن هذا من كبائر الذنوب، لكن إذا صدَّق الكاهن فيه تفصيل: فإن صدقه في دعوى علم الغيب فهو كفر وردة؛ لأنه مكذب لله، قال الله : قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ  [النمل:65]، أما إذا صدقه في شيء لا يتعلق بعلم الغيب ,كأن يصدقه مثلاً في معرفة مكان المسروق أو الضالة؛ لأن " الساحر " لأن هذا قد يعلمه بعض الناس , فالساحر قد يخبره القرين , قرين هذا قد يخبر قرين هذا ، فإذا كان شيء مسروق في مكان ما قد يعلمه بعض الناس , لكن إذا كان من  دعوى علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله إذا صدقه في دعوى علم الغيب يكون كفراً وردة، أما إذا صدقه فيما دون ذلك فهذا عليه الوعيد الشديد، وتكون كبيرة وكذلك يكون وإيمانه ضعيف، وكذلك من أتى المرأة في دبرها، فهذا من كبائر الذنوب، كفر أصغر،-نسأل الله العافية - إلا إذا استحله إذا استحله كفر.

(المتن)

وقول عبد الله: سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وبعضهم يرفعه.

(الشرح)

والحديث ثابت مرفوع في صحيح مسلم، سباب المسلم فسوق  فإذا سب المسلم أخاه فهذا فسق، فيكون ضعيف الإيمان، وقتاله كفر , كفرٌ أصغر لا يخرج من الملة, فهو ضعيف الإيمان .

(المتن)

ومن النوع الذي فيه ذكر الشرك:

الشرح :

-هذا النوع الرابع، النوع الأول : نفي الإيمان , والنوع الثاني : البراءة من الفاعل , النوع الثالث : تسميته كفراً والنوع الرابع : تسمية الذنب شركاً.

المتن :

قول النبي : أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر، قيل: يا رسول الله! وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء.

(الشرح)

هذا الحديث ثابت أيضاً، أخرجه الأمام أحمد وغيره، أن النبي ﷺ قال: ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الرياء، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل إليه، فالرياء شرك أصغر، وهو يحبط العمل الذي قام به, إذا صدر من المؤمن.

فالرياء يكون أصغر ويكون أكبر، فالرياء الأصغر : الذي يصدر من المؤمن ,والرياء الأكبر : الذي يصدر من المنافق, الذي دخل في الإسلام رياء ونفاقاً، هذا رياء أكبر , أما الرياء الأصغر فهو الذي يصدر من المؤمن في الصلاة أو في العمل الذي يعمله، فالرياء الذي يصدر من المؤمن الرياء اليسير هذا شرك أصغر لا يخرج من الملة، ويكون إيمانه ضعيفاً.

(المتن)

ومنه قوله: الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل.

(الشرح)

الطيرة شرك يعني : شرك أصغر، والحديث لا بأس بسنده، وما منا إلا يعني: وما منا إلا من يقع في نفسه شيء من ذلك، إلا ويأتيه شيء من ذلك.

ولكن الله يذهبه بالتوكل والاعتماد على الله وتفويض الأمر إليه.

(المتن)

وقول عبد الله في التمائم والتِّوَلَة: إنها من الشرك.

(الشرح)

التمائم: جمع تميمة، وهي ما يعلقه الإنسان لأجل دفع العين، يعلق في رقبة الطفل أو الشخص أو في يده لأجل دفع العين، هذا من الشرك؛ لحديث: إن التمائم والتولة شرك، والتولة: شيءٌ يصنعونه , نوع من السحر وضرب من السحر يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته, وهو ضرب من السحر , وهو من الشرك ,فهذا من الشرك الأصغر,

تعليق التمائم , يعلق في يده أو في رقبته، أو رقبة الإنسان أو الدابة , حرز : وأصلهما خرزات توضع في رقاب الأطفال لدفع العين إذا وضعت في رقبته أو في يده , خيط , أو في رجله لدفع العين أو وضعت في سيارته، بعضهم يضع المصحف كاملاً  يضعه في السيارة مانعاً .
النوع الثاني : البراءة منه , النوع الثالث : وصفه بالكفر , النوع الرابع : وصفه بالشرك.
ذكر المؤلف - رحمه الله – أن الناس تأولوها على أربعة تأويلات, سيذكر تأويلات الناس ثم يتعقَّبُها بالإبطال والرد ,التأويلات تأولها بعض الناس تأويلات باطلة.

(المتن)

فطائفة تذهب إلى كفر النعمة.

(الشرح)

هذا التأويل الأول، اثنتان في الناس هما بهم كفر وهو أن المراد كفر النعمة وهذا تأويل بعض الناس وسيرد عليهم المؤلف رحمه الله.

(المتن)

وثانية تحملها على التغليظ والترهيب.

(الشرح)

هذا التأويل الثاني، فبعض الناس يقول بعض النصوص يسمونها كفر  وليس المراد بها الكفر، وإنما هو من باب التغليظ والترهيب فقط.

(المتن)

وثالثة تجعلها كفر أهل الردة.

(الشرح)

الطائفة الثالثة تقول: (31:5) كفر يخرج من الملة, كفر الردة.

(المتن)

ورابعة تذهبها كلها وتردها.

(الشرح)

هذه الطائفة الرابعة , يعني : تبطل هذه النصوص، إذا كان النصوص يسمونها كفرا ، يضعفونها ويبطلونها ويقولون : إنها غير ثابتة.

(المتن)

فكل هذه الوجوه عندنا مردودة غير مقبولة.

الشرح

كل هذه الوجوه الأربعة كلها مردودة , باطلة , لماذا؟

المتن

لما يدخلها من الخلل والفساد.

(الشرح)

فهذه التأويلات الأربعة كلها باطلة، وسيردها واحداً بعد واحد.

(المتن)

والذي يرد المذهب الأول.

الشرح

ما هو المذهب الأول ؟ أنها كفر النعمة ،حملها على كفر النعمة

المتن

ما نعرفه من كلام العرب ولغاتها، وذلك أنهم لا يُعرِّفون كفران النعم إلا بالجحد لأنعام الله وآلائه، وهو كالمخبر على نفسه بالعدم وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم وقد من الله عليه بالسلامة، وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ونشر المصائب، فهذا الذي تسميه العرب كفراناً إن كان ذلك فيما بينهم وبين الله، أو كان من بعضهم لبعض إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه، ينبئك عن ذلك مقالة النبي للنساء: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير - يعني الزوج - وذلك أن تغضب إحداكن فتقول: ما رأيت منك خيراً قط فهذا ما في كفر النعمة.

(الشرح)
هذا رد المؤلف وإبطاله للتأويل الأول، التأويل الأول : الذين تأولوا الأحاديث التي فيها الكفر بأنه كفر النعمة، كحديث: اثنتان في الناس هما بهم كفر

 ولا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض, يقول كفاراً يعني : كفر النعمة.

يقول المؤلف - رحمه الله- : هذا باطل، والذي يدل على ذلك , اللغة العربية تدل على بطلان هذا الشرك ،بطلان تفسير الكفر بكفر النعمة ؛ لأن المعروف في لغة العرب أن كفران النعمة إنما يكون بالجحد لنعمة الله وآلائه، إنما الذي يقال إنه كافر كفر نعمة هو الجاحد لأنعام الله وآلائه, هذا هو الذي يقال : إنه كافر كفر نعمة.
فهل يقال إن من طعن بالنسب : جاحد لأنعام الله وآلائه ؟!

والجاحد لنعم الله وآلائه : هو الذي يخبر عن نفسه بالعدم وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم وقد مَنَّ الله عليه بالسلامة، هذا يجحد نعمة الله ,فالشخص الغني الذي آتاه الله مالاً وثروة تجده يجحد نعمة الله ويخرج إلى الناس في ثياب مرقعة , مخرقة ؛ ليظهر للناس أنه فقير، وقد يتسول الناس، هذا جاحد منكرٌ لنعمة الله, إن الله يحب إذا أنعم على عبد نعمة أن يرى أثر نعمته عليه، وكذلك مَن منَّ الله عليه بالسلامة والعافية يجعل نفسه مريضاً , كأنه في هيئة مريض، فيربط -- مثلاً- يده ويقول: إن فيها كسراً، وكذا ،ويأتي بعصا يتوكأ عليه، وبعضهم يأتي ولا يصلي - والعياذ بالله- يجلس أمام المصلين، ويكشف بطنه ويكون دَهَنَ بطنه بشيء ينفخ البطن، ويظهره للناس , ويئن أنيناً، وهذا حاصل و واقع بعض الناس، حتى يستميل عطف الناس فيقولوا: هذا مسكين مريض، وما في خلاف , لكن اصطنع , حَزَمَ يده , وتوكأ بالعصا , ودهن بطنَه ,فصار منتفخاً , وإذا خرج الجماعة من المسجد قام سليماً، -والعياذ بالله- هذا جاحد لنعمة السلامة والعافية، هذا الجاحد.

(وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ) ,كون الإنسان يكتم المحاسن وينشر المصائب، هذا جاحد , هذا الذي تسميه العرب كفراناً (إذا كان ذلك فيما بينهم وبين الله، وكذلك : إذا كان من بعضهم البعض , إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه)، فإذا جحد الإنسان مثلاً: المعروف الذي عليه لجاره أو لأخيه , يقال: إنه هذا كَفَرَ النعمة.

(وينبئك عن ذلك) أي: يدلك على ذلك قول النبي ﷺ للنساء: تصدقن يا معشر النساء! فإنكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة فقالت: يا رسول الله! ما لنا أكثر أهل النار؟! قال: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير والعشير: الزوج، يعني : تجحد النعمة، وذلك أن المرأة التي تجحد معروف الزوج , تجده يُحسِن إليها طول الدهر، فإذا وجدت شيئاً , بعض الشيء قالت: ما رأيت منك خيراً قط هذا جحْد , جحدَتِ النعمة.
فالمؤلف يقول : هذا دليلٌ على الجحود , والحديث ثابتٌ في الصحيحين.

فتفسير هذه النصوص بكفر النعمة يقول المؤلف : باطل لغة وشرعاً، فأما اللغة: فإنه لا يفسر كفران النعمة إلا بجحود النعمة، وكذلك الناس فيما بينهم، وكذلك الحديث يدل على ذلك في قوله: وتكفرن العشير، فدل على أن تفسير هذه النصوص بكفران النعمة باطل من جهة اللغة، وباطل من جهة الشرع, شرعاً ولغة.

(المتن)

وأما القول الثاني :

الشرح:

تأويل هذه الطائفة بأنه على التغليظ والترهيب.

(المتن)

وأما القول الثاني :المحمول على التغليظ فمن أفظع ما تُؤُوِّل على رسول الله وأصحابه أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيداً لا حقيقة له، وهذا يَؤُوْل إلى إبطال العقاب؛ لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها كان ممكناً في العقوبات كلها.

(الشرح)

يقول : تأويل هذه الطائفة بأنه على التغليظ والترهيب هذا أمرٌ فظيع ؛لأنه يتأول نصوص النبي ﷺ وأصحابه التي فيها الوعيد الشديد والتنفير من هذا العمل , يجعله هذا وعيداً لا حقيقة له، وبالتالي يؤدي إلى إبطال العقاب، وأنه لا عقاب عليه , وإذا أمكن هذا في واحد من النصوص كان ممكناً في جميع النصوص التي فيها الوعيد، فبطل هذا التأويل.

(المتن)

وأما الثالث :

(الشرح)

الثالث الذي تأول الكفر بأنه كفر ردة كفر أكبر يخرج من الملة.

(المتن)

 الذي بلغ كفر الردة نفسها فهو شر من الذي قبله؛ لأنه مذهب الخوارج الذين مرقوا من الدين بالتأويل، فكفرَّوا الناس بصغار الذنوب وكبارها، وقد علمتَ ما وصفهم رسول الله من المروق، وما أذن فيهم من سفك دمائهم.

(الشرح)

يعني يقول : إن  التأويل الثالث - وهو القول بأنها كفر الردة – هذا يوافق مذهب الخوارج , والخوارج مذهبهم :يكفِّرون الناس بالمعاصي فيقولون: الزاني كافر، والسارق كافر، والعاق لوالديه كافر، وقاطع الرحم كافر، والمرابي كافر، وشاهد الزور كافر، والمرتشي كافر، وهذا من أبطل الباطل، فالمعاصي ليست كفراً، المعاصي تضعف الإيمان وتنقص الإيمان، ليست كفراً, إنما الكفر إذا أتى ناقضاً من نواقض الإسلام أو شركاً في العبادة هذا كُفر ، أما المعاصي فإنها ليست كفراً، فالذي يتأولها على أنها كفر وردة وافق الخوارج، والخوارج مذهبهم باطل، ووصفهم النبي ﷺ بأنهم مرقوا من الدين , قال: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وفي اللفظ الآخر: يخرجون من الإسلام ثم لا يعودون إليه، وفي لفظ:  من وجدهم أو من عاينهم فليقتلهم؛ فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم، وفي لفظ: لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد.

فكيف يتأول هذا على قول يوافق مذهب الخوارج، وقد وصفهم الرسول ﷺ بالمروق من الدين وأذن في سفك دمائهم؟! من لقيَهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلَهم عند الله.

(المتن)

 ثم قد وجدنا الله - تبارك وتعالى - يكذب مقالتهم، وذلك أنه حكم في السارق بقطع اليد وفي الزاني والقاذف بالجلد، ولو كان الذنب يُكفِّر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا القتل؛ لأن رسول الله قال: مَن بدَّل دينه فاقتلوه أفلا ترى أنهم لو كانوا كفاراً لما كانت عقوباتهم القطع والجلد؟! وكذلك قول الله فيمن قتل مظلوماً: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء:33] فلو كان القتل كفراً ما كان للولي عفو ولا أخذ دية ولزمه القتل.

(الشرح)

يقول : أيضاً مما يبطل هذا التأويل وهو تأويل النصوص بأنها كفر أكبر , وهو مذهب الخوارج  , نصوصٌ دلت على أن العصاة ليسوا كفاراً؛ وذلك أن الله أوجب الحدود على العصاة، فالله - تبارك وتعالى - حكم على السارق بقطع اليد فقال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، ولو كان كافراً لوجب قتله ولم يقطع يده، لقول النبي ﷺ: من بدل دينه فاقتلوه، والزاني بالجلد : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ  [النور:2]، إذا كان بكراً، والقاذف يجلد ثمانين جلدة، وشارب الخمر يجلد، ولو كانوا كفاراً لوجب قتلهم، ولهذا قال المؤلف: (ولو كان الذنب يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا القتل)؛ لأن المرتد ما هي عقوبته ؟ القتل؛ لأن الرسول ﷺ قال: من بدل دينه فاقتلوه.

ثم قال المؤلف - رحمه الله - : (أفلا ترى أنهم لو كانوا كفاراً لما كانت عقوباتهم القطع والجلد) يعني : وإنما تكون عقوبتهم القتل.

ومن الأدلة -أيضاً- قول الله فيمن قُتِل مظلوماً: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء:33]، يعني: جُعل له الخِيَرَة , وليُّ القتيل له الخيرة بين أن يقتل ... يعني : إذا قتل شخص شخصاً عدواناً وظلماً يُخيَّر أولياء القتيل بين أن يقتلوه قصاصاً وبين أن يعفوا بالدية وبين أن يعفوا مجاناً، ولو كان كافراً لما كان هناك عفو، ولوجب قتله، ولهذا قال المؤلف: (فلو كان القتل كفراً ما كان للولي عفو ولا أخذ دية ولزمه القتل)، فدل على بطلان هذا المذهب، وهو تأويل النصوص على أنها كفر أكبر، اثنتان في الناس هما بهم كفر فإذا طعن في النسب أو ناح على الميت فهذا باطل وكبيرة وكفر أصغر، لكنه لا يخرج من الملة بل يضعف الإيمان.

(المتن)

وأما القول الرابع....

(الشرح)

 التأويل الرابع ما هو ؟ تُذهبها كلها وتردها , يعني : إبطال ،إبطال هذه النصوص , تقول : هذه النصوص غير ثابتة ضعيفة كذا يبطلونها .

(المتن)

الذي فيه تضعيف هذه الآثار فليس مذهب من يعتد بقوله، فلا يلتفت إليه، إنما هو احتجاج أهل الأهواء والبدع الذين قصر علمهم عن الاتساع، وعييت أذهانهم عن وجوهها، فلم يجدوا شيئاً أهون عليهم من أن يقولوا: متناقضة، فأبطلوها كلها.

(الشرح)

هذا رد التأويل الرابع، وهو أنهم أضعفوا هذه الآثار وردوها، بعضهم يقول: هذه الآثار ثابتة، وبعضهم يقول: أخبار آحاد لا يحتج بها.

فالمؤلف - رحمه الله - يقول: إن هذا المذهب ليس مذهباً يعتد بقوله من أهل العلم والدين، فلا يلتفت إليه، وإنما هذا مذهب أهل الأهواء وأهل البدع الذين قصُر علمهم عن فهم هذه النصوص، وعييت أذهانهم عن وجوهها وفهم معناها، فلما كانوا كذلك اختاروا أن يردوها وأن يبطلوها وأن يقولوا: إنها متناقضة، أو: إنها أخبار آحاد، أو: إنها غير ثابتة، فأبطلوها؛ وذلك بسبب مرض في قلوبهم وضعف في أفهامهم، فلهذا ردوا هذه الأحاديث وأبطلوها.

بعد أن ردَّ المؤلف - رحمه الله - هذه الوجوه كلها سيُبيِّن الآن معنى هذه النصوص, ما المراد بهذه النصوص؟ هذه النصوص التي فيها نفي الإيمان عن المعاصي أو البراءة منهم أو وصفهم بالكفر أو بالشرك, ما هو المعنى الصحيح لهذه النصوص؟ سيُبيِّنه المؤلف رحمه الله.

(المتن)

وإن الذي عندنا في هذا الباب كله: أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيماناً، ولا توجب كفراً، ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله, واشترطه عليهم في مواضع من كتابه.

(الشرح)

يقول المؤلف - رحمه الله - : تأويل هذه النصوص عندنا التي فيها نفي الإيمان عن العصاة: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن أو وصفه بالبراءة: برئ النبي ﷺ من الصالقة والحالقة والشاقة، أو وصفه بالكفر: اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ...، أو وصفه بالشرك: من حلف بغير الله فقد أشرك يقول: معناها عندنا: أن هذه معاصٍ وذنوب وكبائر، فالزنا والسرقة والطعن في النسب والنياحة والحلف بغير الله هذه معاص وذنوب لا تزيل الإيمان بالمرة عن صاحبها، ولا توجب الكفر الأكبر الذي يخرج من الملة، ولكنها تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه ، تنفي كمال الإيمان وإخلاصه وحقيقته, فيكون صاحبها ضعيف الإيمان، معه أصل الإيمان وليس معه كماله , فهي تنفي حقيقة الإيمان وإخلاصه الذي نعت الله به أهله , (واشترطه عليهم في مواضع من كتابه) فالله اشترط في المؤمن الكامل أنه يؤدي الواجبات، وينتهي عن المحرمات، فالذي يقصر في الواجبات ويفعل المحرمات ما أتى بالشرط، فيكون ضعيف الإيمان، وناقص الإيمان, هذا هو الصواب الذي ذكره المؤلف – رحمه الله -  إذاً: الصواب في تأويل هذه النصوص: أن المراد بالنفي في هذه النصوص نفي كمال الإيمان وحقيقته فيقال في العاصي: ليس بمؤمن حقاً، أو يقال : مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ليس بمؤمنٍ حقا ,تنفى عنه حقيقة الإيمان , ينفى عنه كمال الإيمان، وإخلاصه الذي نعت الله به أهله.

ثم يذكر المؤلف - رحمه الله - نصوصاً فيها بيان المؤمنين الكُمَّل الذين أدَّوا الواجبات وانتهوا عن المحرمات, فدلَّ على أن الذي لا يأتي بهذه الشروط لا يكون كامل الإيمان, بل يكون ضعيف الإيمان.

(المتن)

في مواضع من كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:111] إلى قوله: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112].

(الشرح)

هذه الآيات فيها بيان أوصاف المؤمنين الكُمَّل، هذه أوصافُهم التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]. هم المؤمنون كاملو الإيمان , فالذي لا يحفظ حدود الله ضعيف الإيمان ,الذي ما يتصف بهذه الأوصاف يكون ناقص الإيمان، ضعيف الإيمان، فهؤلاء العصاة إيمانهم ضعيف , ما أتوا بهذه الشروط.

(المتن)

وقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1 - 2] إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ۝ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ۝ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:9 - 11].

(الشرح)

هذه الآية فيها وصف للمؤمنين الكُمَّل قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ يعني: الذين كمل إيمانهم بهذه الصفات، ما هي صفاتهم ؟ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ۝ والَّذِينَ هُمْ عَنِ الَّلَغْوِ مُعْرِضُونَ ۝ والَّذِينَ هُمْ لِلَّزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ۝ والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۝ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِم أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ ۝ فمنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ۝ والَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ   ۝ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ  [المؤمنون:2 - 9] هؤلاء هم المؤمنون الكُمَّل , أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ۝ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10 - 11].
أمّا من لم يتصف بهذه الصفات فيكون ضعيف الإيمان , الذي لا يحفظ فرجه يكون ضعيف الإيمان ,الذي يخون في الأمانة يكون ضعيف الإيمان، فهذه أوصاف المؤمنين الكمل.

(المتن)

وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۝ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2 - 4].

(الشرح)

هذه أوصاف المؤمنين الكُمَّل، إنما المؤمنون يعني: كُمَّل الإيمان هذه أوصافهم الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، توجل القلوب عند ذكر الله وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، زيادة الإيمان عند ذكر الله وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، أي: يتوكلون على الله ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4]، أما من لم يتصف بهذه الصفات فليس بمؤمن حقاً، بل هو ضعيف الإيمان، ولهذا وعدهم الله بالثواب العظيم قال: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:4]، لكن هذا الوعد ليس لضعيف الإيمان، ضعيف الإيمان متوعد بالنار كالزاني والسارق وشارب الخمر متوعد بالنار ، وهذا موعود بالجنة , فرقٌ بينهما , فالمؤمن كامل الإيمان موعود بالجنة والمؤمن ضعيف الإيمان موعود بالنار , إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278 - 279].

فرق ٌبينهما , فالمرابي وآكل مال اليتيم هذا موعود بالنار، وهذا موعود بالحرب، والمؤمن كامل الإيمان موعود بالجنة، فرق بينهما، هذا كامل الإيمان موعود بالجنة، وهذا ضعيف الإيمان موعود بالنار، لكن العاصي إذا دخل النار لا يُخلَّد, يُعذَّبُ على قدر معاصيه ثم يخرجه الله برحمته أو بشفاعة الشافعين على حسب جرائمه ما دام مات على التوحيد والإيمان، أما من مات على الشرك والكفر فهذا لا حيلة فيه - نسأل الله السلامة - فهذا مخلد.

(المتن)

قال أبو عبيد: فهذه الآيات التي شَرَحَتْ وأبانت شرائعَهُ المفروضةَ على أهله ونفت عنه المعاصيَ كلها، ثم فسرته السنة بالأحاديث التي فيها خلال الإيمان في الباب الذي في صدر هذا الكتاب، فلما خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان المنعوت بغيرها قيل: ليس هذا من الشرائط التي أخذها الله على المؤمنين ولا الأمارات التي يعرف بها أنه الإيمان، فنفت عنهم حينئذ حقيقته ولم يَزُل عنهم اسمه.

(الشرح)

هذا كلام المؤلف ( قال أبو عبيد ) وهو المؤلف القاسم بن سلَّام , تعقيب على هذه الآيات, قال: (فهذه الآيات التي شَرَحَتْ وأبانت شرائعَهُ المفروضةَ على أهله ونفت عنه المعاصيَ كلها) ,هذه الآيات التي سبقت إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ... قد أفلح المؤمنون... إنما المؤمنون... هذه شرحت وبينت شرائع الإسلام المفروضة على أهله، ما هي شرائع الإسلام؟ التائبون العابدون الحامدون..., قد أفلح المؤمنون  ۝ الذين هم في صلاتهم خاشعون ... , إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله ... الذين يقيمون الصلاة ... هذه شرائعه , فهذه الآيات شرحت وأبانت شرائعه المفروضة على أهله ونفت عنه المعاصي كلها، ثم جاءت السنة ففسرته بالأحاديث التي فيها خلال الإيمان، يعني: أوصاف أهل الإيمان في الباب الذي في صدر هذا الكتاب، الباب الأول , ذكر فيها أوصاف المؤمنين ، في الأحاديث التي  ذكرت أوصاف المؤمنين وأنهم يقومون بما أوجب الله عليهم، ويؤدون حق الجار، ويبرون والديهم، وينتهون عن المعاصي، ولا يغشون ولا يرابون ولا يخادعون، فلما خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان المنعوت بغيرها ،لما جاءت المعاصي خالطت أصل الإيمان صارت هذه المعاصي أضعفت هذا الإيمان وصار ضعيفاً، فصار اختل الشرط ،اختلت الشروط التي أخذها الله على المؤمنين ونقصت العلامات التي يربو بها أهل الإيمان، لم يؤدوا هذه الشروط ,فالله تعالى اشترط: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]، وهو خان الأمانة وما أدى الشرط، نقص الشرط وقال: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5]، ما حفظ فرجه ,زنى، فلما خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان قيل: ليس هذا من الشرائط التي أخذها الله على المؤمنين، اختلت الشروط التي أخذها الله على المؤمنين، نقصت العلامات التي يعرف بها المؤمنون الكمل الإيمان، فلذلك انتفت عنهم حقيقة الإيمان وكماله، ولم يزل عنهم اسمه، فالاسم باق , والكمال والحقيقة منفي, هذه الخلاصة : انتفت حينئذٍ عنهم حقيقته ولم يَزُلْ عنهم اسمه.

(المتن)

فإن قال قائل: كيف يجوز أن يقال: ليس بمؤمن واسم الإيمان غير زائل عنه؟ قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله: ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً، وإنما وقع معناهم هنا على نفي التجويد لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل في الإتقان، حتى تكلموا به فيما هو أكثر من هذا، وذلك كرجل يعق أباه ويبلغ منه الأذى فيقال: ما هو بولد، وهم يعلمون أنه ابن صلبه، ثم يقال مثله في الأخ والزوجة والمملوك، وإنما مذهبهم في هذا المزايلة الواجبة عليهم من الطاعة والبر، وأما النكاح والرق والأنساب فعلى ما كانت عليه أماكنها وأسماؤها، فكذلك هذه الذنوب التي ينفى بها الإيمان إنما أحبطت الحقائق منه للشرائع التي هي من صفاته، فأما الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك، ولا يقال لهم إلا مؤمنون وبه الحكم عليهم.

(الشرح)

هذا اعتراض من المؤلف وجواب, ذكر اعتراضاً وجوابه , الاعتراض يقول: إنك تأولت النصوص التي هي نفي الإيمان عن العصاة فكيف تقول: إنه ليس بمؤمن واسم الإيمان باق عليه؟ هذا تناقض , اعتراض تقول : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن تقول : إن هذا نفي كمال الإيمان وهو باق معهم الإيمان , أليس هذا تناقُضاً؟ تقول : ليس بمؤمن وهو مؤمن ،واسم الإيمان باق عليه , واضحٌ الاعتراض ؟ (فإن قال قائل : كيف يجوز أن يقال : ليس بمؤمن واسم الإيمان غير زائل عنه؟) أجاب المؤلف - رحمه الله - : ما في  تناقض؛ القاعدة : شرط التناقض: أن تكون الجهة واحدة، وأن يرد النفي والإثبات على شيء واحد، أما إذا كانت الجهة منفكة فلا تناقض، واضحٌ هذا ؟! متى يكون التناقض ؟ إذا كان النفي والإثبات يرد على جهة واحدة , أما إذا كانت الجهة منفكة فلا يكون تناقض مثال ذلك: الله تعالى أثبت الإيمان للمنافقين ونفاه عنهم هل هذا تناقض؟ قال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، إذاً : أثبت لهم الإيمان ونفى عنهم الإيمان , فهل هذا تناقض ؟ معاذ الله أن يكون تناقضاً؛ لأن شرط التناقض: أن تكون الجهة واحدة، وهنا الجهة منفكة، فإثبات الإيمان يرجع إلى اللسان، ونفي الإيمان يرجع إلى القلب،

إذاً : الجهة واحدة أو منفكة ؟ منفكة , لو كان الإثبات والنفي يرد على اللسان لقيل: هذا تناقض، أو كان الإيمان والنفي يرد على القلب كان تناقضاً، أما إذا كان إثبات الإيمان من جهة ونفيه من جهة صارت الجهة منفكة. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ هذا باللسان, أثبت الإيمان باللسان, وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بالقلب, فأثبت الإيمان باللسان ونفى الإيمان عن القلب، فصارت الجهة منفكة فلا يكون تناقضاً، شرط التناقض: أن يرد النفي والإثبات على شيء واحد , وكذلك هنا فيقال للعاصي: ليس بمؤمن وهو مؤمن، كيف هذا ؟ العاصي ليس بمؤمن: النفي يرد على كمال الإيمان، والإثبات يرد على أصل الإيمان، فهو قال: ليس بمؤمن ,يعني: جهة كمال الإيمان النفي، وهو مؤمن: هذا يرجع إلى أصل الإيمان.
والمؤلف ورده اعتراض, فإن قال قائل: كيف يجوز أن يقال : ليس بمؤمن واسم الإيمان غير زائل عنه؟

قال المؤلف - رحمه الله - : الجهة منفكة، فنفي الإيمان يرجع إلى الكمال، وإثباته يرجع إلى الأصل والاسم.

قال :(قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته) يقول أيضاً: إن لغة العرب تدل على هذا، وهو واسع، وذلك أنه يُنفَى العمل عن الشخص إذا كان لا يعمل عملاً حقيقياً، وإن كان عمِل , إنسان يعمل عملاً ولا ينصح فيه بل يخون في هذا العمل يُنفَى عنه هذا العمل فيقال: فلان ما عمل، يعني: ما عمل عملاً متقناً، وإن كان عمل عملاً ناقصاً وضعيفاً, فهذا معروف في كلام العرب (قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته) ثم مثَّل فقال : (ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله: ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً) فإذا كان العامل لا يحسن الصنعة ولا يتقنها ينفى عنه , فيقال: ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً،هل المراد أنه ما عمل شيئاً وإلا  المراد أنه ما عمل شيئاً جيداً ؟  ما عمل شيئاً جيداً، ولهذا قال: (وإنما وقع معناهم هاهنا على نفي التجويد) ,وإيش التجويد ؟ الصنعة الجيدة النافعة ,ما عملت ,يعني : ما عملت عملاً جيداً، لا على الصنعة نفسها ,لا لأنك ما عملت ،فقد يعمل الصانع كالنجار باباً من خشب لكنه ليس على المطلوب، بل باب ضعيف من خشب رديء مخلخل وغير مثبت. صنع وإلا ما صنع ؟ صنع لكن صنعه غير جيد فيقال: ما صنعت شيئاً يعني : جيداً، وإن كان صنع صنعاً رديئاً، فأصل الصنعة ثابتة، والتجويد منفي عنه، فكذلك المؤمن العاصي يُنفَى عنه كمال الإيمان، ويثبت له أصل الإيمان واسمه، ولهذا قال المؤلف: (وإنما وقع معناهم هاهنا على نفي التجويد لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل بالإتقان).

فالصانع الذي ما يتقن صنعته يكون اسمه عاملاً، وغير عامل بالإتقان والجودة، فينفى عنه العمل من جهة الإتقان والجودة، ويثبت له العمل من جهة أصل الصنعة وأصل العمل، فكذلك المؤمن العاصي يثبت له أصل الإيمان واسمه، ويُنفَى عنه كماله وحقيقته.

يقول المؤلف : (حتى تكلموا به فيما هو أكثر من هذا، وذلك كرجل يعق أباه ويبلغ منه الأذى فيقال: ما هو بولد، وهم يعلمون أنه ابنه من صلبه) فالعاق الذي يؤذي أباه يقال : ليس بولد , هو معلوم أنه ابنه من صلبه , لكن ليس بولد بارٍّ ,وإنما ولد عاق، فهو ابن؛ لأنه ابنه من صلبه، لكنه ليس بابن بار، فيقال: ليس بولد , هل المعنى أنه ليس بابن له ؟ لا ,بل المراد ليس بولد بار ولكنه ولد عاق.

وكذلك: (مثله الأخ والزوج والمملوك) ,الأخ إذا كان جافياً ولا يحسن إلى أخيه، يقال : هذا ليس بأخ بار، وكذلك الزوجة ليست بزوجة إذا كانت غير مطيعة لزوجها، والعبد ليس بمملوك.

يقول المؤلف - رحمه الله -: انظروا (وإنما مذهبهم في هذا المزايلة من الأعمال الواجبة عليهم من الطاعة والبر) يعني: مقصودهم بالنفي: أنه زال عنه العمل الواجب من الطاعة والبر.

(وأما النكاح والرق والأنساب فعلى ما كانت عليه أماكنها وأسماؤها) فالزوجة يقال: ليست بزوجة : ليست بزوجة مطيعة، لكن الواقع النكاح باق وإلا منفسخ ؟ باقٍ، ولو كانت ناشزاً ولو كانت غير مطيعة، فالنكاح باق على اسمه ,ولكن نفي عنها الطاعة، وكذلك العبد يقال: ليس بمملوك، ليس بعبد جيد؛ لأنه يعصي سيده ويؤذيه، لكن الرق باق أو انفسخ ملكه ؟ باق.

وكذلك الأنساب يقال: هذا الابن العاق ما هو بولد , النسب باق وإلا غير باق؟ النسب باق , لكن نفي الكمال.

وهذا قال : (وأما النكاح والرق والأنساب فعلى ما كانت عليه أماكنها وأسماؤها)

فكذلك هذه الذنوب التي ينفى بها الإيمان،  فهذه الذنوب ينفى بها كمال الإيمان، أما اسم الإيمان فهو باقٍ.

ولهذا قال: (إنما أحبطت الحقائق منه للشرائع التي هي من صفاته) إنما أحبطت ، ما هي ؟  الذنوب والمعاصي أحبطت حقيقة الإيمان وكماله للشرائع التي هي من صفاته.

لكن(فأما الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك) فالاسم باق، ولكن الذي نفي : الحقيقة.

(ولا يقال لهم إلا مؤمنون) العصاة لا يقال لهم إلا مؤمنون.

(وبه الحكم عليهم) ويحكم عليهم بأنهم مؤمنون، لكن النفي إنما هو للكمال.

(المتن)

وقد وجدنا مع هذا شواهد لقولنا من التنزيل والسنة، فأما التنزيل فقول الله جل ثناؤه في أهل الكتاب حين قال: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187].

(الشرح)

يعني يقول: وجدنا أدلة تدل على هذا التأويل الذي تأولنا به النصوص من القرآن العزيز ومن السنة المطهرة ، تدل على أنه ينفى عن الشيء حقيقته وكماله وإن كان الاسم باقياً، فمن ذلك قول الله - جل ثناؤه - في أهل الكتاب اليهود والنصارى , حين قال: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ  [آل عمران:187]، فالله تعالى أخذ على أهل الكتاب الميثاق أن يبينوا ولا يكتموا، لكن كتموه ونبذوه، هل زال عنهم اسم الكتاب أو ما زال عنهم ؟ باق , هم أهل الكتاب , الأحكام باقية ,أهل الكتاب تؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم ولو كانوا ما قاموا بالعمل فالاسم باق، لكن نفى عنهم الكمال, كما سيبين المؤلف.

(المتن)

قال أبو عبيد: حدثنا الأشجعي عن مالك بن مغول عن الشعبي في هذه الآية قال: أما إنه كان بين أيديهم ولكن نبذوا العمل به، ثم أحل الله لنا ذبائحهم، ونكاح نسائهم، فحكم لهم بحكم الكتاب إذ كانوا به مقرين، وله منتحلين، فهم بالأحكام والأسماء في الكتاب داخلون، وهم لها بالحقائق مفارقون، فهذا ما في القرآن.

(الشرح)

يقول: إن أهل الكتاب سماهم الله أهل الكتاب وهم لم يعملوا بالكتاب بل نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً، ومع ذلك ما زال عنهم اسم أهل الكتاب وهم نبذوا العمل ولم يعملوا به وهو بين أيديهم، ولم تزل الأحكام باقية فهم أهل الكتاب، فأحل الله لنا الذبائح وكذلك النساء يجوز للإنسان ان يتزوج المرأة الكتابية اليهودية والنصرانية إذا كانت محصنة , وتجوز ذبيحته  إذا جهلتَ الحال ، أما إذا ذبحت باسم المسيح فلا تأكل، أو ذبحت بالخنق إذا جهلت تأكل, قال الله : وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة:5]،  ولو كان لا يعمل بكتابه : ولو كان لا يعمل بكتابه , عاصٍ, ومن أهل الكتاب عاص , لكن الأحكام باقية مثل المؤمن العاصي, كما أن المؤمن العاصي يسمى مؤمناً وهو عاصٍ، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى  ولو كانوا عصاة يسمون أهل الكتاب، فالأسماء باقية والأحكام باقية، ولهذا قال المؤلف: (كتاب الله بين أيديهم ونبذوا العمل به) ثم بقيت الأحكام (ثم أحل الله لنا ذبائحهم ونكاح نسائهم، فحكم لهم بحكم الكتاب إذا كانوا به مقرين) أي: مقرين بكتابه , (وله منتحلين) , : ينتسبون إلى الكتاب ,ينتسبون إلى اليهودية والنصرانية.

(فهم بالأحكام والأسماء في الكتاب داخلون) فأحكامهم وأسماؤهم داخلة في مسمى أهل الكتاب، (وهم لها بالحقائق مفارقون) في الحقيقة مفارقون ,ما عملوا بكتابه، فهم حقيقة مفارقون ولكن حكماً واسماً داخلون , فكذلك المؤمن العاصي حقيقة الإيمان منفية عنه، واسم الإيمان والأحكام كلها ثابتة له, هذا دليل من الكتاب.

(المتن)

وأما السنة: فحديث النبي الذي يُحَدِّثُ به رفاعة في الأعرابي الذي صلى صلاة فخففها، فقال له رسول الله : ارجع فَصَلِّ فإنَّكَ لم تُصَلِّ، حتى فعلها مراراً كل ذلك يقول: فَصَلِّ، وهو قد رآه يُصلِّيها، أفلست ترى أنه مُصَلٍّ بالاسم، وغير مُصَلٍّ بالحقيقة؟

(الشرح)

الدليل من السنة هذا : حديث رفاعة وهو يسمى عند العلماء بحديث الأعرابي ويسمى حديث المسيء، الأعرابي المسيء وهو حديث رواه الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما، وذلك أن النبي ﷺ كان جالساً في المسجد فدخل رجل فصلى ركعتين في المسجد ، ثم جاء وسلم على النبي ﷺ- فقال عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع الرجل فصلى مثل صلاته الأولى، ثم جاء فسلم على النبي ﷺ فقال: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل ثم رجع الرجل فصلى مثل صلاته الأولى، نقرها نقر الغراب لا يتم الركوع ولا السجود، ينقرها نقر الغراب، حتى فعل هذا ثلاث مرات، وفي كل مرة يقول النبي ﷺ: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل فقال الرجل في المرة الثالثة أو الرابعة : والذي بعثك بالحق نبياً لا أحسن غير هذا، فعلمني، فعلمه وقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تعتدل جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تعتدل جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها فأرشده إلى الطمأنينة.

وفيها من الفوائد أن الإنسان إذا صلى يُسلِّم , صلى وسلم مرة ثانية , فالصلاة فاصلة , ثم رجع فصلى وسلم ورد عليه السلام ولم ينكر عليه  .
والشاهد من الحديث: أن الرسول ﷺ قال: ارجع فصل فإنك لم تصل، وجه الدلالة: أن النبي ﷺ قال: فإنك لم تصل، نفى عنه الصلاة ولكنه مصل، هو صلى وإلا  لا ؟ قال في الحديث: جاء رجل أعرابي فصلى فقال له النبي ﷺ: ارجع فصل فإنك لم تصلرجع فصل فإنك لم تصل، فكيف يقول : ( فصلى ) و النبي ﷺ يقول: فإنك لم تصل؟ أثبت الصلاة ونفاها عنه، هل هذا تناقض ؟ لا؛ لأن الجهة منفكة، مثلما سبق , شرط التناقض أن يكون على جهة , قال : ( جاء رجل فصلى ) , يعني صلاته صورية,بالاسم ,وقال النبي ﷺ: لم تُصلِّ, يعني : الصلاة الحقيقية ؛ لأن ما فيها طمأنينة ,فهذا الرجل ثبت له اسم الصلاة ونُفي عنه الصلاة , ما هو الشيء الذي أُثبت له ؟ وما هو الشيء الذي نُفي عنه ؟ الشيء الذي أُثْبِتَ له: الصلاة الصورية، صورة قام وصلى ركعة أو ركعتين , يركع ويسجد : هذه الصلاة صورية ، والذي نفي عنه: الصلاة الحقيقية الشرعية؛ لأن ما فيها طمأنينة، باطلة, فهذا الرجل بقي له الاسم، ونُفيَ عنه الحقيقة، فهو مثل المؤمن العاصي له الاسم والأصل، ويُنفَى عنه الحقيقة والكمال.
واضحٌ هذا؟!
ولهذا قال المؤلف - رحمه الله - : (وأما السنة: فحديث النبي ﷺ الذي يُحَدِّثُ به رفاعة في الأعرابي الذي صلى صلاة فخففها، فقال له رسول الله ﷺ: ارجع فَصَلِّ فإنَّكَ لم تُصَلِّ،  حتى فعلها مراراً كل ذلك يقول: فَصَلِّ، وهو قد رآه يُصلِّيها، أفلست ترى أنه مُصَلٍّ بالاسم) يعني : صلاة صورية  (وغير مُصَلٍّ بالحقيقة؟) ؛ لأنها هذه ليس فيها طمأنينة.

(المتن)

وكذلك في المرأة العاصية لزوجها، والعبد الآبق، والمصلي بالقوم الكارهين له إنها غير مقبولة.

(الشرح)

فقد جاء في الحديث: لا صلاة ، المرأة العاصية ،والعبد الآبق من سيده، جاء في الحديث في ما معناه : ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: إمام أمَّ قوماً وهم له كارهون، وكذلك جاء أيضا في نفي قبول صلاة العبد الآبق وأنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، وكذلك المرأة العاصية لزوجها لا تقبل صلاتها.

فهل معنى ذلك أن صلاتهم باطلة، وأنهم كفار؟ لا، فالنفي إنما هو للكمال والحقيقة لعصيانه، ولكن الصلاة صحيحة، والمنفي إنما هو الكمال لأجل عصيانه، فكذلك المؤمن العاصي يُنفَى عنه الكمال ويثبت له الأصل والاسم.

 (المتن)

ومنه حديث عبد الله بن عمر في شارب الخمر: أنه لا تقبل له صلاة أربعين ليلة.

(الشرح)

وهذا الحديث ، لا تقبل له صلاة أربعين ليلة ،شارب الخمر فنفيت عنه الصلاة ، لا تقبل له صلاة يعني كاملة ،صلاته ليست كامله وإن كانت صلاته صحيحة ، لا يأمر بإعادتها ، فصلاته صحيحة لا يؤمر بإعادتها لكن نفي عنه الكمال، وليس ثوابها مثل ثواب المؤمن المطيع، فكذلك المؤمن العاصي ينفى عنه كمال الإيمان، ويثبت له أصله واسمه.

(المتن)

وقول علي : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.

(الشرح)

.يقول هذا موقوف على علي ليس مرفوعاً، لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ،يعني لا صلاة كاملة ، ولو صلى في غير المسجد صحت صلاته إلا أنه عاص، وثوابها ليس كثواب من صلى في المسجد وكذلك يكون آثماً؛ لأن النصوص دلت على أنه لا بد للرجل أن يصلي في الجماعة إلا من عذر، فهذا المنفي للكمال والصلاة ثابته له ، والصلاة صحيحة وثابته ،ولكن ينفى عنه الكمال وعليه الإثم إذا كان يستطيع الجماعة.

(المتن)

وحديث عمر  في المقدم ثَقْلَهُ ليلة النَّفْر أنه لا حج له.

(الشرح)

هذا يحتاج إلى يعني مراجعة الحديث ،ما ذكر المؤلف تخريجه ، قال :في المقدم ثقله ليلة النفر أنه لا حج له. يحتاج إلى تخريج الحديث ، وعلى فرض ثبوته يكون يعني: لا حج له كاملاً؛ لأنه ترك واجبا من واجبات الحج ،  قال من يتقدم ليلة النفر - يعني: ليلة العيد - ولا يبيت بمزدلفة فقد ترك واجباً من واجبات الحج، حجه صحيح لكن عليه دم شاة يذبحها ولا أعرف حديثا ثابتا بأنه لا حج له ، لكن لو ثبت فالمراد لاحج له كاملا نفي الكمال يعني ، هذا المراد للمؤلف لو صح الحديث .

المتن

وقال حذيفة: مَن تأمَّل خلق امرأة من وراء الثياب وهو صائم أبطل صومه.

(الشرح)

هذا المؤلف يقول إن هذا موضوع ، وهو مرفوع لكنه موضوع، لكن المؤلف ما رفعه إلى النبي ﷺ بل نسبه إلى حذيفة، لكن لو صح فمعناه: أبطل صومه ،يعني أبطل كمال الصوم، وإلا فلا صومه صحيح ما يبطل صومه مجزي هذا لو صح .

(المتن)

قال أبو عبيد: فهذه الأثار ...

(الشرح)

هذا تعليق عن الآثار على النصوص سابقا من الكتاب والسنة والآثار ،سيعلق عليها المؤلف رحمه الله

(المتن)
 

 فهذه الآثار كلها وما كان مضاهياً لها فهو عندي على ما فسرته لك، وكذلك الأحاديث التي فيها البراءة فهي مثل قوله: (من فعل كذا وكذا فليس منا)، لا نرى شيئاً منها يكون معناه التبرؤ من رسول الله ولا من ملته، إنما مذهبه عندنا: أنه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا، وهذه النعوت وما أشبهها، وقد كان سفيان بن عيينة يتأول قوله: (ليس منا)، ليس مثلنا، وكان يرويه عن غيره أيضاً، فهذا التأويل وإن كان الذي قاله إمام من أئمة العلم فإني لا أراه من أجل أنه إذا جعل من فعل ذلك ليس مثل النبي لزمه أن يصير من يفعله مثل النبي ، وإلا فلا فرق بين الفاعل والتارك، وليس للنبي عديل ولا مثل من فاعل ذلك ولا تاركه، فهذا ما في نفي الإيمان وفي البراءة من النبي ﷺ إنما أحدهما من الآخر وإليه يؤول، وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي فإن معناها عندنا ليست تثبت على أهلها كفراً ولا شركاً يزيلان الإيمان عن صاحبه، إنما وجوهها: أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون، وقد وجدنا لهذين النوعين من الدلائل في الكتاب والسنة نحواً مما وجدنا في النوعين الأولين.

الشيخ للطالب:(( قف على هذا ))

(الشرح)

هنا يقول أبو عبيد: تعليق على هذه الأثار إن هذه الآثار كلها وما كان مضاهياً لها فهو عندي على ما فسَّرته لك ،ما هو الذي  فسَّره ، فسَّر بأن النفي إنما هو نفي الكمال والحقيقة ، كمال الإيمان،وحقيقته وإثبات الأصل والاسم.

وكذلك الأحاديث التي فيها البراءة مثل قول النبي ﷺ: برئ من الحالقة والصالقة، يقول هي مثل قول من فعل كذا وكذا فليس منا ، من حمل علينا السلاح فليس منا، من غشَّ فليس منا، الأحاديث التي فيها البراءة : برئ النبي ﷺ من الحالقة والصالقة ، أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين، يقول تفسير الأحاديث التي فيها البراءة، مثل الأحاديث التي فيها ليس منا ، من حمل علينا السلاح فليس منا، من غشَّ فليس منا  ما معناها: يقول : (لا نرى شيئاً منها يكون معناه التبرؤ من رسول الله ﷺ ولا من ملته، وإنما المراد: أنه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا)، فهذه لا توجب الكفر؛ لأنها معاصي، وليس معناها أن النبي ﷺ تبرأ من دينه؛ لأنه مازال باقياً على اسم الإسلام.

قوله: (وقد كان سفيان بن عيينة يتأول فيقول: ليس منا أي: ليس مثلنا) ويروى هذا التأويل عن غيره من العلماء، والمؤلف يرد على سفيان تأويله فيقول: (فهذا التأويل وإن كان الذي قاله إمام من أئمة العلم فإني لا أراه) لماذا لا تراه صحيحاً يا أبا عبيد؟ قال: لأنه إذا قال: (ليس مثلنا) فهل معنى ذلك أنه إذا فعل هذه المعصية يكون مثل الرسول ﷺ؟ لا، فلا يمكن أن يكون مثل الرسول ﷺ، ولا يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه الرسول ﷺ من التقوى والصلاح، فلذلك هذا التأويل غير صحيح.

كذلك المطيع هل هو مثل الرسول ﷺ؟ لا يمكن أن يكون مثل الرسول ﷺ، فلذلك أرى أن هذا التأويل أيضاً ليس بصحيح.

وإنما التأويل ليس من المطيعين لنا، ولذلك قال أبو عبيد: (فإني لا أراه من أجل أنه إذا جعل من فعل ذلك ليس مثل النبي ﷺ لزمه - في المقابل - أن يصير من يفعله مثل النبي ﷺ، وإلا فلا فرق بين الفاعل والتارك، وليس للنبي ﷺ عديل ولا مثل من فاعل ذلك ولا تاركه) أي: لا يمكن أن يكون أحد عديل للنبي ﷺ ولا مثله سواء كان مطيعاً أو غير مطيع.

قوله: (فهذا ما في نفي الإيمان وفي البراءة من النبي ﷺ إنما أحدهما من الآخر وإليه يؤول) هذا تأويل نفي الإيمان وبراءة النبي ﷺ من الحالقة والصالقة والشاقة.

قوله: (أما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي فإن معناها عندنا ليس تثبت على أهلها كفراً ولا شركاً يزيلان الإيمان عن صاحبه) يقول: الأحاديث التي فيها من حلف بغير الله فقد أشرك، اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، ليس معناها أن صاحبه كافر كفراً يخرج من الملة، ولا مشركاً شركاً في العبادة، إنما معناها: أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون.

قوله: (وقد وجدنا لهذين النوعين من الدلائل في الكتاب والسنة نحواً مما وجدنا في النوعين الأولين) وجدنا لهذين النوعين أي: تأويل المؤلف، لكن الآن أنا أقول تعقيباً على المؤلف رحمه الله: الأحسن والأصوب في تأويل هذه النصوص أن يقال: هذه النصوص تفيد الوعيد والزجر، وأنها من الكبائر، وما سمي منها شركاً أو كفراً فهو أصغر لا يخرج من الملة ما لم يكن شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام.

وقول المؤلف رحمه الله هنا: (إنها ليس من شرائعنا، ولا من أخلاقنا، ولا من المطيعين لنا) نجد أن النووي رحمه الله أحياناً يتأول النصوص في شرح صحيح الإمام مسلم، وأئمة الدعوة وغيرهم من أهل العلم بينوا أن هذا ليس بجيد؛ لأن قوله: ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا يعتبر تأويلاً، والأصوب أن يقال: إن هذه الأحاديث وهذه النصوص تفيد الوعيد والزجر وأنها من الكبائر، ولا تفسر بل تبقى هذه النصوص على حالها حتى تفيد الوعيد والزجر عن هذه الكبائر؛ لأنك إذا قلت: (ليس من المطيعين لنا، ليس من المحافظين على شرائعنا) سهلت الأمر، فلا تفسرها بهذه التفسير؛ لأنك إذا فسرتها بهذا التفسير تساهل العاصي.

مثلاً حديث: ليس منا من ضرب الخدود فقولنا: ليس من المطيعين لنا، هذا أمر سهل، لكن تقول: هذا وعيد شديد يدل على أن هذه المعصية من الكبائر يفيد الوعيد والزجر، كذلك حديث: اثنتان في الناس هما بهم كفر كفر أصغر لا يخرج من الملة، وحديث: من حلف بغير الله فقد أشرك يعتبر شركاً أصغر إلا إذا كان شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام فإنه كفر أكبر، فالأصوب والأحسن أن يقال في تأويل هذه النصوص أنها تفيد الوعد والزجر وأنها من الكبائر، وما سمي منها شركاً أو كفراً فهو كفر أصغر أو شرك أصغر لا يخرج من الملة، ما لم يكن شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد