شعار الموقع

شرح قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع_2

15

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعد، نبدأ درسنا هذا الصباح، وأما إذا وُلِّيَ غيره، صفحة ... وأما إذا وُلِّيَ غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة، صفحة اثنين وعشرين.

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا والسامعين.

قال شيخ الإسلام رَحِمَهُ الله تَعالى: وَأَمَّا إذَا وَلَّي غَيْرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ، كَانَ تَفْوِيتُ هَذِهِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَهْلًا وَضَلَالًا، وَكَانَ قَدْ رَدَّ بِدْعَةً بِبِدْعَة، حَتَّى إنَّ الْمُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ خَلْفَ الْفَاجِرِ اخْتَلَفَ النَّاس فِي إعَادَتِهِ الصَّلَاةَ وَكَرِهَهَا أَكْثَرُهُمْ، حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ الله- فِي رِوَايَةِ عبدوس: مَنْ أَعَادَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، وَهَذَا أَظْهَرُ القولين؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ -رضي الله عنهم- لَمْ يَكُونُوا يُعِيدُونَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّوْا خَلْفَ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ، وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ أَحَدًا إذَا صَلَّى كَمَا أَمَرَ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُعِيدَ صلاته.

 وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ صَلَّى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ لَا يُعِيدَ، حَتَّى الْمُتَيَمِّمَ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ، وَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ إذَا صَلَّى بِحَسَبِ حَالِهِ، وَالْمَحْبُوسُ وذووا الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ وَالْمُعْتَادَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْقَطِعَةِ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّى الْأُولَى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: هذا في مسألة الإمامة، ذكر المؤلف -رَحِمَهُ الله- يقول: ذلك أنه إنْ استطاع أنْ يولي العدل والأعلم بكتاب الله، إن استطاع أن يولي العدل فعليه أنْ يولي الصلاة العدل، والأسبق إلى طاعة الله، والأعلم بكتاب الله، وإذا ولي غيره بغير إذنه فإنه في هذه الصلاة يصلي خلفه ولا يترك الصلاة خلفه؛ لأنَّ في هذه الحالة إذا لم يوجد غير هذا الإمام الذي هو غير عدل تفوت على الإنسان الجمعة والجماعة، وتفويت الجمعة والجماعة هذا جهل وضلال، ما دام أنها هذا الإمام لم تصل بدعته إلى الكفر.

أما إذا وصلت بدعته إلى الكفر فهذا لا يُصلى خلفه، هذا بالإجماع، المشرك والكافر لا يُصلى خلفه بالإجماع، ومستور الحال كذا يُصلى خلفه بالإجماع، لكن الخلاف في الصلاة خلف المبتدع، خلف الفاجر، خلف الفاسق، الذي بدعته وفجوره لا يصل إلى درجة الكفر.

فيقول: إذا وُلى، إذا استطاع هو ألا يولي إلا العدل فهذا هو الذي عليه الإجماع، وإذا ولاه غيره بغير اختياره ولا يوجد إمامٌ غيره، فإنه يصلي خلفه ولا يترك الجمعة والجماعة، فإنْ ترك الجمعة والجماعة فيكون رد بدعةً ببدعة، يكون هذا من الجهل والضلال، فوت على نفسه الخير.

وهل يعيد الصلاة أو لا يعيد؟

فيه قولين للإمام أحمد، فيه قولين للعلماء وهي ما رويت عن الإمام أحمد:

- القول الأول: أنه يعيد الصلاة إذا صلى خلفه.

- والقول الثاني: ألا يعيد؛ وهذا هو الصواب.

كما قال أحمد -رَحِمَهُ الله- في رواية عبدوس: (مَنْ أَعَادَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ)، والدليل أنّ الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، والله تعالى أمر الإنسان أنْ يصلي بحسب استطاعته، قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16]، فإذا صلى بحسب استطاعته فلا يعيد الصلاة.

يقول المؤلف: (وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ صَلَّى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنه لَا يُعِيدَ)، قال: هذه المسألة فيها قولان:

- القول الأول: أنه يعيد إذا صلى خلف الفاجر والفاسق.

- والقول الثاني: أنه لا يعيد؛ وهذا هو الصواب، وهذا بشرط أنْ يكون فجوره وفسوقه لا يصل إلى مرتبة الكفر.

يقول المؤلف: (حَتَّى الْمُتَيَمِّمَ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ، وَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ فإنه إذَا صَلَّى بِحَسَبِ حَالِهِ)، فإنه لا يعيد؛ لأنه داخلٌ في قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16]، إذا تيمم خشية البرد مثلما حصل لعمرو بن العاص -رضي الله عنه-، أنه أصابته جنابة وهو في البرية، فخشي ولم يجد ما يسخن به الماء، فتيمم وصلى بأصحابه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عمرو، أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال: يا رسول الله، ذكرت قول الله: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾[النساء:29]»، فلم يأمره بإعادة الصلاة.

فالمتيمم لخشية البرد، كذلك مَن عدم الماء والتراب، الصحابة الذين أرسلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- لطلب العقد لعائشة لما ضاع، أدركتهم الصلاة وليس عندهم ماء ولم يُشرع التيمم، فصلوا بغير ترابٍ ولا ماء، ولم يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بإعادة الصلاة.

كذلك المحبوس إذا ليس عنده ماء ولا تراب يصلي بحسب ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16]، ولا يعيد، وكذلك إذا كان له عذر، لا يستطيع، عذرٌ من الأعذار النادرة أو الأعذار المعتادة، مثلًا لو كان عنده جروحٌ سيالة مستمرة، والمرأة المستحاضة كذلك ،يصلي بحسب استطاعته، فيتيمم ويصلي ولو كان الجرح يَثُعب، إذا ما استطاع أنْ يفعل شيئًا يوقف به الدم، فإنه يصلي بحسب استطاعته، سواءً كان محبوسًا أو له عذر، وكذلك المرأة المعتادة، وصاحب العذر، عذرٌ مستمر، سلس البول أو عذرٌ نادر عارض.

فإنّ هؤلاء كلهم لا يجب عليهم أنْ يعيدوا الصلاة في أصح قولي العلماء، لقول الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16].

المقدم: قال رحمه الله تعالى: وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ -رضوان الله عليهم- صَلَّوْا بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ لَمَّا فَقَدَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- عِقْدَهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْإِعَادَةِ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ جَهْلًا بِوُجُوبِهَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ، فَعَمْرٌ وَعَمَّارٌ لَمَّا أَجْنَبَا وَعَمْرٌ لَمْ يُصَلِّ وَعَمَّارٌ تَمَرَّغَ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ ولَمْ يَأْمُرْهُمَا بِالْقَضَاءِ، وَأَبُو ذَرٍّ -رضي الله عنه- لَمَّا كَانَ يُجْنِبُ وَلَا يُصَلِّي لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ لَمَّا اسْتَحَاضَتْ حَيْضَةً شَدِيدَةً مُنْكَرَةً مَنَعَتْهَا الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: كل هذا يرجح القول الثاني، يرجح القول الأول: وهو أنهم يصلون ولا يعيدون؛ لأنّ المسألة فيها قولان لأهل العلم:

- قيل: يصلي ويعيد.

- وقيل: لا يعيد.

قد ثبت في الصحيح، وهذا حديث أخرجه البخاري في كتاب [فضائل الصحابة] (أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْا بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ لَمَّا فَقَدَتْ عَائِشَةُ عِقْدَهَا)، أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنْ يطلبوه ولم يأمرهم بالإعادة، وكذلك مَن كان يترك الصلاة جهلًا بوجوبها يقول: لم يأمره بالقضاء، عمر وعمار لم أجنبا في البرية، عمر ما صلى، وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة، قاس على غسله، كما أنّ الغسل يعمم الجسد، فهو يريد أنْ يعم الجسد بالتراب، ولم يأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقضاء، وقصة عمر وعمار في البخاري وفي مسلم.

 وفي حديث أبي ذر أنه كان يجنب ولا يصلي، لم يأمره بالقضاء؛ لأنه جاهل، ولم يبلغه العلم فيكون معذور، وهذا قصة أبي ذر رواها أبو داود والترمذي كما قال المحقق قال: (هذا حديثٌ حسنٌ صحيح)، (وَالْمُسْتَحَاضَةُ حَيْضَةً شَدِيدَةً مُنْكَرَةً) كما في الصحيحين، (مَنَعَتْهَا الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ)، تصلي على حسب حالها، ولو كان الدم مستمر ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16]، ولا تعيد.

المقدم: قال رحمه الله تعالى: وَاَلَّذِينَ أَكَلُوا فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِأَحَدِهِمْ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقَضَاءِ، وَكَانُوا قَدْ غَلِطُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَظَنُّوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾[البقرة:187]، هُوَ الْحَبْلُ.

 فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّما هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ»، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقَضَاءِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: وهذا الحديث رواه البخاري -رَحِمَهُ الله- في قصة عدي بن حاتم، أنه جعل حبلين أبيض وأسود، جعل يأكل حتى يتبين له أحدهما من الآخر.

فيقول المؤلف رَحِمَهُ الله: إنّ النبيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أمرهم بالقضاء؛ لأنهم غلطوا في معنى الآية.

المقدم: قال رَحِمَهُ الله تَعَالَى: وَالْمُسِيءُ فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الصَّلَوَاتِ، وَاَلَّذِينَ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِمَكَّةَ وَالْحَبَشَةِ وَغَيْرِهِمَا بَعْدَ أَنْ نُسِخَتْ بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ وصلوا إلَى الصَّخْرَةِ حَتَّى بَلَغَهُمْ النَّسْخُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا صَلَّوْا، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَعْذَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِتَمَسُّكِهِمْ بِشَرْعٍ مَنْسُوخٍ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: هذا في الصحيحين، المسيء في صلاته الأعرابي الذي جاء والنبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جالس في المجلس فصلى ونقر الصلاة نقر الغراب، ثم جاء فسلم على النبيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال: «وعليك السلام، ارجع فَصَلِّ، فإنك لم تُصَلِّ»، فصلى مثل الصلاة الأولى فعل، هذا ثلاثًا، في كل مرة يقول له: «ارجع فَصَلِّ».

ثم علمه النبيّ كيف يصلي وأنه لا بُدَّ من الطمأنينة في الركوع والسجود والخفض والرفع، أمر بإعادة الصلاة الحاضرة، لكن الصلاة التي مضت في السنين التي مضت ما قال: أعدها، إنَّما أعاد الصلاة الحاضرة فقط، وكذلك الذين صلوا إلى بيت المقدس لما نُسخت القبلة إلى بيت المقدس، ووُجه النبيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الكعبة بقي ناس ما علموا بالنسخ، صلوا إلى بيت المقدس، فلم يأمرهم النبيّ بإعادتها؛ لأنهم معذورون.

قال: ولكن هَؤُلَاءِ أَعْذَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لأنهم تمسكوا بِشَرْعٍ مَنْسُوخٍ.

المقدم: قال رَحِمَهُ الله تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي خِطَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ قَبْلَ الْبَلَاغِ؟

عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ:

 قِيلَ يَثْبُتُ وَقِيلَ لَا يَثْبُتُ، وَقِيلَ يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسخِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: يعني: هذه المسألة خطاب الله ورسوله هل يثبت في حق الأمة قبل بلوغهم إياه أو بعد بلوغهم؟

في ثلاثة أقوال:

- قيل: إنه يثبت قبل البلاغ.

- وقيل: لا يثبت إلا بعد البلاغ.

- وقيل: يثبت المبتدأ دون الناسخ؛ لأنّ الخطاب الأول دون الناسخ له.

المقدم: قال رَحِمَهُ الله تَعَالَى: وَالصَّحِيحُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[الإسراء:15]، وَقَوْلِهِ: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء:165].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: يعني: أنه لا يكون الإنسان مُطالب حتى يعلم، ما يكون مطالب بحكمٍ شرعي حتى يعلم، حتى يعلم، يبلغه الخطاب، فتقوم عليه الحُجةَّ.

المقدم: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «مَا أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ»، فَالْمُتَأَوِّلُ وَالْجَاهِلُ الْمَعْذُورُ لَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُعَانِدِ وَالْفَاجِرِ، بَلْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: المتأول تأويلًا له وجه هذا معذور، لكن المتأول تأويل لا وجه له هذا لا يُعتبر، هناك تأويلات لا وجه لها، مثل تأويلات الشيعة والرافضة لقوله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ﴾[الرحمن:19-20]، قالوا: البحرين علي وفاطمة، ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾[الرحمن:22]، الحسن والحسين، هذا تأويل لا وجه له ولا يمكن أنْ يكون له وجه من اللغة، فهذا لا يُعتبر.

لكن تأويل له وجه له شبهة، شبهةٌ يعني تعرض الإنسان العاقل الفاهم، أما التأويلات البعيدة التي لا وجه لها فلا تُعتبر (14:32)، وكذلك الجاهل، الجاهل جهلًا يعذر فيه ولم يجد مَن يسأله، فإنه يكون معذور، وكذلك المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر، المعاند له حكم، والجاهل له حكم، فالجاهل معذور، والمعاند ليس بمعذور، والفاجر المتعمد فلا يعذر.

المقدم: قال رحمه الله تعالى: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ يَجْزِمُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَيَقْطَعُونَ بِهِ وَلَا يَرْتَابُونَ، وَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْمُسْلِمُ وَجَزَمَ بِهِ فَهُوَ يَقْطَعُ بِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى تَغْيِيرِهِ، فَالْمُسْلِمُ يَقْطَعُ بِمَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ، وَيَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ. وَإِذَا قَالَ الْمُسْلِمُ: أَنَا أَقْطَعُ بكذا، فَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِه، بَلْ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ إمَاتَةِ الْخَلْقِ وَإِحْيَائِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَعَلَى تَسْيِيرِ الْجِبَالِ وَتَبْدِيلِ الْأَرْضِ غَيْرِ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.

 وَاَلَّذِينَ يَكْرَهُونَ لَفْظَ الْقَطْعِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ هُمْ قَوْمٌ أَحْدَثُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الشيخ يُنْكِرُ هَذَا، وَلَكِنْ أَصْلُ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَسْتَثْنُونَ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ فَيَقُولُ أَحَدُهُم: صَلَّيْت إنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَمُرَادُ السَّلَفِ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ كَوْنِهِ لَا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ كَمَا أَمَرَه اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَيَشُكُّ فِي قَبُولِ اللَّهِ لِذَلِكَ فَاسْتَثْنَى لذَلِكَ، أَوْ لِلشَّكِّ فِي الْعَاقِبَةِ؛ أَوْ يَسْتَثْنِي لِأَنَّ الْأُمُورَ جَمِيعَهَا إنَّما تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾[الفتح:27].

مَعَ أَنَّ اللَّهَ أعْلَمَ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: (أعْلَمَ) يعني: أعلمهم يقول: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾[الفتح:27]، أعلم الصحابة بأنهم سيدخلون؛ لأنّ الله أعلمَ يعني أعلمَ الصحابة، أعلمَ بأنهم يدخلون ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾[الفتح:27].

مَعَ أَنَّ اللَّهَ أعْلَمَ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، أَوْ لِئَلَّا يُزَكِّيَ أَحَدُهُمْ نَفْسَه، وَكَانَ أُولَئِكَ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْقَطْعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ جُهَّالٌ فَكَرِهُوا لَفْظَ الْقَطْعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ مَكْذُوبَةً، وَكُلُّ مَنْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أَوْ عَنْ أَصْحَابِهِ أَوْ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَرِهَ لَفْظَ الْقَطْعِ فِي الْأُمُورِ الْمَجْزُومِ بِهَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ.

 وَصَارَ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَظُنُّ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ فِي الدِّينِ، وَهَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَى هَذَا أَحَدٌ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا كَانَ شَيْخُهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ مَرْزُوقٍ وَلَا أَصْحَابُهُ فِي حَيَاتِهِ وَلَا خِيَارُ أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ يَمْتَنِعُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مُطْلَقًا، بَلْ إنَّما فَعَلَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ جُهَّالِهِمْ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: عثمان بن مرزوق هو عثمان بن مرزوق بن حميد بن سلامة القرشي كما ذكر الشارح، وهو أبو عمرو، فقيهٌ حنبلي زاهد، سكن مصر وتوفي بها سنة أربعٍ وستين وخمسمائة عن نيفٍ وسبعين عامًا، له كتاب [صفوة الصفوة] اختصر به [حلية الأولياء،] أبو عثمان بن مرزوق روى عنه أنه يكره لفظ القطع.

هذه المسألة وهي عدم القطع بالشيء، يعني كونه يكره لفظ القطع بعض أصحاب أهل الطائفة من أصحاب أبي عمرو أحدثوا هذا، يقول المؤلف، ولم يكون هذا الشيخ ينكر هذا أبو عمرو عثمان وأتباعه، ولكن هذا فعله طائفةٌ من جهالهم.

فإذا قلت: هذا حبلٌ، قال: لا، أنا ما أجزم بأنه حبل؛ لأنّ الله قادر على أنْ يغيره. هذا ماء، يقول: ما أجزم بأنّه ماء، لأن الله قادر على أنْ يغيره. يقول: أنا ما أقطع أنّ هذا ماء، ولا أقطع أنّ هذا ثوب، ولا أقطع أنّ هذا ماء أصلًا؛ لماذا؟ قال: لأنّ الله قادر على أنْ يغيره. هذا من الجهل.

والمؤلف يقول: أجمع المسلمون على القطع، يعني أنت الآن تقطع بأنّ هذا الذي أمامك هذا كتاب، هذا مكبر صوت، وهذا أكل، تقطع بهذا، ولا ينفي الإنسان كون الله قادر على أنْ يغيره، نعم، الله قادر على كل شيء، لكن هو الآن أمامك تجزم بأنّ هذا كتاب، وبأنّ هذا كرسي، فأنت تجزم بهذا.

فهؤلاء يقولون: لا، أصحاب أبي عمرو بن مرزوق أحدثوا قالوا: ما نجزم بهذه الأشياء؛ لماذا؟ قالوا: لأنّ الله قادرٌ على أنْ يغيره، ورووا في هذا أحاديث مكذوبة.

 والمؤلف يقول: (وَكُلُّ مَنْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أَوْ عَنْ أَصْحَابِهِ أَوْ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَرِهَ لَفْظَ الْقَطْعِ فِي الْأُمُورِ الْمَجْزُومِ بِهَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ)، يعني: الأمور المجزوم بها، تجزم بأنّ هذا الذي أمامك آدمي، فيقول: أنا ما أجزم أنّ هذا آدمي؛ لأنّ الله قادر على أنْ يغيره. هذا باطل، هذا من الأمور الباطلة، والأحاديث التي يروونها كلها كذب لا أصل لها، ولم يسبقهم إلى هذا أحد.

بل الإنسان يجزم بالأشياء التي يراها وإنْ كان يعلم أنّ الله قادرٌ على كل شيء، وأصل هذا الاستثناء في الإيمان، الاستثناء في الإيمان المرجئة لا يستثنون في الإيمان، ما تقول: أنا مؤمنٌ إنْ شاء الله؛ لأنهم يرون أنّ الإيمان شيءٌ واحد، هذا هو الأصل، لا يزيد ولا ينقص، هو التصديق، وتعلم أنك مؤمن وأنك مصدق، فلا تقول: أنا مؤمن إنْ شاء الله.

لأنك حينئذٍ تشك فيما تعتقده، ولهذا يسمون المؤمنين مَن يستثنون في إيمانهم الشكاكة، وأصل هذا أنّ الإيمان، مسمى الإيمان عند المرجئة بجميع طوائفهم، الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، فالمرجئة ضد الخوارج والمعتزلة، الخوارج والمعتزلة الإيمان عندهم متعدد، تصديق القلب، وإقراره، وعمل القلب، وعمل الجوارح، لكن إذا فعل الإنسان كبيرة أو معصية زال الإيمان كله، والمرجئة يقول: الإيمان شيء واحد وهو التصديق في القلب.

وهم طوائف، المرجئة:

- الطائفة الأولى: الجهمية مرجئة الجهمية، الإيمان يقولون: الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والكفر هو جهل الرب بالقلب. وهذا أفسد تعريف على وجه الأرض، الإيمان مجرد معرفة الرب بالقلب، إذا عرف ربه بقلبه فهو مؤمن، وإذا جهل ربه بقلبه فهو كافر، ولا أحد يجهل ربه بقلبه.

وعلى هذا التعريف الفاسد يكون إبليس مؤمن؛ لأنه يعرف ربه بقلبه  ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[الحجر:36]، ويكون فرعون مؤمن؛ لأنه يعرف ربه بقلبه يقول الله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾[النمل:14]، واليهود مؤمنون على هذا التعريف؛ لأنهم يعرفون، ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾[البقرة:146]، وأبو طالب عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي مات على الشرك يكون مؤمن على هذا؛ لأنه قال: "ولقد علمت بأنّ دين محمدٍ من خير أديان البرية دينًا"، علم بقلبه، فلا يوجد كافر على هذا المذهب إلا مَن جهل ربه بقلبه.

- والطائفة الثانية أو الفرقة الثانية: فرقة الكرامية، أتباع محمد بن كرام، الإيمان يقولون: مجرد النطق باللسان، فإذا نطق بلسانه وقال: لا إله إلا الله، وقال: آمنت؛ فإنه يكون مؤمن كامل الإيمان؛ لأنه نطق بلسانه، وإذا كان مكذبًا بقلبه فإنه يخلد في النار، فجمعوا بين النقيضين فقالوا: مؤمنٌ كامل الإيمان ومخلدٌ في النار؛ مؤمنٌ كامل الإيمان لأنه نطق بلسانه، ومخلدٌ في النار لأنه كذب بقلبه، جمعوا بين النقيضين.

- والطائفة الثالثة: الماتريدية والأشاعرة يقولون: الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب.

- والطائفة الرابعة: مرجئة الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه، وهي الرواية المشهورة عن الإمام أبي حنيفة، شيئان: التصديق بالقلب والإقرار باللسان.

فهؤلاء المرجئة بطوائفهم يقولون: الإيمان شيءٌ واحد لا يزيد ولا ينقص، وكذلك الخوارج والمعتزلة، الخوارج والمعتزلة يقولون متعدد، أعمال القلوب وأعمال الجوارح والإيمان، ولكنهم يوافقون المرجئة في هذه القاعدة، عندهم قاعدة، قاعدة عند جميع أهل البدع: الإيمان شيءٌ واحد، إذا زال زال جميعه وإذا ثبت ثبت جميعه، فلا يتجزأ ولا يتبعض.

قالوا: لأنه حقيقةٌ مركبة والحقيقة، المركبة تزول بزوال بعض أجزائها، الإيمان حقيقةٌ مركبة، والحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها.

وهذا باطل، مَن قال: أنّ الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها؟ تنقص ما تزول، الإنسان حقيقة مركبة، مركب من أي شيء؟ من لحم ودم ويدين ورجلين، إذا زال أصبعه أو قُطع أصبعه هل تزول حقيقته؟ ما تزول، تنقص، فقول "الإيمان حقيقةٌ مركبة تزول بزوال بعض أجزائها" ليس بصحيح هذا باطل.

وهذه القاعدة عند جميع أهل البدع في الإيمان: الخوارج، والمعتزلة، ومرجئة الجهمية، ومرجئة الكرامية، ومرجئة الأشاعرة، ومرجئة الفقهاء، كلهم يعتمدون على هذه القاعدة، هو أنّ الإيمان شيءٌ واحد إذا زال زال جميعه وإذا ثبت ثبت جميعه؛ لأنّ الإيمان حقيقةٌ مركبة، والحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها.

وكلهم يمنعون الاستثناء في الإيمان، ما تقول: أنا مؤمن إنْ شاء الله؛ ممنوع، ما تقول: أنا مؤمن إنْ شاء الله؛ لا عند الجهمية ولا الكرامية ولا الأشاعرة ولا مرجئة الفقهاء، ما تقول: أنا مؤمن إنْ شاء الله؛ قال: لماذا؟ لأنك تعلم أنك مؤمن يقولون بقلبك، تشك في إيمانك؟ هل تشك في إيمانك؟ يسمون مَن يستثني يقولون الشكاكة، يُسمُّون أهل السُنَّة الشكاكة.

وأما أهل السُنَّة (جمهور أهل السُنَّة) وهم مالك والشافعي وأحمد، وجمهور أهل السُنَّة يقولون: الإيمان ما هو بشيءٍ واحد، متعدد، الإيمان تصديقٌ وإقرارٌ بالقلب، وأعمال القلب، وأعمال الجوارح، وقول اللسان وهو النطق بالشهادتين، وعمل اللسان وهو بقية أقوال اللسان، كل هذه داخلة في مسمى الإيمان؛ إذًا خالفوهم، قالوا: الإيمان متعدد ليس واحد.

ثم خالفوهم أيضًا في قولهم في القاعدة: أنه إذا زال زال جميعه وإذا ثبت ثبت جميعه، لا، الإيمان يتبعض، يزول البعض ويبقى البعض، لا يزول الإيمان بزوال بعضه بل يبقى، ولا يوافقونهم في أنّ الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها، يقولون: الحقيقة المركبة لا تزول بزوال بعض أجزائها بل تنقص، ولكن تبقى بأجزائها وإنْ نقصت.

ويستثنون في الإيمان، فيقول: أنا مؤمن إنْ شاء الله، إذا قصد وأراد أنّ الإيمان متعدد، (28:13) والواجبات كثيرة والمحرمات كثيرة والإنسان لا يزكي نفسه، ولا يجزم بأنه أدى ما عليه فهو يستثني، يقول: أنا مؤمن إنْ شاء الله، وهذا راجع إلى أعمال الإيمان المتعددة، أما إذا أراد الشك في إيمانه فهذا ممنوع، وكذلك إذا أراد عدم علمه بالعاقبة فهذا ممنوع، وكذلك إذا أراد الشك في إيمانه فهذا ممنوع، أما إذا أراد عدم علمه بالعاقبة وقال: أنا مؤمن إنْ شاء الله؛ لأنه لا يعلم العاقبة فلا بأس.

إذا أراد عدم علمه بالعاقبة لا بأس (00:28:51)، إذا أراد أنّ الإيمان متعدد ولا يجزم بأنه أدى ما عليه ولا يزكي نفه فلا بأس، إذا أراد التبرك بذكر اسم الله فلا بأس، فيكون الاستثناء في الإيمان قوله: أنا مؤمن إنّ شاء الله في حالات عند أهل السُنَّة:

- إذا أراد أنّ أعمال الإيمان متعددة، وأنه لا يزكي نفسه، ولا يجزم بأنه أدى ما عليه، له أنْ يستثني.

- إذا أراد عدم علمه بالعاقبة وأنّ العاقبة لا يعلمها إلا الله، فهذا لا بأس أنْ يستثني.

- إذا أراد التبرك بذكر اسم الله فلا بأس أنْ يستثني كما قال الله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾[الفتح:27].

- أما إذا أراد الشك في أصل إيمانه هذا ممنوع.

تكون ثلاث حالات له أنْ يستثني، وحالةً رابعة (29:35)، أما أهل البدع يقولون: لا يستثني مطلقًا ممنوع، قال: (مَن استثنى فقد شك في إيمانه)، وكذلك قولهم عند أهل البدع: الإيمان إذا زال زال جميعه وإذا ذهب ذهب جميعه، فهذا باطل، الصواب أنه يتبعض، عندهم لا يتبعض ولا يتجزأ، وكذلك قولهم: الإيمان حقيقةٌ مركبة والحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها؛ هذا غير صحيح لا يوافق قول أهل السُنَّة والجماعة.

هذه مسألة الاستثناء في الإيمان، مسألة الاستثناء في الإيمان تدرج بعضهم، بعضهم غلا، قالوا: تستثني في كل شيء، قال: ما دمت أستثني في الإيمان إذًا أستثني في كل شيء. فتقول له: هذا كرسي. قال: هذا كرسي إنْ شاء الله. تقول: طيب، قال: أنا ما أجزم أنه كرسي. لماذا لا تجزم؟ قال: لأنّ الله قادرٌ على تغييره. هذا حبلٌ إنْ شاء الله، لماذا لا تجزم؟ قال: لأنّ الله قادرٌ على تغييره. وصار يستثني في كل شيء، قال: أنا ما أقطع، صارت طائفة من أتباع عثمان بن مرزوق يمنعون من القطع في كل شيء، قالوا: نخشى أنْ يغيره الله، وهذا باطل، أصلًا تدرج إليهم من مسألة الاستثناء في الإيمان، غلوا في الاستثناء وتدرج حتى قالوا: يُستثنى في كل شيء، فكان أحدهم يقول: هذا حبلٌ إنْ شاء الله، هذا دلو إنْ شاء الله، هذه سيارة إنْ شاء الله.

الاستثناء في الدعاء؛ غفر الله لك، رحمك، إنْ شاء الله يغفر (00:31:05)، بعض النَّاس حتى انتشر عندنا الآن، بعض العامة لما يسلم عليك: طيب إنْ شاء الله، طيب إنْ شاء الله، إنْ شاء الله طيب، إنْ شاء الله صحتك طيبة إنْ شاء، ما داعي للاستثناء.

الرسول يقول: «لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ليَعْزِمْ المسألة، فإنَّ الله لاَ مُكْرِهَ لَهُ»، لا تستثني في الإيمان، وفي الحديث «لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ ليَعْزِمْ المسألة، فإنَّ الله لاَ مُكْرِهَ لَهُ».

فانتشر الآن كثير من الإخوان يسلم عليك ويدعو لك ويستثني، لا تستثني في الدعاء، غفر الله لك إنْ شاء الله، الله يغفر لنا ويرحمنا إنْ شاء الله، لا، لا تستثني أعزم المسألة، اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا، غفر الله لك، رحمك، لا تقل: إنْ شاء الله، لا تستثني، اعزم المسألة «لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ»، يعني: كأنك تقول: يا ربِ اغفر لي إنْ شئت، وإنْ شئت فلا تغفر لي، ما يصلح هذا، لا، ما في استثناء.

فانتشر هذا عند كثير من الإخوان الآن، يعني عدد كبير يسلم عليك ثم يقول: الله يغفر لك إنْ شاء الله، الله يرحمك إنْ شاء الله، الله يوفقك إنْ شاء الله، ما في داعي، هذا الاستثناء ممنوع، الحديث في الدعاء، لكن أما ما ورد في الحديث «طهورٌ إنْ شاء الله»، فهذا المراد الخبر.

فهؤلاء الذين يستثنون هذا جاءهم من الغلو، أتباع عثمان بن مرزوق غلوا، غلوا من الاستثناء في الإيمان ثم تطور وغلا حتى صاروا يستثنون في الأشياء المعروفة، وقالوا: لا نقطع ولا نجزم.

 المؤلف -رحمه الله- يُبيِّن يرد على هؤلاء، يقول: (وَكَانَ أُولَئِكَ يَمْتَنِعُونَ عن الْقَطْعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ)، يعني: أصل هذا يقول: الأصل في هذا الذين يكرهون لفظ القطع من أصحاب أبي عمرو بن مرزوق قومٌ أحدثوا ذلك من عندهم، ما عندهم دليل، ولم يكن هذا الشيخ -أبا عمرو عثمان بن مرزوق- ينكر هذا، لكن أصل هذا أنهم كانوا يستثنون في الإيمان.

 يستثنون في الإيمان أنا مؤمن إنْ شاء الله كما نُقل عن السلف، فيقول أحدهم: أنا مؤمن إنْ شاء الله، ويستثنون في أعمال البر فيقول أحدهم: صليت إنْ شاء الله، صُمْت إنْ شاء الله، فهذا أيضًا كذلك لا داعي للاستثناء؛ لأنك تعلم أنك صليت، صليت، صمت، والسلف الذين يستثنون -كما سبق- مرادهم من ذلك الاستثناء كونه لا يقطع بأنه فعل الواجب كما أمره الله ورسوله، فيشك في قبول ذلك فاستثنى، أو المراد الشك في العاقبة؛ أو يستثني لأنّ الأمور جمعيها إنَّما تكون بمشيئة الله، فكان هؤلاء يمتنعون من القطع في مثل هذه الأمور.

ثم جاء بعدهم قومٌ جهال فكرهوا لفظ القطع في كل شيء، كل شيء يقول: كل شيء لا تقطع فيه، لا تجزم، لا تجزم بأنّ هذا كرسي، لا تجزم بأنّ هذا جدار، لا تجزم بأنّ ... صاروا يشكون في كل شيء يقولون: لأنّ الله قادر على تغييره، وهذا باطل، ورووا في هذا أحاديث مكذوبة ما رويت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحدٍ من أصحابه.

وصار الواحد من هؤلاء يظن أنه إذا أقر بهذه الكلمة وقال: هذا كتاب، أنه أقر بأمرٍ عظيم في الدين.

قال المؤلف: (وَهَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَى هَذَا أَحَدٌ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ)، ما في أحد قال هذا، ابتدع هؤلاء الجهال، (وَلَا كَانَ شَيْخُهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ مَرْزُوقٍ وَلَا أَصْحَابُهُ فِي حَيَاتِهِ وَلَا خِيَارُ أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ يَمْتَنِعُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مُطْلَقًا، بَلْ إنَّما فَعَلَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ جُهَّالِهِمْ).

والمؤلف -رحمه الله- يقول: (أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ يَجْزِمُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَيَقْطَعُونَ بِهِ وَلَا يَرْتَابُونَ، وَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْمُسْلِمُ وَجَزَمَ بِهِ فَهُوَ يَقْطَعُ بِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى تَغْيِيرِهِ).    

إذًا (أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ يَجْزِمُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ)، المسلم يجزم بأنه يشهد أنّ لا إله إلا الله، ويجزم بأنه يشهد أنّ محمدًا رسول الله، وأنّ ذلك حق، ويقطع المسلم ولا يرتاب ولا يشك.

 (وَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْمُسْلِمُ وَجَزَمَ بِهِ فَهُوَ يَقْطَعُ بِهِ)، كل ما علمه يجزم به، من أمور الدنيا ومن غيرها، أجزم بأنّ هذا فلان، بأنّ جاري فلان كذا، وأجزم بأنّ فلان له حكمٌ على فلان، وأجزم بأنّ فلان تكلم بكذا، وأجزم في أنّ فلان بنى هذا البيت، وأجزم، (وَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْمُسْلِمُ وَجَزَمَ بِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى تَغْيِيرِهِ)، وإذا قال المسلم: أنا أقطع بهذا، فليس مراده أنّ الله لا يقدر على تغييره، لا، أنا أقطع بأنّ هذا كتاب، أقطع بأنّ هذا كرسي، ليس معنى ذلك أنّ الله ليس قادرًا على تغييره، بل أنا أجزم بأنّ هذا أمامي هذا الكرسي الذي خلقه الله كرسي الآن، ولا يمنع من هذا كون الله قادر على تغييره، لكن أنا أجزم بأنه كرسي الآن ما فيه شك.

هذا معنى قول المؤلف: (أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ يَجْزِمُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَيَقْطَعُونَ بِهِ وَلَا يَرْتَابُونَ، وَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْمُسْلِمُ وَجَزَمَ بِهِ فَهُوَ يَقْطَعُ بِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى تَغْيِيرِهِ).

(فإِذَا قَالَ الْمُسْلِمُ: أَنَا أَقْطَعُ بِذَلِكَ، فَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِه، بَلْ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ إمَاتَةِ الْخَلْقِ وَإِحْيَائِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَعَلَى تَسْيِيرِ الْجِبَالِ وَتَبْدِيلِ الْأَرْضِ غَيْرِ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ).

إذا قال الشخص: إنّ الله لا يقدر على مثل إماتة الخلق، وإحيائهم من قبورهم، وعلى تسيير الجبال، أو قال: إنّ الله لا يقدر على تسيير الجبال أو على تبديل الأرض، يُستتاب، فإنْ تاب وإلا قُتل؛ لأنه مكذبٌ لله في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[البقرة:20]، الله على كل شيءٍ قدير، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ﴾[آل عمران:5]، ﴿إنَّما أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[يس:82].

فالشخص الذي يقول: إنّ الله لا يقدر على تغييره كذب الله، ومَن كذب الله كفر، يُستتاب، فإنْ تاب وإلا قُتل كافرًا، لكن ليس معنى ذلك أنه يشك في الأمور التي أمامه، لا، ما يشك، يجزم بأنّ هذا كرسي كرسي الآن، وإنْ كان الله قادرٌ على تغييره، وكذلك يجزم بالشهادتين، يجزم، يشهد أنّ لا إله إلا الله ويجزم بذلك، ويشهد بأنّ محمدًا رسول الله ويجزم بذلك، ويقطع ولا يرتاب، وما يعلمه من الأمور فإنه يجزم بها ولا يرتاب، وإنْ كان الله قادر على كل شيء.

والخوارج -الذين سبق الكلام فيهم- وهم الذين غلوا في ... وهم مذهب التكفير (التكفير بالمعاصي)، هذا ناشئ عن فهمٍ سقيم للنصوص، فإنهم يرون أنّ المسلم إذا فعل الكبيرة فإنه يكفر ويزول إيمانه، الأصل أنّ الإيمان يبقى لا يزول إلا بدليل، فهم يقولون: إذا فعل المسلم الكبيرة فإنه يزول إيمانه.

 وإن ْكان الإيمان متعدد وموافق قول أهل السُنَّة بكون الإيمان إقرارٌ بالقلب، وتصديقٌ باللسان، وعملٌ باللسان وعملٌ بالجوارح، يُقرون بهذا، لكنهم يقولون إذا فعل الكبيرة زال الإيمان كله؛ لأنه حقيقة مركبة والحقيقة المركبة تزول بزوال أجزائها، فهو يكفر، ويقابله المرجئة، المرجئة المحضة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، إذا آمن وصدق فلا يضره لو فعل جميع المعاصي والكبائر، الإيمان يبقى ما يزول ولو فعل الإنسان الكبائر والكفر.

فهم على طرفي نقيض، المرجئة على طرف والخوارج على طرف، المرجئة يقولون: المعاصي لا تضر في الإيمان ولا تؤثر عليه، مجرد ما يؤمن فلا يضره أي معصية ولا أي كبيرة ولا تؤثر في إيمانه، فلا يضر مع الإيمان أي ذنب، كما أنّ الكفر لا ينفع معه أي طاعة فكذلك الإيمان ينفع معه أي ذنب، وهذا باطل، (00:40:32) النصوص دلت على أنّ الكبائر تنقص الإيمان وتضعفه، وإذا عصى الإنسان ربه نُكت في قلبه نكتةً سوداء، ثم لا تزال حتى يكون الران على القلب، إذًا تؤثر، تنقص الإيمان.

قابلهم الخوارج والمعتزلة فقالوا: إذا فعل الكبيرة فإنه يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، واستدلوا بمثل حديث «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاس إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حين ينتهب وَهُوَ مُؤْمِنٌ».

قالوا: هذا دليل على أنّ الزاني كافر، والسارق كافر، وشارب الخمر كافر، «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ»، أهل السُنَّة جمعوا بين النصوص، جمعوا قالوا: هذا الإيمان الذي يُنتفى الإيمان الكامل الواجب الذي يمنعه من فعل الكبائر، لكن عنده أصل الإيمان، فالزاني وشارب الخمر ليس كافر، لو كان كافرًا لوجب قتله، ولا يُقام عليه الحد؛ لأنّ الحدود كونه قام يُجلد الشارب تُقطع يد السارق، دليل على أنه مؤمن لو كان كافرًا لوجب قتله، ولما ورث من أقاربه المسلمون، يتوارثون، فالزاني والسارق وشارب الخمر يرث من أقاربه المسلمون ويورث إذا مات، فلو كان كافرًا فلما وُرث، لما ورثه أحد ولما ورث من أحد من المسلمين، فالتوارث بين المسلمين يدل على بطلان مذهب الخوارج في تكفير العصاة.  

وهذا يدل على أنّ الإيمان الذي يُرفع، الذي يُنفى إنَّما هو الإيمان الواجب، الإيمان المطلق هذا منفي عن الزاني والسارق وشارب الخمر، أما أصل الإيمان فإنه باقي، مطلق الإيمان باقي، فالزاني، لا تقول إنّ الزاني مؤمن بإطلاق، ولا تقول إنّ السارق مؤمن بإطلاق؛ لأنّ أهل السُنَّة جمعوا بين النصوص جمعًا معقولًا، فقالوا: إنّ مرتكب الكبيرة يضعف إيمانه وينقض ولكن يبقى معه أصل الإيمان.

فلا يُعطى الإيمان المطلق ولا يُنفى عنه مطلق الإيمان، فرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، الإيمان المطلق هو الكامل الواجب، وهو أداء الواجبات وترك المحرمات، هذا يُعطاه المؤمن المستقيم على طاعة الله، المؤدي للواجبات يُقال مؤمن بإطلاق، لكن المؤمن العاصي ما يُقال مؤمن بإطلاق، بل يقيد، يُقال: مؤمنٌ فاسق، مؤمنٌ عاصي، مؤمنٌ بإيمانه فاسقٌ بكبيرته.

وكذلك لا يُنفى عنه الإيمان، فلا يُقال الزاني ليس بمؤمن، أو السارق ليس بمؤمن؛ لأنك إذا قلت ليس بمؤمن وافقت الخوارج، بل تقول: ليس بمؤمنٍ حقًا، ليس بصادق الإيمان، فلا يُعطى الإيمان المطلق الكامل، ولا يُنفى عنه أصل الإيمان، هذا هو الصواب الذي دلت عليه النصوص.

الخوارج الآن ضلوا بسبب أنهم لم يعملوا بالنصوص، أخذوا بطرف من النصوص، أخذوا بالنصوص التي فيها الوعيد «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ»، وأنّ «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما»، لكن أغمضوا أعينهم عن نصوص الوعد، وهي: «مَن قاللا إله إلا الله دخل الجنة»، والنصوص التي فيها أنّ العاصي يرث، ولو كان عاصيًا يرث من أقاربه ويُورث، وأنّ الحدود تُقام على العصاة، فهذه النصوص أهملوها وأخذوا بجانب.

 وأما المرجئة فإنهم على الطرف الآخر، أخذوا بالنصوص التي فيها أنّ المعصية لا تخرج الإنسان من الإيمان، وأنه يبقى مؤمن ولو فعل المعصية أصل الإيمان، ولكنهم تركوا النصوص التي فيها أنّ المعصية تنقص الإيمان وتضعف الإيمان «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، «مَن لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»، هذا المراد لا يؤمن الإيمان الكامل الواجب.

أهل السُنَّة جمعوا بين النصوص جمعًا معقولًا، أخذوا بنصوص الوعد واستدلوا بها على أنّ الإيمان يبقى ولو فعل الإنسان المعصية، وأخذوا بنصوص الوعيد واستدلوا بها على أنّ الإيمان ينقص ويضعف بالكبيرة، فأخذوا بنصوص الوعد وصفعوا بها وجوه الخوارج وأبطلوا بها مذهبهم، وأخذوا بنصوص الوعيد وصفعوا بها وجوه المرجئة وأبطلوا بها مذهبهم، وأخذوا بنصوص من الجانبين، فقالوا: نصوص الوعد التي استدل بها المرجئة تدل على أنّ الإيمان باقي، أصل الإيمان يبقى مع العصاة، ونصوص الوعيد تدل على أنّ الإيمان الواجب يضعف وينقص، فلا يبقى معه كمال الإيمان الواجب، وإنَّما يبقى معه أصل الإيمان بنصوص الوعد، ولا يبقى معه الإيمان الكامل بنصوص الوعيد.

فتبين بهذا أنّ المذهب الحق هو مذهب أهل السُنَّة والجماعة، هدى الله أهل السُنَّة والجماعة إلى الحق، وجمعوا بين النصوص جمعًا معقولًا، فهداهم الله ﴿لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[البقرة: 213].

فالخوارج الآن مشكلتهم وضلالهم سببه أنهم ما عملوا بالنصوص، أخذوا ببعض النصوص وتركوا بعض النصوص الأخرى، فأخذوا ببعض النصوص وأخذوا النصوص التي وردت في الكفار وحملوها على المؤمنين، فصاروا يكفرون بالمعاصي، ولم يأخذوا بنصوص الوعد التي فيها أنّ أصل الإيمان باقي.

 كما أنّ المرجئة ضلوا بسبب أنهم أخذوا بالنصوص التي فيها بقاء أصل الإيمان يبقى، ولم يأخذوا بالنصوص التي فيها أنّ المعاصي والكبائر تضعف الإيمان وتنقصه، وكذلك ما أيضًا ما أخذوا بالنصوص التي فيها أّن الإيمان يتبعض ويتجزأ، وأنه يذهب بعضه ويبقى بعضه، وكذلك النصوص التي تدل على الاستثناء في الإيمان ،كل هذا تركه الخوارج والمعتزلة، فضلوا وأضلوا.

المقدم: قال رحمه الله تعالى: كَمَا أَنَّ طَائِفَةً أُخْرَى زَعَمُوا أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ -رضي الله عنهم- لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَإِنْ تَابَ، وَرَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «سَبُّ أَصْحَابِي ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهم الْمُعْتَمَدَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48]، وهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتُبْ.

 وَقَالَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[الزمر:53]، فَثَبَتَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: هذه المسألة وهي أنّ طائفة زعموا أنّ مَن سبَّ الصحابة لا يقبل الله توبته ولو تاب، ورووا في هذا أحاديث من عن النبي قال: «سَبُّ أَصْحَابِي ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ»، وهذا كما ذَكَر المؤلف -رحمه الله- أنه من الأحاديث المكذوبة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه لم يروهِ أحدٌ من أهل العلم في الدواوين المعتمدة، لا هو في شيءٍ من كتبهم المعتمدة.

قال: وهذا ذكره الإمام في كتب التخريج كما ذكر المحقق في [كشف الخفاء ومزيل ...] للعجلوني، و[تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة]، و[الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة]، و[المصنوع في معرفة الحديث الموضوع]، و[الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة]، هذه الكتب كلها ذكروا أنّ هذه من الأحاديث المكذوبة التي لا أصل لها، وهو حديثٌ مكذوب وأيضًا مخالف للقرآن، كيف مخالف للقرآن؟

 أنّ الله تعالى قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48]، هذه الآية في غير التائبين، أخبر الله تعالى أنّ الشرك غير مغفور، وأنّ ما دون الشرك تحت المشيئة، وسب الصحابة هل هو دون الشرك؟

نعم، الأصل أنه دون الشرك، إذا سبهم (00:50:46) للغيظ والغضب لا لدينهم، فيكون دون الشرك فيكون داخل في قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48]، وإذا تاب فإنه يتوب الله عليه حتى من الشرك كما قال الله تعالى في حق التائبين: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[الزمر:53]، أجمع العلماء على أنّ هذه الآية في التائبين، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48]؛ لأنّ الله عمم وأطلق، عمم قال: ﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[الزمر:53]، وأطلق فدلَّ على أنها في التائبين، يعني لمَن تاب.

    ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[الزمر:53]، يعني لمن تاب، عمم ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[الزمر:53]، وأطق فدلَّ على أن الآية في التائبين هذه آية الزمر، بخلاف آية النساء ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48]، الله خص وعلق، خص الشرك بأنه لا يُغفر، وعلق ما دونه بالمشيئة، فدلَّ على أنّ الآية في غير التائبين.

فآية النساء ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾[النساء:48]؛ في غير التائبين لأنه خص وعلق، خص الشرك بأنه لا يُغفر وعلق ما دونه بالمشيئة فهي في غير التائبين، بخلاف آية الزمر ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[الزمر:53]، لأن الله عمم وأطلق فهي في التائبين، والله تعالى عرض التوبة على المثلِّثة من النصارى ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ﴾[المائدة:73].

النصارى يقولون إنّ الله ثالثٌ ثلاثة، يقولون إن الله ثالثٌ ثلاثة: الله وعيسى ومريم تعالى الله، قال الله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[المائدة:73]، فهذا ذنب كفر وردة عن الإسلام، ذنبٌ غليظ، قالوا إن الله ثالث ثلاثة، ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ﴾[المائدة:73]، ثم عرض عليهم السبب فقال: ﴿وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ﴾[المائدة:73]، ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[المائدة:74].

وكذلك الذين عبدوا العجل، قوم موسى، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ﴾[البقرة:54]، أيهما أعظم، عبادة العجل أو سب الصحابة؟ أيهما أعظم، القول بإنّ الله ثالث ثلاثة أو سب الصحابة؟ ومع ذلك عرض الله عليهم التوبة.

الذي قتل مائة نفس كما في الحديث الصحيح صحت توبته أو لم تصح؟ صحت توبته، كما في الحديث الصحيح «أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا»، فأراد أنْ يتوب فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على راهب، دل على راهب عابد ليس عنده علم، فجاءه فقال: إنه قتل تسعةً وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ قال: لا، ما لك توبة، أعوذ بالله تسعة وتسعين نفس ولك توبة! ما لك توبة، فقتله وكمل به المائة.

 هذه عقوبةٌ عاجلة؛ لأنه أفتى بغير علم، نسأل الله العافية، الإفتاء بغير علم عن جهل، فقتله وكمل به المائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدلَّ على عالم (00:54:41) وقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: ومَن يحول بينك وبين التوبة؟ انظر أهل العلم! مَن يحول بينك وبين التوبة؟ لك توبة ولكن أنت في أرض سوء، أخرج من هذه الأرض إلى أرض كذا وكذا، فإنّ فيها قومًا صالحين فاعبد الله معهم.

فذهب، تائب نادم، ذهب إلى الأرض التي فيها هؤلاء الصالحين ليعبد الله معهم، ولكن جاءته المنية في منتصف الطريق، جاءه الموت في منتصف الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة العذاب: هذا رجل عمل السوء ما عمل خير نقبضه، فأعماله سيئة، قتل مائة نفس. وقالت ملائكة الرحمة: إنه خرج تائبًا خرج من أرض السوء، فجعل الله بينهم ملكًا يحكِّمون فيما بينهم، أرسل الله ملكًا يحكم بينهم.

فقال: قيسوا ما بين الأرضين أو ما بين البلدتين فإلى أيهما أقرب فهو من أهلها، فقاسوا فوجدوه إلى الأرض الصالحة أقرب بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة، وفي رواية أنّ الله تعالى قال لأرض السوء: تباعدي، وقال لأرض الصالحين: تقربي، فقربت هذه بشبر قرب إلى الصالحين.

وفي رواية أنه لما جاءته المنية وهو في سكرات الموت جعل ينوء بصدره إلى الأرض الصالحة، حقائق الإيمان التي في قلبه جعلته ينوء وهو في سكرات الموت، ينوء يعني يدفع نفسه، حتى تقدم شبرًا، فقبضته ملائكة الرحمة، فمن يحول بين الإنسان وبين التوبة؟

فالقول بأنّ هذه الطائفة تقول: إنّ مَن سبَّ الصحابة لا يقبل الله توبته، هذا باطل، وقولهم: «سب أصحابي ذنبٌ لا يُغفر» هذا كذب ليس بصحيح، وهو مخالفٌ للقرآن كما ذكر المؤلف رحمه الله، والدليل هاتان الآيتان، آية النساء وآية الزمر:

- آية النساء ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48]، خص الله الشرك بأنه لا يُغفر وعلق ما دونه بالمشيئة فهي في غير التائبين.

- وآية الزمر ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[الزمر:53]، عمم وأطلق، عمم فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[الزمر:53]، وأطلق، فدلَّ على أنها في التائبين، إنّ الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب.

قال المؤلف: (فَثَبَتَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ).

المقدم: قال رحمه الله تعالى: وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ سَبَّ الرَّسُولَ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الْكُفَّارِ الْمُحَارَبِينَ، وَقَالَ: هُوَ سَاحِرٌ أَوْ شَاعِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ مُعَلَّمٌ أَوْ مُفْتَرٍ وَتَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.

 وَقَدْ كَانَ طَائِفَةٌ يَسُبُّونَ النَّبِيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَسْلَمُوا وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ وَقَبِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُمْ: مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَمِّ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَكَانَ قَدْ ارْتَدَّ وَكَانَ يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَقُولُ: أَنَا كُنْت أُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَابَ وَأَسْلَمَ وَبَايَعَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ذَلِكَ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: إذًا قبول توبة مَن سب الرسول -صلى الله عليه وسلم- معلوم من الدين بأنّ كل مَن تاب تاب الله عليه، (00:58:39) قول الله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾[طه:82]، هذه آية عامة، ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾[طه:82]، فمَن سبَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الكفار المحاربين وقال: هو ساحر أو شاعر أو مجنون أو معلم أو مفترٍ، وتاب، تاب الله عليه، وهذا معلوم من الدين لأن هناك طائفة كانوا يسبون النبي -صلى الله عليه وسلم- من المحاربين ثم أسلموا وحَسن إسلامهم، قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- توبتهم، منهم: أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن سعد بن سرح.

يقول: (وَكَانَ قَدْ ارْتَدَّ)، أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخوه من الرضاعة، أرضعتهم حليمة السعدية، وكان ممن يؤذي النبي -صلى الله عليه وسلم- ويهجوه، ويؤذي المسلمين قبل أنْ يسلم، أسلم في الفتح، فقبل النبي إسلامه.

فلو كان مَن يسب النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسب الصحابة لا تقبل توبته، هذا يسب الرسول ويهجو الرسول وهي أشد ومع ذلك قبل توبته، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح هو ابن الحارث، وكان قرشيًا عامريًّا، وكان أبى يحيى كان صاحب الميمنة في الحرب مع عمرو بن العاص في فتح مصر، له مواقف محمودة في الفتح.

 (وَكَانَ قَدْ ارْتَدَّ وَكَانَ يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَقُولُ: أَنَا كُنْت أُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَابَ وَأَسْلَمَ وَبَايَعَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ذَلِكَ)، فدلَّ على أنّ مَن سب الصحابة ثم تاب يتوب الله عليه؛ لأنّ سب النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم مَن سب الصحابة، ومع ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل مَن سبه، قبل توبته لما تاب.

المقدم: قال رحمه الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ: سَبُّ الصَّحَابَةِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، قِيلَ: الْمُسْتَحِلُّ لِسَبِّهِمْ كالرافضي يَعْتَقِدُ ذَلِكَ دِينًا، كَمَا يَعْتَقِدُ الْكَافِرُ سَبَّ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دِينًا، فَإِذَا تَابَ وَصَارَ يُحِبُّهُمْ وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ مَحَا اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ بِالْحَسَنَاتِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: يقول: (وَإِذَا قِيلَ: سَبُّ الصَّحَابَةِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ)، يعني حقٌ لآدمي ما يغفر، (قِيلَ: الْمُسْتَحِلُّ لِسَبِّهِمْ كالرافضي يَعْتَقِدُ ذَلِكَ دِينًا)، الرافضة يعتقدون دين سب الصحابة، (كَمَا يَعْتَقِدُ الْكَافِرُ سَبَّ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دِينًا، فَإِذَا تَابَ وَصَارَ يُحِبُّهُمْ وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ مَحَا اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ بِالْحَسَنَاتِ)، والحمد لله.

فأي ذنب يتوب منه الإنسان فإنّ الله يقبل توبته، إذا وُجدت الشروط، صحت الشروط، ليس كل مَن ادعى التوبة يكون تائب، لا، التوبة لا بُدَّ لها من شروط، من شروط التوبة: الإقلاع عن المعصية، كونه يسب الصحابة ويقول: أنا تائب ويستمر في سب الصحابة، ما يصلح، لا بُدَّ التخلي عن المعصية، تتخلى عن المعصية، تترك السب ثم تتوب، التخلي عن المعصية.

- ثانيًا: ندم بالقلب على ما مضى، التأسف والتحسر.

- ثالثًا: العزم الصادق الجازم على عدم العود إلى هذا مرةً أخرى.

- رابعًا: رد المظالم إلى أهلها إذا كانت المظلمة بينك وبين النَّاس، كما سيأتي، غيبة تستحلهم منها، مال ترده إليهم، عدوان على الجسد تسلم نفسك حتى يقتص منك أو تصطلح معهم على مال، رد المظالم إلى أهلها.

- وأنْ تكون التوبة قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم، إذا وصلت الروح إلى الحلقوم يُكشف للإنسان عن المستقبل ولا توبةً حينئذٍ.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح «إِنَّ الله يقْبَلُ توْبة العبْدِ مَالَم يُغرْغرِ»، وأيضًا من ذلك قول الله تعالى: ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾[النساء:17-18].

- الخامسة: أنْ تكون التوبة قبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، فإذا طلعت الشمس من مغربها في آخر الزمان فلا توبة حينئذٍ، يبقى على ما كان عليه من سابق، من توبة أو عدم توبة، فالمؤمن يبقى على إيمانه، والكافر يبقى على كفره، وفي الحديث «لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».

فإذا طلعت الشمس من مغربها انقطعت التوبة، وتخرج الدابة على إثرها قريبًا وتسم النَّاس، فالدابة وطلوع الشمس من مغربها مقترنتان، فأيهما خرجت فالأخرى أثرها قريبًا، تسم النَّاس الدابة، المؤمن سمة بيضاء حتى يبيض لها وجهه، والكافر سمة سوداء حتى يسود لها وجهه، ويمضي مدة والنَّاس يتبايعون في أسواقهم، خذ هذا يا مؤمن، بع هذه يا كافر، التوبة أغلق باب التوبة وبقي الكفار على حالهم والمؤمنون على حالهم، نسأل الله السلامة والعافية.

ومن شروط التوبة أيضًا: أنْ تكون قبل نزول العذاب، فإذا نزل العذاب فلا توبة حينئذٍ، فرعون من أكفر خلق الله وقال للناس: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾[النازعات:24]، ويعذب بني إسرائيل ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾[البقرة:49]، لما أدركه الموت ماذا قال: آمنت، ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[يونس:90].

انظر، فرعون يقول: آمنت، ويقول: أنا من المسلمين، قال الله له: ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾[يونس:91]، انتهى الأمر، لما أدركه الغرق، وكشف له عن المستقبل، وعاين الملائكة، وصار الغيب شهادة، انتهى الأمر.

ولذلك قال الله: ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾[يونس:91]، إذا نزل العذاب فما في توبة، والله تعالى يقول: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾[غافر:84-85].

هذه الشروط لا بُدَّ منها:

- أنْ يتخلى عن المعصية.

- ثانيًا: يندم على ما مضى.

- ثالثًا: يعزم على ألا يعود إليها.

- رابعًا: يرد المظالم إلى أهلها.

- خامسًا: تكون قبل الموت.

- سادسًا: تكون قبل طلوع الشمس من مغربها.

- سابعًا: قبل نزول العذاب.

- ثامنًا: تكون التوبة خالصة لله، تكون التوبة لله.

ثمانية شروط، إذا فعل هذه الشروط الثمانية فإنّ التوبة صحيحة ومقبولة.

المقدم: قال رحمه الله تعالى: وَمَنْ ظَلَمَ إنْسَانًا فَقَذَفَهُ أَوْ اغْتَابَهُ أَوْ شَتَمَهُ ثُمَّ تَابَ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ، لَكِنْ إنْ عَرَفَ الْمَظْلُومُ مَكَّنَهُ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ، وَإِنْ قَذَفَهُ أَوْ اغْتَابَهُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الإمام أَحْمَدَ رَحِمَهُ الله: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْلِمُهُ أَنِّي اغْتَبْتُك، وَقَدْ قِيلَ بَلْ يُحْسِنُ إلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ كَمَا أَسَاءَ إلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ.

كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ الله: كَفَّارَةُ الْغَيْبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: يعني: إذا ظلم إنسان أو قذفه بشيءٍ ليس فيه أو اغتابه أو شتمه، ثم تاب قبل الله توبته، هذا حقٌ لآدمي، فيقول: (لَكِنْ إنْ عَرَفَ الْمَظْلُومُ مَكَّنَهُ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ)، إذا كان ظلم مال، أخذ ماله، (01:08:06) المال ترد المال عليه، إذا اعتديت على جسده تسلم نفسك، تقول: خذ حقك مني، يأخذه من جسده: إما أنْ يلطمه كما لطمه، يضربه كما ضربه، أو يصطلح معه على مال، أو يصفح عنه، أما إذا قذفه واغتابه فماذا يعمل؟ فإنْ بلغه فعليه أنْ يستبيحه يقول له: أبحني، أسمح لي، وإن لم يبلغه ففيه قولان:

- قيل: يستبيحه.

- وقيل: لا يُعلمه، ويكفي أنْ يحسن إليه ويستغفر له بظاهر الغيب في الأماكن التي قذفه فيها، أو يذكر محاسنه في الأماكن التي اغتابه فيها، لا يكذب يقول الواقع فلان فيه كذا وكذا وكذا، يثني عليه ويذكر محاسنه في الأماكن التي اغتابه فيها ويكفي هذا.

(كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ)، الحسن البصري معروف من سادات التابعين وكبرائهم، معروف بالعلم والزهد والورع والعبادة، وُلد لسنتين بقيتا من خلافة عمر -رضي الله عنه-، يقول: "كَفَّارَةُ الْغَيْبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته".

- والقول الثاني: أنه يستبيح.

إذًا فيه قولان في هذا الأمر:

- قيل: يستبيحه.

- وقيل: يدعو له ويحسن إليه في الأماكن التي اغتابه فيها ويكفي هذا.

المقدم: قال رَحِمَهُ الله تَعَالَى: فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ سَبَّ الصَّحَابَةَ -رضوان الله عليهم- أَوْ غَيْرَ الصَّحَابَةِ وَتَابَ، فَإِنَّهُ يُحْسِنُ إلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا أَسَاءَ إلَيْهِمْ وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي كَانَ يَسُبُّ النَّبِيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَقُولُ إنَّهُ كَذَّابٌ إذَا تَابَ وَشَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، وَصَارَ يُحِبُّهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ: كَانَتْ حَسَنَاتُهُ مَاحِيَةً لِسَيِّئَاتِهِ.

 وَاَللَّهُ تَعَالَى ﴿يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾[الشورى:25]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾[غافر:1-3].

 آخر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه الذكية، وأسكننا وإياه بمنه الغرف العالية، وصلى الله على محمدٍ وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيخ: يقول المؤلف: (فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ سَبَّ الصَّحَابَةَ أَوْ غَيْرَ الصَّحَابَةِ وَتَابَ، فَإِنَّهُ يُحْسِنُ إلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ الإساءة)، يعني: يثني عليهم ثناءً يوافق ويكافئ السب (وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).

 ومثاله أيضًا: (كذلك الْكَافِرَ الَّذِي كَانَ يَسُبُّ النَّبِيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَقُولُ له كَذَّابٌ، إذَا تَابَ وَشَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، وَصَارَ يُحِبُّهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ: كَانَتْ حَسَنَاتُهُ مَاحِيَةً لِسَيِّئَاتِهِ).

فإذا كان الكافر الذي يسب النبي -صلى الله عليه وسلم-إذا تاب مُحيت السيئات بالحسنات، فكذلك مَن سب الصحابة، واستدل المؤلف بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾[الشورى:25]، هذا عام، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾[الشورى:25]، عام في سب الصحابة وغيرهم.

﴿حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾[غافر:1-3]، مطلقًا ممن سب الصحابة ومن غيرهم، مَن تاب تاب الله عليه، ﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾[غافر:3]، ولعلها تكون تتمة الرسالة، وغدًا إنْ شاء الله نقرأ في النشرة التي وزعت عليكم التي أخذتموها.

كم صفحة؟ 16 صفحة؟ معكم الآن؟ نعم.

المقدم: ما معنا يا شيخ، سألت الإخوة ما صوروها.

الشيخ: ما صوروها؟

المقدم: لعلهم ما صوروها، لأني ما وجدتها.

الشيخ: عجيب، خالد صور، (01:12:18) خالد، على كل حال غدًا نقرأها إن شاء الله وتصور، فيه كلام عن الخوارج من مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام، فيه مواضع مفيدة إن شاء الله، نعم، الأسئلة، تكون (01:12:42) إن شاء الله تعالى.

المقدم: أحسن الله إليكم وبارك فيكم.

 

 

 

 

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد