شعار الموقع

شرح كتاب التوضيح والبيان لشجرة الايمان_2

00:00
00:00
تحميل
8

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فهذا الفصل لخص فيه المؤلف رحمه الله معنى الإيمان, وأن الإيمان تقرر بدلائل الكتاب والسنة أنه: قولٌ باللسان, وتصديقٌ بالقلب, وعمل بالقلب, وعمل بالجوارح, فهو شاملٌ لشرائع الإسلام والإيمان, شاملٌ لأعمال القلوب, وشاملٌ لأعمال الجوارح, وشاملٌ لأقوال اللسان, وشاملٌ لأقوال القلوب.

وإذا ثبت هذا فإنه يزيد وينقص, يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ لأن الإيمان يشمل شرائع الإسلام كلها, فإذا فعل الإنسان شرائع الإسلام زاد إيمانه, وإذا ترك شيئًا منها من الواجبات نقص إيمانه وضعف, فالإيمان يزيد وينقص, ويقوى ويضعف, قال الله تعالى: ( ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﯪ)[المدثر/31].

وقال سبحانه: ( ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﮁ)[الفتح/4].

وقال تعالى: ( ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭶ)[التوبة/124].

وقال سبحانه: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮐ)[البقرة/10].

وقال: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮃ)[التوبة/125].

فالإيمان يزيد وينقص, ويقوى ويضعف, كذلك الكفر يزيد وينقص, ويقوى ويضعف, فالمنافقون منهم أنواع منهم من كفره مستمر والعياذ بالله, ومنهم من يكون عنده إيمان تارة ثم يخبوا ويأتي الكفر تارة, المقصود أن الإيمان يزيد وينقص, ويقوى ويضعف, والأدلة على هذا واضحة من الكتاب والسنة, والواقع شاهدٌ بذلك خلافًا للمرجئة الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يقوى ولا يضعف, لا يزيد ولا ينقص بل هو شيءٌ واحد في القلب وهو التصديق, ويقولون: إن إيمان أهل السماء وإيمان أهل الأرض سواء؛ هذا باطل.

(المتن)

وهذه المسألة لا تقبل الاشتباه بوجه من الوجوه لا شرعًا، ولا حسًا، ولا واقعًا.

(الشرح)

لا تقبل الاشتباه هذه المسألة عند أهل الحق وأهل السنة والجماعة الذين علموا الكتاب والسنة وتدبروا نصوص القرآن والسنة فليس عندهم اشتباه من هذه المسألة, وهم يعلمون أن الإيمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف, وأن شرائع الإسلام كلها داخلة في مسمى الإيمان, وأما المرجئة فإنهم اشتبه عليهم الأمر, المرجئة اشتبه عليهم الأمر وظنوا أن الإيمان هو تصديق القلب فقط, ولهم شبه للاستدلال بمعنى الإيمان في اللغة, فقالوا: معنى الإيمان في اللغة التصديق, ويستدلون بقول الله تعالى عن إخوة يوسف: ( ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭼ)[يوسف/17]؛ أي بمصدق.

فقالوا: الإيمان هو التصديق, والتصديق شيء واحد في القلب لا يزيد ولا ينقص, وقالوا: إن الأعمال مثل: الصلاة, الزكاة, الصوم, الحج, وكذلك أعمال القلوب, وأقوال اللسان كل هذه مطلوبة وواجبة, الواجب منها واجب والمستحب منها مستحب, ومن ترك شيء من الواجبات استحق العقوبة, واستحق الذم, وإذا كان عليها حد يُقام عليه الحد لكن لا نسميها إيمانًا هي شيءٌ آخر, فالإنسان عليه الواجبات, واجب الإيمان وواجب العمل, ولا يدخل أحدهما في مسمى الآخر, اشتبه عليهم الأمر.

قال بهذا طائفة من أهل الكوفة, من أهل السنة وهم أبو حنيفة وأصحابه, وخالفوا جماهير أهل السنة في هذا, والصواب: ما عليه جماهير أهل السنة, كالإمام مالك, والشافعي, وأحمد, وسفيان الثوري, والأوزاعي, وغيرهم من أهل العلم, قرروا أن الإيمان يزيد وينقص, ويقوى ويضعف, وأن شرائع الإسلام كلها داخلة في مسمى الإيمان, وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عليه.

ولا اشتباه في هذه المسألة عند أهل الحق, لكن اشتبهت هذه المسألة على أهل الكوفة وبقية الفقهاء, فقرروا أن الإيمان تصديق القلب فقط, وبعضهم أضاف إلى ذلك الإقرار باللسان كما هو مشهور من مذهب أبي حنيفة, ولهذا قرر الطحاوي في عقيدته فقال: والإيمان إقرارٌ باللسان وتصديقٌ بالجنان, فقط, وقال: إن إيمان أهل السماء وأهل الأرض سواء, ولاشك أن هذا ليس بصحيح, وإن كان هؤلاء مرجئة الفقهاء يوافقون أهل السنة في المعنى لكن بهذا الخلاف مع جماهير أهل السنة آثار تترتب عليه, وليس خلافًا لفظيًا كما يدعيه الإمام ابن العز شارح الطحاوية.

يقول: إن الخلاف بينهم وبين جماهير أهل السنة خلافٌ لفظي, وذلك أن جمهور أهل السنة وافقوا الكتاب والسنة في اللفظ والمعنى, ومرجئة الفقهاء وافقوا الكتاب والسنة في المعنى فقط, ليس هذا الخلاف لفظي, صحيح أنه خلاف لا يترتب عليه فسادٌ في العقيدة لكن له آثار تترتب عليه, وهذه الآثار: أن جماهير أهل السنة وافقوا الكتاب والسنة في اللفظ والمعنى, وأبو حنيفة وأصحابه ومرجئة الفقهاء وافقوا الكتاب والسنة في المعنى وخالفوهما في اللفظ؛ لأن الله نص على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان, ولا يجوز للإنسان أن يخالف الكتاب والسنة حتى في اللفظ, يجب على المسلم أن يوافق الكتاب والسنة ويتأدب مع نصوص القرآن والسنة.

وثانيًا: أن مرجئة الفقهاء حينما قرروا أن الإيمان تصديقٌ بالقلب فتحوا باب للمرجئة المحضة وهم الجهمية فدخلوا معه, فلما قال مرجئة الفقهاء: إن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان دخل من هذا الباب المرجئة المحضة الغلاة كالجهمية وغيرهم فقالوا: الأعمال إذا كانت ليست من الإيمان فليست مطلوبة, وقالوا: إن الإنسان لو فعل جميع المنكرات وهو يعرف ربه بقلبه فلا يضره وإيمانه كامل, هذا من أبطل الباطل, قالوا: ويدخل الجنة من أول وهلة, والذي فتح لهم الباب هم مرجئة الفقهاء.

وكذلك من الآثار التي تترتب على هذا: فتح الباب للفسقة والعصاة, فلما قال مرجئة الفقهاء إن الإيمان هو: تصديق القلب والأعمال ليست من الإيمان, دخل الفساق والعصاة وقال الواحد منهم: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل وكإيمان أبي بكر وعمر؛ لأن الإيمان هو التصديق والأعمال ليست من الإيمان.

ومن الآثار التي تترتب على الخلاف: مسألة الاستثناء في الإيمان, وهي قول الإنسان: أنا مؤمنٌ إن شاء الله, فمرجئة الفقهاء يمنعون من الاستثناء منعًا قاطعًا لا تقل: أنا مؤمن إن شاء الله, وقالوا: عن من قال: إن شاء الله واستثنى في إيمانه فهو شاك في إيمانه, وسمو أهل السنة الشكاكة, وأما جماهير أهل السنة قالوا: إن المسالة فيها تفصيل, إذا قال الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله, إن كان يقصد الشك في أصل إيمانه فهو ممنوع, أما إذا لم يقصد الشك في إيمانه ولكن قصد بالاستثناء أن شرائع الإسلام كثيرة ومتعددة والواجبات كثيرة, ولا يظن الإنسان أنه أدى ما عليه ولا يزكي نفسه, فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله لأن شرائع الإسلام كثيرة ولا يجزم بأنه أدى ما عليه, بل يتهم نفسه وهو محل النقص فلا بأس أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

وكذلك إذا أراد التبرك بذكر اسم الله فلا باس أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله, وكذلك إذا أراد عدم علمه بالعاقبة, بهذا يتبين أن الخلاف في هذه المسألة مسألة: الإيمان, ليس خلافًا لفظيًا كما قرر ابن أبي العز بل له آثار تترتب عليه, وإن كان لا يترتب على هذا الخلاف خلافٌ عقدي, لا يترتب عليه فسادٌ في العقيدة, لكن يترتب عليه هذه الآثار التي ذكرنا.

(المتن)

وذلك أن نصوص الكتاب والسنة صريحة في زيادته ونقصانه مثل قوله تعالى: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ)[الفتح: 4].

(الشرح)

الصريح بأن الإيمان يزيد, والمرجئة قالوا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص بل هو شيءٌ واحد في القلب وهو التصديق, والنصوص صريحة بأنه يزيد وينقص.

(المتن)

وقوله: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا)[المدثر: 31].

(الشرح)

هذا دليل آخر على أن الإيمان يزيد.

(المتن)

وقوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران: 173].

(الشرح)

الشاهد: فزادهم إيمانًا, هذا الدليل الثالث على أن الإيمان يزيد وينقص.

(المتن)

وقوله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)[التوبة: 124].

(الشرح)

هذا الدليل الرابع على أن الإيمان يزيد وينقص, وفيه رد على الأحناف ومرجئة الفقهاء الذين يقولون: إنه لا يزيد ولا ينقص, أدلة لأهل السنة وردٌ على الأحناف الذين يقولون: إنه لا يزيد ولا ينقص.

(المتن)

وكذلك الحس والواقع يشهد بذلك من جميع وجوه الإيمان، فإن الناس في علوم الإيمان، وفي معارفه، وفي أخلاقه وأعماله الظاهرة والباطنة متفاوتون تفاوتًا عظيمًا في القوة والكثرة، ووجود الآثار، ووجود الموانع، وغير ذلك.

(الشرح)

لاشك أن الحس يقوم بذلك, فأنت ترى قوي الإيمان يدفعه إيمانه إلى العمل الصالح, سواء القيام بأداء الواجبات, وضعيف الإيمان ليس عنده هذه الهمة وهذا النشاط وتجده يضعف ولا ينافس للخيرات, ولا يسابق للخيرات لضعف إيمانه, تجده يقصر في بعض الواجبات, وهذا شيء مشاهد ومحسوس.

(المتن)

فالمؤمنون الكُمل عندهم من تفاصيل علوم الإيمان ومعارفه وأعماله، ما لا نسبة إليه من علوم عموم كثير من المؤمنين، وأعمالهم وأخلاقهم.

(الشرح)

يعني: المؤمنون كاملون الإيمان عدهم من علوم الإيمان ومعارفه ما ليس عند عامة الناس.

(المتن)

فعند كثير منهم علوم ضعيفة مجملة وأعمال قليلة ضعيفة, وعند كثير منهم من المعارضات والشبهات والشهوات، ما يضعف الإيمان، وينقصه درجات كثيرة.

(الشرح)

هذا بعض الناس اللي عندهم شبه واعتراضات وشكوك، فتجعلهم في حيرة ينقص بها إيمانه ويضعف إيمانه, كما يكون عند بعض أهل البدع من الشكوك والحيرة التي تجعله في قلق فيُحجم عن كثير من أعمال الخير بسبب ضعف إيمانه ونقصه, وشكوكه التي تحصل عنده.

(المتن)

بل تجد المؤمنين يتفاوتون تفاوتا كثيرا في نفس العلم الذي عرفوه من علوم الإيمان:

أحدهما: علمه فيه قوي صحيح لا ريب فيه ولا شبهة.

والآخر: علمه فيه ضعيف، وعنده معارضات كثيرة تضعفه أحيانًا.

(الشرح)

يقول: إن الناس يتفاوتون ولاشك في هذا حتى في العلم الذي علمه الإنسان, علوم الناس تختلف, بعض الناس علمه قوي وقطعي لا يعتريه شبهة ولاشك, وتجده مطمئن القلب منشرح الصدر بما علمه وتيقنه, وبعض الناس وإن كان عنده علم لكنه يعتريه ما يعتريه هذا العلم فيضعف علمه, ويضعف تصديقه, فلا تجد عند الطمأنينة الكاملة, ولا تجد عنده انشراح الصدر الذي عند الأول, وهذا واضح محسوس.

(المتن)

وكذلك أخلاق الإيمان يتفاوتون فيها تفاوتًا كثيرًا، صفات الحلم والصبر والخلق وغيرها.

(الشرح)

وهذه الصفات ناشئة عن قوة الإيمان وضعفه, إن كان قوي الإيمان صار عنده من الحلم, والصبر, والتحمل, والصدق, والإخلاص, والمسارعة إلى الخيرات ما ليس عند من ضعف علمه ويقينه وتصديقه.

(المتن)

وكذلك في العبادات الظاهرة كالصلاة: يصلي اثنان صلاة واحدة، وأحدهما يؤدي حقوقها الظاهرة والباطنة، ويعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه, والآخر يصليها بظاهره وباطنه مشغول بغيرها, وكذلك بقية العبادات.

(الشرح)

العبادات كذلك: الصلاة, الزكاة, الصوم, الحج, الناس يتفاوتون في هذا, من الناس من عنده إحسان وإتقان للعبادة يعبد الله على المشاهدة, يُتقن صلاته ويطمئن فيها, ومنهم من عنده نقص وضعف فتكون صلاته فيها من النقص بحسب حاله, وكذلك في أداء الزكاة, وفي واجب الصوم, وكذلك في سائر العبادات والأعمال.

(المتن)

ولهذا كان المؤمنون ثلاث مراتب: مرتبة السابقين، ومرتبة المقتصدين, ومرتبة الظالمين.

(الشرح)

كما سبق أن المؤمنين على ثلاث مراتب وثلاثة أقسام, وكلهم اشتركوا في وصف الإيمان, لكن يتفاوتون في قوة الإيمان وضعفه:

فالسابقون المقربون: الذين صح إيمانهم وقوي تصديقهم فصار هذا الإيمان القوي الذي يُضيء في القلب يبعث على أعمال الخير, فصاروا يسابقون إلى الخيرات ويؤدون الواجبات, وصار عندهم نشاط وقوة تدفعهم إلى فعل المستحبات والنوافل، والمسارعة إليها, وتركوا المحرمات والمنهيات, وزاد نشاطهم فتركوا أيضًا المكروهات كراهة تنزيه, ثم زادوا فتركوا فضول المباحات حتى لا يقعوا في المكروهات فلا يتوسعون في المباحات خشية الوقوع في المكروهات, همة عالية, والدافع لهم قوة إيمانهم, وصحة تصديقهم.

الطائفة الثانية: هم المقتصدون وهم: أصحاب اليمين, صار عندهم من النشاط على حسب إيمانهم, أدوا الفرائض والواجبات واقتصروا عليها, ولم يتجاوزوها إلى فعل المستحبات والنوافل, أدوا الواجبات فقط, وتركوا المحرمات واقتصروا على ذلك, ولا يتجاوزوا ذلك إلى ترك المكروهات, بل فعلوا المكروهات كراهة تنزيه, وتوسعوا في بعض المباحات, فدرجتهم أقل من درجة السابقين المقربين, وإن كان كلٌ من الصنفين أدى ما أوجب الله عليه وانتهى عما حرم الله عليه, وكلٌ منهما يدخل الجنة من أول وهلة بدون عذاب.

ثم تأتي الطائفة الثالثة وهم الظالمون لأنفسهم وهم: الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي, ونقص إيمانهم, فسبب لهم هذا النقص أن قصروا في بعض الواجبات, أو فعلوا بعض المحرمات, لنقص إيمانه, فيشرب الخمر, أو يفعل الزنا, أو يسرق, أو يعق والديه, أو يتعامل بالربا, أو يأخذ رشوة, أو يقطع رحمه, وهو مؤمن مصدق ليس عنده شرك ولا كفر, لكن نقص إيمانه فقصر في بعض الواجبات وقام ببعض المحرمات, فعرض نفسه لغضب الله وسخطه, فمنهم من يعفو الله عنه بتوحيده وإيمانه وإسلامه, ويغفر الله له, كما قال تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﯘ)[النساء/48].

ومنهم من يُعذب في قبره, ومنهم تصيبه الأهوال والشدائد, ومنهم من يعذب في النار بسبب نقص الإيمان وضعف الإيمان الذي حملهم على التقصير في بعض الواجبات أو الوقوع في بعض المحرمات.

(المتن)

وكل واحدة من هذه المراتب أيضًا، أهلها متفاوتون تفاوتًا كثيرًا.

(الشرح)

هذه المراتب متفاوتة؛ حتى مرتبة السابقين المقربين يتفاوتون, كلهم يتنافسون في الخيرات, كلهم أدوا الواجبات وانتهوا عن المحرمات, لكن في تنافسهم في فعل المستحبات يتفاوتون, منهم من عنده نشاط فيصلي بالليل وقتًا طويلًا, ومنهم من السابقين من هو أقل من ذلك يصلي لكن أقل من الأول, منهم من عنده نشاط للصيام من السابقين المقربين فيصوم مثلًا ثلاثة أيام من كل شهر ويصوم الاثنين والخميس, ومنهم من هو أقل من ذلك يقتصر على صيام البيض مثلًا, ومنهم من يزيد على ذلك يصوم يومًا ويفطر يومين أو يصوم يومًا ويفطر يومًا إذا لم يكن عنده شيء يمنعه, يتفاوت الناس في هذا، هم يتفاوتون.

كذلك الظالمون لأنفسهم يتفاوتون, من الظالمين لأنفسهم من يفعل بعض المعاصي وشيئًا من المعاصي ولا يُكثر, ومنهم من يكثر بفعل المعاصي, يعني يتفاوتون, الظالمين لأنفسهم يتفاوتون في تقصيرهم في بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات, والسابقون المقربون يتفاوتون في تنافسهم في فعل الخيرات والمستحبات بعد أداء الواجبات وترك المحرمات.

(المتن)

والعبد المؤمن في نفسه له أحوال وأوقات تكون أعماله كثيرة قوية، وأحيانًا بالعكس.

(الشرح)

الإنسان يحس بهذا من نفسه, فأحيانًا يكون الإنسان عنده نشاط في بعض الأيام فيجلس ساعة طويلة ويقرأ القرآن ويتدبر, ويكون عنده نشاط أيضًا ويتصدق على بعض الفقراء, وبعض الأيام يكون عنده كسل وضعف, فتجده لا يصلي من النوافل ما كان يصليه في بعض الأيام, ولا يتصدق في بعض الأيام ما كان يتصدق به في بعض الأيام, فالإنسان يجد هذا من نفسه والنفس لها إقبال وإدبار, وكما قال بعض السلف: اجلس بنا نؤمن ساعة, تجد بعض السلف يقولون: هلمَ نؤمن ساعة, يذكرون الله ويزداد إيمانهم, وأحيانًا يكون الإنسان عنده نقص وضعف, يحس من نفسه أنه ضعف, فالإيمان يزيد وينقص, ويقوى ويضعف, فإذا أكثر الإنسان من فعل الطاعات زاد إيمانه, وإذا قلل نقص إيمانه وضعف.

(المتن)

وكل هذا من زيادة الإيمان ونقصه، ومن قوته وضعفه.

(الشرح)

يعني الإكثار من الطاعات والتقليل منها, وفعل بعض المعاصي كل هذا يدل على ضعف الإيمان ونقصه, وعلى زيادته وقوته.

(المتن)

وكان خيار الأمة، والمعتنون بالإيمان منهم يتعاهدون إيمانهم كل وقت ويجتهدون في زيادته وتقويته.

(الشرح)

كما ذكر عن عمر ابن الخطاب وعن غيره أنهم يقولون: اجلس بنا نؤمن ساعة, فيذكرون الله, يعينون أنفسهم وتربية النفوس وحملها على فعل الطاعة فيقوى الإيمان.

(المتن)

وفي دفع المعارضات المنقصة له ويجتهدون في ذلك.

(الشرح)

من الشبهات والشهوات, دفع الشبهات والشهوات التي تعرض للإنسان, وتنقص إيمانه, الشبهة تُضعف اليقين والتصديق والعلم, والشهوة تُضعف إقبالها على الطاعات, فلولا الشهوة لما وقع شارب الخمر في شرب الخمر, الشهوة التي تدفعه إلى المسكر, وكذلك الزاني الشهوة الزنا دفعته إلى فعل الزنا, وكذلك أيضًا من يأكل أموال الناس بالباطل, حب المال يدفعه إلى أن يكسب المكاسب الخبيثة, وهكذا, فلا بد من دفع الشهوات والشبهات حتى يصح إيمان العبد ويقوى تصديقه, وحتى تندفع الشهوات التي تحول بين الإنسان وبين أداء الواجبات وترك المحرمات.

(المتن)

ويسألون الله أن يثبت إيمانهم، ويزيدهم منه.

(الشرح)

مع جهاد النفس يجاهدون أنفسهم حتى تستقيم أنفسهم على طاعة الله, ومع ذلك يضرعون إلى الله ويلجئون إليه ويسألونه أن يثبتهم على الإيمان.

(المتن)

من علومه وأعماله وأحواله, فنسأل الله: أن يزيدنا علمًا ويقينًا، وطمأنينة به وبذكره، وإيمانًا صادقًا.

وخيار الخلق أيضًا يطلبون ويتنافسون في الوصول إلى عين اليقين، بعد علم اليقين، وإلى حق اليقين. كما قال الله عن إبراهيم عليه السلام: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[البقرة: 260].

(الشرح)

يعني خيار المؤمنين يسعون في تقوية وزيادة إيمانهم بكل ممكن, فالمؤمن عنده يقين تصديق بحقائق الإيمان وبما أخبر الله به, هذا يجده في قلبه علم وتصديق جازم لا يعتريه شك ولا ريب, هذا علم اليقين, لكن خيار المؤمنين يريدون أن يتجاوزوا هذه المرتبة إلى مرتبة أقوى منها, ما هي المرتبة التي هي أقوى من علم اليقين؟ عندهم علمٌ جازم, وتصديقٌ قوي بما وعد الله به وبما أخبر به, هذا علم اليقين علمٌ في القلب لا يتطرق إليه أي شك.

هناك درجة أعلى من علم اليقين وهي عين اليقين, علم اليقين: ما تعلمه بقلبك وتجزم به وتتيقن به بما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم, وما أخبر الله به عن أسمائه وصفاته, وبما أخبر الله به عن اليوم الآخر وعن الجنة والنار, وما أخبر الله في كتابه وعلى لسان رسوله بما يكون في البرزخ وسؤال منكر ونكير, وعذاب القبر ونعيمه, وكل مسلم يتيقن بأن الله على كل شيء قدير, وأن الله يحي الموتى لا يعتريه شك.

لكن خيار المؤمنين يريدون أن يتجاوزوا هذه المرتبة إلى مرتبة أقوى منها, يريدون أن ينتقلوا من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين القين, كما طلب هذا إبراهيم الخليل عليه الصلاة، والسلام, إبراهيم الخليل سأل ربه أن ينتقل من رتبة إلى رتبة أعلى منها, فسأل ربه قال: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭼ)[البقرة/260].

أريد زيادة طمأنينة, أريد أن أنتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين وهي المشاهدة, فالذي يعلم الشيء ليس كمن يشاهده, قال الله تعالى له: ( ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ)[البقرة/260].

إبراهيم مؤمن بأن الله يحي الموتى ما عنده شك عليه الصلاة والسلام, والمؤمنون كذلك, لكن إبراهيم يريد أن يشاهد بنفسه وبعينه كيف يحي الله الموتى, يريد أن ينتقل من العلم الذي في القلب إلى اليقين الذي تشاهده العين, وهذه أقوى, فقال الله: خذ أربعة من الطير وقطعهم, فأخذ أربعة من الطير وقطعها وذبحها وجعلها على الجبال وأخذ الرؤوس معه, الرؤوس معه والجثث على الجبال, فلما أراد الله أن يحي هذه الطيور صارت الطيور تأتي إليه, فإذا أتت الجثة يريد أن يركب الرأس والرأس ليس له فامتنع حتى تأتي للرأس الذي له فيركب ويحييه الله, وهو يشاهد, ويأتي الطير الثاني فيأتي بالرأس الذي معه يريد يركب الرأس فإذا كانت ليست رأسه امتنع ولم يقبلها حتى يأتي جثة صاحب الرأس فيركب عليها.

مرتبة يقين أعظم من مرتبة العلم, فهذه المرتبة الأولى تسمى مرتبة علم اليقين, والمرتبة الثانية مرتبة عين القين, تُشاهد بنفسك, وهناك مرتبة ثالثة أعلى منها وهي مرتبة؛ حق اليقين, وهي مباشرة الشيء, فمثلًا المؤمنون يجزمون بما أخبر الله به من الجنة والنعيم, وأن الله أعد للمؤمنين جنة ونعيم, وهذه الجنة فيها أنهار, وفيها ثمار, هذا لا يشك فيه مسلم, هذا علم اليقين, فإذا كان يوم القيامة وقال الله لهم ادخلوا الجنة وشاهدوا الجنة وصلوا إلى مرتبة عين اليقين, انتقلوا من مرتبة العلم الذي في القلب إلى مرتبة المشاهدة بالعين, فإذا دخلوا الجنة وباشروها وأكلوا من ثمارها انتقلوا إلى مرتبة حق اليقين.

ومثال ذلك أيضًا مما يقوي الفرق بين المراتب الثلاث: علم اليقين, وعين اليقين, وحق اليقين, لو قال لك إنسان هذا الوادي الآن, ماذا يسمى الوادي؟ وادي بيش مثلًا, قال لك وأخبرك ثقات بأن الوادي سال وأنت جالس في البيت وجاءك ثقات أشخاص تعلم صدقهم وقالوا: إن الوادي سال, وجاءك أيضًا آخرون ، وتتابع الذين أخبروك، عشرات بعد العشرات بعد العشرات قالوا لك بأن الوادي سال، هل تشك؟ تعلم أنهم ثقات, أخبرك عشرة, ثم مئة, ثم ألف, أخبروك ألف أن الوادي سال, هل تشك؟ لا تشك, وعندك علم جازم بأن الوادي سال.

بعد ذلك انتقلت وذهب بنفسك ووقفت على الوادي ورأيته يمشي, هذا انتقلت من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين, صار يقينك أقوى, لأن في الأول عندك علم وتصديق بالثقة والآن شاهدت بعينك ورأيت الوادي يسيل هذه مرتبة عين القين, ثم بعد ذلك أردت أن تزداد اليقين فنزلت في الوادي وشربت منه باشرت وشربت فصار عندك حق اليقين, انتقلت من مرتبة عين اليقين إلى مرتبة حق اليقين.

هذه مراتب اليقين: العلم الذي في القلب, ثم المشاهدة, ثم المباشرة, قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ)[التكاثر/4-7]؛ بالمشاهدة.

فالأخيار يريدون أن ينتقلوا من رتبة علم اليقين إلى عين اليقين كما فعل الخليل عليه الصلاة والسلام, فإنه سأل ربه أن يريه كيف يحي الموتى, وهو مؤمن لكن يريد أن ينتقل من رتبة إلى رتبة أعلى منها, يريد أن ينتقل من رتبة التصديق والعلم الذي في القلب إلى رؤية المشاهدة بالعين.

 (المتن)

وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)[الأنعام: 75].

والحواريون خواص أتباع المسيح ابن مريم عليه السلام حين طلبوا نزول المائدة، ووعظهم عيسى عليه السلام على هذا المطلب: (قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ)[المائدة: 113].

فذكروا حاجتهم الدنيوية، وحاجتهم العلمية الإيمانية إلى ذلك.

(الشرح)

يعني: الحواريين أرادوا أن ينتقلوا من رتبة علم اليقين إلى رتبة عين اليقين, قالوا: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯾ)[المائدة/113].

فيزدادون طمأنينة حينما يشاهدونها, فهم يعلمون أن الله قادر على كل شيء فهم لا يشكون في هذا, لكن إذا نزلت المائدة وشاهدوها وباشروها وأكلوا منها زاد يقينهم وإيمانهم, فانتقلوا من رتبة إلى رتبة أعلى منها, من رتبة العلم إلى رتبة المشاهدة ثم المباشرة, حاجتهم الدنيوية قالوا: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯾ)[المائدة/113].

وحاجتهم العلمية قالوا: ( ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ)[المائدة/113].

(المتن)

قال المؤلف رحمه الله: الفصل الثاني: في ذكر الأمور التي يستمد منها الإيمان.

وهذا فصل عظيم النفع والحاجة، بل الضرورة ماسة إلى معرفته والعناية معرفةً واتصافًا وذلك أن الإيمان هو كمال العبد، وبه ترتفع درجاته في الدنيا والآخرة، وهو السبب والطريق لكل خير عاجل وآجل, ولا يحصل، ولا يقوى، ولا يتم إلا بمعرفة ما منه يُستمد, وإلى ينبوعه وأسبابه وطرقه.

والله تعالى قد جعل لكل مطلوب سببًا وطريقًا يوصل إليه, والإيمان أعظم المطالب وأهمها وأعمها، وقد جعل الله له مواد كبيرة تجلبه وتقويه، كما كان له أسباب تضعفه وتوهيه.

(الشرح)

يعني يقول: الإيمان هو أصل سعادة العبد, ولا يصل العبد إلى سعادة ولا نجاة ولا فلاح إلا بالإيمان, فإذا رأى الله من العبد الإيمان الصادق والتصديق الجازم بما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبما قام به من تنفيذ الأوامر وترك النواهي صار هذا دليلًا وسبيلًا لسعادته, وإذا كان كذلك فما هي المواد التي تُمد هذا الإيمان؟ وما هي المقويات التي تقويه؟ حتى يفعلها العبد ويصير إليها, وما هي المواد التي تُضعف هذا الإيمان وتنقصه, وتكون سببًا في نقصه وضعفه حتى يتجنبها المسلم.

(المتن)

ومواده التي تجلبه وتقويه أمران: مجمل, ومفصل.

أما المجمل: فهو التدبر لآيات الله المتلوة من الكتاب والسنة، والتأمل لآياته الكونية على اختلاف أنواعها، والحرص على معرفة الحق الذي خلق له العبد، والعمل بالحق، فجميع الأسباب مرجعها إلى الأصل العظيم.

(الشرح)

يعني يقول: إن المواد التي تقوي الإيمان وتنميه: مجمل, ومفصل.

أما المجمل: فهو يتنوع إلى هذه الأنواع, وهو تدبر الآيات القرآنية وتدبر كلام الله عز وجل, تأمل الآيات القرآنية وما فيها من العظة والعبرة, وما فيها من الدعوة إلى العلم بالله, وتصديق أخباره وتنفيذ أحكامه.

ثانيًا: تأمل الآيات الكونية وما في هذا الكون من الليل, والنهار, والشمس, والقمر, والنجوم, والبحار, والأشجار, والأنهار, كلها تدل على قدرة الله ووحدانيته: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ)[آل عمران/190-191].

(ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ)[يونس/6].

(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ)[البقرة/164].

تدبر الآيات الكونية مما يقوي الإيمان ويزيده, وكذلك أيضًا العلم بالحق الذي جاء في الكتاب والسنة, يتعلم الإنسان ما أوجب الله عليه حتى يتعلم ما نهى الله عنه حتى يتركه, هذه أمورٌ أربعة ضمن هذا الأمر المجمل تمد الإيمان وتقويه وتُعينه:

أولًا: تدبر القرآن الكريم, اقرأ بتدبر, فإذا تدبر الإنسان (.....) .

فتدبر القرآن ذاك الهدى، فالعلم تحت تدبر القرآن.

فإذا تدبر الإنسان القرآن تفهم الآيات, الله تعالى وصف المؤمنين بعدة صفات طبقها على نفسك: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ)[البقرة/3-4].

(ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ)[التوبة/71].

تدبر صفات المنافقين واجتنب منها واحذرها: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ)[التوبة/67].

وهكذا, يتدبر الإنسان الآيات ويتدبر النواهي, ويتدبر أخلاق المؤمنين وصفاتهم, ويتدبر أخلاق المنافقين وصفاتهم، فإذا تدبر الإنسان وتأمل وقرأ القرآن بحضور القلب عرف الأعمال والعلوم والأحوال الزكية, وعرف العلوم والأحوال والأعمال الرديئة.

الأمر الثاني: يتدبر الآيات الكونية, هذا الكون كله شاهد على وحدانية الله, وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد, نجومٌ تزهر وبحار تزخر, شمس تخرج كل يوم من المشرق وتغرب من المغرب من الذي دبرها! من الذي سيرها! كل يوم بنظام بديع, (.....) هذا القمر يبدأ يظهر في أول الشهر ضعيف كالخيط جهة المغرب, ثم لا يزال يقوى ويقوى ليلة بعد ليلة حتى يتكامل في منتصف الشهر, ثم لا يزال يضعف ويضعف في آخر الشهر وتبدأ دورته من أول الشهر باستمرار في جميع الشهور ما يتغير, من الذي دبره! من الذي سيره؟! أليس هو الله! بلى.

تدبر في هذا الكون, فإذا تدبر الإنسان الآيات القرآنية, وتدبر الآيات الكونية.

الأمر الثالث: بعد ذلك علم الحق, وعلم ما أوجب الله عليه, وعلم ما حرم الله عليه.

الأمر الرابع: يجاهد نفسه بالعلم بما علم, العلم بأداء الواجبات وترك المحرمات.

  • هذه أمور أربعة تمد الإيمان:

أولًا: تدبر القرآن.

ثانيًا: تدبر الآيات الكونية.

ثالثًا: العلم بالحق, وتعلم الحق.

رابعًا: جهاد النفس للعمل.

هذا الأمر المجمل المكون من هذه الأمور الأربعة.

(المتن)

وأما التفصيل: فالإيمان يحصل ويقوى بأمور كثيرة.

أولًا: منها بل أعظمها: معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبد لله فيها.

(الشرح)

أما التفصيل: فهي أمور متعددة أعظمها وأهمها:

أولًا: تدبر أسماء الله الحسنى وصفاته, تدبر اسم الله, الله أعرف المعارف, لفظ الجلالة لا يُطلق إلا على الله, الذي تألهه الله هو الذي تألهه القلوب محبةً وإجلالًا وخوفًا وتعظيمًا ورجاءًا, الله ذو الألوهية, اسم الله الأعظم, اسم الله الذي لا يسمى به غيره, أعرف المعارف,  الله هو مشتمل على الألوهية, كل اسمٌ من أسماء الله مشتق مشتمل على الصفة, الله مشتق من صفة الألوهية.

الرحمن لا يسمى به غير الله مشتمل على صفة الرحمة, العليم مشتمل على صفة العلم, القدير مشتمل على صفة القدرة, وهكذا, تدبر أسماء الله الحسنى, والتعبد لله بالتوسل إليه بأسماء الحسنى كما قال ربنا سبحانه وتعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﮃ)[الأعراف/180].

ادعوا الله بأسمائه الحسنى, ونتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى, وتعلم بما يمكن العمل منها, الرحمن صفة الرحمة تتصف بالرحمة, العزيز تتصف بالعز والشرف, القدير, القوي تعلم القوة في طاعة الله, وهكذا كما جاء في الحديث: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة».

قال العلماء: من أحصاها يعني حفظها وتأملها وتدبرها وعمل بما شرع العمل منه.

(المتن)

فقد ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة» أي: من حفظها وفهم معانيها، واعتقدها، وتعبد لله بها دخل الجنة.

(الشرح)

وهذه الأسماء لم يبينها النبي صلى الله عليه وسلم, وأسماء الله كثيرة ليست محصورة في المائة, أسماء الله كثيرة بعضها علمه الخلق وبعضها لا يعلمه الخلق, كما في الحديث الآخر: «أسألك بكل اسمٍ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك».

ولكن المراد من هذا الحديث: «إن لله تعالى تسعةً وتسعين اسمًا» موصوفة بأن من أحصاها دخل الجنة, ولله أسماء أخرى لم توصف بهذا الوصف, والله تعالى لم يبينها للناس أخفاها الله ولم يبينها للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون ذلك حاجزًا للعباد في تطلب هذه الأسماء والتعرف عليها والبحث عنها من الكتاب والسنة؛ حتى يحصل العباد على هذه الأسماء فيحفظوها ويتدبروها, ويتوسلوا إلى الله بها, ويعملوا بها ويحصلوا على هذا الأجر.

«إن لله تعالى تسعةً وتسعين اسمًا» موصوفة بأن من أحصاها دخل الجنة, وله أسماء أخرى لم توصف بهذا الوصف, فلا يُفهم من الحديث أنه الحصر وأنه يدل على أن أسماء الله لا تزيد عن تسعة وتسعين, لا, فأسماء الله كثيرة.

(المتن)

من حفظها وفهم معانيها، واعتقدها، وتعبد لله بها دخل الجنة, والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون.

(الشرح)

من اعتقدها وفهم معناها, وتعبد لله بها, وأن الله متصلٌ بها ومسمى بها دخل الجنة, (والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون) لأن الجنة حرامٌ على المشركين, الكافر حرامٌ عليه, حرم الله عليه الجنة: ( ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ)[المائدة/72].

الجنة حرامٌ على الكفار لا يدخلها إلا المؤمن, ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديًا في بعض الغزوات أن ينادي: «إن الجنة لا يدخلها إلا نفسٌ مؤمنة».

(المتن)

فعُلم أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته.

(الشرح)

لاشك أن هذا من أعظم الإيمان وقوته وثباته؛ التعرف على أسماء الله والتعبد لله بها, واعتقاد معناها, والعمل بمقتضاها, هذا من أعظم ما يقوي الإيمان, ويزيده.

(المتن)

ومعرفة الأسماء الحسنى هي أصل الإيمان، والإيمان يرجع إليها.

(الشرح)

تعرف إلى عباده بأسمائه ليعرفوه سبحانه وتعالى ثم يعبدوه, فإذا عرف الإنسان ربه عبده.

(المتن)

ومعرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

(الشرح)

توحيد الربوبية: أن يعتقد العبد أن الله تعالى فاعل, أنه الخالق, الرازق, المدبر, المحيي, المميت.

وتوحيد الأسماء والصفات: يؤمن بالأسماء والصفات.

توحيد الألوهية: يعبد الله بأفعاله هو, يعني يعبد الله بالدعاء, والخوف, والرجاء, والصلاة, والزكاة, والحج, والصوم, هذا توحيد العبادة.

(المتن)

وهذه الأنواع هي رُوح الإيمان، وأصله, وغايته.

(الشرح)

(وهذه الأنواع هي رُوح الإيمان، وأصله, وغايته) إذا وحد الإنسان ربه في ربوبيته فآمن بوجوده, واعتقد أن الله هو الرب وغيره مربوب, وأنه الخالق وغيره مخلوق, وأنه المالك وغيره مملوك, وأنه المدبر وغيره مُدبَر, وآمن بأسماء الله وصفاته ثم وحد الله بأفعاله وصرف العبادة لله وحده, فوحد الله توحيد العبادة بصلاته وصومه, وزكاته وحجه, وبره الوالدين, وصلته للرحم, ووحد الله بترك المحرمات؛ هذا هو روح الدين وهذا هو غايته وكماله.

إذا وحد الإنسان ربه في ربوبيته, ووحد ربه في أسمائه وصفاته, ووحد ربه في ألوهيته وعبادته حصل على خيري الدنيا والآخرة, حصل على السعادة الأبدية, ولب الدين وأصله, وغايته وكماله.

(المتن)

فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته، ازداد إيمانه، وقوي يقينه. فينبغي للمؤمن أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات، وتكون معرفته سالمة من داء التعطيل، ومن داء التمثيل اللذين ابتلي بهما كثير من أهل البدع المخالفة.

(الشرح)

يعني: أن المسلم إذا عرف أسماء الله وصفاته فإنه يجب عليه أن يُثبت هذه الأسماء والصفات لله عز وجل على ما يليق بجلال الله وعظمته.

  • ويحذر من داءين اُبتلي بهم أهل البدع وأهل الكفر والضلال:

الداء الأول: داء التمثيل والتشبيه, اُبتلي بهذا المشبهة فقالوا: نثبت أن الله عليم, وسميع, بصير, وقدير, ونثبت لله الوجه واليدين كما ورد في الكتاب, لكن نقول: إن صفات الله مثل صفاتنا, فيقول: لله وجه مثل وجوهنا, ولله يدٌ مثل أيدينا, ولله علمٌ مثل علمنا, وله استواء على العرش مثل استواءنا على مركوب, شبهوا الله بخلقه, هؤلاء لم يعبدوا الله في الحقيقة وإنما عبدوا وثنًا, أوثانًا نحتتها أفكارهم وصورتها لهم أذهانهم, فصاروا من عباد الأوثان لا من عباد الرحمن, المشبه ما عبد الله.

الذي يقول: صفات الله مثل صفات المخلوقين, علم الله مثل علم المخلوقين, يد الله مثل أيدي المخلوقين هذا ما عبد الله, وإنما عبد وثنًا صوره وخياله توهمه فظن أنه الله, والله تعالى فوق ما يظنه هؤلاء, ويعلم ما يتوهمه هؤلاء, فهم مشابهون للنصارى الذين عبدوا المسيح وقالوا: هو ابن الله, ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله:

لسنا نشبه وصفه بصفاتنا
 

 

إن المشبه عابد الأوثان
 

 

 

وقال:

من شبه الله العظيم بخلقه
 

 

فهو النسيب لمشرك نصراني
 

 

 

فالمسلم إذا أثبت الأسماء الحسنى والصفات العلا لله عز وجل يتجنب هذا الداء وهو داء التشبيه والتمثيل, ولا يشبه أسماء الله بأسماء خلقه, ولا يشبه صفات الله بصفات خلقه, بل يعتقد أن الله له أسمائه الحسنى وصفاته العلا التي تليق بجلاله وعظمته لا يماثل أحدًا من خلقه.

والداء الثاني: داء التعطيل, الذي سلكه المعطلة من الجهمية, والمعتزلة, والأشاعرة وغيرهم, الذين نفوا الصفات, يؤمن أحدهم باللفظ فقط فيقول: ( ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮧ)[الأعراف/54].

لكن يقول: إن الله لم يستوي على العرش, فإذا قلت له: كيف؟ قال: إذا قلت: استوى على العرش معناه أني شبهت الله بخلقه, فأنا ما أقول استوى, ولكن معنى استوى استولى, وكذلك أيضًا ينفي العلم, والقدرة, والسمع, والبصر, قالوا: لو أثبتناها للخالق والمخلوق له نفس الصفات لشبهنا الخالق بالمخلوق, وفرارًا من ذلك نفوا الصفات قالوا: إن الله ليس له علم, ولا قدرة, ولا سمع, ولا بصر, ولم يستوي على العرش, وهؤلاء في الحقيقة ما عبدوا الله وعطلوا الله, ولم يعبدوا خالقًا في الحقيقة؛ لأن الذي تُنفى عنه الأسماء والصفات لا وجود له.

فالمعطلة يقولون: ننفي ليس لله علم, ولا سمع, ولا بصر, ولا قدرة, ولا إرادة, ولا مشيئة, وحتى غلاتهم قالوا: ولا نقول أنه فوق العرش, ولا تحت, ولا أمام, ولا خلف, ولا يمين, ولا شمال, وليس فوق العالم ولا تحت العالم, ماذا يكون؟ يكون عدم, والعياذ بالله, هكذا استدرجهم الشيطان حتى أوصلهم إلى هذا.

فيتجنب المسلم التعطيل الذي وقع فيه هؤلاء, وهؤلاء في الحقيقة يعبدون عدم, ليس هناك موجود ليس له صفات, شيء موجود ليس له صفات وتنفي الأسماء والصفات عنه لا وجود له, ولا يوجد شيءٌ إلا وله صفات حتى الجماد هذه لها صفات, لها طول ولها عرض ولها عمق, فإذا قلت: هناك شيء ليس لها طول ولا عرض ولا عمق ولا سمك ولا تلمس, وليست فوق ولا تحت, ولا في السماء ولا في الأرض, ماذا تكون؟ عدم, الشيء الذي تُنفى عنه الأسماء والصفات لا وجود له.

فهؤلاء المعطلة نفوا أسماء الله وصفاته فعطلوه وأنكروا وجوده فصاروا يعبدون عدمًا, المعطل يعبد عدمًا وليس له إله يعبده إنما يعبد عدمًا, كما أن المشبه الذي شبه الله بخلقه يعبد وثنًا, يعبد وثنًا تخيله وتصوره, تخيل أن الله على وصف المخلوق فعبد وثنًا, فالمشبه والممثل يعبد صنمًا ووثنًا, والمعطل يعبد عدمًا, والموحد المؤمن يعبد إلهًا واحدًا فردًا صمدًا, فكن من المؤمنين الموحدين واحذر أن تكون من المشبهين الممثلين أو من المعطلين الجاحدين.

(المتن)

لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل تكون المعرفة متلقاة من الكتاب والسنة.

(الشرح)

هكذا يتلقى علومه ومعارفه من الكتاب والسنة, ويحذر أن يتلقى علومه ومعارفه من أهل البدع والضلال والانحراف.

(المتن)

وما روي عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان.

(الشرح)

لأن الصحابة هم أعلم الناس بمقاصد الشريعة, وهم شاهدوا التنزيل, وعاصروا النبي صلى الله عليه وسلم, وصحبوه, وهم يرون نزول القرآن عليه, وما أشكل عليهم سألوا عنه النبي صلى الله عليه وسلم, فهم أعلم الناس وأفضل الناس بعد الأنبياء, لا كان ولا يكون مثلهم, فعلومهم أصح العلوم, وأفهمهم أصح الأفهام, ما فسره الصحابة من الكتاب والسنة مقدم على غيره؛ لأنهم أصح الناس علومًا وأفهامًا رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا.

(المتن)

فهذه المعرفة النافعة التي لا يزال صاحبها في زيادة في إيمانه وقوة يقينه، وطمأنينة في أحواله.

(الشرح)

هذه المعرفة, معرفة الله بأسمائه وصفاته هذه هي المعرفة العظيمة التي تزيد الإيمان واليقين والتصديق, وتبعث الإنسان على العمل.

(المتن)

ثانيًا: ومنها: تدبر القرآن على وجه العموم.

(الشرح)

الأمر الأول: معرفة أسماء الله وصفاته, وتدبرها والعمل بها.

الأمر الثاني: الأمور التي تزيد الإيمان وتُمد الإيمان كما سبق مجملة ومنفصلة, المجمل عرفناه: هو تدبر آيات القرآن, وتدبر الآيات الكونية والعلم بالشرع ثم جهاد النفس على العمل.

  • أما الأمر التفصيلي:

ذكر أولًا: العلم بأسماء الله وصفاته.

ثانيًا: تدبر القرآن.

(المتن)

فإن المتدبر لا يزال يستفيد من علوم القرآن ومعارفه، ما يزداد به إيمانًا, كما قال تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال: 2].

(الشرح)

الأمر الثاني: تدبر القرآن كله من أوله إلى آخره, فإن المتدبر لا يزال يحضره العلم والمعارف والأحوال؛ حتى تزكوا نفسه وتصفو, وتصح عقيدته, ويصدق إيمانه, وتعظم رغبته بالله وفيما عنده, كما قال الناظم:

فتدبر القرآن تلك الهدى
 

 

فالعلم تحت تدبر القرآن
 

 

 

وأبلغ من ذلك قول الله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ)[ص/29].

وقال سبحانه: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ)[محمد/24].

(ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ)[النساء/82].

وقال سبحانه: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ)[القمر/17].

فتدبر القرآن العظيم فيه الخير والهدى, وسبب الفلاح والنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة.

(المتن)

وكذلك إذا نظر إلى انتظامه وإحكامه، وأنه يصدق بعضه بعضًا، ويوافق بعضه بعضًا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف تيقن أنه: (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت: 42].

(الشرح)

إذا نظر إلى القرآن وإحكامه وانتظامه العظيم زاده إيمانًا ويقينًا, كما قال سبحانه وتعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﮌ)[الزمر/23].

يعني: يشبه بعضه بعضًا في الإحكام, والإتقان, والتناسب, ويصدق بعضه بعضًا, ويوافق بعضه بعضًا, ليس فيه اختلاف, ولهذا قال تعالى: ( ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ)[النساء/82].

( ﭬ ﭭ ﮌ)[الزمر/23]؛ يشبه بعضه بعضًا في الصدق واليقين, والإتقان والبيان, والإيضاح, والإحكام: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ)[هود/1].

فالله تعالى قص علينا هذه القصص في القرآن الكريم, ليس في القرآن اختلاف, (.....) , وارتباط, يصدق بعضه بعضًا, قص الله علينا قصة موسى في مواضع متعددة من القرآن الكريم, في بعض السور قصها الله قصة مبسطة ومطولة, وفي بعضها مختصرة: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [المزمل/15-16]؛ هنا ذكر الله قصة موسى مختصرة, وأن الله أرسل إلى فرعون رسول وأنه عصى, وأن الله أخذ فرعون, هذه قصة مجملة.

بينما في سورة الشعراء قص الله علينا قصة موسى, من أول نشأته وأنه نشأ في بيت فرعون, وأنه قتل القبطي, ثم بعد ذلك خرج وهرب وذهب إلى مَدين, واتفق مع الرجل الصالح وزوجه إحدى ابنتيه بعد أن رعى الغنم عشر سنين, ثم أرسله الله إلى فرعون وأتاه مرة أخرى, وطلب منه آية فأعطاه الآية, ثم حصل المناظرة بينه وبين فرعون باجتماع السحرة ثم غلبهم موسى بالحجة والبيان, ثم بعد ذلك سار موسى ببني إسرائيل, فلما علم ذلك فرعون جمع جنوده وتبعهم, ثم أمر الله موسى لما وصلهم فرعون فضرب البحر بعضاه فانفلق وصار يبسًا فدخل موسى ومن معه, ودخل فرعون ومن معه تبعه, ثم خرج موسى ومن معه من الجهة الأخرى سالمين, فأمر الله البحر فانطبق على فرعون فهلك, هذه قصة مطولة.

والقصة المختصرة لا تنافيها بل توافقها, مختصرة لأن الله أرسل موسى إلى فرعون وأنه كذبه فأخذه الله.

كذلك أيضًا قصة ثمود مع نبي الله صالح جاءت مبسطة وجاءت مختصرة, كما في سورة والشمس وضحاها: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ)[الشمس/11-15].

هذه مختصرة, وقص الله تعالى هذه القصة في مواضع في القرآن الكريم, في سورة الشعراء, وفي سورة الأعراف وفي غيرها, قص الله قصة صالح مع قومه ثمود وكيف عقروا الناقة وقتلوها وكذبوا نبي الله صالح, وهكذا, فالقرآن يصدق بعضه بعضًا, ويوافق بعضه بعضًا, وليس فيه اختلاف ولا تناقض؛ لأنه تنزيل من حكيمٍ حميد, فهو يشبه بعضه بعضًا, هو متشابه لأنه يشبه بعضه بعضًا بالتصديق والإتقان, والإحكام, والبيان, والإيضاح: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ)[الزمر/23].

(المتن)

وأنه لو كان من عند غير الله، لوجد فيه من التناقض والاختلاف أمور كبيرة.

(الشرح)

وهذا واقع, تجد الكتب مهما ألف الناس وكتب الناس لا بد أن يكون فيها نقص, فتجد الإنسان يكتب الكتاب أو يكتب الرسالة أو البحث ثم إذا عادها مرة أخرى وجد فيه أنه يحتاج إلى زيادة أو نقص, وإذا عاد مرة ثانية ظهر له شيء, ومرة ثالثة ظهر له شيء, وهكذا, كما قال بعض السلف: يؤلف الكتاب ويقرأ سبعين مرة, وفي كل مرة يجد له شيء إما نقص أو زيادة, حتى قال بعضهم: أبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه, وما عدا هذا الكتاب يحصل فيه نقص, كتاب الله هو الكامل وأما كتب الناس فيها نقص وفيها ضعف: ( ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ)[النساء/82].

(المتن)

قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء: 82].

وهذا من أعظم مقويات الإيمان، ويقويه من وجوه كثيرة، فالمؤمن بمجرد ما يتلو آيات الله، ويعرف ما رُكب عليه من الأخبار الصادقة، والأحكام الحسنة يحصل له من أمور الإيمان، خير كبير فكيف إذا أحسن تأمله، وفهم مقاصده وأسراره؟! ولهذا كان المؤمنون الكمل يقولون: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا)[آل عمران: 193].

(الشرح)

يعني لاشك في هذا, إذا تدبر وتأمل, وكان عنده إرادة جازمة, ورغبة صادقة في العمل فإنه يدفعه ذلك إلى العمل, والتنفيذ, تنفيذ الأحكام، وتصديق الأخبار.

(المتن)

ثالثًا: وكذلك معرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

(الشرح)

هذا الأمر الثالث.

الأمر الأول: تدبر الأسماء والصفات.

الأمر الثاني: تدبر القرآن.

الأمر الثالث: تدبر الأحاديث النبوية.

(المتن)

وما تدعو إليه من علوم الإيمان وأعماله كلها من محصلات الإيمان ومقوياته.

(الشرح)

يعني: مثل قوله: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا, ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل».

«احرص على ما ينفعك واستعن بالله» هذان الأمران يجذبان للعبد خيري الدنيا والآخرة, احرص على ما ينفعك في أمور الدين والدنيا, واستعن بالله وتوكل عليه, ولا تعجز، اترك العجز والكسل.

وكذلك الحديث الآخر: «المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» المؤمن القوي هو الذي يتعدى نفعه إلى الناس, ينفع نفسه وينفع غيره, ينفع الناس بأي شيء؟ بماله, ينفق عليهم ويطعم الجائع, ويكسو العاري ويعلم الجاهل, يشفع لمن احتاج منه الشفاعة, يُعين من احتاج إلى إعانته ببدنه, وبجاهه وتوجيهه وإرشاده, هذا هو المؤمن القوي.

المؤمن الضعيف: هو الذي يقتصر نفعه على غيره, وليس المراد قوة البدن, قد يكون المؤمن القوي وهو على فراشه, في توجيهه وعلمه وإرشاده وشفاعته, ونصحه وتعليمه وإطعامه الجائع, ونفقته, هذا المؤمن القوي, والمؤمن الضعيف: يقتصر على نفسه: «المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٌ خير» كلٌ منهم اشتركوا في أصل الإيمان وأصل الخيرية لكن يتفاوتون.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن» هذا من جوامع الكلم, إذا تدبر المسلم مثل هذا الحديث قوي الإيمان ودفعه إلى العمل الصالح.

  • هذه الأمور الثلاثة:
  1. تدبر أسماء الله الحسنى.
  2. تدبر القرآن.
  3. تدبر الأحاديث النبوية.

(المتن)

فكلما ازداد العبد معرفة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ازداد إيمانه ويقينه, وقد يصل في علمه وإيمانه إلى مرتبة اليقين.

(الشرح)

لاشك إذا تدبر أسماء الله, وتدبر القرآن الكريم, وتدبر الأحاديث النبوية؛ قوي إيمانه وقد يصل إلى مرتبة عليا من اليقين والصدق, والرغبة في الخير, والعمل الصالح.

(المتن)

فقد وصف الله الراسخين في العلم, الذين حصل لهم العلم التام القوي، الذي يدفع الشبهات والريب، ويوجب اليقين التام؛ ولهذا كانوا سادة المؤمنين الذين استشهد الله بهم، واحتج بهم على غيرهم من المرتابين والجاحدين، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[آل عمران: 7].

(الشرح)

هؤلاء الراسخون في العلم, لما كانوا راسخون في العلم؛ لأن الله وفقهم لتدبر أسمائه الحسنى وصفاته العلا, وما فيها من المعاني والأسرار, وتدبر آيات القرآن الكريم, وتدبر الأحاديث النبوية فصاروا من أهل العلم, ترسخ العلم والإيمان في قلوبهم, حصلوا على مرتبة عليا من الشرف والفضل وزاد إيمانهم ويقينهم, وجهادهم أنفسهم بالعمل بما علموا, فجعلهم الله في مرتبة عالية, وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته في قوله عز وجل: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ)[آل عمران/18].

هذا شرف لأهل العلم, قرن الله شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته, على أجل مشهودٍ به وهو الوحدانية, أعظم شهادة هي الشهادة لله بالوحدانية, وأعظم مشهودٍ به هو الشهادة لله تعالى بالوحدانية, استشهد الله أهل العلم وقرن شهادتهم بشهادته, لفضلهم, بسبب عنايتهم وتدبرهم, وتفهمهم, وتعلمهم, في كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتدبرهم وتفهمهم لأسماء الله الحسنى؛ حتى علموا ما أوجب الله عليهم, وعرفوا حق الله, فجاهدوا أنفسهم في العمل, فعملوا بما علموا, واستقاموا على توحيد الله وطاعته, وعملوا بشرعه ودينه, فتحصلوا على هذه المرتبة العظيمة وهذا الشرف العظيم, ونالوا هذا الشرف العظيم.

(المتن)

فالراسخون زال عنهم الجهل والريب وأنواع الشبهات، وردوا المتشابه من الآيات إلى المحكم منها.

(الشرح)

(فالراسخون زال عنهم الجهل والريب) ليس عندهم شك ولا ريب, بل عندهم يقين جازم, يقين صحيح وتصديق جازم, وردوا المتشابه إلى المحكم, هذه طريقة الراسخين في العلم, إنهم يعملون بالمحكم, وينفذون الأوامر ويصدقون الأخبار, وإذا جاءهم نصٌ متشابه ردوه للمحكم وفسروه بالمحكم فوضح الأمر واتضح السبيل.

وأما أهل الزيغ والعياذ بالله فإنهم يتبعون المتشابه, ويتركون المحكم, فمثلًا النصراني الذي يقول: إن الآلهة ثلاثة, كفروا وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة, وقالوا: الآلهة ثلاثة: الله, عيسى, مريم, تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا, قالوا: عندنا دليل من القرآن, قال الله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮞ)[الحجر/9].

نحن للجمع, فدل على أن الآلهة ثلاثة, فيقول لهم المسلم: أنتم من أهل الزيغ تتبعون المتشابه, وتتركون المحكم, لماذا لا تردون المتشابه بالمحكم, كقوله تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ)[البقرة/163].

هذا محكم, فالراسخون في العلم يردون المتشابه إلى المحكم, وأما هذه الآية: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮞ)[الحجر/9].

نردها إلى المحكم, ونقول: إنا نحن, وإن كانت يتكلم بها الجماعة لكن يتكلم بها الواحد المعظم لنفسه, معناها أن الله يعظم نفسه سبحانه وتعالى, والعرب عندما يعظم الواحد نفسه يقول: نحن, وأنتم تسمعون المراسيل الملكية وغيرها, يأتي المرسوم الملكي أو الجمهوري ويقول: نحن فلان بن فلان أمرنا بما هو آت, وهو شخص واحد ولكن يعظم نفسه.

فالله تعالى أولى, يقول: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮞ)[الحجر/9]؛ وهو واحد سبحانه وتعالى, يعظم نفسه, فنرد هذا المتشابه الذي اشتبه على النصراني إلى المحكم ونقول: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ)[البقرة/163].

فنفسر المتشابه بالمحكم فيزول الاشتباه, لكن من في قلبه زيع يأتي يقول: نحن خلاص هذا تعدد, ويترك المحكم: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ)[البقرة/163]؛ فيبقى الزيع في قلبه, نعوذ بالله.

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد