بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد: ...
(المتن)
قال الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى أجمعين:
وإذا كان من المعلوم: أن مصر دار إسلام، فتحها عمرو بن العاص رضي الله عنه،زمن الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، فأين إجماع الناس على أنها دار حرب، أيام بني عبيد الجراح؟! وكذلك جزيرة العرب أيام الردة، مع أن الدار دار إسلام، لا دار كفر في الأصل بالإجماع.
لكن لما قام بهم الوصف الذي يبيح الدم والمال، لم يكن لتسميتها دار إسلام حكم، وصار الحكم لهذا الوصف الطارئ، تعريف على محل طاهر تلوث به المحل؛ وللشيء حكم نظيره، فكيف بما هو أقبح وأشد؟! فبطل ما طرده المجيز من التعلق باسم الدار.
أما تعريف الدار من حيثية الأحكام المرتبة عليها، فإن كان المستولى عليها هو الكافر الأصلي، فيتعلق به أحكام يخالف فيها المرتد، كحكم اللقيط والأموال وغيرهما؛ وعلى هذا تفاريع ذكرها الفقهاء، وجعل بعضهم الدار ضابطًا لأشياء نوزع في بعضها.
قال في التنقيح: فإن وجد اللقيط في بلد كفار حرب، لا مسلم فيه، أو فيه مسلم، كتاجر وأسير، فكافر رقيق، أي: اللقيط، فإن كثر المسلمون فمسلم؛ ومثله ما صرَّح به الحنابلة وغيرهم: أن البلدة التي تجري عليها أحكام الكفر، ولا تظهر فيها أحكام الإسلام بلدة كفر.
(الشرح)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: ...
المؤلف رحمه الله بين في أول هذه الرسالة أنها جواب عن سؤال وُجِّه إليه حول الإقامة في بلد الكفار، في بلد المشركين، متى تكون البلد بلد كفر؟ وما معنى إظهار الدين؟
بيّن المؤلف رحمه الله أن النصوص دلت على أنه يُعَلَّق الحكم بالوصف، فكل بلد لا يستطيع الإنسان إظهار دينه فيه؛ فإنه يجب عليه الهجرة، وأما إذا كان يستطيع إظهار دينه، ويستطيع إنكار الشرك، وإنكار البدع والمعاصي فإنه يقيم، أما إذا كان لا يستطيع إنكار الشرك ولا إنكار البدع والمعاصي؛ فإنه يجب عليه أنه يهاجر، يقول المؤلف رحمه الله: وعلق الحكم بالوصف، الذي هو وجود البدع والمعاصي، لما لا يستطيع إنكاره، ثم قال: (وإذا كان من المعلوم: أن مصر دار إسلام، فتحها عمرو بن العاص رضي الله عنه،زمن الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، فأين إجماع الناس على أنها دار حرب، أيام بني عبيد)، لعلها بني عُبَيْد القَدَّاح.. الذين ملكوا مصر في القرن الثالث الهجري، وملكوا المغرب، فإن الذين يزعمون أنهم الفاطميون، وأنهم من سلالة فاطمة، وهم يُظْهِرون الإسلام، ويُبْطِنون الكفر.
فأجمع العلماء على أن بلدهم بلد كفر، وقاتلوهم حتى أسقطوا دولتهم، يقول: فالعبرة بإظهار الدين، فبلاد مصر فُتِحت في زمن عمر بن الخطاب فصارت دار إسلام، ثم بعد ذلك لما استولى عليها الفاطميون وهم رافضة ملاحدة زنادقة؛ صارت بلد كفر، فالعبرة بالوصف، إذا كان البلد تقام فيها شعائر الإسلام، ويستطيع الإنسان إظهار دينه فيها؛ فإنها بلد إسلام يبقى فيها، أما إذا كان لا يستطيع، فيها الشرك والمعاصي، ولا يستطيع إنكار الشرك والمعاصي ولا يستطيع إظهار دينه فإنه يجب عليه الهجرة؛ فالحكم معلق بالوصف.
يقول: (وكذلك جزيرة العرب أيام الردة، مع أن الدار دار إسلام، لا دار كفر أصلي بالإجماع)، جزيرة العرب لما ارتد الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.. معلوم أن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم جزيرة العرب صارت دار إسلام، دخل الناس في دين الله أفواجًا، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، ارتد العرب، فقاتلهم الصحابة، قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه والصحابة، وصار يجب على من كان من أهل الردة مسلمًا أن يهاجر ولا يبقى بين أظهرهم؛ لأن العبرة بالوصف، وليست العبرة بالدار، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وكذلك جزيرة العرب أيام الردة، مع أن الدار دار إسلام لا دار كفر، لكن لما قام بهم الوصف الذي يبيح الدم والمال، لم يكن لتسميتها دار إسلام حكم).
العبرة بالوصف، لما كانوا على الإسلام والتوحيد؛ كانت جزيرة العرب دار إسلام، فلما ارتدوا؛ صارت بلدهم بلد كفر ويقاتلون، قال: (وصار الحكم لهذا الوصف الطارئ، تعريف على محل طاهر تلوث به المحل).
يعني جزيرة العرب كانت دار إسلام، ثم لما طرأ عليها الكفر؛ صار الكفر يلوث هذا المحل، قال: (وللشيء حكم نظيره، فكيف بما هو أقبح وأشد؟! فبطل ما طرده المجيز من التعلق باسم الدار)، لأن بعض الناس يقول: العبرة بالدار، إذا كانت الدار دار إسلام؛ فإنه لا يهاجر منها، وإذا كانت دار كفر؛ فإنه يهاجر منها، قال: هذا باطل؛ لأن العبرة بالوصف، إذا كان الإنسان في بلد لا يستطيع إنكار الشرك والمعاصي؛ يجب أن يهاجر، وإذا كان يستطيع إنكاره؛ فيبقى.
ولهذا قال المؤلف: (أما تعريف الدار من حيثية الأحكام المرتبة عليها)، ينظر (فإن كان المستولى عليها هو الكافر الأصلي، فيتعلق بها أحكام يخالف فيها المرتد، كحكم اللقيط والأموال وغيرهما؛ وعلى هذا تفاريع ذكرها الفقهاء، وجعل بعضهم الدار ضابطًا لأشياء)، مثل ما ذكر (في التنقيح: فإن وجد اللقيط في بلد كفار حرب، لا مسلم فيه، أو فيه مسلم، كتاجر)، يعني جاء إلى بلد الكفار للتجارة، (وأسير)، عند الكفار، (فكافر رقيق، أي: اللقيط، فإن كثر المسلمون فمسلم)، قال: العبرة بالإسلام.
(ومثله ما صرَّح به الحنابلة وغيرهم: أن البلدة التي تجري عليها أحكام الكفر، ولا تظهر فيها أحكام الإسلام بلدة كفر)، يعني العبرة بالأحكام، العبرة بظهور أحكام الإسلام، بظهور الأحكام، فإذا كنت البلدة تجري فيها أحكام الكفرة، ولا تظهر فيها أحكام الإسلام؛ فتعتبر بلاد كفر، وإذا كانت البلدة تجري فيها أحكام الإسلام، ويظهر فيها أحكام الإسلام؛ فهي بلد إسلام.
(المتن)
وما حكاه ابن مفلح، عن الشيخ تقي الدين: أن البلدة التي تظهر فيها أحكام الكفر وأحكام الإسلام، لا تعطى حكم الإسلام من كل وجه، ولا حكم الكفر من كل وجه؛ وهو الذي عنى الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين.
فإنه لما سأله الوالد -قدس الله روحه- عن حكم ما باعوه، أو وهبوه، مما استولوا عليه في نجد؟ أجاب: بأنهم مرتدون، دارهم دار إسلام، والمرتد لا يملك عند جمهور العلماء; ونص كلامه: فهؤلاء العدو الذين استولوا على نجد، من حكمنا بكفره منهم، فحكمه حكم المرتدين، لا الأصليين، لأن دارهم دار إسلام، وحكم الإسلام غالب عليها، هذا حاصل كلامه، وهو عندنا بخطه.
ومعناه: أن الإسلام غالب عليها، بمعنى: أنا نغلب جانب الإسلام فيما استولوا عليه، فلا يملكون والحالة هذه لأنهم مرتدون، والمرتد لا يملك مال المسلم؛ فأخذ الناقل بمطلق كلامه، ولم يفهم أصل المأخذ، فأين حكم الهجرة وفراق المشركين، المنوط بسماع الشرك والبدع، والمعاصي، ممن لا يستطيع تغييرها، من هذا، لو كانوا يعلمون؟!.
يوضحه: أن متأخري الشافعية، صرحوا به، قال ابن حجر رحمه الله في شرح المنهاج: والظاهر أن بلد الإسلام التي استولوا عليها، لها حكم بلد الكفر، انتهى؛ فسماها دار إسلام نظرا إلى الأصل، وأعطى الطارئ حكمه.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يقرر ما سبق من أن العبرة بالوصف، وأن البلد التي لا يستطيع الإنسان فيها إنكار الشرك والكفر لقوة المشركين وكثرتهم؛ فإنها دار كفر يجب الهجرة منها، وأما البلد التي تظهر فيها شعائر الإسلام ويظهر فيها الخير والدعاة، ويستطيع الإنسان إنكار الشرك، وإنكار البدع والمعاصي؛ فلا تسمى دار كفر، بل هي دار إسلام، ولا يجب الهجرة منها.
(المتن)
الوجه الثاني: أن المجيز علق حكم إباحة الإقامة فيما نقلت عنه، بما إذا لم يمنعوك عن واجبات دينك، مصرحًا بأنها هي النطق بالشهادتين، والصلاة، والعبادات البدنية، التي يوافقك عليها المشرك في هذا الزمان، فإذا كان كذلك فالمدعى أوسع من الدليل، إذ عدم المنع من العبادات البدنية، والدعاء بداعي الفلاح موجود في أكثر أقطار الأرض، فالسؤال مطرح من أصله؛ ولعل السائل جعله بئرًا في الطريق، وعلى نفسها تجني براقش، وعلينا أن نقول الحق، لا تأخذنا في الله لومة لائم، وهذا جوابنا على المسألة الأولى.
(الشرح)
وهذا كما سبق، يقول المؤلف رحمه الله: إظهار الدين ليس معناه النطق بالشهادتين، والصلاة والعبادة؛ بل إظهار الدين أن يستطيع الإنسان فيه إنكار المنكر،وإنكار الشرك، وإنكار البدع، وإنكار المعاصي، فإذا كان يستطيع إنكارها؛ فإنه لا يجب عليه الهجرة، أما إذا كان لا يستطيع الإنكار؛فيجب عليه الهجرة، ولو كان يصلي، يستطيع أن يصلي وينطق بالشهادتين.
(المتن)
وأما المسألة الثانية، وهي: ما إظهار الدين؟.
فالجواب وبالله التوفيق: أن إظهار الدين على الوجه المطلوب شرعًا، تباح به الإقامة بقيد أمن الفتنة، ولا تعارض نصوص الهجرة المنوطة بمجرد المساكنة، إذ هي الأصل، وإبطال دليل الإباحة، ودليل التحريم، ممتنع قطعًا فتعين الجمع بما تقرر في الأصول، من أن العام يبنى على الخاص ولا يعارضه.
وإذا كان كذلك، فلا بد من ذكر طرف منها قبل الكلام عليها. فأقول: قد دل الكتاب والسنة والإجماع، مع صريح العقل، وأصل الوضع على وجوب الهجرة من دار الشرك والمعاصي، وتحريم الإقامة فيها.
أما الكتاب، فقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الآيتين [النساء:97]، وهذه الآية نص في وجوب الهجرة، بإجماع المفسرين، وفيها ترتب الوعيد على مجرد المقام مع المشرك، والقرآن إذا أناط الحكم بعلة أو وصف، فصرفه عنه من التأويل الذي رده السلف، وقد ذم الله من أعرض عنه، فكيف بمن عارضه؟!.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يبين في المسألة الثانية وهي إظهار الدين، ما هو إظهار الدين؟ أجاب المؤلف رحمه الله أن إظهار الدين على الوجه المطلوب شرعًا تباح به الإقامة بغير أمن الفتنة، إذا كان الإنسان يستطيع إظهار دينه في بلد الشرك، ويأمن على نفسه من الفتنة؛ فلا بأس أن يقيم، إذا كان الإنسان يستطيع إظهار دينه على الوجه المطلوب شرعًا، ويأمن من الفتنة؛ فإنه يجوز له البقاء، وإذا كان لا يستطيع إظهار دينه، أو لا يأمن الفتنة على دينه؛ فلا يجوز له البقاء، وسبق أن إظهار الدين هو معناه أن يستطيع إنكار الشرك، وإنكار البدع، ويستطيع أن يبين محاسن الإسلام، وبيان عيوب ما هم عليه من الدين، واستدل المؤلف رحمه الله على أنه لا يجوز للإنسان أن يقيم في بلد الشرك الذي لا يستطيع إظهار دينه: أولًا: بآية النساء، وذلك أن الله توعد بالنار من أقام في بلاد المشركين ولا يستطيع إظهار دينه؛ فقال: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ)هذه محاورة بين الملائكة وبين المؤمنين الذين أقاموا في بلاد المشركين، وجاءهم الموت (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ )؛ ظالمي أنفسهم بالبقاء بين المشركين وعدم الهجرة، قالوا الملائكة: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ )، فقالت لهم الملائكة: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ )، قال الله: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ)؛ هذا وعيد للذين أقاموا في بلاد المشركين، ثم استثنى الله العاجز من لا يستطيع، قال الله: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ)[النساء/ 97-99]؛ فدل على أن الإقامة في بلاد الكفار والذي لا يستطيع إظهار دينه كبيرة من كبائر الذنوب، صاحبه متوَعَّد بالنار، إلا العاجز، هذا الدليل الأول، وسيأتي الدليل الثاني.
(المتن)
وقد قال تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)[العنكبوت:56]، قال أبو جعفر بن جرير، رحمه الله تعالى: يقول الله تعالى للمؤمنين من عباده: يا عبادي الذين وحدوني، وآمنوا برسولي، إن أرضي واسعة، لم تضق عليكم، فتقيموا بموضع منها لا يحل لكم المقام فيه؛ ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله، فلم تقدروا على تغييره، فاهربوا منه.
وساق بسنده عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: (إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ) [العنكبوت:56]، قال: إذا عمل فيها بالمعاصي، فاخرج منها ; وساق من طريق وكيع عن سعيد بن جبير مثله أيضًا ; وعن عطاء: "إذا مررتم بالمعاصي، فاهربوا"، وعنه: مجانبة أهل المعاصي، وعن مجاهد في قوله: (إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ) [العنكبوت:56]، قال: فهاجروا وجاهدوا، وذكر عن آخرين إن ما خرج: من أرضي من الرزق واسع لكم، ورجح الأول.
وقال محيي السنة البغوي رحمه الله، في تفسيره: وهذه الآية نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة، وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة؛ وساق كلام سعيد بن جبير وغيره، ثم قال: "ويجب على كل من كان ببلد يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة،". انتهى.
فسمى تغيير المعاصي عبادة، يجب على المسلم الهجرة إذا لم تتهيأ له، وإطلاق العبادة عليها من إطلاق الشيء وإرادة معظمه؛ والمعصية إذا أطلقت وأفردت لا في مقابلة ما هو أعلى، فهي عامة كما قرره شيخ الإسلام في "كتاب الإيمان"، وقرره غيره.
(الشرح)
الدليل الثاني على وجوب الهجرة، على المؤمن في البلاد التي لا يستطيع فيها إظهار دينه، قوله تعالى في سورة العنكبوت: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ)[العنكبوت/ 56].
(قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى: يقول الله تعالى للمؤمنين من عباده: يا عبادي الذين وحدوني، وآمنوا برسولي، إن أرضي واسعة، لم تضق عليكم، فتقيموا بموضع منها لا يحل لكم المقام فيه)، وهو الموضع الذي لا يستطيعون فيه إظهار الدين، ولهذا قال البغوي رحمه الله: (وهذه الآية نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة، وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة)، فهذه الآية فيها دليل على وجوب الهجرة من البلد التي لا يستطيع المسلم أن يقيم فيها دينه.
الدليل الثالث: وقال تعالى...
(المتن)
وقال تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) الآية [النساء:100]، ومعنى الآية: أن المهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مكانًا يسكن فيه، على رغم أنف قومه الذين هاجرهم، ويجد سعةً في البلاد، وقيل: في الرزق، وقيل: في إظهار الدين، أو في تبديل الخوف بالأمن، أو من الضلال إلى الهدى، فهذا تفسير التابعين ومن بعدهم، وهو الذي فهم علماء التفسير.
فمن قلب الحقائق وجعلها نصًّا في عدم وجوب الهجرة على من لم يُمنع من عبادة ربه، التي هي في زعمه: الصلاة وما يتعلق بالبدن، وحمل إظهار الدين على ذلك، وفهم من قوله تعالى: (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت:56]، أي: في كل مكان من دار إسلام أو كفر؛ فقد عكس القضية وأخطأ في فهمه.
والحق: أن الحكم فيها منوط بمجرد الـمُقام مع المشركين ومشاهدة المحرمات، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى:(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) [الكهف:16]: وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم، في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضًا بأبدانكم؛ فحينئذٍ هربوا إلى الكهف.
وقال في تفسير آية النساء لما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: فهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حرامًا بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النساء:97]، أي: بترك الهجرة (قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) [النساء:97]، أي: لم مكثتم ها هنا وتركتم الهجرة؟ (قَالُوا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ) الآية [النساء:97]. انتهى.
وقال الحنفي في تفسيره: وأَمْر الهجرة حَتْم، ولا توسعة في تركها، حتى إن من تبين اضطراراه يعني من هو مستضعف- حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف بغيره؟ انتهى ملخصًا.
قلت :واستثناء المستضعفين في هذه الآية، يبطل دعوى من قصر إظهار الدين على مجرد العبادة؛ لأنه إذا حمل على ذلك، فقد تساوى المستثنى والمستثنى منه، إذ هو مناط الرخصة في زعم المجيز؛ ولا يتصور في المستضعف أنه يترك عبادة ربه، فما فائدة تعلق الوعيد بالقادر على الهجرة، دون من لم يقدر؟ وقد علم أن الاستثناء معيار العموم.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله ذكر الدليل الثالث على وجوب الهجرة على من لا يقدر على إظهار دينه، ويقول تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ)[النساء/ 100].
يقول المؤلف معنى الآية: أن المهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مكانًا يسكن فيه، قال: وأما في قومه الذين هجرهم ويجد سعةً في البلاد، فدل على أن من لا يستطيع إظهار دينه فإنه يجب عليه أن يهاجر، أما من لم يستطع إظهار دينه، وإنكار الشرك والبدع والمعاصي، ويأمن على نفسه من الفتنة؛ فإنه لا يجب عليه الهجرة.
(المتن)
فإن قلت: الفائدة فيه أمن الفتنة، وتكثير سواد المسلمين، والجهاد معهم، قلنا: هذا من فوائد الهجرة، لكن قصرها عليه من القصور؛ لأن مثل هذا، وإن كان مأمورا به، فلا يحتمل هذا الوعيد الشديد.
وقد تكون أسباب الحكم الواحد متعددة، وبعضها أعظم من بعض، كما قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) الآية [المائدة:91]، فهذه أسباب المنع، وكل سبب منها مستقل بالحكم.
وقد تحتم المنع من فعل هذا المحرم إلى قيام الساعة، وإن لم توجد الأسباب؛ فلو ادعى أحد أن الخمر لا يسكره، ولا يصده عن طاعة الله، ولا يوقع عداوة، فإنه لا يسلم له ذلك; فُعلم أنه لا مفهوم للفظ "الفتنة" لتحتم المنع المنوط بسماع الشرك، في الآيات المحكمات، وفي حديث من لا ينطق عن الهوى.
فمن حمل الآيات والأحاديث، على من فتنه المشركون خاصة، فقد قصر، بل أمن الفتنة قيد إباحة الإقامة لمن أظهر دينه، وصرح بمخالفة ما هم عليه؛ والتنصيص على بعض أفراد العام، معروف في تفسير السلف، لا يقتصر عليه إلا جاهل.
ولما ذكر الحافظ بن حجر، خصوص السبب، قال: وكذلك المفارقة بسبب نية صالحه، كالفرار من دار الكفر، وساق كلامًا حسنًا، ورد على الطيبي قوله: فانقطعت الأولى وبقيت الأخريان، حمايةً لجناب النصوص.
وقال الحافظ بن رجب، في شرح الأربعين: فمن هاجر إلى دار الإسلام، حمايةً لله ورسوله، ورغبةً في تعلم دين الإسلام، وإظهارًا لدينه، حيث يعجز عنه في دار الشرك، فهو المهاجر حقًا، انتهى كلامه.
والدين كلمة جامعة لخصال الخير، أعلاها وأغلاها التوحيد ولوازمه، فمن قصره على العبادات التي يوافق فيها المشرك، بل يواليك عليها، فقد أخطأ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله بين أن الهجرة إنما تجب على من كان لا يستطيع إظهار دينه، أما من كان يستطيع إظهار دينه ويأمن الفتنة؛ فإنه لا تجب عليه الهجرة، ويرد على من قال:إن الآيات والأحاديث محمولة على من فتنه المشركون خاصةً، من فتنه وآذوه؛ فإنه يهاجر، ومن لم يفتنه المشركون؛ فإنه لا يهاجر، يقول: هذا خطأ، النصوص دلت على أن الهجرة تجب على من لا يستطيع إظهار دينه، ولا يشترط عليه اجتناب المشركين، فإذا كان لا يستطيع إنكار الشرك، ولا إنكار البدع والمعاصي، فإنه يجب الهجرة، أما إذا كان يستطيع الإنكار، أن ينكر ويغير، ويأمن على نفسه من الفتنة؛ فإنه لا يجب عليه الهجرة، أما تقييد بعضهم بأن من فتنه المشركون يجب عليه الهجرة، ومن لم يفتنوه فلا يجب؛ فهذا لا وجه له.
(المتن)
وأما الأحاديث فكثيرة جدًّا.
(الشرح)
انتقل المؤلف إلى الأدلة من الأحاديث؛ لكفاية الأدلة على وجوب الهجرة من بلاد المشركين، قوله تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ )[النساء/ 97]، وقوله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ )[العنكبوت/ 56]،(ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ )[النساء/ 100]، ثلاث آيات تدل على وجوب الهجرة من بلد الشرك إذا كان لا يستطيع إظهار دينه، والآن سيذكر الأحاديث.
(المتن)
وأما الأحاديث فكثيرة جدا. منها: ما رواه أبو داود والحاكم، عن سمرة مرفوعًا: «من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله«، ولفظ الحاكم «وساكنهم أو جامعهم فليس منا» وقال: صحيح على شرط البخاري.
ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، والترمذي عن جرير بن عبد الله مرفوعا: «أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تراءى ناراهما» رواه ابن ماجه أيضًا، ورجال إسناده ثقات، وهو إن صح مرسلا، فهو حجة من وجوه متعددة، يعرفها علماء أصول الحديث; منها: أن المرسل إذا اعتضد بشاهد واحد، فهو حجة.
وقد اعتضد هذا الحديث بأكثر من عشرين شاهدا، وتشهد له الآيات المحكمات، مع الكليات من الشرع، وأصول يسلمها أهل العلم، ومنها: حديث جرير الذي رواه النسائي وغيره: «أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويفارق المشركين»؛ وفي لفظ: «وعلى فراق المشركين»، ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكفى، لتأخر إسلام جرير.
(الشرح)
ذكر المؤلف رحمه الله ثلاثة أدلة من السنة:
الدليل الأول: «من جامع مشركًا أو سكن معه فهو مثله»، جامع يعني اجتمع معه في بلده، هذا وعيد شديد يدل على أن من أقام في بلاد الكفار وهو لا يستطيع إظهار دينه فقد ارتكب كبيرةً من كبائر الذنوب، «من جامع مشركًا»؛ يعني: اجتمع معه أو سكن معه فهو مثله.
الدليل الثاني: حديث جرير بن عبد الله: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين لا تراءى نارهما»، يعني: لا ترى نارك ناره، لا ترى نار المسلم نار الكافر، يعني أن نبتعد منه، ويقول: إن هذا الحديث وإن ضعفه بعض أهل العلم، لكن له ما يعضده، يعني هذا الحديث قال بعض أهل العلم: إنه مرسل، لكنه حجة من وجوه متعددة، منها: أنه يعتضد بالشواهد، ومنها: أنه تشهد له الآيات المحكمات مع الكليات من الشرع.
والحديث الثالث: حديث جرير أيضًا (أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويفارق المشركين؛ وفي لفظ: وعلى فراق المشركين)، والشاهد أنه قال: وعلى فراق المشركين، فدل على أنه يجب على الإنسان أن يفارق المشركين إذا لم يستطيع إظهار دينه.
(المتن)
ومنها: ما روى الطبراني والبيهقي، عن جرير رضي الله عنه مرفوعًا: «من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة»، قال المناوي: حديث حسن، يقصر عن رتبة الصحيح، وصححه بعضهم.
(الشرح)
نعم، وهذا الدليل الرابع، حديث جرير «من أقام مع المشركين؛ فقد برئت منه الذمة» وهو حديث حسن.
(المتن)
ومنها: ما رواه النسائي وغيره، من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده مرفوعًا: «لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين».
(الشرح)
نعم، وهذا الدليل الرابع على وجوب الهجرة من بلاد الكفار، حديث بهز بن حكيم: «لا يقبل الله من مشرك عملًا بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين»؛ يعني: إلا أن يفارق المشركين، فدل على وجوب مفارقتهم إذا كانوا لا يستطيعون إظهار دينهم.
(المتن)
ومنها: ما رواه النسائي وغيره، عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار».
(الشرح)
وهذا الدليل الخامس: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار»، يعني ما دام الكفار يقاتلون، فتجب الهجرة.
(المتن)
وفي معناه حديث معاوية: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة» الحديث، وما رواه سعيد بن منصور وغيره: «لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد».
(الشرح)
نعم، وهذا دليل أيضًا «لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد»، فيه دليل على وجوب الهجرة، هذه الأحاديث مع الآيات، ستة أحاديث.
(المتن)
ففي هذه الأحاديث مع تباين مخارجها، واختلاف طرقها، هيئة اجتماعية يقطع معها بهذا الحكم العظيم، الذي هو من أعظم مصالح الشريعة.
(الشرح)
ففي هذه الأحاديث المتعددة، ومخارجها متباينة، وطرقها مختلفة، هيئة اجتماعية تفيد القطع بهذا الحكم، وهو وجوب الهجرة من البلد التي لا يستطيع فيها إظهار دينه.
(المتن)
وقال أبو عبد الله الحليمي في المجالس، وهو من أجل علماء الشافعية، وأئمة الحديث في وقته، وهو في طبقة الحاكم، لما ذكر بقاء الهجرة، قال: إنها انتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن السيئات إلى الحسنات، وهذه الأشياء باقية ما بقى التكليف.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد أفصح ابن عمر بالمراد، فيما ذكره الإسماعيلي، بلفظ: انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع ما قوتل الكفار، أي: ما دام في الدنيا دار كفر، انتهى.
وكلام أئمة المذهب في ذلك في غاية الوضوح والقوة، قال في الشرح الكبير: وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة، لحديث معاوية، وما رواه سعيد بن منصور وغيره، مع إطلاق الآيات، والأخبار الدالة عليها، وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان ومكان.
(الشرح)
هذا فيه أن العلماء قرروا هذا الحكم من هذه النصوص من الكتاب والسنة، وقالوا: إن الهجرة: انتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن السيئات إلى الحسنات، فهذه باقية ما بقي التكليف، وأن حكم الهجرة باقٍ لا ينقطع إلى يوم القيامة.
هذه الأدلة من الكتاب ومن السنة على وجوب الهجرة، ثم نقف على هذا الإجماع الآن، سيأتي الأدلة من الإجماع والأدلة من العقل على وجوب الهجرة.
وفق الله الجميع لطاعته، وثبت الله الجميع على الهدى، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.