شعار الموقع

شرح كتاب الأذان من صحيح البخاري (10-54)

00:00
00:00
تحميل
75

ذهب إليه الإمام أحمد[(567)] وجماعة إلى أنها من واجبات الصلاة، وأنه يجب التكبير في كل خفض ورفع اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» [(568)] فدل على وجوبها وهذا هو الأقرب.

وإذا ترك المصلي تكبيرات الانتقال سهوًا أو نسيانًا فإنه يسجد سجدتين إن كان منفردًا أو إمامًا، وإن كان مأمومًا وأدرك الصلاة من أولها فإنه يتحملها عنه الإمام ولا يسجد، وإن فاته ركعة فأكثر يقضي ما فاته ثم يأتي بالسجدتين في آخر صلاته.

وأما تكبيرة الإحرام فهي ركن عند الجميع، ولا تنعقد الصلاة إلا بها.

وقول البخاري: «وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» ـ إثر الترجمة ـ مشعر بأنه يختار وضع اليدين قبل الركبتين في السجود، والجمهور على ذلك.

وفي المسألة خلاف بين أهل العلم، ومنشأ الخلاف حديث وائل بن حجر، وفيه: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» [(569)] وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «وليضع يديه قبل ركبتيه» [(570)].

قال ابن القيم[(571)] وجماعة: إن هذا حديث البروك، حصل فيه انقلاب على الراوي، والأصل أن يقول: «لا يبرك أحدكم بروك البعير وليضع ركبتيه قبل يديه» فانقلب على الراوي فقال: «وليضع يديه قبل ركبتيه» وذلك لأن البعير يضع يديه قبل ركبتيه، فإذا وضع يديه قبل ركبتيه شابه البعير، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن مشابهة البعير فقال: «لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير وليضع ركبتيه قبل يديه» ، فيبدأ أولاً بالركبتين، ثم اليدين، وعند القيام من السجود يرفع يديه أولاً ثم ركبتيه.

القول الثاني: أنه يبدأ بيديه قبل ركبتيه على ما جاء في حديث أبي هريرة: «وليضع يديه قبل ركبتيه» [(572)]؛ وقالوا: إن البعير يداه في ركبتيه وليس هذا انقلابًا وقالوا: إنه عند السجود يبدأ بيديه قبل ركبتيه وعند الرفع يرفع ركبتيه قبل يديه.

وعلى كل حال، فهذه المسألة لا ينبغي التشديد فيها؛ لأنها ليست من الواجبات إنما في كيفية السجود وكيفية النهوض من السجود، والأمر في هذا واسع، ولكن الأفضل ما ذهب إليه الجمهور أنه يضع يديه قبل ركبتيه، هذا إذا لم يشق عليه، فإن شق عليه لكبر أو مرض فإنه يضع الركبتين قبل اليدين ولا حرج.

 

}803{ قوله: «إِنْ كَانَتْ» ؛ إن هذه مخففة من الثقيلة، واللام في «لَصَلاَتَهُ» ، لام الابتداء، وهي التي تسمى: اللام المزحلقة، وهي الدليل على أن «إِنْ» مخففة من الثقيلة، وليست شرطية، ومعنى الجملة: إن هذه صلاته.

 

}804{ وقوله: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ» فيه: دليل على مشروعية القنوت في النوازل، فإذا نزل بالمسلمين نازلة قنت الإمام ودعا للمؤمنين ودعا على الكافرين، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقنت والصحابة خلفه يؤمنون، والقنوت يكون في الركعة الأخيرة من صلاة الفجر ومن صلاة المغرب، وفي بقية الصلوات عند الحاجة، كما كان أبو هريرة يقنت في العشاء، ويقنت في العصر، فيدعو للمؤمنين، ويلعن العصاة والكافرين، وكان هذا قنوت النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة، فلما فتحت مكة ترك القنوت.

 

}805{ قوله: «فَجُحِشَ» ، يعني: خدش، والخدش : جرح فوق قشر الجلد، فجحش صلى الله عليه وسلم في شقه الأيمن، فأصابه رضٌّ في الأعضاء منعه من القيام، وقد ورد في رواية بشر بن المفضل، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه عند الإسماعيلي: «أن قدمه انفكت صلى الله عليه وسلم، وعجز عن القيام فصلى قاعدًا»[(573)].

وفيه: دليل على أن المريض إذا عجز عن القيام يصلي قاعدًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبك» [(574)] زاد النسائي: «فإن لم تستطع فمستلقيًا» [(575)] فيكون مستلقيًا ورجلاه إلى القبلة، فإذا كان لا يستطيع فإن الله تعالى قال: [التّغَابُن: 16]{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.

وفيه: أن المريض إذا كان إمامًا فإن من خلفه يصلون قعودًا إذا صلى قاعدًا من أول الصلاة، وهو الأفضل، وإن صلوا قيامًا فلا بأس على الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم في آخر حياته على الصلاة خلفه قيامًا؛ قال بعض العلماء: إنه إذا ابتدأ الصلاة قائمًا ثم اعتل جاز القيام للمأمومين، أما إذا ابتدأ الصلاة قاعدًا فإنهم يقعدون.

القول الثاني: أن القعود خلف الإمام منسوخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على الصلاة خلفه قيامًا في آخر حياته، وإنما يؤخذ بالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم، كما ذهب إلى ذلك الإمام البخاري.

والصواب : أنه يجوز الأمران، لكن القعود أفضل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون» [(576)] ويجوز القيام لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم في مرضه الأخير على صلاتهم قيامًا خلفه.

والصلاة في قوله: «فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا وَقَعَدْنَا» يحتمل أنها الفريضة، وأن هذا قبل وجوب صلاة الجماعة، ويحتمل أن هذه الصلاة نافلة إما في الضحى أو في الليل؛ لأنهم جاءوا يزورونه ثم حضرت الصلاة فصلى بهم قاعدًا فصلوا خلفه.

;  فَضْلِ السُّجُودِ

}806{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ: «هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟» قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟» قَالُوا: لاَ قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الأُْمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنْ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلاَّ الرُّسُلُ وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيب مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ قَدْ امْتَحَشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا فَيَقُولُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ فَيُعْطِي اللَّهَ مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَأَلْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ فَيَقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَيَقُولُ اللَّهُ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ فَيَضْحَكُ اللَّهُ عز وجل مِنْهُ ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ عز وجل: مِنْ كَذَا وَكَذَا أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الأَْمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: لأَِبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ قَوْلَهُ: «لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ».

 

}806{ قوله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْر» ، من المراء وهو: الشك، يعني: هل يشك الإنسان في رؤية القمر ليلة البدر، ليلة أربع عشرة؟

ثم قال: «فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟» وفي رواية: «صحوًا ليس فيها سحاب» [(577)] «قَالُوا: لاَ قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» ، يعني: ترون ربكم رؤية واضحة لا شك فيها، كما أنكم ترون القمر ليلة البدر في منتصف الشهر رؤية واضحة لا شك فيها، وترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب؛ وفي اللفظ الآخر: «هل تضارون؟» [(578)] يعني: هل يصيبكم ضرر أو شك؟ وفي اللفظ الآخر: «إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون» [(579)] يعني: لا يحصل لكم شك أو التباس.

وفي الحديث: إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وهو من الأحاديث المتواترة في الصحاح وفي السنن وفي المسانيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواها من الصحابة أكثر من ثلاثين صحابيًّا، ساقها العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه: «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح»، وساقها الداراقطني في كتاب «الرؤية».

ودلت أيضًا النصوص من كتاب الله تعالى على إثبات الرؤية؛ قال تعالى: [القِيَامَة: 22-23]{وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} فأضاف النظر إلى الوجه وعدّاه بـ ُ م ِ الصريحة في نظر العين، ويخلو الكلام من قرينة تدل على خلاف موضوعه، فدل على أن المراد: الرؤية بالعين الباصرة إلى الرب جل جلاله. وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة.

أما المعتزلة فقالوا: إن المراد بالرؤية العلم، ففي معنى: إنكم ترون ربكم كما ترون القمر، قالوا: تعلمون أن لكم ربًّا لا تشكون فيه كما لا تشكون في القمر أنه قمر. وهذا باطل، وقد كفر الأئمة من أنكر الرؤية كالإمام أحمد[(580)] وغيره؛ حيث قالوا: من أنكر رؤية الله فهو كافر؛ لأن الأحاديث متواترة والنصوص واضحة.

والأشاعرة أثبتوا الرؤية لكن نفوا الجهة، فقالوا: يُرى لا في جهة؛ لأنهم نفوا أن يكون الرب في العلو، فهم يتفقون مع المعتزلة في نفي الجهة والعلو، ولكنهم لم يجسروا على نفي الرؤية وعجزوا عن ذلك، فأثبتوا الرؤية ونفوا الجهة، فصاروا مع المعتزلة في نفي الجهة، ومع أهل السنة في إثبات الرؤية، وهذا مذهب ملفق، ولا يستقيم هذا المذهب؛ فغير معقول وغير متصور أن تكون رؤية بدون جهة، ولهذا ضحك جماهير العقلاء من هذا المذهب وقالوا: إن هذا غير متصور، وغير معقول، ولا يمكن أن تكون الرؤية إلا بجهة من الرائي، فتسلط عليهم المعتزلة وقالوا: أنتم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يلزمكم أن تثبتوا الجهة فتكونوا مع أهل السنة، أو تنفوا الرؤية فتكونوا أصحابًا لنا.

وقوله: «فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا» .

جعل الله لهم علامة وهي كشف ساقه سبحانه، فيقال: هل بينكم وبينه علامة؟ فيقولون: نعم كشف الساق، فيكشف عن ساقه، فإذا كشف الساق عرفوه كما في الحديث الآخر ـ وسيأتي ـ: «فيكشف عن ساقه الرب سبحانه فيكون علامة للمؤمنين فيتبعونه، فيسجد المؤمنون إذا رأوا الله، فيريد المنافقون أن يسجدوا فلا يستطيعون، فيجعل الله ظهر كل واحد منهم طبقًا واحداً فلا يستطيع السجود» [(581)] قال تعالى: [القَلَم: 42]{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ *}، وفي اللفظ الآخر: «أنه ينادي مناد ليتبع كل أمة ما تعبد» [(582)]، فمن كان يعبد عزيرًا يتبع عزيرًا، ومن كان يعبد المسيح يتبع المسيح، ومن كان يعبد الطواغيت يتبع الطواغيت، ومن كان يعبد الشمس يتبعها، ومن كان يعبد القمر يتبعه، وكلهم يساقون إلى النار، وتبقى هذه الأمة؛ يبقى الموحدون من بر وفاجر، من عصاة ومطيعين، وفيها منافقوها؛ لأن المنافقين كانوا أظهروا الإسلام في الدنيا فصاروا مع المسلمين في الموقف، فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفون فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيتجلى لهم الرب في الصورة التي يعرفون، فيسجدون له، ولا يستطيع المنافقون أن يسجدوا، فإذا رفعوا رءوسهم رأوا ربهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة أربع مرات فينكرون ويقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا، ثم يتجلى لهم في الصورة التي يعرفون فيكشف لهم عن ساقه فيسجدون، ثم بعد ذلك ينطلق المؤمنون والمنافقون فينطفئ نور المنافقين ويبقون في الظلمة فيقفون ويقولون للمؤمنين: [الحَديد: 13]{ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ *}، فالمنافقون من خداعهم يظنون أن إظهارهم للإسلام ينفعهم حتى في موقف القيامة، لكنهم يمكر بهم فيذهبون إلى النار، والمؤمنون يعبرون على الصراط إلى الجنة.

$ر مسألة: ظاهر هذا الحديث أن المنافقين يرون ربهم في الموقف، قال بهذا بعض أهل العلم.

القول الثاني: أن جميع الكفرة يرون الله في الموقف ثم يحتجب عنهم.

القول الثالث: لا يراه إلا المؤمنون خاصة، أما الكفرة فإنهم محجوبون؛ قال الله تعالى: [المطفّفِين: 15]{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *}.

وفيه: إثبات الإتيان لله سبحانه وتعالى كما في قوله: «فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ» ، وكما جاء في قوله تعالى: [البَقَرَة: 210]{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ}، والمجيء في قوله عز وجل: [الفَجر: 22]{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *}. ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات صفات الله تعالى إثباتًا يليق بجلاله وعظمته.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وقد دل القرآن على ما دل عليه هذا الحديث في مواضع في قوله: [الأنعَام: 158]{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}؛ وقال: ُ ي ى و ه ن ء پپ! ! ِ ، ولم يتأول الصحابة ولا التابعون شيئًا من ذلك، ولا أخرجوه عن مدلوله، بل روي عنهم ما يدل على تقريره، والإيمان به، وإمراره، كما جاء دون تشبيه أو تأويل.

وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال في مجيئه: هو مجيء أمره، وهذا مما تفرد به حنبل. فمن أصحابنا من قال: وَهِمَ حنبل فيما روى، وهو خلاف مذهبه المعروف المتواتر عنه، وكان أبو بكر الخلال وصاحبه لا يثبتان لما تفرد به حنبل عن أحمد رواية، ومن متأخريهم من قال: هو رواية عنه بتأويل كل ما كان من جنس المجيء، والإتيان، ونحوهما؛ ومنهم من قال: إنما قال ذلك إلزامًا لمن ناظره في القرآن؛ فإنهم استدلوا على خلقه بمجيء القرآن، فقال: إنما يجيء ثوابه، فقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ}أي: كما تقولون أنتم في مجيء الله أنه مجيء أمره، وهذا أصح المسالك في هذا المروي».

والمعروف عن الإمام أحمد أنه إمام أهل السنة والجماعة، فلا يمكن أن يقول في المجيء أنه مجيء أمره، إنما هذا وهم من حنبل، لاسيما أنه متفرد بهذا.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وأصحابنا في هذا على ثلاث فرق: منهم من يثبت المجيء والإتيان ويصرح بلوازم ذلك في المخلوقات، وربما ذكروه عن أحمد من وجوه لا تصح أسانيدها عنه، ومنهم من يتأول ذلك على مجيء أمره، ومنهم من يقر ذلك ويمره كما جاء ولا يفسره ويقول: هو مجيء وإتيان يليق بجلال الله وعظمته سبحانه... وهذا هو الصحيح عن أحمد ومن قبله من السلف، وهو قول إسحاق وغيره من الأئمة».

أما الذين يتأولون هذا أمثال بعض المتأخرين من الذين لم يلتزموا بمذهب أهل السنة والجماعة ـ كابن الجوزي وغيره ـ فلا يعتبر تأويلهم.

وقوله: «فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ» ، فيه: إثبات الصراط، وأنه حق، وينصب على ظهر جهنم، ويمر الناس فيه على قدر أعمالهم، وهو صراط حسي، ومرور الناس على هذا الصراط على حسب استقامتهم على الصراط المستقيم في الدنيا، فمن استقام على دين الله، وعمل بكتابه، واتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، جاز على الصراط الذي ينصب على متن جهنم يوم القيامة، ومن تنكب الصراط المستقيم في الدنيا، لم يجز عليه، وسقط في النار ـ نعوذ بالله ـ.

فهو صراط حسي ينصب على متن جهنم، يمر الناس عليه، فمن تجاوزه فإلى الجنة ومن سقط ففي النار.

خلافًا للمعتزلة الذين أنكروا الصراط الحسي، وأنكروا الميزان، وقالوا: ليس هناك ميزان حسي توزن فيه الأعمال، وإنما هو ميزان معنوي المراد به العدل، وقالوا: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال، أما الرب فلا يحتاج إلى ميزان.

وأنكروا الحوض أيضًا، وهو حوض النبي صلى الله عليه وسلم في موقف القيامة؛ فهم لا يعملون بالنصوص، بل يقدمون العقل على النصوص، وهذا فيه رد عليهم.

وأول من يجوز من الرسل: نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، يجوز بأمته، فهي أول الأمم تجوز على الصراط، وأول الأمم دخولاً إلى الجنة، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل؛ لأن الموقف عصيب وشديد فلا يستطيع أحد أن يتكلم إلا الرسل لوجاهتهم عند الله وقربهم من الله وعظم منزلتهم منه سبحانه، فيقولون: اللهم سلم سلم.

قوله: «وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيب مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ» والتقدير: وفي جسر جهنم كلاليب، وفي رواية أنه قال: «وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها: شوك السعدان» [(583)] يعني: مثلها في الكيفية وفي الصورة الظاهرة، لكن لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتشبيهها في مجرد الصورة، ولهذا قال: «غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو» ؛ يعني: أن الثبات والسقوط في هذا الموقف حسب الأعمال.

وقوله: «حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ» ، وهم الموحدون العصاة الذين دخلوا النار بالمعاصي التي ماتوا عليها من غير توبة، وهؤلاء منهم من يعفو الله عنه فيطهر بعفو الله، ومنهم من لا يعفو الله عنه، فلابد أن تطهره النار حتى تزيل خبثه؛ لأن المعاصي خبث تطهرها النار، كما أن الخبث الذي يصيب الثوب من النجاسة يطهره الماء، فهؤلاء العصاة علق بهم خبث فلابد من تطهير هذا الخبث، فمن عفا الله عنه طهر، ومن لم يعف الله عنه فلابد أن يطهر بالنار على قدر جرائمه ومعاصيه، ثم يخرجهم الله بشفاعة الشفعاء، فيشفع نبينا صلى الله عليه وسلم أربع شفاعات، ويشفع بقية الأنبياء، ويشفع الشهداء، ويشفع الملائكة، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته، أما الكفرة فلا يخرجون من النار.

قوله: «فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ» ، فالعلامة آثار السجود؛ لأن النار لا تأكل آثار السجود عند العصاة؛ حيث تلهبهم النار من جهات أخرى من الظهر ومن الخلف، أما الوجه فلا تأكله النار؛ لأنه مكان السجود؛ وفي الحديث الآخر: «حرم الله على النار أن تأكل صورهم» [(584)] يعني: وجوههم، ومنهم من تأكله النار حسب أعماله إلى قدميه، أما الكفرة فتغمرهم النار من جميع الجهات.

والشاهد من الحديث قوله: «وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ» ، ففيه فضل السجود، والمراد بأثر السجود: السجود في الصلاة، وليس المراد السجود المنفرد.

قوله: «فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ قَدْ امْتَحَشُوا» ، أي: احترقوا، وصاروا فحمًا، وفي اللفظ الآخر: «فيخرجون منها ضبائر ضبائر ـ يعني جماعات جماعات ـ فبثوا على أنهار الجنة» [(585)].

فإذا تكامل خروج العصاة ولم يبق فيها أحد منهم أطبقت النار على الكفرة بجميع أصنافهم من اليهود والنصارى والوثنيين.

والمنافقون في الدرك الأسفل من النار فيخلدون فيها أبد الآباد، كما قال سبحانه: [الهُمَزة: 8]{إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ *}، يعني: مطبقة مغلقة، وقال سبحانه: [المَائدة: 37]{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ *}. وقال سبحانه: [البَقَرَة: 167]{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ *}. وقال سبحانه: [الإسرَاء: 97]{كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا *}. وقال سبحانه: [النّبَإِ: 23]{لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا *}؛ يعني: مددًا متطاولة، كلما انتهى حقب يعقبه حقب، إلى ما لا نهاية ـ نسأل الله السلامة والعافية ـ.

وظاهر الأحاديث أن المرتدين لا يردون حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث الآخر: «إني فرطكم على الحوض» [(586)] والفرط هو: الذي يسبق القوم، ويتقدمهم، ويهيئ لهم المكان؛ قالوا: يا رسول الله إكيف تعرف أمتك؟ قال: «أعرفهم غرًّا محجلين من آثار الوضوء، ولو كان لرجل خيل بهم وبينها خيل محجلة، ألا يعرف خيله؟» قالوا: بلى، قال: «فإنكم تأتون غرًّا محجلين من آثار الوضوء» [(587)]. هذا دليل على أن المؤمنين الذين يتوضؤون ويصلون يَرِدُون الحوض، وهذا يشمل العصاة لأنهم يصلون، ومن يترك الصلاة والوضوء فهو كافر، وهذا من أدلة كفر تارك الصلاة، أن المصلين يردون غرًّا محجلين من آثار الوضوء، والذي لا يصلي ولا يتوضأ لا يرد الحوض، فليس من المؤمنين، وإنما هو من الكفرة، والذين يذادون هم المرتدون.

ذكر السفاريني أيضًا أنه يطرد عنه المسرفون في المعاصي، والذين يحدثون البدع، لكنه ما ذكر دليلاً، وظاهر الأحاديث أن الذين يذادون هم المرتدون الكفرة، أما العصاة فهم مؤمنون يتوضؤون ويأتون غرًّا محجلين.

وأما المبتدعة الذين لم تبلغ يد عنهم الكفر فحكمهم حكم العصاة.

والخوارج فيهم تفصيل؛ فالسبئية منهم الذين ألَّهوا عليًّا واعتقدوا أنه إله، فهؤلاء كفرة، وأما ما عداهم ففيه الخلاف، فمن العلماء من كفرهم وهو رواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بالأحاديث التي فيها أنهم «يمرقون من الدين كما يرمق السهم من الرمية» [(588)] قالوا: هذا دليل على كفرهم، وفي لفظ آخر: «يمرقون من الدين... ثم لا يعودون فيه» [(589)]. وفي اللفظ الآخر: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» [(590)] فشبههم بقوم عاد وهم قوم كفار، وفي لفظ آخر: «فمن لقيهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم، يوم القيامة» [(591)].

وقال آخرون من أهل العلم: إنهم متأولون، وإن هذه النصوص من باب الوعيد، قال شيخ الإسلام : أن الصحابة عاملوهم معاملة العصاة ولم يعاملوهم معاملة المرتدين[(592)]، واستدلوا بقول علي رضي الله عنه لما سئل عنهم: أكفارٌ هُم؟ قال: مِن الكفر فروا؟ يعني هم متأولون، والقول بتكفيرهم قول قوي، فالنصوص واضحة في هذا، وفيه رواية عن الإمام أحمد.

وقوله: «وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ» هذا الرجل هو آخر من يخرج من النار، وآخر من يدخل الجنة، يخرجه الله من النار لكن وجهه مصروف قِبَلَها يأتيه حرها، فيسأل ربه «فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا» ، فيأخذ الله عليه الميثاق ألا يسأل غيره ثم يصرف وجهه عن النار.

وقوله: «فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ» فيه: جواز الحلف بعزة الله، فهي صفة من صفاته تعالى، ومنها قول الله تعالى عن إبليس: [ص: 82]{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *}.

وقوله: «فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ» ، وفي اللفظ الآخر: «وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه» [(593)] وفي الحديث الآخر أن الله أخذ عليه العهد والميثاق مرات: المرة الأولى لما كان وجهه إلى النار، أخذ الله عليه العهد والميثاق ألا يسأل غيره، فأعطى ربه العهد والميثاق، وصرف الله وجهه عن النار. ثم رفعت له شجرة فيها ماء بارد، فسكت ما شاء الله، ثم سأل ربه أن يقربه من الشجرة، فقال الله: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، ألم تقل: إنك لا تسألني غيرها، وربه يعذره، فيقدمه، ثم تظهر له شجرة، وهكذا، حتى يصل إلى باب الجنة، فيقول في المرة الأخيرة: يا ربي قدمني إلى باب الجنة فقط، وربه يعذره، كل مرة يعطيه العهد والميثاق، فإذا قدمه إلى باب الجنة ورأى بهجتها وسرورها سكت ما شاء الله، ثم يقول: يا رب أدخلني الجنة فيقول: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، ألم تعط العهد والميثاق؟ فيقول: يا رب لا أكون أشقى خلقك بك، فيدخله الله الجنة، فإذا أدخله الله الجنة حصل له كل خير، قال له: تمنَّ، لك ما تشتهي نفسك وتلذ عينك[(594)].

قوله: «فَيَضْحَكُ اللَّهُ عز وجل مِنْهُ» ، فيه: إثبات صفة الضحك لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته، وأنكر هذا الجهمية والمعتزلة والأشاعرة؛ فقالوا: الضحك من صفات المخلوقين، وهذا من جهلهم وضلالهم، والصواب إثبات الضحك لله سبحانه وتعالى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أثبته وهو أعلم الناس بربه، ففي الحديث الآخر: «يضحك الله لرجلين يقتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة» [(595)] وهو ضحك يليق بجلاله وعظمته لا يشبه ضحك المخلوقين.

وقوله: «ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ» ، فإذا دخل الجنة حاز ما يتمنى وكل ما يخطر بباله.

وقوله: «ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ» ، فيه: شدة تحري الصحابة رضي الله عنهم، فأبو هريرة رضي الله عنه يقول: ما سمعت إلا قوله: «لك ذلك ومثله معه» ، وأبو سعيد يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لك ذلك وعشرة أمثاله» ، وجاء في الحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله لآخر أهل الجنة دخولاً: أما ترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: بلى يا رب فيقول الله: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله» خمس مرات معه، ثم قال: «لك ذلك وعشرة أمثاله» ، فتكون عشرة في خمسة، أي خمسون، فيكون له مثل ملك من ملوك الدنيا خمسين مرة. «ولك مع ذلك ما اشتهت نفسك ولذت عينك» [(596)] هذا آخر أهل الجنة دخولاً، وآخر أهل النار خروجًا منها، له مثل ملك من ملوك الدنيا خمسين مرة، بل أفضل؛ لأن الملك من ملوك الدنيا تشغله هموم، وأحزان، وأكدار، وخوف من زوال ملكه ورئاسته، وأيضًا معرض للأمراض، والأسقام، والهرم، والشيخوخة، وتسليط الأعداء، والبول، والغائط، وفي النهاية الموت لابد منه؛ أما هذا الذي له مثل ملك من ملوك الدنيا خمسين مرة سالم من هذه الأشياء، ففي الجنة ينزع ما في صدورهم من الغل والأحقاد، وفيها صحة دائمة، وشباب دائم، وسرور دائم، وحياة دائمة ـ نسأل الله الكريم من فضله ـ هذا حال آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولاً فيها، فكيف بحال السابقين والمقربين؟، هؤلاء الذين غرس الله كرامتهم بيده لم يطلع عليها أحد، لهم فيها ما يشتهون [السَّجدَة: 17]{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}.

$ر مسألة: واختلفوا في ترتيب الأحداث في القيامة أيها أولاً؟

القول الأول: أن يَرِد الناسُ الحوضَ أولاً، ثم توزن الأعمال، ثم يمرون على الصراط، وهذا عليه الجمهور، وهو الذي تدل عليه الأحاديث، كحديث: «أنا فرطكم على الحوض، ليردن علي أناس من أمتي أعرفهم ويعرفوني، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني» ، يعني: منعوا وطردوا «فأقول: يا رب أصحابي أصحابي» [(597)] وفي لفظ: «فأقول: أصيحابي أصيحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم» [(598)]؛ وفي رواية: «فأقول: سحقًا سحقًا لمن غير بعدي» [(599)] يعني: بعدًا، وهو دعاء عليهم بالبعد.

قال العلماء: إنما هؤلاء هم الأعراب الذين أسلموا ولم يثبت الإيمان في قلوبهم ثم ارتدوا، أما الصحابة الذين أسلموا فإن الله ثبتهم، وفيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب لقوله: «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» [(600)]، وهذا يدل أيضًا على ضعف الحديث الذي فيه أن أعمال أمته تعرض عليه صلى الله عليه وسلم فيرى حسنها وسيئها، فإذا رأى حسنها حمد الله وإذا رأى سيئها استغفر لأمته[(601)].

فأول الأحداث ورود الناس على الحوض.

القول الثاني: أن المرور على الصراط قبل الورود على الحوض؛ ذهب إلى هذا الشارح ابن حجر، والسيوطي، واستدلوا بحديث أنس رضي الله عنه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة، فقال: «أنا فاعل» فقال: أين أجدك؟ قال: «اطلبني أول ما تطلبني على الصراط» ، قال: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: «فأنا عند الميزان» ، قال: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: «فعند الحوض، لا أخطئ هذه المواطن الثلاثة يوم القيامة» [(602)] قالوا: هذا دليل على أن الورود على الصراط قبل الحوض، وكذلك استدلوا بحديث وافد بني المنتفق، لقيط بن عامر وفيه أنه قال: «تمرون على الصراط فيطأ أحدكم الجمر» ، ثم قال بعد ذلك: «ثم تطلعون على حوض نبيكم على أظمأ والله ناهلة عليها قط» [(603)] فقالوا: هذا دليل على أنه يورد الحوض بعد الصراط، وأجاب الحافظ ابن حجر عن القوم الذين يختلجون فقال: إنهم يقربون من الحوض حتى يشاهدونه ثم يدفعون.

لكن هذا تأويل بعيد.

القول الثالث: أنه يجمع بين النصوص بأن الناس يردون مرتين مرة قبل الصراط ومرة بعده، وذلك أن الحوض طويل طوله مسافة شهر وعرضه مسافة شهر، فإذا كان بهذه المسافة الطويلة فلا يمنع عنهم، يردونه أولاً ثم إذا تجاوزا الصراط بدا لهم من وراء الجسر فشربوا منه.

القول الرابع: أن قومًا يردونه قبل الصراط، وقومًا آخرين يردونه بعد الصراط؛ فتحمل النصوص التي فيها الورود قبل الصراط لقوم، والورود على الحوض بعد الصراط لقوم آخرين، جمعًا بين النصوص.

القول الخامس: أن المراد بالحوض الذي يكون بعد الصراط إنما هو نهر الكوثر في الجنة.

والصواب أن الورود على الحوض قبل الصراط؛ وذلك لما يلي:

1- أنه بعد الورود على الصراط الصعود إلى الجنة، فإذا تجاوز الناس الصراط صعدوا إلى الجنة ولا يرجعون إلى الأرض، والحوض في الأرض، فكيف يرجعون إليه؟!

2- لقوله صلى الله عليه وسلم: «يرد أناس أعرفهم فإذا عرفتهم اختلجوا دوني فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك» [(604)]، وفي رواية أخرى شرح سبب ذلك فقال: «إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم» [(605)] فهؤلاء المرتدون يطردون عن الحوض، وفي لفظ آخر أنهم: «يذادون كما تذاد الغريبة من الإبل» [(606)] فلو كان الورود على الحوض بعد الصراط لكان هؤلاء المرتدون يسقطون في النار ولا يتجاوزون حتى يأتوا إلى الحوض، فدل على أن ورودهم الحوض قبل المرور على الصراط.

$ر مسألة: هل الميزان يسبق الحوض؟

القول الأول: أن الميزان يسبق الحوض.

القول الثاني: الصواب أن الحوض أولاً؛ لأنه لو كان بعد الميزان لكان الذين خفت موازينهم لا يردون الحوض،

فالحاصل: أنهم يردون الحوض أولاً ثم الميزان ثم الصراط، وهو الصواب الذي تدل عليه النصوص ويدل عليه المعنى.

- وجاء في «جامع الترمذي» وغيره أن لكل نبي حوضًا، وأنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي حوضًا» [(607)]، ولكن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم أعظمها، وأفضلها، وأوسعها، وأكثرها واردة ـ جعلنا الله منهم بمنه وكرمه ـ.

- وجاء في وصف الحوض: أن طوله مسافة شهر، وعرضه مسافة شهر، وأن أوانيه عدد نجوم السماء، وأنه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحًا من المسك، وأنه ينبت فيه من المسك ويثمر ألوان الجواهر[(608)].

والورود على الحوض في الحديث ليس خاصًّا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو لجميع الأمة: «حوض ترد عليه أمتي» [(609)].

والمنافقون كفرة، وهناك خلاف في مرورهم على الصراط، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «الواسطية» أن الكفار ليس لهم حسنات، وإنما تعد لهم أعمالهم حتى يقروا بها، ثم يساقون إلى النار سوقًا؛ قال سبحانه: [مَريَم: 85-86]{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْدًا *وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا *}. والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.

;  يُبْدِي ضَبْعَيْهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُودِ

}807{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ ابْن هُرْمُزَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ نَحْوَهُ.

 

}807{ يستفاد من هذا الحديث مشروعية إبداء الضبع والمجافاة في السجود، والضبع هو وسط العضد، فيجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، وهذه الكيفية تشرع في حق الإمام والمنفرد، أما المأموم فإنه يجافي مجافاة لا تؤذي جاره، فبعض الناس يؤذي من جاوره بمرفقيه.

;  يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ

قَالَهُ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

 

قوله: «يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ» ، يعني: بأطراف الأصابع وهو ساجد، أو جالس بين السجدتين، أو في التشهد؛ حيث يثني أطراف الأصابع فيكون وجهها للقبلة، وهو المستحب، كما في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه[(610)].

;  إِذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُودَ

}808{ حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَأَى رَجُلاً لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلاَ سُجُودَهُ فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ قَالَ: وأَحْسِبُهُ قَالَ: ولَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

 

}808{ قوله: «ولَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» ، وفي اللفظ ـ المتقدم ـ أنه رضي الله عنه قال له: «لو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله محمدا» [(611)] والفطرة هي: الدين، وفيه: دليل على أن من لم يتم الركوع والسجود فصلاته باطلة؛ لوجوب الإتمام في الركوع والسجود، ومن لم يتم الركوع ولا السجود فقد الطمأنينة في صلاته، والطمأنينة ركن من أركان الصلاة، فإذا فقدت الطمأنينة بطلت الصلاة، ومن مات وهو لا يطمئن في صلاته فإنه يموت على غير الفطرة التي هي دين الإسلام.

وفي حديث المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ثلاث مرات: «ارجع فصل فإنك لم تصل» [(612)] فنفى صلاته، يعني: لم تصل صلاة شرعية مقبولة، وإن كنت صليت صلاة صورية، فدل على أن من لم يتم الركوع والسجود فصلاته باطلة.

;  السُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ

}809{ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ وَلاَ يَكُفَّ شَعَرًا وَلاَ ثَوْبًا الْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.

}810{ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُمِرْنَا أَنْ نَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ وَلاَ نَكُفَّ ثَوْبًا وَلاَ شَعَرًا».

}811{ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَبْهَتَهُ عَلَى الأَْرْضِ.

 

}809{ يستفاد من الحديث : مشروعية السجود على سبعة أعظم، وأنه لابد من السجود عليها ومباشرتها للأرض.

وقوله: «الْجَبْهَةِ» ، يعني: مع الأنف؛ لأنهما عضو واحد كما في الحديث الآخر: «الجبهة مع الأنف» [(613)]، فإذا سجد على الجبهة وحدها، أو على الأنف وحده، لم يتم السجود.

ويضع اليدين على الأرض والركبتين وأطراف القدمين فهذه سبعة؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ» ، وأمته كذلك، وإذا رفع عضوًا من هذه السبعة كالجبهة أو أحد اليدين في جميع السجود من أوله إلى آخره فإن كان متعمدًا فصلاته باطلة، وإن كان ناسيًا بطلت الركعة ويأتي بركعة بدلها، أما إذا رفع العضو في أثناء السجود، ثم أعاده فالركعة، صحيحة، ومثله إذا أسقط آية من الفاتحة متعمدًا بطلت صلاته، وإن كان ناسيًا يأتي بركعة بدلها، حيث إن الركعة بطلت، وصلاته صحيحة.

وفيه: النهي عن كف الشعر والثوب، والكف هو المنع، فلا يكف الإنسان شعره ولا ثوبه، ويتركهما يسجدان معه.

والعمامة لا تكون على الجبهة، بل تكون على الرأس، فالجبهة تباشر الأرض، وكذلك أي غطاء للرأس ينبغي إزالته فلا يكون على الجبهة.

 

}810{ قوله: «أُمِرْنَا أَنْ نَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» ، الآمر هو الله عز وجل فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْنَا» يعني: أمرنا الله عز وجل، وهو أمر له ولأمته صلى الله عليه وسلم.

 

}811{ قوله: «لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَبْهَتَهُ عَلَى الأَْرْضِ» يستفاد منه أن المأموم يتأخر وينتظر ويتمهل حتى ينقطع صوت الإمام ثم يتبعه في التكبير في السجود وفي القيام من السجود وفي الرفع وفي الخفض؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إذا كبر الإمام فكبروا» [(614)] والفاء للتعقيب، يعني يأتي به بعد انقطاع صوته، «وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا» [(615)]، وهكذا يأتي بأفعاله بعد أفعال الإمام، وليس له أن يتقدم عليه، فإن تقدم وسبق بركن أو ركنين متعمدًا بطلت الصلاة.

أما إذا كان ناسيًا أو ناعسًا، فإنه يأتي بما فاته ويلحق الإمام، ومثله لو لم يسمع التكبير، كأن كان ساجدًا أو قائمًا ثم ركع الإمام وهو لم يسمع فلم يعلم حتى رفع الإمام رأسه من الركوع يركع ويلحق بالإمام؛ لأنه معذور في هذه الحالة، وصلاته صحيحة.

أما إذا رفع الإمام رأسه من الركوع ثم سجد ولم يركع المأموم متعمدًا لم تصح الركعة.

أما إذا وافقه بأن يركع معه أو يسجد معه ـ كما هو حال كثير من الناس ـ فهذا مكروه. فالموافقة مكروهة والمسابقة محرمة، وكذلك التأخر عن الإمام بوقت كثير دون عذر يبطل الصلاة إلا إذا كان مريضًا أو كبير السن لا يستطيع القيام، فهذا معذور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا» [(616)].

أما إذا لم يقم المأموم تكاسلاً وقد دخل الإمام في الركعة الثانية، ولاسيما في صلاة الفجر، فهذا يبطل الصلاة؛ لأنه ترك القيام، وهو ركن من أركان الصلاة متعمدًا، فلابد من التنبيه إلى مثل هذا، فكما أنه لا يسابق الإمام بركن أو ركنين فكذلك لا يتأخر عنه ولا يوافقه، بل يتابعه، فتكون الحالات أربعًا:

الحالة الأولى: أن يسابق الإمام، وهذه تبطل الصلاة.

الحالة الثانية: أن يتأخر عن الإمام كثيراً، هذا تبطل الصلاة أيضًا.

الحالة الثالثة: أن يوافقه وهذا مكروه.

الحالة الرابعة: أن يتابعه فيأتي بأفعاله بعد أفعال الإمام، وهذه هي السنة.

;  السُّجُودِ عَلَى الأَْنْفِ

}812{ حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ وَلاَ نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ».

 

}812{ قوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ» ، فيه: بيان أن الجبهة والأنف عضو واحد لابد من السجود عليهما، فإن رفعهما أو رفع أحدهما من أول السجود إلى آخره عمدًا ـ ولو مرة واحدة ـ تبطل الصلاة، وإن كان ناسيًا أو جاهلاً بطلت الركعة ويأتي بركعة عوضًا عنها.

وفيه: أن السجود على سبعة أعضاء واجب لا يصح السجود إلا به.

وقوله: «وَلاَ نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ» ، يعني: لا يجمعهما، بل يدعهما يسجدان معه.

;  السُّجُودِ عَلَى الأَْنْفِ وَالسُّجُودِ عَلَى الطِّينِ

}813{ حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقُلْتُ: أَلاَ تَخْرُجُ بِنَا إِلَى النَّخْلِ نَتَحَدَّثُ؟ فَخَرَجَ فَقَالَ: قُلْتُ: حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ الأُْوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَْوْسَطَ فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلْيَرْجِعْ فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَإِنِّي نُسِّيتُهَا وَإِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ فِي وِتْرٍ وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ» وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا فَجَاءَتْ قَزْعَةٌ فَأُمْطِرْنَا فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَرْنَبَتِهِ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ.

 

}813{ قوله: «إن الذي تطلب أمامك» ، يعني: ليلة القدر، فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول، فقال له جبريل عليه السلام: أمامك؛ أي ليس الآن وقتها، فاعتكف العشر الأوسط، ثم قال: أمامك، فاعتكف العشر الأواخر.

وفي الحديث: دليل على أن ليلة القدر مختصة بالعشر الأواخر من رمضان، في شفعه ووتره، لكنها في الوتر آكد.

وفيه: بيان أن ليلة القدر متنقلة في العشر الأواخر؛ فقد تكون في بعض السنين ليلة إحدى وعشرين، وقد تكون ليلة ثلاث وعشرين، وقد تكون ليلة خمس وعشرين، وقد تكون ليلة سبع وعشرين، وقد تكون ليلة تسع وعشرين، وقد تكون في الشفع؛ أي ليلة أربع وعشرين أو ست وعشرين أو ثمان وعشرين، فهي متنقلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان» [(617)] وأرجاها ليلة سبع وعشرين، لكنها ليست بلازمة لها؛ فقد تكون قبلها وقد تكون بعدها، وما يظنه بعض الناس أنها ليلة سبع وعشرين ويجزمون بذلك ليس بجيد؛ لأنها قد تنتقل إلى ليلة أخرى، وأما حديث: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» [(618)] فدليل على أن السبع الأواخر أرجى من غيرها، لكنها تلتمس في العشر الأواخر في شفعها ووترها، لكنها في الوتر أرجى من غيرها، وكذلك السبع الأواخر أرجى من غيرها، وكذلك ليلة سبع وعشرين أرجى من غيرها.

وفي هذا الحديث: أن ليلة القدر كانت ليلة إحدى وعشرين في تلك السنة، وهي أول الليالي العشر؛ حيث وقع في تلك الليلة تصديق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين؛ لأنه قال صلى الله عليه وسلم: «وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ» ؛ قال الراوي: «وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا فَجَاءَتْ قَزْعَةٌ فَأُمْطِرْنَا فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَرْنَبَتِهِ» ، يعني: أنفه.

وقوله: «حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَرْنَبَتِهِ» هو الشاهد للترجمة، وهذا من دقة استنباط البخاري حيث قال: «بَاب السُّجُودِ عَلَى الأَْنْفِ وَالسُّجُودِ عَلَى الطِّينِ» ، واستنبط منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سجد على جبهته وأنفه دل على أن الأنف لابد من السجود عليه ـ حتى ولو كان الطين في موضع السجود ـ وأنه جزء من العضو الأول، فالجبهة والأنف عضو واحد.

وقوله: «تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ» فيه: أن رؤيا الأنبياء وحي؛ حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسجد في ماء وطين، فوقع تصديق رؤياه، فسجد في الماء والطين؛ ومن ذلك قول الله تعالى لإبراهيم عليه السلام لما رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، فنفذ هذه الرؤيا: [الصَّافات: 105]{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *}.

;  عَقْدِ الثِّيَابِ وَشَدِّهَا

وَمَنْ ضَمَّ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِذَا خَافَ أَنْ تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ

}814{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كُانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ عَاقِدُوا أُزْرِهِمْ مِنْ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ: لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا.

 

قوله: «بَاب عَقْدِ الثِّيَابِ وَشَدِّهَا» ، عقده المصنف لبيان الحكم فيما إذا احتاج المصلي إلى أن يعقد الثوب ويشده حتى لا تنكشف العورة.

فظاهر صنيع البخاري أنه يرى أنه لا بأس بذلك، وكذا من ضم إليه ثوبه خوفًا من أن تنكشف العورة، أو كان الثوب قصيرًا فشده وأمسكه حتى لا تنكشف العورة، فكل هذا لا بأس به، ولا يؤثر على صحة الصلاة، ولا يعتبر عبثًا.

}814{ في هذا الحديث : بيان ما أصاب الصحابة من الشدة وقلة ذات اليد، حتى إن الواحد منهم لم يكن يملك إلا إزارًا، والإزار: قطعة من الثياب يشد بها النصف الأسفل من الجسد؛ أما الرداء فهو ما يستر به النصف الأعلى من البدن، وما كانوا يملكونه، وكان الإزار قصيرًا، فإذا سجد الرجال فقد يبدو شيء من العورة، فقيل للنساء ـ وكن يصلين خلف الرجال، وليس بينهم حاجز ـ: «لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا» ، خشية أن يبدو شيء من عورة الرجال فيراه النساء عند رفعهن رءوسهن.

وهذا فيه: دليل على أن انكشاف شيء يسير من العورة لا يؤثر في صحة الصلاة إذا كان غير متعمد، أما إذا انكشفت العورة، وفحش كشفها، فإن هذا يبطل الصلاة.

;  لاَ يَكُفُّ شَعَرًا

}815{ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَهْوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ وَلاَ يَكُفَّ ثَوْبَهُ وَلاَ شَعَرَهُ.

 

}815{ قوله: «وَلاَ يَكُفَّ ثَوْبَهُ وَلاَ شَعَرَهُ» فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المصلي بالسجود على سبعة أعظم وهي: اليدان، والركبتان، وأطراف أصابع الرجلين، والجبهة مع الأنف، ولا يمنع ثوبه ولا شعره من السجود معه.

;  لاَ يَكُفُّ ثَوْبَهُ فِي الصَّلاَةِ

}816{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ لاَ أَكُفُّ شَعَرًا وَلاَ ثَوْبًا».

 

كرر المؤلف التراجم لاستنباط الأحكام وكرر الأحاديث للزيادة في الطرق لتتقوى الأحاديث.

}816{ يستفاد من هذا الحديث: أنه لا يكف الثوب ولا يكف الشعر؛ للنهي الوارد فيه، فليسجد في ثيابه وشعره ولا يكف شيئًا.

;  التَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ

}817{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ.

 

}817{ هذا الحديث دليل على جواز قول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» في السجود، وفي الركوع، بعد أن يقول في الركوع: سبحان ربي العظيم، وبعد أن يقول في السجود: سبحان ربي الأعلى.

وفيه: أن الركوع وإن كان ليس مكانًا للدعاء كما في الحديث: «أما الركوع فعظموا فيه الرب» [(619)]، إلا أن هذا دعاء قليل تابع للذكر والثناء، فيشرع لنا في الركوع وفي السجود.

وقوله: «يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» ، يعني: يفسر القرآن، ويعمل به؛ والمراد بتأول القرآن قول الله تعالى: [النّصر: 1-3]{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا *}، وهذا إعلام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا فتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، أن يكثر من التسبيح والتحميد، فإنه قرب أجله، فكان النبي يكثر من هذا الذكر في الركوع، وفي السجود، وفي داخل الصلاة، وفي خارجها، يقول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» .

;  الْمُكْثِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ

}818{ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: لاَصْحَابِهِ أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَذَاكَ فِي غَيْرِ حِينِ صَلاَةٍ فَقَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَكَبَّرَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَامَ هُنَيَّةً ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ هُنَيَّةً فَصَلَّى صَلاَةَ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ شَيْخِنَا هَذَا قَالَ أَيُّوبُ: كَانَ يَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ أَرَهُمْ يَفْعَلُونَهُ كَانَ يَقْعُدُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ.

}819{ قَالَ: فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ فَقَالَ: «لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى أَهْلِيكُمْ صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ».

}820{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: كُانَ سُجُودُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرُكُوعُهُ وَقُعُودُهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ.

}821{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي لاَ آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا قَالَ ثَابِتٌ: كَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لَمْ أَرَكُمْ تَصْنَعُونَهُ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَامَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ.

 

قوله: «بَاب الْمُكْثِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ» ، هذه الترجمة معقودة لبيان قدر المكث بين السجدتين، وأنه يشرع للمصلي أن يمكث بين السجدتين هنيّة، وجاء في الحديث: «كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسي، وبين السجدتين حتى يقول القائل: قد نسي» [(620)] يعني: أنه يطيل هذين الركنين: القيام بعد الركوع، والقعود بين السجدتين؛ وجاء في الحديث الآخر: «كان سجود النبي صلى الله عليه وسلم وركوعه وقعوده بين السجدتين قريبًا من السواء»، وفي اللفظ الآخر: «ما خلا القيام والقعود» [(621)] يعني: ما عدا القيام، فإنه طويل لقراءة الفاتحة، وقراءة سورة، والقعود طويل كذلك لأجل التشهد، وما عدا ذلك فالصلاة متناسبة، فالركوع، والرفع منه، والسجود، والجلوس بين السجدتين، كلها متناسبة، هكذا كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

}818{ يستفاد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه قام هنية، يعني يجلس جلسة تناسب السجود، كما في الحديث الآخر: بمقدار الركوع وبمقدار السجود[(622)].

وفيه: الرد على الأحناف[(623)] الذين لا يرون المكث بين السجدتين، ولا بعد القيام من الركوع، ولاسيما المتأخرين من الأحناف فإنهم لا يرون الطمأنينة بعد القيام من الركوع، فإذا رفع أحدهم من الركوع سجد في الحال دون أن يعتدل قائمًا، وإذا رفع رأسه من السجدة الأولى سجد السجدة الثانية قبل أن يستقر جالسًا بين السجدتين، وهو مذهب باطل مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وينبغي له أن يقوم من الركوع حتى يعود كل فقار إلى موضعه، وكذلك في السجدة؛ ولهذا بوب المؤلف رحمه الله فقال: «بَاب الْمُكْثِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ» ، وأنه ينبغي له أن يمكث بين السجدتين حتى يعود كل مفصل إلى موضعه، ويقول: رب اغفر لي مرة، فهذا واجب عند أحمد[(624)] وجماعة، وهو الصواب، وإن زاد: رب اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، واجبرني، وعافني، فهذا أفضل.

وفي الحديث: ذكر جلسة الاستراحة، وهو قول أيوب: «كَانَ يَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ أَرَهُمْ يَفْعَلُونَهُ كَانَ يَقْعُدُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ» وسيأتي بيانها بعد.

 

}819{ فيه: وجوب صلاة الجماعة، وأنها تجب إذا كان هناك اثنان فأكثر، وليس لهم أن يصلوا فرادى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» .

وفيه: تقديم الأكبر للإمامة، وهذا إذا تساووا في القراءة، والفقه، والهجرة والإسلام، جمعًا بين النصوص، كما في الحديث الآخر: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلمًا ـ أي إسلامًا ـ فإن كانوا في السلم سواء، فأكبرهم سنًّا» [(625)] ولما قدم مالك بن الحويرث هو وصاحب له قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكما أكبركما» [(626)] لأنهما متقاربان في القراءة والفقه فأمر أن يؤم الأكبر.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد