شعار الموقع

شرح كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح البخاري (96-448)

00:00
00:00
تحميل
48

 

 قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»

}7319{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ» فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: «وَمَنْ النَّاسُ إِلاَّ أُولَئِكَ».

}7320{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الصَّنْعَانِيُّ مِنْ الْيَمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ» قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ: «فَمَنْ».

 

قوله: «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»» فهذه الترجمة على لفظ الحديث، والخطاب لهذه الأمة، وسننهم يعني: طرقهم أي: تعملوا مثل عملهم.

}7319{ قوله: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ» فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ» ، أي: من هؤلاء الذين نتبعهم؟ «كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: «وَمَنْ النَّاسُ إِلاَّ أُولَئِكَ»» أي: ما أعني إلا هم، أي: تتبعون فارس والروم وتعملون مثل عملهم.

 

}7320{ قوله: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ» قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ» ، أي: من هم الذين نتبعهم؟ «الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ: «فَمَنْ»» ، يعني: فمن هم إلا أولئك؟

والمراد بقوله: «حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ» المبالغة في الاتباع لهم، وإلا فهم لا يدخلون جحر الضب، وهذا مثل حديث: «من بنى مسجدًا لله كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتًا في الجنة»[(508)] ومعلوم أن مفحص القطاة لا يسع أحدًا يصلي فيه، فالمراد المبالغة في الصغر، يعني: ولو كان مسجدًا صغيرًا، وكذلك هنا المراد المبالغة في الاتباع فلو فرض أنهم دخلوا جحر ضب لدخلتموه.

وهذان الحديثان وأمثالهما يفيدان فوائد:

الفائدة الأولى: أن هذا علم من أعلام النبوة حيث إنه وقع مثل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث تبعت هذه الأمة الأمم السابقة، وعملت مثل عملهم.

الفائدة الثانية: أن هذا من أشراط الساعة وأنه لابد أن يقع وأن تتبع هذه الأمة من قبلها.

الفائدة الثالثة: التحذير من عمل اليهود والنصارى وعمل فارس والروم، والمراد الكفار أما من ليس بكافر فلا يدخل في التحذير من عملهم.

الفائدة الرابعة: ليس المراد أن كل الأمة تعمل هذا، بل المراد بعض الأمة؛ لأنه دلت النصوص على أنه تبقى طائفة من هذه الأمة على الحق كما سبق في حديث: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة»[(509)] .

والنبي صلى الله عليه وسلم يحذر من اتباع اليهود والنصارى واتباع فارس والروم في أعمالهم السيئة.

وفيه: دليل على أن هذه الأمة لابد أن تعمل عملهم فقد جاء في الحديث الآخر: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك»[(510)] .

والواقع الآن أنك تجد كثيرًا من الناس يحاكون الدول الغربية والكفرة في لباسهم وفي هيئاتهم، وهذا مصداق ما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس[(511)] وأن الدين إنما يبقى قائما عند خاصة من الناس» اهـ.

 إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ أَوْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ُ % × + ، ) * ِ الآْيَةَ

}7321{ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَْوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا ـ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ ـ مِنْ دَمِهَا لأَِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ أَوَّلاً».

 

هذه الترجمة في «إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ أَوْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً» ، وأن من دعا إلى ضلالة فعليه إثم هذه الضلالة وإثم من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه إثم هذه السيئة وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة، والدليل ما ذكره المؤلف فقال: «لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [النّحل: 25]{وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}» وتتمتها: [النّحل: 25]{وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ *}.

ولفظ الترجمة في حديثين كما أشار الحافظ ابن حجر رحمه الله في حديث: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا»[(512)] وفي حديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»[(513)] وهذان الحديثان أخرجهما مسلم، وليسا على شرط البخاري، فأتى بهما في الترجمة، وهما صحيحان لكن البخاري يشترط اللقاء بين الراويين ويشترط السماع أيضا، ومسلم يكتفي بالمعاصرة فشرط البخاري أقوى، فلما لم يكونا على شرطه أتى بهما في الترجمة فقال: «بَاب إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ أَوْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً» .

والمقصود من هذه الترجمة التحذير من الابتداع والحدث في الدين بالبدع والمعاصي؛ لأن كل من صار رأسا أو أصلا لبدعة أو معصية يقتدى به فيها يكون عليه أوزار من تبعه في ذلك إلى يوم القيامة.

 

}7321{ ذكر حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَْوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا ـ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ ـ مِنْ دَمِهَا لأَِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ أَوَّلاً»».

والمراد بابن آدم الأول قابيل الذي قتل أخاه هابيل، فهو أول من سن القتل، كما قص الله علينا قصتهما في القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: [المَائدة: 27-30]{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأََقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ *لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ *فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} وكان علامة قبول القربان أن تأتي نار فتأكله فإذا لم تأكله النار دل ذلك على أنه لم يقبل، فقرب هابيل وقابيل قربانين فأتت النار فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل فحقد عليه فقتله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَْوَّلِ» ـ وهو قابيل ـ «كِفْلٌ مِنْهَا» ، يعني: جزءًا من الإثم؛ «لأَِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ أَوَّلاً» أي: لأنه أول من قتل، قال تعالى: [النِّسَاء: 85]{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}، يعني: شيئًا من الوزر.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال المهلب: في هذا الباب والذي قبله في معنى التحذير من الضلال واجتناب البدع ومحدثات الأمور في الدين والنهي عن مخالفة سبيل المؤمنين. انتهى.

ووجه التحذير أن الذي يحدث البدعة قد يتهاون بها لخفة أمرها في أول الأمر ولا يشعر بما يترتب عليها من المفسدة وهو أن يلحقه إثم من عمل بها من بعده ولو لم يكن هو عمل بها بل لكونه كان الأصل في إحداثها» اهـ.

ومن تاب مما فعل تاب الله عليه، وعليه أن يعمل ما يستطيعه في إزالة آثار الإثم.

 مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَحَضَّ عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ

وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ، وَمَا كَانَ بِهَا مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ وَمُصَلَّى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ.

}7322{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإِْسْلاَمِ، فَأَصَابَ الأَْعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ الأَْعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي. فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي. فَأَبَى ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى. فَخَرَجَ الأَْعْرَابِيُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا».

}7323{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِمِنًى: لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ قَالَ إِنَّ فُلاَنًا يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلاَنًا. فَقَالَ عُمَرُ: لَأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فَأُحَذِّرَ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ. قُلْتُ: لاَ تَفْعَلْ؛ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ، فَأَخَافُ أَنْ لاَ يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ، فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ بِهِ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ آيَةُ الرَّجْمِ.

}7324{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ فَقَالَ: بَخْ بَخْ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِي الْكَتَّانِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الْجَائِي فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي وَيُرَى أَنِّي مَجْنُونٌ، وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ مَا بِي إِلاَّ الْجُوعُ.

}7325{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، قَالَ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلَوْلاَ مَنْزِلَتِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ مِنْ الصِّغَرِ، فَأَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلاَ إِقَامَةً، ثُمَّ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَ النِّسَاءُ يُشِرْنَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ، فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَتَاهُنَّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

}7326{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْتِي قُبَاءً مَاشِيًا وَرَاكِبًا.

}7327{ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي وَلاَ تَدْفِنِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْتِ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُزَكَّى.

}7328{ وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ ائْذَنِي لِي أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ، فَقَالَتْ: إِي وَاللَّهِ. قَالَ: وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَتْ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَدًا.

}7329{ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ.

وَزَادَ اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ: وَبُعْدُ الْعَوَالِيَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلاَثَةٌ.

}7330{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ الْجُعَيْدِ سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمْ الْيَوْمَ وَقَدْ زِيدَ فِيهِ.

سَمِعَ الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْجُعَيْدَ.

}7331{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ. عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ» يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ.

}7332{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ عِنْدَ الْمَسْجِد.

}7333{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا».

تَابَعَهُ سَهْلٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أُحُدٍ.

}7334{ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ وَبَيْنَ الْمِنْبَرِ مَمَرُّ الشَّاةِ.

}7335{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي».

}7336{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَابَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْخَيْلِ فَأُرْسِلَتْ الَّتِي ضُمِّرَتْ مِنْهَا وَأَمَدُهَا إِلَى الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَالَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ أَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ فِيمَنْ سَابَقَ.

}7337{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، ح.

وحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عِيسَى وَابْنُ إِدْرِيسَ وَابْنُ أَبِي غَنِيَّةَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

}7338{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ خَطَبَنَا عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

}7339{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَْعْلَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدْ كَانَ يُوضَعُ لِي وَلِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْمِرْكَنُ فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا.

}7340{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَْحْوَلُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَالَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الأَْنْصَارِ وَقُرَيْشٍ فِي دَارِي الَّتِي بِالْمَدِينَةِ، وَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ.

}7341{ حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فَقَالَ لِي: انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ فَأَسْقِيَكَ فِي قَدَحٍ شَرِبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَسَقَانِي سَوِيقًا وَأَطْعَمَنِي تَمْرًا وَصَلَّيْتُ فِي مَسْجِدِه.

}7342{، }7343{ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: حَدَّثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي وَهُوَ بِالْعَقِيقِ أَنْ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ. وَقَالَ هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ».

}7344{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: وَقَّتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَرْنًا لأَِهْلِ نَجْدٍ، وَالْجُحْفَةَ لأَِهْلِ الشَّأْمِ، وَذَا الْحُلَيْفَةِ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَلأَِهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ» وَذُكِرَ الْعِرَاقُ فَقَالَ لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ.

}7345{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أُرِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَقِيلَ لَهُ: «إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ».

 

هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لأمور متعددة منها «مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَحَضَّ» ، أي: حرض على اتفاق أهل العلم وإجماعهم وإجماع أهل الحرمين مكة والمدينة وما يتعلق بمشاهد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة والمهاجرين والأنصار وما فيه ذكر لمصلى النبي صلى الله عليه وسلم وما فيه ذكر للمنبر وما فيه ذكر للقبر، فيأتي المؤلف رحمه الله بما وجده من الآثار والنصوص مما يتعلق بذلك كله.

والإجماع كما هو معروف عند أهل الأصول هو الأصل الثالث من الأصول المتفق عليها:

فالأصل الأول: الكتاب العزيز.

والأصل الثاني: السنة.

والأصل الثالث: الإجماع.

الإجماع: هو اتفاق العلماء المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور الدينية، والإجماع الذي ينضبط هو إجماع الصحابة، أما بعد انقراض عصر الصحابة فالعلماء تفرقوا في البلدان وفي الأمصار فلا يمكن أخذ رأيهم كلهم؛ فقد يكون هناك بعض العلماء ما أخذ برأيه ولا قوله، فالإجماع الذي ينضبط هو إجماع الصحابة ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: «من ادعى الإجماع فهو كاذب»[(514)] ، أي: من ادعى الإجماع بعد عصر الصحابة فهو كاذب.

وليس كلام الإمام أحمد استبعاد لوجود الإجماع كما يقول ابن القيم: «وليس مراده ـ أي: الإمام أحمد رحمه الله ـ بهذا استبعاد وجود الإجماع، ولكن أحمد وأئمة الحديث بُلُوا بمن كان يرد عليهم السنة الصحيحة بإجماع الناس على خلافها، فبين الشافعي وأحمد أن هذه الدعوى كذب، وأنه لا يجوز رد السنن بمثلها»[(515)] .

$ر مسألة: هل اتفاق مجتهدي الحرمين دون غيرهم إجماع؟

_خ الجواب: ليس بإجماع عند الجمهور، بل لابد من اتفاق علماء الأمة كلها علماء الحرمين وغيرها، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال مالك: إجماع أهل المدينة حجة»؛ لأن المدينة هي موطن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة استوطنوا فيها، وعلى قول مالك إذا كان إجماع أهل المدينة حجة فإجماع أهل مكة والمدينة يكون حجة من باب أولى، لكنه ليس بإجماع عند الجمهور، ولا شك أن إجماع أهل الحرمين يرجح على قول من عداهم فإذا كان هناك قول يخالفهم فإنه يرجح قول علماء الحرمين.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد نقل ابن التين عن سحنون» ـ وهو من علماء المالكية ـ «اعتبار إجماع أهل مكة مع أهل المدينة».

والنووي رحمه الله وابن قدامة وابن عبدالبر وابن المنذر كل هؤلاء تساهلوا في نقل الإجماع، فقول الأكثر يسمونه إجماعًا.

 

}7322{ ذكر حديث جابر بن عبدالله السلمي ـ بفتح السين ـ نسبة إلى قبيلة من الأنصار يقال لهم: بنو سلمة ـ بكسر اللام ـ أما السُّلمي ـ بضم السين المهملة ـ فهي نسبة إلى قبيلة من العرب يقال لهم: بنو سُليم ـبضم السين المهملة ـ.

قوله: «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإِْسْلاَمِ، فَأَصَابَ الأَْعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ» أي: أصابته حمى فلم يتحمل هذا الأعرابي الحمى.

وقوله: «فَجَاءَ الأَْعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي» ، أي: اخلع بيعتي لك على الإسلام، يعني: يريد أن يترك الإسلام.

وقوله: «فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، فيه: أن من استقال -أي طلب الإقالة- عن الإسلام أو عن الهجرة، فإنه لا يقال؛ لأنه إعانة له على المنكر، بل يجب عليه أن يثبت على الإسلام والهجرة ويصبر ولا يقال، ولهذا أبى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: «ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي» أي: افسخ البيعة فيريد أن يترك الإسلام ويخرج من المدينة، «فَأَبَى» عليه النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الثانية.

قوله: «ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى» عليه النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الثالثة «فَخَرَجَ الأَْعْرَابِيُّ» من دون إقالة، وترك المدينة وترك الإسلام، وهذا الأعرابي ممن قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} يعني: على طرف {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} يعني: إن أصابته صحة في بدنه أو غنى أو مال اطمأن به وقال: هذا دين طيب، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} وفقر ومرض وضيق {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}، أي: ارتد عن دينه لعدم إيمانه وصبره وثباته [الحَجّ: 11]{خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ *}، فهؤلاء هم المنافقون الذين لم يثبت الإيمان في قلوبهم فهم ضعفاء الإيمان لا يصبرون على الشدائد.

قوله: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا» ، المعنى أن هذا الأعرابي من الخبث الذي نفته المدينة، والمدينة فيها خبث ففيها اليهود والمنافقون، فهي تارة تنفي خبثها كهذا الأعرابي، وتارة يبقى فيها خبث كالمنافقين واليهود، وعند خروج الدجال تنفي المدينة خبثها نفيًا كاملاً حيث إن الدجال يأتي في السبخة فينعق فيها ثلاث نعقات فترجف المدينة ثلاث رجفات؛ فيخرج إليه كل منافق وكل خبيث، ولا يبقى في المدينة إلا المؤمنون.

وهذا الحديث فيه: دليل على أن من استقال عن الإسلام والهجرة فإنه لا يقال ولا يعان على الباطل بل يجب عليه أن يثبت على الإسلام ويثبت على الهجرة ويصبر، والشاهد ما يتعلق بالمدينة أن هذا الأعرابي جاء إلى المدينة وخرج منها.

 

}7323{ ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ» وهو من السابقين الأولين وابن عباس رضي الله عنهما صغير، وكان عبدالرحمن رضي الله عنه تأخر في الحفظ؛ فلهذا احتاج إلى أن يقرئه ابن عباس رضي الله عنهما.

وقوله: «فَلَمَّا كَانَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ» يعني: قبل أن يقتل.

وقوله: «فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِمِنًى: لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ قَالَ إِنَّ فُلاَنًا يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلاَنًا» ، أي: لو مات أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بايعنا فلان بن فلان.

وقوله: «فَقَالَ عُمَرُ: لَأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فَأُحَذِّرَ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ» أي: أراد أن يحذر هؤلاء الرهط الذين يتكلمون ويريدون أن يغصبوا أهل الحق حقهم ويبايعوا من ليس أهلاً للإمارة فقال عبدالرحمن رضي الله عنه: لا تخطب الناس في موسم الحج؛ فإن موسم الحج يجمع رعاع الناس وضعفاء العقول وهم يأتون إليك ويزاحمون الناس ويكونون تحتك، وأما العقلاء والعلماء فما يستطيعون أن يزاحموا، فإذا تكلمت في الموسم فضعفاء العقول والرعاع سيأخذون كلامك ويفسرونه على تفسيرهم وينشرونه في الآفاق، ولكن أشير ألا تخطب إلا إذا انتهى موسم الحج وقدمت المدينة فاخطب فيها؛ لأنها دار السنة ودار الهجرة وما فيها إلا الخلص ففيها المهاجرون وفيها الصحابة وهم الذين يأخذون كلامك وينزلونه منزلته.

قوله: «لاَ تَفْعَلْ؛ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ، فَأَخَافُ أَنْ لاَ يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ، فَأَمْهِلْ» ، يعني: انتظر «حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ» ، أي: بعد الحج «دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ» ، وهذا هو الشاهد أن المدينة «دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ» فكلامه يتعلق بالمدينة، «فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ، فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا» ؛ لأن فيها العقلاء والعلماء بخلاف موسم الحج فإنه يجمع ما هب ودب من الناس من العقلاء وغير العقلاء، فيأخذون كلامك ويفسرونه على غير تأويله، وينشرونه في الآفاق؛ فأخذ عمر بمشورته.

فقال عمر: «وَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ بِهِ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ» ، أي: أول ما يقدم المدينة ومقام ـ بفتح الميم ـ مثل قوله تعالى: [المَائدة: 107]{فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} فهو المكان الذي يقوم به، أما المُقام ـ بضم الميم ـ فهو الشيء الذي يثبت فيه الإنسان.

قوله: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَقَالَ:» يعني: عمر في خطبته: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ آيَةُ الرَّجْمِ» ، وهذا مختصر فقد ذكر شيئًا يسيرًا من خطبته، وإلا فإنه قد تكلم عن آية الرجم وتكلم عن الخمر وأنها من الشعير والعسل والتمر، وتكلم أيضًا عن البيعة ولكن مقصود المؤلف قوله: «حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ» ، فهذا مما يتعلق بالمدينة.

ولا شك أنها دار الهجرة وتسمى طابة وطيبة وكان اسمها في الجاهلية يثرب، والصحيح أن اسمها المدينة النبوية، أما المدينة المنورة فليس له أصل، فتسمية مكة المكرمة والمدينة المنورة تسمية شائعة على الألسنة والله تعالى سماها مكة ولم يقل: مكرمة فقال سبحانه: [الفَتْح: 24]{بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} وسماها المدينة فقال تعالى: [التّوبَة: 120]{مَا كَانَ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ} ولم يقل: المنورة. وعلى كل حال فلا بأس بتسميتها المنورة فهي نورت نورًا معنويًّا.

 

}7324{ قوله: «كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ» أي: مصبوغان بالمشق وهو الطين الأحمر.

وقوله: «بَخْ بَخْ» كلمة تعجب «أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِي الْكَتَّانِ» أي: في الثوب المصبوغ، يعني: أن أبا هريرة يقول: كيف ألبس ثوبين مصبوغين من كتان وكنت فقيرًا من أهل الصفة لا أجد ما أملأ به بطني؟!

وقوله: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَخِرُّ» يعني: أسقط «فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الْجَائِي فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي وَيُرَى أَنِّي مَجْنُونٌ، وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ مَا بِي إِلاَّ الْجُوعُ» وما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجرة مسافة قريبة، وما يستطيع القيام من شدة الجوع فقد مضت، لم يأكل فيها.

وقوله: «فَيَجِيءُ الْجَائِي» أي: من الأطفال أو غيرهم «فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي» يظن أنه مجنون، يقول: «وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ مَا بِي إِلاَّ الْجُوعُ» وقد أصاب الصحابة شدة عظيمة، وأبو هريرة من أهل الصفة وكانوا ما يقرب من السبعين ليس لهم أهل ولا مال وأكثرهم عنده إزار وهو قطعة يغطي به النصف الأسفل وليس له رداء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه شيء أو هدية دعاهم فأصابوا منها، ثم بعد ذلك فتح الله خيبر ثم فتح الله مكة ووسع الله على الناس وفتحت فتوح الشام في زمن عمر رضي الله عنه وجيء بكنوز كسرى وقيصر قالت عائشة رضي الله عنه: ما شبعنا من التمر حتى فتحت خيبر. أي: كل هذه المدة ما شبعوا حتى من التمر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوى لا يجد ما يملأ به بطنه من الدقل وهو التمر الرديء حتى فتح الله خيبر.

والشاهد من الحديث قوله: «بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وهو ما يتعلق بالمنبر في قوله في الترجمة: «وَمَا كَانَ بِهَا مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ وَمُصَلَّى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ» .

 

}7325{ قوله: «سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلَوْلاَ مَنْزِلَتِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ مِنْ الصِّغَرِ» فكان ابن عباس رضي الله عنهما صغير السن وكان يبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين فكان صغيرًا يناهز البلوغ.

وقوله: «فَأَتَى» يعني: النبي صلى الله عليه وسلم «الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلاَ إِقَامَةً» ففيه: دليل على أن صلاة العيد ليس لها أذان ولا إقامة.

وفيه: أن الخطبة بعد الصلاة؛ لأنه قال: «فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ» وثم للترتيب والتراخي، بخلاف الجمعة فإن الخطبة مقدمة على الصلاة.

والشاهد منه قوله: «فَأَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ» فهذا من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، وهذا العلم الذي عند دار كثير بن الصلت سمي بالعلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه: أن النساء لما حثهن على الصدقة تصدقن.

ففيه: دليل على جواز تصرف المرأة في مالها بغير إذن زوجها بالهبة والبيع والصدقة إذا كانت رشيدة، فإنهن تصدقن ولم يستأذنَّ أزواجهن فمنهن التي تلقي القرط الذي في أذنيها أو الخاتم، ومن أدلة ذلك أيضًا: أن ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء دورها قالت: يا رسول الله، أشعرت أني أعتقت فلانة ـ وليدة لها ـ فذكرت أنها أعتقتها ولم تشاور النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبرته فقال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك لكان أعظم لأجرك»[(516)] ولم يقل: لمَ لمْ تستأذنيني؟ وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «لا يحل لامرأة عطية إلا بإذن زوجها»[(517)] فهو شاذ عند أهل العلم، والحديث الشاذ ضعيف، ولا يعارض به الحديث الصحيح، وهناك وجه آخر وهو أنه محمول على الزوجة غير الرشيدة، أو أنه محمول على عطيتها من مال زوجها لا من مالها هي، أما مالها فإنها تتصرف فيه إذا كانت رشيدة.

 

}7326{ هذا الحديث فيه: مشروعية الصلاة في مسجد قباء لمن كان في المدينة، وجاء في الحديث الآخر: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة»[(518)] ، وهذا فضل عظيم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت ماشيًا أو راكبًا[(519)]؛ فيشرع لمن كان في المدينة أن يصلي في مسجد قباء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وطلبًا للأجر.

والشاهد في الحديث هنا قوله: «كَانَ يَأْتِي قُبَاءً» فقباء من المشاهد التي في المدينة.

 

}7327{ هذا الأثر فيه أن عائشة رضي الله عنها قالت لعبدالله بن الزبير رضي الله عنهما وهو ابن أختها فهي خالته وكانت تكنى به؛ لأنها ليس لها أولاد فكان يقال لها: أم عبدالله، وقد تولى إمارة الحجاز والطائف بعد موت يزيد بن معاوية ـ قالت له: «ادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي» تريد بصواحبها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، «وَلاَ تَدْفِنِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْتِ» أي: البيت الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر «فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُزَكَّى» تعني: أخشى إذا دفنت أن يقال: لولا أن لها مزية ما دفنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك فلا أريد أن يتكلم أحد ويزكيني بل أريد أن أكون مغمورة، وهذا من تواضعها رضي الله عنها، لكن يعارض هذا أن عمر رضي الله عنه لما طعن طلب من عائشة أن تأذن له أن يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه حيث أرسل ابنه عبدالله يستأذنها فوافقت فقال: إذا أنا مت فاستأذنوا مرة ثانية فربما وافقت على إغماض حياءً فاستأذنوا فأذنت، قال: فلما جاءوا يستأذنونها قالت: كنت أعده لنفسي ولأوثرن به اليوم على نفسي فآثرت عمر[(520)]. أي: إنه بقي مكان في حجرتها وكانت تعده لنفسها، فلما طلب ذلك عمر آثرته على نفسها، فكيف يجمع بينه وبين هذا الأثر الذي تقول فيه: أنا لا أحب أن أزكى؟

_خ الجواب: يقال: يمكن أن يكون هذا أولاً حيث أرادت أن تبقيه لنفسها ثم تغير رأيها لما تأملت فخافت أن تزكى؛ فأمرت ابن أختها عبدالله أن يدفنها مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من تواضعها رضي الله عنها، والسلف الصالح كانوا ينزلون بأنفسهم ويتواضعون ولا يحبون الشهرة ولا أن يذكروا بشيء فأرادت أن تكون مغمورة.

 

}7328{ قوله: «فَقَالَتْ: إِي وَاللَّهِ» تعني: أي: والله آذن «قَالَ: وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَتْ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَدًا» ظاهره أن أحدًا من الصحابة طلب منها أن يدفن كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله.

وقوله: «لاَ أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يحتمل أن يكون المراد لا أثيرهم بأحد أي: لا أنبشهم لدفن أحد».

وأما قولها في قصة عمر رضي الله عنه: لأوثرنه على نفسي ـ فنقل الحافظ ابن حجر رحمه الله عن ابن التين أنه استشكله ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وأجاب باحتمال أن يكون الذي آثرته به المكان الذي دفن فيه من وراء قبر أبيها بقرب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لا ينفي وجود مكان آخر في الحجرة».

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قلت: وذكر ابن سعد من طرق أن الحسن بن علي أوصى أخاه أن يدفنه عندهم إن لم يقع بذلك فتنة، فصده عن ذلك بنو أمية فدفن بالبقيع».

ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال عن المهلب: إنما كرهت عائشة أن تدفن معهم خشية أن يظن أحد أنها أفضل الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقد سأل الرشيد مالكًا عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فقال: كمنزلتهما منه بعد مماته. فزكاهما بالقرب معه في البقعة المباركة» اهـ.

 

}7329{ هذا الحديث فيه: مشروعية التبكير بصلاة العصر ففيه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ» ـ وهي بعيدة حوالي ثلاثة أو أربعة أميال ـ «وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ» وفي لفظ: «والشمس حية»[(521)] . فهذا يدل على التبكير، وجاء في الحديث الآخر عن بريدة قال: بكروا بصلاة العصر بالغيم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» [(522)].

والشاهد فيه قوله: «فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ» والعوالي من المشاهد التي في المدينة.

 

}7330{ قوله: «كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمْ الْيَوْمَ وَقَدْ زِيدَ فِيهِ» فالشاهد فيه: أن قدر الصاع مما اجتمع عليه أهل الحرمين، وقدره أربع حفنات من ملء كفي الرجل المتوسط الذي كفه ليس بالكبير ولا بالصغير. وكان الصاع عندنا هنا في نجد يزيد عن صاع النبي صلى الله عليه وسلم.

 

}7331{ ذكر حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة في المكيال فقال: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ» ، والشاهد من الحديث: أن الصاع والمكيال والمد مما كان عليه أهل المدينة ومما اجتمع عليه أهل الحرمين.

 

}7332{ هذا الحديث فيه: إقامة الحد على الزاني إذا اعترف وأنه يؤخذ باعترافه.

وفيه: دليل على أن الزاني المحصن يرجم بالحجارة حتى يموت.

وفيه: دليل على أن أهل الكتاب إذا ترافعوا إلى المسلمين فإنه يقضى بينهم ويحكم عليهم بحكم المسلمين، فإن اليهوديين لما ترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حكم فيهما بحكم المسلمين ورجمهما، وفي صحيح مسلم: مُر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محممًا مجلودًا فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال: «هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟» قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم فقال: «أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟» قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأمر به فرجم[(523)].

وفي الصحيحن أيضًا: أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبدالله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبدالله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما[(524)]، وفي لفظ عند البخاري: «فرفع يده فإذا آية الرجم تلوح»[(525)].

وقوله: «فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ عِنْدَ الْمَسْجِد» وذلك في صحراء قريبة من البلد تُسمى مصلى الجنائز ـ وهو مصلى العيد ـ لأنه أوسع للجنائز ويتحمل ما قد يخرج من صديد الميت، ولكن لا مانع من الصلاة في المسجد على الميت فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابن بيضاء في المسجد[(526)]، وصُلي على الصديق رضي الله عنه في المسجد، وصُلي على عمر رضي الله عنه في المسجد، وأمرت عائشة بالصلاة على سعد بن عبادة رضي الله عنه في المسجد، ولما قيل لها واستنكره بعض الناس قالت: ما أسرع ما نسي الناس! ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابن بيضاء إلا في المسجد[(527)].

والشاهد من الحديث قوله: «حَيْثُ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ» فهذا من المشاهد في المدينة فهو مكان الجنائز ومصلى العيد وهو قريب من البلد.

 

}7333{ قوله: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ» يعني: أظهر تحريمها وإلا فالمحرِّم هو الله «وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا» يعني: أظهر تحريمها، ولهذا جاء في الحديث الآخر: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض»[(528)] ، فالله هو الذي حرمها ولكن إبراهيم عليه السلام أظهر تحريمها فنسب إليه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتي المدينة أي: أظهر تحريمها.

والشاهد فيه قوله عن أحد: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» فجبلُ أُحد من المشاهد التي في المدينة، وهو في شمال المدينة وقعت عنده غزوة أحد.

 

}7334{ قوله: «كَانَ بَيْنَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ وَبَيْنَ الْمِنْبَرِ مَمَرُّ الشَّاةِ» فكان فيما بينه وبين السجود قدر ممر الشاة؛ لئلا يصطدم بالسترة، أما ما بينه وبين القبلة فيكون ثلاثة أذرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وصلى كان بينه وبين الجدار الغربي ثلاثة أذرع، فهذا ما بينه وبين السترة.

والشاهد منه قوله: «كَانَ بَيْنَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ وَبَيْنَ الْمِنْبَرِ» حيث ذكر المنبر وذكر المسجد، وقد قال في الترجمة: «وَمَا كَانَ بِهَا مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ وَمُصَلَّى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ» فيريد المؤلف رحمه الله أن يذكر في هذه الآثار كل ما يتعلق بالمشاهد والمنبر والقبر.

 

}7335{ هذا الحديث فيه: فضيلة الصلاة والاعتكاف والقراءة والجلوس في الروضة الشريفة وهي ما بين بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، فينبغي الإكثار من الصلاة والقراءة فيها، أما صلاة الفريضة فتكون في الصف الأول عملاً بالنصوص التي فيها الحث على الصف الأول، وبقعة الصفوف الأولى زادها عثمان رضي الله عنه، أما ما يسميه بعض الناس بالروضة خلف الإمام في المسجد الحرام ـ فيقولون: فلان يصلي بالروضة أي: خلف الإمام ـ فهذا يحتاج إلى دليل، فالروضة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: «وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» فالمعنى أن منبر النبي صلى الله عليه وسلم يكون جزءًا من حوضه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ لأن الحوض طويل ومتسع فطوله مسافة شهر وعرضه مسافة شهر، والمعنى أن هذا المكان ينقل ويكون من جملة حوضه صلى الله عليه وسلم.

 

}7336{ هذا الحديث فيه: مشروعية المسابقة في الخيل، والمقصود من المسابقة التدرب على الجهاد ومعرفة الجواد من الخيل والأصيل من غيره، والخيل نوعان:

النوع الاول: خيل ضمرت وذلك بأن تحبس لمدة أربعين يومًا وتطعم طعامًا خاصًّا ويُّجلَّل حتى تعرق وتخف ويذهب عنها الرهل، فتخرج بعد التضمير نشيطة مفتولة الساعدين قوية في الجهاد، وكانت المسافة لمسابقة التي ضمرت بعيدة، فأمدها من الحفياء إلى ثنية الوداع.

النوع الثاني: خيل غير مضمرة، وكانت المسافة لمسابقة التي لم تضمر قريبة، فأمدها أقل، فهو من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق؛ لأن التي ضمرت صارت بعد التضمير نشيطة وقوية وخفيفة حيث ذهب منها الرهل ونزل منها العرق أما التي لم تضمر فهي ثقيلة.

والشاهد قوله: «الْحَفْيَاءِ» بتقديم الفاء على الياء، وفي رواية صحيح مسلم: «الحيفاء»[(529)] والمشهور الأول كما قال النووي[(530)].

وقوله: «ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ» وقوله: «مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ» فهذه كلها مشاهد في المدينة، قال القاضي عياض: وذلك ميل ونحوه، وهذه اللفظة أصح وأثبت في أمر التي لم تضمر[(531)].

هذا ويجوز أخذ العوض على السباق في الخيل وفي الإبل وفي الرماية فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر»[(532)] أي: يؤخذ العوض على السباق على الخيل وعلى السباق على الإبل وكذلك الرماية، أما ما عداه فلا يجوز أخذ العوض عليه، فالسباق بين الحمير لا بأس به بدون عوض، والسباق على الأقدام كذلك لا بأس به بدون عوض.

}7337{، }7338{ الشاهد من الحديثين: إثبات منبر النبي صلى الله عليه وسلم ومشروعية أن تكون الخطبة على موضع عال مرتفع، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع نخلة ثم استبدله بمنبر صنع له، فصاح الجذع وحن حتى كاد أن ينشق؛ فنزل النبي صلى الله عليه وسلم وسكنه حتى هدأ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بكت على ما كانت تسمع من الذكر»[(533)] فقد جعل الله في الجذع إحساسًا كقوله تعالى: [البَقَرَة: 74]{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} فجعل الله في الحجر إحساسًا وإن كان جمادًا وقال سبحانه: [الإسرَاء: 44]{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وقال: [الحَديد: 1]{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.

 

}7339{ قوله: «قَدْ كَانَ يُوضَعُ لِي وَلِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْمِرْكَنُ» والمركن وعاء يغسل فيه الثياب يشبه الطست، «فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا» أي: في الاغتسال؛ ففيه: دليل على جواز اغتسال الرجل وامرأته؛ لأنها حِلٌّ له وهو حِلٌّ لها. والشاهد قوله: «هَذَا الْمِرْكَنُ» .

 

}7340{ هذا الحديث فيه: مشروعية الحلف للتقوية، ولكن الأحلاف التي كانت في الجاهلية أبطلها الإسلام، فعهد الإسلام أقوى، وكل حلف في الجاهلية لا يزيده الإسلام إلا قوة إذا كان حلفًا على النصرة وعلى إقامة الحق ورد العدوان.

والشاهد فيه قوله: «فِي دَارِي الَّتِي بِالْمَدِينَةِ» فهي مشهد.

وقوله: «وَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ» فيه: مشروعية القنوت في النوازل حيث قنت النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أربعين صباحًا؛ لأنهم قتلوا القراء، وفي الحديث الآخر أنهم رعل وذكوان.

 

}7341{ هذا الحديث فيه: كرم عبدالله بن سلام رضي الله عنه وجوده، وكان يهوديًا ثم أسلم وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، قال عبدالله رضي الله عنه لأبي بردة: «انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ فَأَسْقِيَكَ فِي قَدَحٍ شَرِبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَسَقَانِي سَوِيقًا وَأَطْعَمَنِي تَمْرًا وَصَلَّيْتُ فِي مَسْجِدِه» فالشاهد قوله: «فَأَسْقِيَكَ فِي قَدَحٍ شَرِبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» فهذا من الأعلام ومن المشاهد.

وقد جاء أيضًا في مناقب عبدالله بن سلام رضي الله عنه أنه قال له: إذا كان لك دين على شخص فأعطاك حمل تبن أو قت فلا تأخذه فإنه ربا ـ وفي الحديث الضعيف عن علي رضي الله عنه مرفوعًا: «كل قرض جر نفعًا فهو ربًا»[(534)] ففي إسناده سوار بن مصعب، وهو ضعيف كمال قال ابن معين والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم[(535)].

وفيه: انقطاع بين عمارة الهمداني الراوي عن علي رضي الله عنه، وجاء موقوفًا عن بعض الصحابة منهم عبدالله بن سلام رضي الله عنه، كما في هذا الخبر.

وقد وقع الإجماع على تحريم القروض التي تجر نفعًا[(536)] وهنا بين عبدالله بن سلام أنه لو لم يتم احتسابه من الدين لصار رشوة حتى يسكت الدائن عنه ولا يطالبه بالدين أو حتى يسقط عنه بعض الدين، وهذه فائدة أفادها عبدالله بن سلام رضي الله عنه.

 

}7342{، }7343{ قوله: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي» كان ذلك في حجة الوداع.

وقوله: «وَهُوَ بِالْعَقِيقِ» العقيق وادي ذي الحليفة وهو الوادي المبارك، فيقال له: وادي العقيق ووادي ذي الحليفة والوادي المبارك، ويسمى اليوم أبيار علي وهو الذي يحرم منه أهل المدينة، وسمي بالعقيق؛ لأن السيل عقه أي: شقه.

وقوله: «أَنْ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ» احتج به الجمهور على أنه يشرع للإحرام صلاة قبل أن يحرم، وقال المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية[(537)] وغيره: هذه الصلاة التي أمر بها هي صلاة الظهر من يوم الأحد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بعد فريضة ولا يشرع للإحرام صلاة تخصه؛ لأن هذه الصلاة التي صلاها ليست صلاة خاصة للإحرام، فإذا جاء المحرم في وقت الصلاة فالأفضل أن يصلي ثم يحرم بعدها، فإن كان الوقت ليس وقت صلاة فإن كان وقت ضحى توضأ وصلى صلاة الضحى وإلا صلى التي بعد الوضوء، وإن كان في وقت نهي لأن الصلاة التي بعد الوضوء من ذوات الأسباب ويحرم بعد ذلك.

والشاهد من الحديث قوله: «وَهُوَ بِالْعَقِيقِ» وهو الوادي المبارك فهو من المشاهد التي في المدينة.

وهذا الحديث فيه: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم قارنًا؛ ولهذا قال: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي وَهُوَ بِالْعَقِيقِ أَنْ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ» وفي لفظ: «عمرة في حجة» قارنًا ففيه: الرد على من قال: إنه أحرم مفردًا.

 

}7344{ هذا الحديث في توقيت المواقيت قال: «وَقَّتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَرْنًا لأَِهْلِ نَجْدٍ» وتسمى السيل، «وَالْجُحْفَةَ لأَِهْلِ الشَّأْمِ» وصارت الجحفة خربة، وصار الناس يحرمون من رابغ، وقد أعيد الميقات الآن وصار الناس يحرمون من الجحفة، وفي هذا الموضع مسجد كبير وفيه حمامات كثيرة «وَذَا الْحُلَيْفَةِ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ» وتسمى أبيار علي.

وقوله: «قَالَ: سَمِعْتُ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَلأَِهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ»» فقوله: «وَبَلَغَنِي» يدل على أنه منقطع، ولكن ثبت من حديث ابن عباس أن لأهل اليمن يلملم.

وقوله: «وَذُكِرَ الْعِرَاقُ فَقَالَ لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ» وقد جاء في الحديث الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق[(538)]. وتسمى الضريبة، وجاء أيضًا أن عمر هو الذي وقتها، ولا مانع من ذلك، فكأن عمر رضي الله عنه خفيت عليه هذه السنة فاجتهد فوافق اجتهاده السنة، وهو معروف بموافقاته رضي الله عنه.

وفي الحديث: علم من أعلام النبوة، فقد وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مصر وأهل الشام الجحفة ووقت لأهل العراق ذات عرق قبل أن تفتح، فقد كانت بلاد الشام ومصر للروم وما فتحت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك وقتها لهم.

ففيه: علم من أعلام النبوة وأن هذه البلاد ستفتح وتكون بلاد إسلام ثم فتحت كلها بحمد الله وأحرم الناس من المواقيت.

والشاهد فيه قوله: «وَذَا الْحُلَيْفَةِ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ» فهي من مشاهد المدينة.

 

}7345{ قوله: «أُرِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ» يعني: في مبيته، فالمعرس هو المكان الذي ينزل فيه المسافر آخر الليل للاستراحة، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة يوم السبت بعد الظهر عام حجة الوداع، ووصل إلى ذي الحليفة وهي على مسافة قريبة من المدينة فبينها وبين المدينة ستة كيلو مترات أو نحوها، والآن اتصلت بالبنيان، فلما وصل صلى الله عليه وسلم هذا الموضع نزل فيه وصلى فيه العصر والمغرب والعشاء ثم بات فيه وصلى الفجر ثم صلى الظهر وأحرم بعد الظهر فأري في منامه ـ ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وحي ـ «فَقِيلَ لَهُ: «إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ» وهو وادي ذي الحليفة وهو الوادي الذي يسمى الوادي المبارك ويسمى وادي العقيق، فكل هذه أسماء له.

وفيه: دليل على أن هذا الوادي مبارك، وهذا هو الشاهد للترجمة فهو من مشاهد المدينة.

 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [آل عِمرَان: 128]{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ}

}7346{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» فِي الأَْخِيرَةِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: [آل عِمرَان: 128]{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ *}.

 

}7346{ قوله: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» فيه: دليل على أن الحمد كله لله وأنه مالك الحمد ومستحقه بجميع أنواعه.

وهذا الحديث فيه فوائد، منها:

1- إثبات الجمع بين اللهم والواو خلافًا لمن أنكر ذلك من العلماء[(539)]: فهذا الحديث فيه الجمع بينهما، وهذه الصيغة نوع من الذكر بعد الركوع، فالذكر بعد الركوع جاء فيه أربعة أنواع منها هذا: «اللهم ربنا ولك الحمد»، ومنها: «اللهم ربنا لك الحمد» بدون واو، ومنها: «ربنا ولك الحمد» بالواو، ومنها: «ربنا لك الحمد».

2- مشروعية القنوت في النوازل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على فلان وفلان، ومحله في الركعة الأخيرة بعد الرفع من الركوع وبعدما يقول: ربنا ولك الحمد.

3- المستحب في الدعاء أن يبدأ به مباشرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا» وبعض الناس يبدأ بالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتي بأدعية فيقول: اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت. وهذا غلط وقد يحدث خللاً في الصلاة فالحمد إنما يكون في الفاتحة [الفَاتِحَة: 2]{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، ففي القنوت تبدأ بالدعاء وليس قبله شيء ولا بعده شيء.

4- جواز تخصيص أناس بأعيانهم بالدعاء عليهم فإنه قال: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا» ، وجاء تسميتهم في الحديث الآخر ففيه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام[(540)]. ففي هذا: دليل على أنه لا بأس بتسمية الكفار بأعيانهم في الدعاء إذا اشتد أذاهم كما دعا على رعل وذكوان.

5- أن الأمر لله وأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر ليس بإله يعبد، فالأمر لله فليس للنبي صلى الله عليه وسلم من الأمر شيء، فمع كونه دعا عليهم فقد أسلم بعض هؤلاء الذين دعا عليهم وحسن إسلامهم، قال تعالى: [آل عِمرَان: 128]{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ} ففيه: الرد على عباد النبي صلى الله عليه وسلم الذين يعبدونه ويجعلونه إلهًا ويتوسلون به، وقد ذكر الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في «كتاب التوحيد» هذه الآية وبوب عليها وقال: «وفي الصحيح عن أنس قال: شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته فقال: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟»[(541)] فنزلت: ُ ! $ £ ء ] ِ »[(542)] ، ففيه: دليل على أن الأنبياء ليسوا بآلهة يعبدون بل تصيبهم الأمراض والأسقام، ويسلط عليهم الأعداء ولا يدفعون عن أنفسهم ولكنهم بشر وأنبياء مكرمون عند الله ولهم حق الطاعة والتوقير والتعظيم والتبجيل والمحبة وتقديم محبتهم على محبة النفس والأهل والولد، فالأمر لله وهو الذي يتصرف في خلقه وله سبحانه في خلقه شئون، والرسول صلى الله عليه وسلم نبي كريم يطاع ويتبع.

 قَوْلِهِ تَعَالَى: [الكهف: 54]{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً *}

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: [العَنكبوت: 46]{وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

}7347{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، ح حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، أَخْبَرَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ _ب بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمْ: «أَلاَ تُصَلُّونَ» فَقَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعَهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: [الكهف: 54]{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً *}.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يُقَالُ: مَا أَتَاكَ لَيْلاً فَهُوَ طَارِقٌ وَيُقَالُ: [الطّارق: 2]{مَا الطَّارِقُ *} النَّجْمُ وَ [الطّارق: 3]{الثَّاقِبُ *} الْمُضِيءُ يُقَالُ: أَثْقِبْ نَارَكَ لِلْمُوقِدِ.

}7348{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ» فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُمْ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا» فَقَالُوا قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ أُرِيدُ «أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا» فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ أُرِيدُ ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ فَقَالَ: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الأَْرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَْرْضِ فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ وَإِلاَّ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الأَْرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ».

 

هذه الترجمة في الجدل قال: «بَاب قَوْلِهِ تَعَالَى: [الكهف: 54]{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً *}» ثم ذكر الآية الثانية فقال: «وَقَوْلِهِ تَعَالَى: [العَنكبوت: 46]{وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}» والخصام منه ممدوح ومذموم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال الكرماني: الجدال هو الخصام ومنه قبيح وحسن وأحسن فما كان للفرائض فهو أحسن، وما كان للمستحبات فهو حسن، وما كان لغير ذلك فهو قبيح».

 

}7347{ هذا حديث علي رضي الله عنه وهو يتعلق بالآية الأولى، قال: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ _ب بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» والطروق هو المجيء ليلاً كما فسره المؤلف «قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ» أي: البخاري «يُقَالُ: مَا أَتَاكَ لَيْلاً فَهُوَ طَارِقٌ» أي: أنه المجيء في الليل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن»[(543)] قال: «وَيُقَالُ: [الطّارق: 1-3]{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ *النَّجْمُ الثَّاقِبُ *} قال: «وَ [الطّارق: 3]{الثَّاقِبُ *} الْمُضِيءُ يُقَالُ: أَثْقِبْ نَارَكَ لِلْمُوقِدِ» أي: الذي يوقد النار.

فالنبي صلى الله عليه وسلم أتاهما ليلاً فقال: «أَلاَ تُصَلُّونَ» وفيه: مشروعية الأمر بصلاة الليل وإن كانت نافلة.

وفيه: مشروعية التعاون على الخير فقد أمرهما وليس الأمر أمر إيجاب، وإنما هو أمر استحباب في التعاون على الخير، فيشرع للإنسان أن يعين غيره على الخير، فإذا كان لك زميل تتصل عليه بالهاتف حتى يقوم في آخر الليل فهذا حسن.

فالنبي صلى الله عليه وسلم أتى عليًّا وفاطمة رضي الله عنهما وقال: ««أَلاَ تُصَلُّونَ» فَقَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ» يعني: أرواحنا بيد الله «فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا» أي: ينام الإنسان ولا يدري متى يستيقظ، وهذا جدل من علي رضي الله عنه، وتركه أولى، فالأولى أن يقول: سمعًا وطاعة يا رسول الله قال: «فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعَهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: [الكهف: 54]{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً *}» أي: إن رد علي رضي الله عنه فيه جدال، فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا جدلا ولم يرد عليه في الحال؛ لأنه ليس بواجب ولكن سمعه علي رضي الله عنه.

وفيه: أنه لا بأس بضرب الفخذ في مثل هذه الحالة من باب الإنكار أو العتاب اللطيف، والاستشهاد بالآية على فعله الذي هو خلاف الأولى.

 

}7348{ هذا الحديث في قصة جدال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة: «بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ»» وهم بنو النضير أو بنو قينقاع أو كلاهما قال: «فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ» وهذا البيت كان للقراءة فكانوا يدرسون فيه كتبهم وينسخون مثل الذي نسميه نحن بيت تحفيظ القرآن أو مدرسة لتحفيظ القرآن «فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُمْ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا» فَقَالُوا قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ» لأنهم يخشون أن يردوا عليه فهم يعلمون أنه على الحق ويعلمون أنهم على الباطل قال تعالى: [البَقَرَة: 146]{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} فهم يخشون أن يردوا عليه فيدعو عليهم فتستجاب دعوته أو يجليهم من المدينة؛ لأنهم عقدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم عهدًا، «فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ أُرِيدُ» يعني: أريد تبليغكم «ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ فَقَالَ: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الأَْرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَْرْضِ فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ وَإِلاَّ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الأَْرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» فيه: أن الأرض لله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال الله عن موسى: [الأعرَاف: 128]{إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ *}، وعلى هذا لو أن المسلمين الآن صاروا يطالبون بأرض فلسطين على أنها أرض لله وليست لليهود وليست للعرب بل الأرض للمتقين فهم أحق بها، أما التعصب من أجل العروبة ومن أجل الأرض فإنه يجعل القضية تبقى ولا تحل، لكن ينبغي أن تحل حلًّا شرعيًّا وهو أن يقال: الأرض لله فلما كان بنو إسرائيل في ذلك الوقت مقيمين لشرع الله كانوا أحق بها من العمالقة ومن غيرهم، فلما أمر موسى قومه أن يقاتلوهم وامتنعوا قاتلهم بعد ذلك فتاه يوشع بن نون، وفتحها فأورثهم الله الأرض، فلما كفروا وغيروا صار المسلمون أحق بها ففتحت في زمن عمر، فالأرض للمتقي الذي يقيم فيها شرع الله فمن أقام شرع الله فهي له، وبهذا تحل القضية، فلما قاتل أولئك اليهود انهزموا، فليس هناك حل إلا الجهاد في سبيل الله، فإذا أقيم الجهاد حلت القضية وإلا ستبقى على حالها حتى يأذن الله، والله أعلم متى تفتح، ولا شك أن المسلمين سوف يُسلطون على اليهود ويقتلونهم قتلاً ذريعًا حتى يختبئ اليهود وراء الشجر والحجر، ويتكلم الشجر والحجر ويقول: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود[(544)].

وفي الحديث جدال اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتعلق بقوله تعالى: [العَنكبوت: 46]{وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، فالرسول صلى الله عليه وسلم جادلهم بالتي هي أحسن، فإذا كان أهل الكتاب وهم كفار لا يجادلون إلا بالتي هي أحسن فغيرهم من باب أولى.

وفيه: دليل على أن الجدال نوعان: جدال بالحق وجدال بالباطل، فالجدال الذي بالباطل هو المنهي عنه قال صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»[(545)] أما الجدال بالحق فمأمور به إذا كان لإظهار الحق ورد الباطل قال تعالى: [النّحل: 125]{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

 قَوْلِهِ تَعَالَى: [البَقَرَة: 143]{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}

وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْم.

}7349{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ يَا رَبِّ. فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيَقُولُ: مَنْ شُهُودُكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قَالَ عَدْلاً [البَقَرَة: 143]{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا .

 

قوله: «بَاب قَوْلِهِ تَعَالَى: [البَقَرَة: 143]{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْم» فالمراد بالوسط العدول؛ ولذا جاء في تفسير قوله تعالى: {وَسَطًا} أي: خيارًا عدولاً.

وفيه: أن الأمة الوسط هم أهل العلم الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزومهم فقال: «عليكم بالجماعة»[(546)] وقال: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة»[(547)] ، وهم أهل العلم وأهل الحق وأهل البصيرة وهم أهل السنة والجماعة وهم الفرقة الناجية.

}7349{ ذكر حديث أبي سعيد قال: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ يَا رَبِّ. فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيَقُولُ: مَنْ شُهُودُكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قَالَ عَدْلاً [البَقَرَة: 143]{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}» فيه: أن هذه الأمة تشهد على الأمم السابقة والمراد ـ والله أعلم ـ العدول منهم وأما الفسقة فلا يشهدون، كما قال الداوودي فقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} يقال: إن هذا عام أريد به الخصوص فأريد به خصوص أهل العلم؛ لأن أهل الجهل ليسوا عدولاً وكذلك أهل البدع.

وفي الآية والحديث من الفوائد أن شرط قبول الشهادة العدالة، وهذه الصفة ثبتت لهذه الأمة بقوله: «{وَسَطًا}» والوسط: العدل، والمراد بالجماعة أهل الحل والعقد من كل عصر، وهم المراد بقول المؤلف: «وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْم» .

وقد احتج بهذه الآية أهل الأصول على أن الإجماع حجة؛ لأنهم عدلوا بقوله تعالى: «{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}» أي: عدولاً فمقتضى ذلك أنهم عصموا من الخطأ فيما أجمعوا عليه قولاً وفعلاً.

 إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ أَوْ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ

خِلاَفَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ

لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ».

}7350{، }7351{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَخِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ وَأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأَْنْصَارِيَّ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لاَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنْ الْجَمْعِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَفْعَلُوا وَلَكِنْ مِثْلاً بِمِثْلٍ أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ».

 

قوله: «بَاب إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ أَوْ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ خِلاَفَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ» في رواية الكشميهني: «إذا اجتهد العالم» .

وقد أشكل قوله: «خِلاَفَ الرَّسُولِ» على الشراح فلو حذفت لاستقام الكلام، وفي الترجمة دليل على أن العالم أو الحاكم إذا اجتهد وتبين خطؤه أنه يرد الحكم.

واستدل المؤلف بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «َنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ» وفيه: أن حكم الحاكم إذا خالف نصًّا أو إجماعًا فإنه ينقض، وهذا الحديث رواه مسلم في «صحيحه»[(548)] ، وفي رواية في «الصحيحين»: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»[(549)] .

وقد جزم المؤلف رحمه الله بالحكم هنا لوضوح الدليل، وإلا فإن من عادته أنه لا يجزم فيقول مثلاً: باب إذا اجتهد الحاكم، ولا يأتي بالجواب.

 

}7350{، }7351{ ذكر المؤلف حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأَْنْصَارِيَّ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ» والتمر الجنيب تمر جيد، «فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لاَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنْ الْجَمْعِ» والجمع أخلاط من التمر الرديء الذي يجمع، يعني: نشتري صاعًا جيدًا بصاعين من الرديء، «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَفْعَلُوا وَلَكِنْ مِثْلاً بِمِثْلٍ أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا» فلا يجوز صاع من التمر الجيد بصاعين من التمر الرديء، والمخرج أن تبيع الرديء بدراهم ثم تشتري بالدراهم تمرًا جيدًا.

وفيه: دليل على أن المفتي والعالم إذا منع من شيء فعليه أن يبين المخرج، ولا يجعل المستفتي في حيرة فمثلاً قد أفتت هيئة كبار العلماء بالأغلبية والمجمع الفقهي بالإجماع أن الإيجار المنتهي بالتمليك لا يجوز؛ لأنه عقدان عقد إيجار ثم تمليك، ولكن هيئة كبار العلماء ذكروا المخرج فقالوا: بدلاً من أن يكون الإيجار منتهيًا بالتمليك اجعله بيعًا وارهنه، فالمفتي إذا منع من شيء فإنه يبين المخرج والطريق الحلال.

وقوله: «وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ» يعني: وكذلك الذي تبيعونه بالوزن فإنه مثل الكيل فلا يجوز لك أن تبيع مثلاً عشرة كيلو جرامات من التمر الرديء بخمسة كيلو جرامات من التمر الجيد، فالحكم نفس الشيء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حديث عبادة: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد»[(550)] يعني: إذا اختلفت جازت الزيادة، وإذا اتفقت الربويات مثل ذهب بذهب أو فضة بفضة أو بر ببر أو شعير بشعير أو تمر بتمر فلا بد من توفر شرطين:

الشرط الأول: التماثل في الميزان أو الكيل فلا يزيد أحدهما عن الآخر سواء كان أحدهما رديئًا أو جيدًا أو جديدًا أو قديمًا، فالحكم واحد.

الشرط الثاني: التقابض في مجلس العقد، أي: خذ وأعطني.

فإذا اختلفت هذه الأصناف سقط شرط المماثلة وبقي شرط التقابض، وبعض الناس الآن يتبادل دراهم بدون قبض ولا يصلح هذا، وبعضهم يتقابض بالشاشات، ويدخل في الحساب لكن قيل لي: إنه لا يدخل إلا بعد أربعة أيام وبعض الأحيان يدخل في الحساب بعد أربع ساعات، وهذا لا يجوز قط، بل لابد أن يكون يدًا بيد.

والشاهد من الحديث: أن العامل إذا أخطأ فحكمه مردود، فهذا أخو بني عدي وكذلك بلال لما أخطأ كل واحد منهما واشترى تمرًا جيدًا بتمر رديء أكثر ـ رده النبي صلى الله عليه وسلم ـ فدل على أن العامل أو العالم أو الحاكم إذا أخطأ فإن حكمه مردود؛ لأنه في رواية قال: «لا تفعلوا ولكن مثلا بمثل»[(551)] وفي الرواية الأخرى قال: «فرده»[(552)] وهذه هي الشاهد للترجمة أي: الحكم برد هذا البيع الفاسد.

وفيه من الأحكام: أن حكم الحاكم إذا خالف نصًّا أو إجماعًا فإنه ينقض، وهذا مأخوذ من الحديث الذي ذكره وهو: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ» ومأخوذ من قوله: «فرده».

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: مراده أن من حكم بغير السنة جهلاً أو غلطًا يجب عليه الرجوع إلى حكم السنة وترك ما خالفها امتثالاً لأمر الله تعالى بإيجاب طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو نفس الاعتصام بالسنة.

وقال الكرماني: المراد بالعامل عامل الزكاة وبالحاكم القاضي وقوله: «فَأَخْطَأَ» أي: في أخذ واجب الزكاة أو في قضائه.

قلت: وعلى تقدير ثبوت رواية الكشميهني فالمراد بالعالم المفتي أي: أخطأ في فتواه قال: والمراد بقوله: «فَأَخْطَأَ خِلاَفَ الرَّسُولِ» أي: يكون مخالفًا للسنة» اهـ.

هذا ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أن الصحابي رضي الله عنه اجتهد فيما فعل فرده النبي صلى الله عليه وسلم ونهاه عما فعل وعذره لاجتهاده؛ فدل الحديث على أن حكم الحاكم إذا خالف نصًّا أو إجماعًا فإنه ينقض.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد