شعار الموقع

شرح قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع_1

00:00
00:00
تحميل
23

 

الشيخ:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له ومَن يُضلل فلا هاديَّ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا مُحمد بن عبد الله بن عبد المُطَّلِب الهاشمي القرشي العربي المكِّي ثُمَّ المدني، أشهد أنه رسول الله إلى الثقلين الجن والإنس، إلى العرب والعجم، وأنه بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى آتاه من ربه اليقين، فهو خاتم الأنبياء والمُرسلين، وإمام المُرسلين فلا نبي بعده صلَّى الله وبارك عليه وعلى إخوانه من النبيين والمُرسلين وعلى آله وعلى أصحابه وعلى أتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد....

فإني أحمد الله إليكم، وأُثني عليه الخير كله، وأسأله المزيد من فضله، وأسأله سُبحانه أن يُصلِح قلوبنا، وأعمالنا، ونياتنا، وذرياتنا، كما أسأله -سُبحانه وتعالى- أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحومًا، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا، وألا يجعل فينا ولا منَّا شقيًا ولا محرومًا، كما أسأله سُبحانه أن يجعل جمعنا هذا جمع خيرٍ وعلمٍ ورحمةً تنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، وتحفُّه الملائكة، ويذكره الله فيمن عنده.

أيها الإخوان إنها مِنَح ومِنن من ربنا -سبحانه وتعالى- منَّ بها علينا، نسأله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا الإخلاص والمُتابعة، الإخلاص في العمل، والصدق في القول، والمُتابعة للنبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-، فالله -تعالَّى- منَّ علينا وهدانا للإسلام، وجعلنا من أهل الإيمان، ومن أهل الإسلام، ومَن حولَنا، ومَن نراهم، ومَن نسمع بهم من الكُفَّار، ومن اليهود، والنصارى، ومن المجوس، ومن المُبتدعة قد أضلهم الله، ونحن هدانا الله، ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله﴾[الأعراف:43]، كما أخبر الله عن أهل الجنة أنهم قالوا حينما يدخلون الجنة ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله﴾[الأعراف:43]، فهذا فضل الله -تعالى- ونعمته علينا، فنحمد الله -سبحانه وتعالى-، ونُثني عليه الخير كله.

        على المُسلم أن يغتبط بهذه النعمة ويفرح بها، ويسأل الله المزيد من فضله، ويسأله الثبات عليها والاستقامة عليها، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾[آل عمران:19]، الإسلام هو دين الله في الأرض وفي السماء، ولا يقبل الله من أحدٍ دينًا من الأولين والآخرين إلا هو، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[آل عمران:85]، حَبب إلينا الإيمان، وزيَّنه في قلوبنا، وجعلنا نختار الإيمان، ونُفضله، ونُحبه، وجعلنا نكره المعاصي والفسوق، والكُفر، وجعلنا من الراشدين، فهذا فضل الله ونعمته، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾[الحجرات:7-8]، فلله -تعالى- على المؤمن نعمةُ الدينية خصَّه بها دون الكافر.

        فعليك يا أخي أن تحمد الله على هذه النعمة، وأن تشكره، وأن تسأله الثبات عليها، ثم إذا منَّ الله عليك أيها المُسلم واتجهت إلى طلب العلم، وإلى الدروس العلمية والحلقات العلمية، واخترتها، ورَغِبت فيها، واشتقت إلى المزيد من العلم وإلى التزود من العلم، فاعلم أن هذه نعمةٌ أُخرى، منَّ الله بها عليك وفضلك أيضًا على سائر المؤمنين بهذه النعمة، فإنها نعمة وراثة النبوة، هذه وراثة، وراثة العلم، العلم ميراث النبوَّة، الأنبياء ورَّثوا العلم، ولم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر كما ثبت ذلك في الحديث.

        ومعلومٌ فضل العلم والعلماء، وأن العلماء هم ورثوا الأنبياء، وأن الله -تعالى- رفع أهل العلم على غيرهم درجات، كما قال الله -تعالى-: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[المجادلة:11]، ومن فضائل أهل العلم أن الله -تعالى- قرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة على أجَّل مشهودٍ به، وهو الشهادة لله -تعالى- بالوحدانية، ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[آل عمران:18]، ومَن توجه إلى العلم الشرعي، وتفقه في دين الله، وتبصَّر في شريعة الله، فإن هذه علامة إرادة الخير للعبد، كما ثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سُفيان -رضي الله عنه- أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين، وأنا قاسم والله مُعطي»، قال العلماء هذا الحديث له منطوق وله مفهوم:

منطوقه: أن مَن فقهه الله في الدين فقد أراد به خيرًا.

ومفهومه: أن مَن لم يُفقهه الله في الدين لم يُرد به خيرًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فهذه نعمة عظيمة أيها المسلم، يا طالب العلم، عليك مع ذلك أن تحرص على إخلاص النيَّة، أن تُخلص طلبك للعلم، تقصد بالتعلم وحضور الحلقات والدروس، والسؤال عمَّا أشكل عليك، والقراءة تقصد بذلك وجه الله والدار الآخرة، تقصد بذلك أن ترفع الجهل عن نفسك وعن غيرك، تقصد بذلك أن تعبد الله على بصيرة.

        قيل للإمام أحمد -رحمه الله-: ماذا ينوي طالب العلم؟

        قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه، ثم رفع الجهل عن غيره؛ لأن الإنسان الأصل أنه لا يعلم، قال الله -تعالى-: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾[النحل:78]، وقال لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾[الضحى:7]، وقال له: ﴿عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾[النساء:113].

        فطالب العلم عليه أن يجتهد، ويُجاهد نفسه على إخلاص طلبه للعلم، لا يقصد بطلبه العلم الرياء ولا السُمعة، ولا الدُنيا ولا حُطامها، ولا الشهرة، ولا المُجاراة، ولا المُداراة، فإن عليه أن يطمح للمقاصد.

        والعلم، طلب العلم من أجَّل القُربات، وأفضل الطاعات، حتى قال العُلماء إنه أفضل من نوافل العبادة، فإذا تعارض طلب العلم ونوافل العبادة، فإن طلب العِلم مُقدَّم.

والعبادة لا تصِح، ولا تكون مقبولةٌ عند الله إلا إذا توفر فيها أصلان:

- الأصل الأول: أن تكون لله، طالبًا بها وجه الله والدار الآخرة.

- الأصل الثاني: أن تكون موافقةً لشرع الله، وصوابًا على هدي رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، قال الله -تعالى-: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110].

والعمل الصالح ما كان موافقًا للشرع، والعمل الذي يسلم من الشرك هو الخالص لله، قال -تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾[البقرة:112]، وإسلام الوجه هو إخلاص العمل لله، والإحسان هو أن يكون العمل موافقًا للشرع، قال -تعالى-: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾[لقمان:22]، (ومن يُسلم وجهه) يعني يُخلِص عمله لله، (وهو مُحسن) وهو موافقٌ للشرع.

والأصل الأول وهو الإخلاص هو مُقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، دلَّ عليه من السُنَّة ما ثبت في الصحيحين من حديث عُمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى»، الأعمال بالنيَّات، العمل مبني على النيَّة، ثم بيَّن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ومثَّل فقال: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله»، هذا المُخلِص، «ومَن كانت هجرته لدُنيا يُصيبُها، أو امرأةً ينكِحُها فجرته إلى ما هاجر إليه»، فدلَّ على الأصل الثاني، وإذا تخلَّف هذا الأصل حلَّ محله الشرك.

ودلَّ على الأصل الثاني وهو المُتابعة ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، يعني مردودٌ عليه، وفي لفظٍ لمُسلم: «مَن عمِل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو رد»، فإذا تخلَّف هذا الأصل حلَّ محله البِدع، وهذا الأصل هو تحقيق شهادة أن مُحمدًا رسول الله، فإذًا هذا الأصلان:

- الأصل الأول: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.

- والثاني: تحقيق شهادة أن مُحمدًا رسول الله.

        وهذان الأصلان وهُما الشهادة لله -تعالى- بالوحدانية، والشهادة للنبيه -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالرسالة هُما أصل الدين وأساس المِلَّة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن مُحمدًا رسول الله، هُما أصل الدين وأساس المِلَّة، بهما يدخل الإنسان في الإسلام، وبهما يخرج من الدنيا، «ومَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في العمل، والصدق في القول، وأن يُثبتنا على دينه القويم حتى الممات، إنه وليُّ ذلك وهو القادر عليه.

        ونحن في هذه الدورة إن شاء الله سنتكلم على ما يفتح الله علينا، على هذه الرسالة التي بين أيديكم لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهي مأخوذة من مجموعة الرسائل والمسائل، يتحدث فيها المؤلف -رحمه الله- عن جمع كلمة المُسلمين، وأن الأصل في المُسلم الإسلام، وأنه لا يخرج من الدين إلا بأمرٍ واضح، وأن مَن عمِل بدعةً، أو معصيةً فلا يخرج من الإسلام، ولا يُخرج من الإسلام إلا الطوائف المُنحرفة، وأن الإنسان معذور قبل أن يبلغه العلم، وأن مَن تاب تاب الله عليه، وتكلَّم عن مذهب الخوارج، وغيرهم من البِدع، وبدأ بالشيعة، وأنهما هذان المذهبان هُما أول ما ظهر من البِدع في الإسلام، ونبدأ بعون الله -تعالى-.

 

 

المقدم:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا والسامعين، قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾[آل عمران:102 - 106].

قال ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- وغيره: تبيض وجوه أهل السُنَّة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقُة، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[آل عمران:106 - 107].

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي أمامة الْبَاهِلِيِّ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوَارِجِ: «إنَّهُمْ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ»، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾[آل عمران:106].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: نعم، هذه الرسالة سُميت بجمع، قاعدة في جمع كلمة المُسلمين، والظاهر أن التسمية من المُحققين أو غيرِهم، لأن ليس في هذه الرسالة أن الشيخ -رحمه الله- سمَّاها، وكُتب أيضًا أمام هذا: "قاعدة أهل السُنَّة في رحمة أهل البِدع والمعاصي، ومشاركتهم في صلاة الجماعة".

والمُحققون قالوا: أنهم أخذوا هذه الرسالة من مجموعة الرسائل والمسائل، وأن المؤلف -رحمه الله- تحدث فيها بالأدلَّة والبراهين عن جمع كلمة المُسلمين، ووجوب اعتصامهم بحبل الله المتين، وخطر التفرق، وهي قاعدة أهل السُنَّة والجماعة في رحمة أهل البِدع والمعاصي، ومشاركتهم في صلاة الجماعة.

وأن المؤلف -رحمه الله- يؤكد أن أهل السُنَّة والجماعة لا يُكفِّرون مُسلِم بذنب، أو بدعة، أو خطأ كما تفعل الطوائف المُنحرفة، وأن باب التوبة مفتوح، وأن مَن تاب؛ تاب الله عليه.

والشيخ مُحمد رشيد رضا -رحمه الله- له كلمة عن هذه الرسالة، نقلوها، يقول -رحمه الله-: "هذه الرسالة من أنفس ما كتبه شيخ الإسلام، وأنفعه في التأليف بين أهل القبلة الذين فرَّق الشيطان بينهم بأهواء البِدَع، وعصبيات المذاهب، على كونه أقوى أنصار السُنَّة بُرهانًا، وأبلغ المُفندين للبِدع قلمًا ولسانًا، ومنهاجه في الرد على المُبتدعة ببيان الحق بالأدلَّة، وحكم ما خالفهم من شركٍ وكُفرٍ وبدعة مع عدم الجزم بتكفير شخصٍ مُعيَّن له شبهةُ تأويل، فضلًا عن تكفير فرقةٍ تُقيم أركان الدين، فجزاه الله أفضل جزاء على إرشاده ونصحه للمُسلمين".

المؤلف -رحمه الله- افتتح هذه الرسالة بالآيات، بآيات آل عمران، يقول الله -تعالَّى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، هذا أمر الله -تعالى-، أمرٌ من الله -تعالى- بالتقوى، والتقوى هي جِماع الدين، أصل التقوى توحيد الله، وإخلاص الدين له، وأداء حقه، والقيام بأمره، أداء الواجبات وترك المُحرَّمات، هذه هي التقوى.

        ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102].

- قال بعض السلف: (اتقوا الله حق تُقاته) أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُشكر فلا يُكفر.

- وقال بعضهم: أن هذه الآية منسوخة، لقوله -تعالى-: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16]، والآية فيها ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾[آل عمران:102]، وأنه شقَّ على الصحابة وقالوا: مَن يستطيع أن يتقي الله حق تقاته أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأن يُقام بحقه، ويُهتدى بأوامره، وتُجتنب نواهيه، ولا يُخل الإنسان بشيءٍ من الأوامر، ولا بشيء من النواهي؟ ما يستطيع أحد هذا، الإنسان ضعيف، مخلوقٌ من ضعف، ومن طبيعته النسيان، والخطأ، والغلط، وفي الحديث: «لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقومٍ آخرين يُذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم»، فلهذا أنزل الله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16].

قال بعضهم: إن هذه نسخ، ولهذا ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾[آل عمران:102]، أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، ويأتي بهذه الأمور الثلاثة كاملة: أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، ما يستطيع أحد أن يقوم على وجه الكمال، فلهذا أنزل الله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16].

        أمر الله -تعالى- بالاعتصام، قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران:103]، الاعتصام بحبل الله، وحبل الله الذي هو دينه، الكتاب والسُنَّة، ونهى عن التفرق، وذكَّرهم بنعمه: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾[آل عمران:103]، هذه حالُهم في الجاهلية، ذكَّرهم الله بنعمه عليهم، ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[آل عمران:103].

        ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾[آل عمران:104]، أمر بأن تنتصب طائفة من أهل الإسلام تقوم بهذا الواجب العظيم، الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران:104]، حصل الفلاح لهم، فدلَّ على أن الفلاح لا بد فيه من الأمر والنهي، وأن الإنسان لا يكون مُهتديًا ولا مُفلِحًا حتى يأمر وينهى، يأمر بالمعروف وينهى عن المُنكر، بل الدين كله قائمٌ على الأمر والنهي، كما قرر الشيخ (00:19:20) وغيره، الوظائف كُلها في الإسلام كُلها لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، كل الوظائف، وظائف القضاء، والوظائف الأخرى، جميع الوظائف، في القضاء، وفي الإمارات، وفي غيرها، وفي الخصومات بين الناس، وفي الوظائف الحكومية، والوظائف كُلُها إنما أُقيمت للأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، ليقوم الناس بالقسط، ليُحكَم بالعدل.

        ثم نهى عن التفرق، فقال: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[آل عمران:105].

ثم قال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾[آل عمران:106]، فالمؤمنون تبيض وجوههم، والكفَّار تسود وجوههم.

قال ابن عباس: "تبيض وجوه أهل السُنَّة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة".

وذكر حديث أبي أُمامة الباهلي في الخوارج: «أَنَّهُمْ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ»، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.

المقدم: قال -رحمه الله تعالى-:

 قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رحمه الله-: صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ، وَقَدْ خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ طَائِفَةً مِنْهَا.

قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ عند صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا تمرق الرميَّة - وَفِي رِوَايَةٍ - يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: الخوارج صحَّ فيهم عشرة أحاديث في الصحيحين، خرَّجها مُسلِم كُلُها في صحيحه، وخرَّج البُخاري بعضها، وصفهم النبي قال: «يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ»، لأن الخوارج عندهم قوة في العِبادة وصبر في العبادة، يُصلون الليل، ويصومون النهار، ويُكثرون من قراءة القرآن، وعندهم شجاعة في القِتال، لكن عندهم اعتقاد وعقيدتهم مُنحرفة كما سيأتي.

قال: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ»، ما عندهم تُقى لنقص التقوى، «يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يمرق السهم من الرميَّة»، (الرميَّة) فعيلة بمعنى مفعول، يعني يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميَّة، (الرميَّة) الصيد التي تُرمى، ينفُذ فيها السهم بسرعة، إذا دخل السهم خرج بسرعة، فكذلك هُم يخرجون من الإسلام بسرعة، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميِّة.

وفي رواية: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ»، ولا يزالون الخوارج في كل وقت، يقتلون المُسلمين ويتركون الكفرة، ما يذهبون الخوارج يُفجرون الآن في أمريكا، ولا في روسيا، ولا في كذا، يُفجرون في بلاد الإسلام، يقتلون أهل الإسلام، يزعمون أن أهل الإسلام مُرتدون، وأنهم أشد كُفر من اليهود والنصارى وغيرهم، قالوا نبدأ بهم أولًا، عندهم هذه العقيدة الخبيثة، ولهذا ذهب جمعٌ من أهل العلم بقولهم: أنهم كُفَّار، قالوا ردًا على كُفرهم قد يخرجون من الإسلام، يمرقون من الإسلام كما تمرق السهم من الرميَّة، يعني السهم إذا دخل في الصيد خرج بسرعة، فكذلك هم يخرجون من الإسلام بسرعة، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.

وفي لفظ: «لأِن لقيتهم لأقتُلنَّهم قتل عاد»، شبههم بعاد وهم قومٌ كُفَّار، فلهذا ذهب بعض العلماء إلى لتكفيرهم، لكن الجمهور على أنهم ليسوا كُفَّار كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-، والصحابة عاملوهم مُعاملة المُبتدعة.

وقال في موضعٍ آخر إنهم لهم حكم يختلف عن حُكم الكُفَّار وعن أحكام العصاة، فهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء.

المقدم: قال -رحمه الله تعالى-:  

وَالْخَوَارِجُ هُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِالذُّنُوبِ، وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي بِدْعَتِهِمْ وَيَسْتَحِلُّونَ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي بِدعتهم.

وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَّبِعُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: وهكذا وصْف الخوارج، أول مَن كفَّر المُسلمين بالذنوب هو الخوارج، وهم خرجوا في زمن علي -رضي الله عنه-، يُكفِّرون مَن خالفهم، مَن خالفهم يُكفرونه، ويستحلون دمه وماله، يرون دمه حلال، وماله حلال.

قال المؤلف: "هذه حال أهل البِدع"، أهل البِدعة لهم حالة، يبتدعون بِدعة ويُكفرون مَن خالفهم في بدعتهم.

وأما أهل السُنَّة فيتبعون الكتاب، ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق ويرحمون الخلق، أهل السُنَّة يتبعون الحق، ويرحمون الخلق، ولا يُكفِّرون مَن خالفهم، وأما أهل البِدَع فإنهم ليس عندهم رحمة، لا إتباع الحق، ولا رحمة للخلق، يبتدعون بدعة ويُكفِّرون مَن خالفهم، لا يتبعون الحق ولا يرحمون الخلق، وأما أهل السُنَّة فهم لا يُكفِّرون، ولا يُضللون، ويعذرون الجاهل، فهم يتبعون الحق ويرحمون الخلق، انظر الفرق بين المنهجين، منهج أهل السُنَّة يتبعون الحق ويرحمون الخلق، منهج أهل البِدع لا يتبعون الحق ولا يرحمون الخلق.

المقدم: قال -رحمه الله تعالى-:

وَأَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةُ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ حَدَثَتَا فِي أَثْنَاءِ خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ-رضيَّ الله عنه- فَعَاقَبَ الطَّائِفَتَيْنِ.

أَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَاتَلُوهُ فَقَتَلَهُمْ، وَأَمَّا الشِّيعَةُ فَحَرَّقَ غَالِيَتَهُمْ بِالنَّار،ِ وَطَلَبَ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ فَهَرَبَ مِنْهُ وَأَمَرَ بِجَلْدِ مَنْ يُفَضِّلُهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.

وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ، وَرَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: أول بدعة حدثت في الإسلام بِدع الخوارج والشيعة، كلهم ظهروا في زمن عليّ -رضي الله عنه-، وعاقب الطائفتين، عاقب الخوارج، وعاقب الشيعة، الخوارج قاتلوه وقاتلهم، والشيعة ظهر في أول ما ظهر عبد الله بن سبأ اليهودي، زعم أن عليَّ هو الإله فحرَّقهم بالنار، حرَّقهم علي -رضي الله عنه- بالنار، أمر مولاه قُنبر أن يحفر لهم حُفر في الأرض، ويؤججها نارًا، ويُلقيهم فيها، فقال: "لمِّا رأيت الأمر أمرًا مُنكرًا أججت ناري ودعوت قُنبرا"، ثُمَّ ألقاهم، بعضهم زاد قالوا هذا هو الإله؛ لمَّا حرقهم قالوا هذا هو الإله والعياذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية.

فالغُلاة الذين عبدوه وألَّهوه حرَّقهم بالنار، والذين فضلوه على أبي بكرٍ وعُمر طلبهم ليجلدهم حدَّ المُفترين، ثمانين جلدة، هذا قذف، فضَّلوه على أبي بكرٍ وعُمر فحدَّهم حدَّ القذف، طلبهم ليجلد كل واحد ثمانين جلدة -رضي الله عنه-.

وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ، لكن الشيعة والرافضة لا يرضون بهذا، يقولون لا، يُفضلونه على أبي بكر، ويقولون هو الإله، بل هو الخليفة الأول، ثُمَّ عبدوه والعياذ بالله.

المقدم: قال -رحمه الله تعالى-:

وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْجُمَعَ وَالْأَعْيَادَ وَالْجَمَاعَاتِ، ولَا يَدَعُونَ الْجُمُعَ وَالْجَمَاعَةَ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مَسْتُورًا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ بِدْعَةٌ وَلَا فُجُورٌ صُلِّى خَلْفَهُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِين، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَ مَنْ عُلِمَ بَاطِنُ أَمْرِهِ بَلْ مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِ نَبِيِّهِمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْمُسْلِمِ الْمَسْتُورِ.

وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَ مِنْ الْمُصَلِّي بِدْعَةٌ أَوْ فُجُورٌ وَأَمْكَنَ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ أَوْ فَاسِقٌ مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ خَلْفَ غَيْرِهِ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُصَحِّحُونَ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ -رحمهما الله- وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الإمام مالكٍ وَأَحْمَدَ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ أَوْ الْفَاجِرِ كَالْجُمُعَةِ الَّتِي إمَامُهَا مُبْتَدِعٌ أَوْ فَاجِرٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ جُمُعَةٌ أُخْرَى فَهَذِهِ تُصَلَّى خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ وَالْفَاجِرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ.

وَكَانَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا كَثُرَتْ الْأَهْوَاءُ يُحِبُّ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا خَلْفَ مَنْ يَعْرِفُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الإمام أَحْمَدَ -رحمه الله- أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِمَنْ سَأَلَهُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحْدٌ إنَّهُ لَا تَصِحُّ إلَّا خَلْفَ مَنْ عُرِفُ حَالَهُ.

وَلَمَّا قَدِمَ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مَرْزُوقٍ إلَى دِيَارِ مِصْرَ، وَكَانَ مُلُوكُهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مُظْهِرِينَ لِلتَّشَيُّعِ، وَكَانُوا بَاطِنِيَّةً مَلَاحِدَةً، وَكَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ قَدْ كَثُرَتْ الْبِدَعُ وَظَهَرَتْ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يُصَلُّوا إلَّا خَلْفَ مَنْ يَعْرِفُونَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ فَتَحَهَا مُلُوكُ السُّنَّة قبل صَلَاحِ الدِّينِ وَظَهَرَتْ فِيهَا كَلِمَةُ السُّنَّةِ الْمُخَالِفَةُ لِلرَّافِضَةِ، ثُمَّ صَارَ الْعِلْمُ وَالسُّنَّةُ يَكْثُرُ بِهَا وَيَظْهَرُ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: بيَّن المؤلف -رحمه الله- أن من أصول أهل السُنَّة والجماعة أنهم يُصلون الجُمع، والأعياد، والجماعات خلف الأئمة والوُلاة أبرارًا كانوا أو فُجَّارًا، كما ... هذه عقيدة أهل السُنَّة والجماعة أنهم يُصلون الجُمع والجماعات خلف الإمام سواءً كان بارًا أو فاجرًا، سواءً كان من أهل السُنَّة أو من أهل المعصية، ما دامت معصيته لا توصل إلى الكُفر، فهم يُصلون خلفه، ولا يتركون الصلاة، هذه عقيدة أهل السُنَّة، ويُصلون الجُمع والجماعات خلف الإمام سواءً كان بارًا أو فاجرًا، خِلافًا لأهل البِدع.

أهل البِدع من الرافضة والخوارج والمعتزلة لا يُصلون الجُمع خلف المُبتدع ولا الفاسق، بل يرون أن الإنسان إذا فعل بدعة أو كبيرة، الخوارج يرون أنه كافر يجب قتله، وإخراجه من الإمامة، كيف يُصلون خلفه؟! يجب يُقتل ويخرَج من الإمامة، ويستحلون دمه وماله.

والمُعتزلة: المُبتدع والفاسق خرج من الإيمان ولم يدخل في الكُفر عندهم، صار في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، يُسمونه فاسق، فلا يُصلون خلفه، وفي الآخرة يُخلدونه في النار كالخوارج.

والرافضة: يرون أن الإمامة لا تصح إلا خلف الإمام المعصوم، الفاسق وغير الإمام المعصوم يجب إخراجه من الإمامة، ويجب قتله، ولا تصح الصلاة خلفه، فصار أهل البِدع لا يرون الصلاة خلف مَن كان عنده معصية أو فسوق.

أما أهل السُنَّة: فهم يُصلون الجُمع والجماعة والأعياد خلف الأئمة أبرارًا كانوا أو فُجَّارًا، لا يدَعُون الجُمع والجماعات.

ثُمَّ بيَّن المؤلف -رحمه الله- أن الإمام إذا كان مستور الحال فهذا تُصلَّى خلفه الـ ...، يُصلَّى خلفه بالاتفاق، الأئمة لهم أحوال، الإمام الذي يُصلي بالناس قد يكون:

- مستور الحال، هذا القسم الأول: أن يكون الإمام مستور الحال، مستور الحال هو الذي لا يُعرف منه بدعة ولا معصية ولا فجور، مستور ما ندري عنه؛ هذا يُصلَّى خلفه بالاتفاق، الإمام مستور الحال، ما يُعرف عنه بِدعة ولا فجور، مستور الحال، هذا يُصلَّى خلفه بالاتفاق.

- الإمام الثاني: مَن يفعل الشرك، أو بدعة تُوصِل للشرك، هذا لا تصح الصلاة خلفه بالاتفاق، الإمام إذا كان يفعل الكُفر، أو الشرك، مُتلبس بشرك، أو بدعة توصله إلى الكفر والشرك هذا لا تصح الصلاة خلفه بالاتفاق، وإذا صلَّى خلفه يُعيد الصلاة.

- الإمام الثالث: الإمام المُبتدع والفاسق، إمامٌ مُتلبسٌ ببدعة، أو مُتلبسٌ بفسق، هذا داخله، إما أن يكون الفسق ظاهر أو غير ظاهر، تكون البِدعة ظاهرة أو غير ظاهرة، فإن كان الفِسق غير ظاهر، والمُبتدع لا يدعوا إلى بدعته فهذا أيضًا يُصلَّى خلفه بالاتفاق، بشرط أن الفسق والبِدع لا توصله للكفر، إذا كان مُتلبس الإمام بفسق أو بدعة لكن فسقه ليس بظاهر، ومُبتدع والمُبتدع لا يدعو إلى بدعته، فهذا يُصلَّى خلفه أيضًا عند عامة أهل السُنَّة.

- الإمام الرابع: أن يكون الفاسق فسقه ظاهر، وأن يكون المُبتدع داعيًا إلى البدعة، فهذا فيه خِلاف، قال المؤلف -رحمه الله-: إن عامَّة الجمهور يرون الصلاة خلفه، وأن الصلاة خلفه صحيحة، وقال آخرون لا تصح الصلاة خلفه، وإذا صلَّى خلفه فإنه يُعيد.

        هذه أحوال الأئمة، وأما أهل البِدَع فلا يُصلون خلف المُبتدع، والفاسق مُطلقًا، وأيضًا قد يُقال أيضًا إمام هُناك إمام إذا كان إمام الجُمَع والعيد في بلدٍ لا يوجد غيره، بلد ما فيها إلا إمام واحد للعيد أو الجمعة، ولكنه فاسق، أو مُبتدع، فسقه لا يُوصله للكفر، فهل يُصلَّى خلفه أم لا يُصلَّى؟

        قال المؤلف: "عامة أهل السُنَّة يرون الصلاة خلفه، ولا يُصلي الإنسان وحده، ويترك الإمام إذا لم يجد غيره، ومَن ترك الصلاة خلف الإمام الذي لا يُوجد غيره فإنه مُبتدع"، هو المُبتدع، يجب أن تُصلي الصلاة خلف الإمام ولو كان فاسقًا إذا لم يُوجد في البلد إلا إمام واحد، صلي خلفه، ولا تُصلي وحدك.

        لكن الخِلاف في مسألة، وكذلك أيضًا إذا ترتَّب على ترك الصلاة خلفه مفسدة، يوجد إمام مُبتدع فاسق، وإمام عَدْل، لكن إذا تركت الصلاة خلف الفاسق وُجِد مفسدة، تفرَّق الناس، وحصل قِتال ونِزاع، تُصلي خلف المُبتدع.

- الحالة الأخيرة: أن يُوجد إمام، يُوجد في البلد أكثر من إمام، إمام مُبتدع، وإمام عدل، ثُمَّ صليت خلف الإمام الفاسق، وتركت الإمام العدل، هل تصح أو لا تصح؟ هذا محل الخِلاف.

من العلماء مَن قال: لا تصح الصلاة خلفه، لماذا الصلاة خلف المُبتدع؟ يجب الإنكار عليه، ومن الإنكار عليه ألا تُصلي خلفه، فإذا صليت خلف المُبتدع أو الفاسق، وتركت الصلاة خلف الإمام العدل فإن الصلاة لا تصح عند جمع من أهل العلم، وتُعاد.

وقال آخرون من أهل العلم تصِح كما سيبين المؤلف -رحمه الله-.

المقدم: قال -رحمه الله تعالى-:

فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْمَسْتُورِ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: هذا مستور الحال، وهو الذي لا يُعرف منه بدعة ولا فجور، جائزة باتفاق المُسلمين.

المقدم: وَمَنْ قَالَ إنَّ الصَّلَاةَ مُحَرَّمَةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ خَلْفَ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: نعم، إذًا مَن قال: ما أصلي إلا شخص أعرف حالته، وأعرف عقيدته، ولا بُدَّ وأسأله عن عقيدته، هذا مُبتدع، هذا مُخالف لإجماع أهل السُنَّة والجماعة، مادام مستور الحال، لا تسأل، الحمد لله. 

المقدم: وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- يُصَلُّونَ خَلْفَ مَنْ يَعْرِفُونَ فُجُورَهُ، كَمَا صَلَّى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ خَلْفَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعيط وَقد كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَصَلَّى مَرَّةً الصُّبْحَ أَرْبَعًا، وَجَلَدَهُ عُثْمَانُ بْنُ عفان -رضي الله عنه-.

وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ.

وَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالَتَابعون يُصَلُّونَ خَلْفَ ابْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْإِلْحَادِ وَدَاعِيًا إلَى الضَّلَالِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: يُبين -رحمه الله- أن الصحابة كانوا يُصلَّون خلف المُبتدع لأنه إمام، كان الصحابة يُصلون خلف ... صلَّى عبد الله بن مسعود خلف الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط، وكان أمير الكوفة من قِبَل عُثمان لأن خاله عثمان-رضيَّ الله عنه- حتى إنه شرِب الخمر، وصلَّى بهم وهو سكران، وهم لا يعلمون، صلَّى بهم الصبح أربعًا، ثُمَّ التفت عليهم فقال: هل تُريدون أن أزيدكم؟

فقال له بعض الأصحاب: ما زلنا معك لو في زيادة، أعاد الصحابة الصلاة، وجلده أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- لشرب الخمر، والشاهد أنهم صلوا خلفه.

وكذلك الصحابة كانوا يُصلون خلف الحجَّاج بن يوسف أمير العِراق، وكان فاسقًا ظالمًا أسرف في القتل، ومع ذلك يُصلون خلفه.

وصلوا خلف ابن أبي عُبيد، وهو المُختار بن أبي عُبيد الثقفي، وكان مُتهمًا بالإلحاد، وداعيًا إلى الضلال، مُتهم لكن ما ثبت عليه شيء، اتهام، لكن لو ثبت عليه الإلحاد والضلال ما صحَّت الصلاة خلفه، لكن تُهمة، هذه تُهمة ما ثبتت، ما عليها دليل، أما إذا كانت تهمة عليها دليل، وثبت أنه مُلحد، فلا تصح الصلاة خلفه.

المقدم: قال -رحمه الله تعالى-:

وَلَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِ بِذَنْبِ فَعَلَهُ أو بِخَطَأٍ أَخْطَأَ فِيهِ كَالْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾[البقرة:285]، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَغَفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَطَأَهُمْ.

وَالْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ الَّذِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ بِقِتَالِهِمْ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.

وَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ -رضوان الله عليهم-، بَلْ جَعَلُوهُمْ مُسْلِمِينَ مَعَ قِتَالِهِم،ْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ عَلِيٌّ حَتَّى سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَقَاتَلَهُمْ لِدَفْعِ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَسْبِ حَرِيمَهُمْ، وَلَمْ يَغْنَمْ أَمْوَالَهُمْ.

وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ثَبَتَ ضَلَالُهُمْ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يُكَفَّرُوا مَعَ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بِقِتَالِهِمْ، فَكَيْفَ بِالطَّوَائِفِ الْمُخالِفِينَ الَّذِينَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْحَقُّ فِي مَسَائِلَ غَلِطَ فِيهَا مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ؟

فَلَا يَحِلُّ لِإحْدَى هَذِهِ الطَّوَائِفِ أَنْ تُكَفِّرَ الْأُخْرَى، وَلَا تَسْتَحِلَّ دَمَهَا وَمَالَهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا بِدْعَةٌ مُحَقَّقَةٌ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمُكَفِّرَةُ لَهَا مُبْتَدِعَةً أَيْضًا؟

وَقَدْ تَكُونُ بِدْعَةُ هَؤُلَاءِ أَغْلَظَ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا جُهَّالٌ بِحَقَائِقِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: هكذا أهل السُنَّة لا يُكفرون مُسلِم بالذنب والخطأ، بِخلاف أهل البِدع فإنهم يُكفرون بالذنب والخطأ، مثل المسائل التي اختلف الناس فيها، مثلًا الصحابة والعلماء يختلفون، ولكن يعذر بعضهم بعضًا، فمثلًا بعض العلماء لا يرى الوضوء من لحم الإبل، والآخر يرى الوضوء من لحم الإبل، ويُصلي بعضهم خلف بعض، هذه مسائل لا تُوجب الفُرقة، بعضهم يرى أن الدم ينقض الوضوء، وبعضهم لا يرى أنه ينقض الوضوء، فالمسائل التي تنازع الناس فيها ما تمنع الصحابة من الاتفاق في الرأي، الاتفاق وسلامة قلوبهم، ولو كان عندهم خِلافٌ في الرأي.

قال الله -تعالَّى-: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾[البقرة:285]، وثبت في الصحيح، في صحيح مُسلم، أن الله -تعالى- قال: «قد غفرت»، إن الله أجاب هذا الدعاء، فغفر لهم الخطأ.

أما الخوارج فإن أمير المؤمنين عليّ -رضي الله عنه- قاتلهم، واتفق على قتلهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، كلهم اتفقوا على قِتالهم، لكن هل قتالهم للكفر أو لدفع شرهم؟

المؤلف -رحمه الله- يرى أن قِتال ... أن عليّ والصحابة قاتلوهم لدفع شرهم لا لكفرهم، قال: إن الصحابة لم يُعاملوهم مُعاملة الكُفَّار، قال: "لم يُكفرهم عليّ، وسعد بن أبي وقاص، بل جعلهم مُسلمين مع قتالهم، ولم يُقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المُسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم، وبغيهم، لا لأنهم كُفَّار"، قال: "والدليل على هذا أنه ما سباهم"، ما سبى حريمهم وأموالهم، لو كانوا كُفَّار يُسبى حريمهم ونساءهم، هذا هو مذهب الجمهور.

لكن القول الثاني: أنهم كُفَّار كما سيبين المؤلف -رحمه الله-، وقالوا: الأحاديث صريحة في كُفرهم، يقول النبي: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة»، «يمرقون من الدين ثم لا يعودون إليه»، «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان»، «لأقتلنهم قتل عاد»، قالوا: هذه كلها نُصوص تدل على كُفرهم، وممن كفَّرهم سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، يرى كُفرهم، القول بكفر الخوارج.

المؤلف -رحمه الله- يقول: إذا كان هؤلاء الخوارج ثبت ضلالهم بالنص والإجماع، ومع ذلك لم يُكفرهم الله ورسوله، فكيف تُكفَّر الطوائف المُختلفين الذين اشتبه عليهم الحق؟ ما يُمكن طائفة من طوائف المُسلمين اشتبه عليهم الحق، وغَلِطوا يُكفَّرون؟!

الخوارج ما كفَّرهم الصحابة، فكيف تُكفر شخص غَلِط، وأخطأ؟ لا يحل لأحد الطوائف أن يُكفِّر مَن يُخالفه، ولا يحل لأحد أن يستحل دمه وماله لأنه يُخالفه، ولو كان لهم بدعة، فكيف إذا كانت التي تُكفِر لها هي مُبتدعة أيضًا؟! وقد تكون بدعة المُكَفِرة أغلظ، والغالب أنهم جميعًا جُهَّال بالحقائق التي يختلفون فيها.

المقدم: قال -رحمه الله تعالى-:

وَالْأَصْلُ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَا تَحِلُّ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا خَاطَبَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا».

وَقَالَ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ».

وَقَالَ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ».

وَقَالَ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ»، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ».

وَقَالَ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».

وَقَالَ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا».

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي الصِّحَاحِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: هذه الأحاديث كُلُها تُحرِّم دماء المُسلمين، وأموالهم وأعراضهم، فالأصل أن دماء المُسلمين وأموالهم وأعراضهم مُحرَّمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله، ولهذا النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- خاطب الأمة كلها في حجة الوداع، قال: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»، وفي لفظٍ: «وأبشاركم»، «كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا»، اليوم يومٌ حرام، وهو يوم العيد، والبلد بلدٌ حرام وهي مكة، والشهر شهرٌ حرام وهو شهر ذو الحجة، فالدماء والأموال والأعراض مُحرَّمة كحرمة ... كما أن البلد والشهر، واليوم مُحرَّم.

ومن الأدلة قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ».

وَقَالَ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»، فلا يستحل دمه وماله بالخِلاف، كونه يُخالف في الرأي، أو كونه لا يُوافقك، أو كونه حصل على تلبَّس ببدعة أو معصية، لا، ما يجوز سفك دمه.

وقال: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ»، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا الْقَاتِلُ سفك الدم الحرام في النار، لكن المقتول ما ذنبه؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»، حريص لكن سبقه صاحبه، فكونه حريص على قتل صاحبه هذا هو الإثم، جعله في النار.

وكذا قوله: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»، دلَّ على أن القتال بين المُسلمين كُفر، لكن كُفرٌ عملي، كُفر أصغر لا يُخرج من الملَّة.

وقال: «إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا»، هذا من الكُفر الأصغر الذي لا يُخرج من الملة.

المقدم: قال -رحمه الله تعالى-

 وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ مُتَأَوِّلًا فِي الْقِتَالِ أَوْ التَّكْفِيرِ لَمْ يكفرْ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة -رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيّ-ُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك لعلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ»، وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ.

وَفِيهِمَا أَيْضًا: مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ: أَنَّ أُسيد بْنَ الحضير قَالَ لِسَعْدِ بْنِ عبادة -رضي الله عنهم-: إنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ وَاخْتَصَمَ الْفَرِيقَانِ فَأَصْلَحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُمْ.

فَهَؤُلَاءِ الْبَدْرِيُّونَ فِيهِمْ مَنْ قَالَ لِآخَرَ مِنْهُمْ: إنَّك مُنَافِقٌ وَلَمْ يُكَفِّرْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا وَلَا هَذَا بَلْ شَهِدَ لِلْجَمِيعِ بِالْجَنَّةِ.

وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَعَظَّمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَهُ، وَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟! وَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ أُسَامَةُ: تَمَنَّيْت أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْت إلَّا يَوْمَئِذٍ».

وَمَعَ هَذَا لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ قَوَدًا وَلَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا ظَنَّ جَوَازَ قَتْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ قَالَهَا تَعَوُّذًا.

فَهَكَذَا السَّلَفُ قَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين وَنَحْوِهِمْ وَكُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الحجرات:9]، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ اقْتِتَالِهِمْ وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إخْوَةٌ مُؤْمِنُونَ، وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: هذا المُسلم المُتأول معذور، المسلم المُتأول إذا كفَّر غيره، وهو مُتأول، يكون معذور في هذه الحالة، وكذلك أيضًا إذا تأوَّل في القتال، فلا يكفُر، إذا قال لأخيه يا كافر وهو مُتأوِل فلا يكفُر، ولا يأثم، لأنه مُتأوِّل، لكن إذا قال على وجه الهوى (00:50:50) قال: يا كافر، فهذا غير معذور، «من قال لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا»، ترجع عليه إذا لم يكن (00:51:00) لأنه قال لأجل الهوى، لكن لأجل الدين مُتأوِل يكون معذور في هذه الحالة.

ولهذا عُمر -رضي الله عنه- رمى حاطب ابن أبي بلتعة بالكُفر، لما كتب إلى المُشركين يُخبرهم بحال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-، قال عُمر: "يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فقد خان الله ورسوله"، لماذا قال المُنافق؟ قالها للهوى أم للدين؟ قالها من أجل الدين، قالها ديانة، ما قالها من أجل الدُنيا، فالنبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «وَمَا يُدْرِيك لعلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ»، وعند ذلك قال عُمر: "الله ورسوله أعلم"، وذرفت عيناه -رضي الله عنه-، لكن رماه بالنفاق مُتأول؛ فعذره النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-، ما قال له النبي: أنت يا عُمر، اتهمته بالنفاق، أنت مُنافق، لا، لأنه معذور.

وكذلك في قصة الإفك، لمَّا تكلم بعض الناس في عائشة -رضي الله عنها-، والمُنافقون وعبد الله بن أُبي نشروا هذا بين الناس، وصار الناس يتكلمون، النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- خاطب الناس، وقال: «أيها الناس، من يعذرني من رجلٍ بلغني أذاه في أهلي، في رجلٍ، والله ما علمت عليه إلا خيرًا، ولا يدخل علي إلا وأنا معه» ([1]) «أيها الناس مَن يعذُرني من رجلٍ بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا وأنا معه»، يعني صفوان بن المعطل، رموها عائشة بهذا، لما جاء يقودها.

 والنبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- يقصِد عبد الله بن أُبيّ، فقام سعد بن معاذ الأنصاري ([2]) رئيس الأوس، وقال يا رسول الله: نحن نعذُرُك، مَن الذي قال هذا؟ إن كان منَّا من الأوس -سيد الأوس- أمرتنا ضربنا عُنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج تأمرُنا أمرك، فقام سعد ابن عُبادة، وهو سيد الخزرج، قال: كذبت، فإنك لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقال له، فقام بعض الصحابة وقال: إنك كذبت بل إنك مُنافقٌ تُجادل عن المُنافقين، والنبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- على المِنبر يُخفضهم، وعذر هؤلاء وهؤلاء، وأصلح بينهم لأنهم مُتأولون، كل واحد مُتأول.

فالمُتأول معذور بخلاف الذي يتكلم لأجل الهوى، لأجل الدنيا، غير معذور، يقول: يا فاسق، يا كافر، هذا أمرٌ عظيم، لكن إذا كان مُتأول فهذا قال: إنك مُنافق تجادل عن المُنافقين، قال: لأنه جادل، قال: لماذا تقول؟ كذبت؟

وكذلك أُسامة لمَّا كان مُتأوِل -رضي الله عنه-، لمَّا قتل، لما أرسله إلى بني جذيمة، وجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا؛ يعني يُريدون أسلمنا، فجعل علي ([3])-رضيَّ الله عنه- يقتلهم، وكذلك عذرهم النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-، عذره، وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»، ووَدَى النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- دفع ديَّتهم من عنده، حتى ميلغة الكلب دفعها، ومع ذلك عذر خالد لأنه مُتأول.

 وكذلك أُسامة لما رفع على رجلٍ بالسيف، قال: لا إله إلا الله، فكفَّ عنه الأنصاري، وأما أُسامة قتله، قال إنه مُتعوذ، يعني ما قال لا إله إلا الله عن إخلاص، قال لا إله إلا الله خوفًا من السيف، فلمَّا أخبر النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- شدد على أُسامة، قال: «أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟»، قال: يا رسول الله، قالها مُتعوذ، قال: ما يُدريك؟ أنت تدري عن قلبه؟ «أشققت عن قلبه»، قال له: لا، قال: «كيف تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة إذا جاءت»، حتى شقَّ ذلك على أُسامة، وتمنى أنه ما أسلم إلا في ذلك اليوم من شدة ما ... واستفاد بعد ذلك، بعد ذلك ما شارك في قِتال الصحابة، اعتزل الفريقين، استفاد من نصيحة النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-، ما شارك، والنبي عذره، ما أوجب عليه قَوَد، ولا ديَة ولا كفَّارة، ما قال: عليك قَوَد، ولا قال عليك قِصاص لأنك قتلته، ولا قال: عليك كفَّارة، ولا عليك ديَّة، لأنه معذور، مُتأول، لأنه مُتأوِل، فرقٌ بين المُتأوِل وغير المُتأوِل.

وقال: كذلك حال السلف، يقاتل بعضهم بعضًا، مثل الجمل وصفِّين، قِتال عليّ -رضي الله عنه-، وأهل العراق مع أهل الشام، متأولون، والنبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- أخبر أن كلهم مُسلمون، قال: «إن ابني هذا سيد»، يعني الحسن، «وسيصلح الله بين فئتين عظيمتين من المُسلمين»، سمَّاهم مُسلمين، وكذلك قِتال أهل الجمل وأهل صِفين كلهم مُتأولون، والمُتأول معذور.

قال المؤلف: فقد بيَّن الله أنهم مع اقتتالهم، وبغي بغضهم على بعض إخوة، مؤمنون وأمر بالإصلاح بينهم، فقال: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾[الحجرات:9]، فسماهُم مؤمنين، وهم مُقتتلون، ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى﴾[الحجرات:9]، واحدة باغية ومع ذلك هُم مسلمون،  ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾[الحجرات:9].

قال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾[الحجرات:10].

وقال في القاتل: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾[البقرة:178]، سمَّى المقتول أخًا للقاتل.

فلا يخرج المُسلم عن الإسلام بالمعصية، وإذا كان مُتأولًا فإنه معذور.

المقدم: قال-رحمه الله تعالى-:

وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ مَعَ الِاقْتِتَالِ يُوَالِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مُوَالَاةَ الدِّينِ، لَا يُعَادُونَ كَمُعَادَاةِ الْكُفَّارِ؛ فَيَقْبَلُ بَعْضُهُمْ شَهَادَةَ بَعْضٍ؛ وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمْ الْعِلْمَ عَنْ بَعْضٍ، وَيَتَوَارَثُونَ؛ وَيَتَنَاكَحُونَ؛ وَيَتَعَامَلُونَ بِمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقِتَالِ وَالتَّلَاعُنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: لأنهم مُتأولون في قِتالهم، فلهذا كان السلف يُوالي بعضهم بعضًا موالاة الذين لا يُعادون مُعاداة الكُفَّار، فَيَقْبَلُ بَعْضُهُمْ شَهَادَةَ بَعْضٍ؛ وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمْ الْعِلْمَ منْ بَعْضٍ، وهو بينهم خِلاف، وَيَتَوَارَثُونَ؛ وَيَتَنَاكَحُونَ؛ وَيَتَعَامَلُونَ بِمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقِتَالِ وَالتَّلَاعُنِ لأنهم مُتأولون، فالمُتأول له شُبهة، يعني كأنه معه دليل.

المقدم: قال -رحمه الله تعالى-:

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتَهُ بِسَنَةِ عَامَّةٍ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ، وَسَأَلَهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ، وَسَأَلَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُعْطَ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَغْلِبُهُمْ كُلَّهُمْ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا وَبَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا.

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «لَمَّا نَزَلَ قَوْله: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾[الأنعام:65]، قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِك ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾[الأنعام:65]، قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِك ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾[الأنعام:65] قال: هاتان أهون».

هَذَا مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَى عَنْ الْبِدْعَةِ وَالِاخْتِلَافِ: وَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾[الأنعام:159].

وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مع الْجَمَاعَةِ».

وَقَالَ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: «الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ». وَقَالَ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: «الشَّيْطَانُ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ وَالذِّئْبُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْقَاصِيَةَ وَالنَّائِيَةَ مِنْ الْغَنَمِ».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: نعم، هكذا جاء في الحديث أن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- سأل ربه ألا يُهلك أمته بِسَنَةِ عَامَّةٍ، فَأُعْطِيها، يعني ألا يأتيهم جدب وقحط يُهلك الأمة كلها، هذه أُعطيها، وسأله ألا يُسلط عليهم عدوًا يجتاحهم، ويُهلكهم، ويقضي عليهم فأُعطيها، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم فمُنع، فدلَّ على أن الأمة يكون بأسهم بينهم، يقتل بعضهم بعضًا، يُقتِّل بعضهم بعضًا، هذه مُنعها، سأل ثلاث أسئلة أُعطي سؤالين، والسؤال الثالث مسألتين:

- المسألة الأولى: سأل النبي ربه ألا يُهلكهم بجدب، قحطٍ عام يُهلكهم، وباء، قحط، فأُعطيها.

- الثاني: سأل ألَّا يُسلط عليهم عدوًا يجتاحهم من المُشركين من الكفرة، ويقضي على الأمة.

- والثالثة: سأل ألَّا يجعل بأسهم بينهم، فمُنعها، دلَّ على إنه هذا حاصل للأمة، بأسهم بينهم، يقتل بعضهم بعضًا.

        ولذلك ثبت في الصحيحين أن النبي قال، أنه لما نزل قوله -تعالَّى-: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾[الأنعام:65]، قَالَ: «أعوذ بوجهك»، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾[الأنعام:65]، فيه إثبات الوجه لله -عز وجل- هُنا، والاستعاذة بالصفة، فقال: «أعوذ بوجهك»، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾[الأنعام:65]، قَالَ: «أعوذ بوجهك»، العذاب من فوق ومن تحت كله ممنوع، يعني (01:00:56)، ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾[الأنعام:65] قال: «هاتان أهون».

        قال المؤلف: "هَذَا مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَى عَنْ الْبِدْعَةِ وَالِاخْتِلَافِ"، وذمَّ المُختلفين، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾[الأنعام:159].

وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مع الْجَمَاعَةِ».

 وَقَالَ: «الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ»، وهذا الحديث رواه الترمذي في كِتاب الفِتن، في باب لزوم الجماعة، ولفظه: «عليكم بالجماعة، وإياكم والفُرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد»، وهو حديثٌ حسنٌ صحيح.

وقال: «الشَّيْطَانُ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ وَالذِّئْبُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْقَاصِيَةَ وَالنَّائِيَةَ مِنْ الْغَنَمِ»، والحديث أخرجه الإمام أحمد في مُسنده، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: العلاء بن زياد لم يسمع من معاذ.

        المقدم: قال -رحمه الله تعالى-:

فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا صَارَ فِي مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُمْ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَيُوَالِيَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُعَادِيَهُمْ وَإِنْ رَأَى بَعْضَهُمْ ضَالًّا أَوْ غَاوِيًا وَأَمْكَنَ أَنْ يَهْدِيَهُ وَيُرْشِدَهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُوَلِّيَ فِي إمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَفْضَلَ وَلَّاه،ُ وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُظْهِرُ الْبِدَعَ وَالْفُجُورَ مَنَعَهُ.

وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْأَعْلَمِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم-، الْأَسْبَقِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ-صلَّى الله عليه وسلَّم- أَفْضَلُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الصَّحِيحِ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّة، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا»،.

وَإِنْ كَانَ فِي هَجْرِهِ لِمُظْهِرِ الْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ هَجَرَهُ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.

وَأَمَّا إذَا وُلَّى غَيْرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَانَ تَفْوِيتُ هَذِهِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَهْلًا وَضَلَالًا، وَكَانَ قَدْ رَدَّ بِدْعَةً بِبِدْعَةِ، حَتَّى إنَّ الْمُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ خَلْفَ الْفَاجِرِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إعَادَتِهِ الصَّلَاةَ وَكَرِهَهَا أَكْثَرُهُمْ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رحمه الله- فِي رِوَايَةِ عبدوس: مَنْ أَعَادَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ.

وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يُعِيدُونَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّوْا خَلْفَ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ، وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ أَحَدًا إذَا صَلَّى كَمَا أُمِرَ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ.

وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ صَلَّى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ لَا يُعِيدَ، حَتَّى الْمُتَيَمِّمَ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ، وَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ إذَا صَلَّى بِحَسَبِ حَالِهِ، وَالْمَحْبُوسُ، وذووا الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ، وَالْمُعْتَادَةِ، وَالْمُتَّصِلَة،ِ وَالْمُنْقَطِعَةِ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّى الْأُولَى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْا بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ لَمَّا فَقَدَتْ عَائِشَةُ عِقْدَهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ بِالْإِعَادَة.

بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ جَهْلًا بِوُجُوبِهَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ، فَعُمَرُ وَعَمَّار لَمَّا أَجْنَبَا فعُمَرُ لَمْ يُصَلِّ، وَعَمَّارٌ تَمَرَّغَ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ولَمْ يَأْمُرْهُمَا بِالْقَضَاءِ.

وَأَبُو ذَرٍّ لَمَّا كَانَ يُجْنِبُ وَلَا يُصَلِّي لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ لَمَّا اسْتَحَاضَتْ حَيْضَةً شَدِيدَةً مُنْكَرَةً مَنَعَتْهَا الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: يعني المؤلف -رحمه الله- في هذا يُبين أن المُسلم إذا كان في مدينة من مدائن المُسلمين، فإن عليه أن يُصلي الجُمعة والجماعة، ولو كان الإمام عنده فسق أو معصية، ويُوالي المُسلمين ولا يُعاديهم، ولو كان عندهم مُخالفات، وإذا رأى بعضهم ضالًا أو غاويًا، وأمكنه أن يُرشده ويهديه فعل ذلك، وإن لم يستطع فهو معذور، يُصلي الجُمعة والجماعة خلف الإمام ولو كان عنده بعض التقصير، بعض النقص، بعض المعاصي، وإن استطاع أن ينصحه، ينصحه، ويُوالي المؤمنين ولا يُعاديهم، وإن رأى ضالًا أو مُنحرفًا وأمكنه أن يهديه ويُرشده هداه، وإلا فهو معذور.

وإذا كان قادرًا على أن يُولِّي في إمامة المُسلمين الأفضل، اختار الأفضل إذا كان له سلطة، فإنه يُوليه، وإن قدِر أن يمنع من أن يُظهر البِدَع والفجور يمنعه ويُنكر عليه إذا كان في يده سُلطة، وإن لم يقدر على ذلك؛ فإنه معذور ويُصلي خلفه.

ثُمَّ قال المؤلف: "الصَّلَاةُ خَلْفَ الْأَعْلَمِ بِكِتَابِ اللَّهِ، الْأَسْبَقِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ، هذا أفضل بالاتفاق"، إذا حصَّلت إمام أعلم بكتاب الله، مُستقيم على الطاعة هذا أفضل ما فيه شك، هذا نورٌ على نور، إذا حصَّلت، وإذا ما حصَّلت صلِّ خلفه ولو عنده نقص، ولو عنده بدعة، ما دام أنه مُسلِم ما خرج من دائرة الإسلام، لكن الصلاة خلف الإمام الأسبق إلى طاعة الله، الأعلم، هذا أفضل، كما قال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا»، هذا هو الأفضل، لكن إذا لم يحصل هذا فالصلاة صحيحة.

وإذا كان مُبتدع، وهجرته، وكانت الهجرة هي أن تهجره، ولا تُصلي معه، ولا تُسلم عليه، يتوب، هذا طيب، افعل، وإن كان ما ينفع، أو يزيد إذا هجرته، فلا تهجره، هذا اختيار شيخ الإسلام، قال: الهجر كالدواء، علاج، إن كان يُفيد استعمله وإلا فلا، بعض الناس إذا هجرته يُراعي حالك ويترك المعصية، هذا طيب، وبعضهم إذا هجرته زاد في شره وصار ما يُبالي، فالأول يُراعيك بعض الشيء، لكن لو هجره صار ما يُبالي، هذا لا تهجره.

قال: الدليل على هذا أن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- هجر الثلاثة الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك: كعب بن مالك، وصاحباه: هلال ابن أبي أُميَّة، ومرارة بن الربيع، هجرهم النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- خمسون ليلة، ولم يهجر المُنافقين، المنافقين جاءوا واعتذروا وقبل أعذارهم، فدلَّ على أن الهجر علاج كالدواء، إذا كان فيه فائدة استعمله، وإلا فلا تستعمله.

قال: "وإذَا وُلَّى غَيْرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ"، شخص وُلي إمامة الصلاة وأنت ما رضيت، وإذا تركت الصلاة خلفه ما في فائدة، تفوتك الجماعة بدون فائدة، في هذه الحالة يجب أن تُصلي خلفه، ولا تترك الصلاة، لأنك إذا تركت الصلاة تكون مُبتدع، ترد بدعة ببدعة، تكون أنت مُبتدع في هذا، خالفت أهل السُنَّة والجماعة.

ولذلك قال: "حَتَّى إنَّ الْمُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ خَلْفَ الْفَاجِرِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إعَادَتِهِ الصَّلَاةَ"، مَن يُصلي الجمعة خلف فاجر الذي ما يُوجد غيره، هل تصِح الصلاة خلفه أو لا تصِح؟

منهم مَن قال: لا تصِح، وتُعاد.

ومنهم مَن قال: تَصِح ويُكره إعادتُها، قال: إن هذا القول هو أصح، أنها صحيحة، وهو المروي عن الإمام أحمد -رحمه الله-، قال: لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبِدع، كما سبق أن الصحابة صلوا خلف الوليد بن عُقبة، وصلوا خلف الحجَّاج، والله -تعالَّى- أمر المُصلي أن يفعل ما يستطيع، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16].

        قال: "وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ صَلَّى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ فلَا يُعِيدَ"، ثم ذكر القصص والأدلة في هذا، لعلنا نؤجلها للغد إن شاء الله.

نترك بقية الوقت للأسئلة، وفَّق الله الجميع لطاعته، وصلى الله على مُحمد وعلى آله وصحابته.

 

 ([1]) - هذا لفظ الشيخ، وتركت نص الحديث بعده.

 ([2]) - قال الشيخ هنا: سعد بن عبادة. تم كتابة الاسم الصحيح.

 ([3]) - قال الشيخ: علي. والصواب: خالد بن الوليد -رضي الله عنه-.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد