شعار الموقع

شرح كتاب الأحكام من صحيح البخاري(93-436)

00:00
00:00
تحميل
56

مَنْ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً فَلَمْ يَنْصَحْ

}7150{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَْشْهَبِ، عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ إِلاَّ لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ».

}7151{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، قَالَ زَائِدَةُ ذَكَرَهُ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: أَتَيْنَا مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ نَعُودُهُ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ».

 

قوله: «بَاب مَنْ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً فَلَمْ يَنْصَحْ» ، استرعي بضم التاء، وهذه الترجمة معقودة لبيان إثم من استرعي رعية فلم ينصح لها، وأن عليه الوعيد بتحريم الجنة.

}7150{، }7151{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث معقل بن يسار رضي الله عنه من طريقين: أن عبيدالله بن زياد عاد معقل بن يسار الصحابي الجليل في مرضه الذي مات فيه «فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وفي رواية الإسماعيلي من الوجه الذي أخرجه مسلم قال معقل لعبيدالله بن زياد: «لولا أني ميت ما حدثتك»[(229)] .

وفي اللفظ الآخر: «لولا أني في الموت لما حدثتك»[(230)] ، كأنه أخر في زمن الحياة؛ لأنه خشي من غشمه وظلمه وكان معروفًا عنه الظلم، فلما يئس من الحياة حدثه خروجًا من الكتمان.

قوله: «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ إِلاَّ لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» ، وفي اللفظ الآخر: «ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة» . هذا فيه: دليل على أن الولاية والرعاية تشمل الولاية الكبرى كالخلافة، والصغرى كإمارة بعض البلاد، وذلك أن عبيدالله بن زياد كان أميرًا على العراق ليزيد بن معاوية، فولايته ليست ولاية كبرى وإنما هي ولاية صغرى، ومع ذلك نصحه الصحابي الجليل معقل بن يسار وجعله داخلاً في الحديث، فدل على أن الولاية تشمل الكبرى كالخلافة، والصغرى كإمارة بعض البلاد.

ويحصل ذلك الغش من الراعي لرعيته بأخذ أموالهم، وسفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، وحبس حقوقهم، وترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم، وإهمال إقامة الحدود فيهم وردع المفسدين وترك حمايتهم.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: هذا وعيد شديد على أئمة الجور، فمن ضيع من استرعاه الله أو خانهم أو ظلمهم فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة، فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة؟!

وأما قوله: «حرم الله عليه الجنة» ، أي: أنفذ الله عليه الوعيد ولم يرض عنه المظلومين».

إنفاذ الوعيد إلى الله عز وجل وهذا يدل على أنه من كبائر الذنوب، وأما قول بعض أهل العلم: هذا يحتمل في حق الكافر فليس بظاهر فقد نقل ابن التين عن الداودي قال: يحتمل أن يكون هذا في حق الكافر وهذا ليس بجيد، وقال بعضهم: هذا يحمل على المستحل.

وفي الحديثين: دليل على عظم مسئولية الولاة، وأن غش الرعية من كبائر الذنوب، وأن الوالي إذا لم ينصح للرعية وغشهم فهو متوعد بهذا الوعيد في قوله: «لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» في الحديث الأول، وفي الحديث الثاني: «إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» ؛ ولكن ليس المراد بالوعيد أنه كافر، فإن هذا عند أهل العلم من باب الوعيد، ولا يدل على كفره كفرًا صريحًا، وإلا فإن الظلم والغش من كبائر الذنوب ولا يخرج عن ملة الإسلام؛ ويدل على ذلك ما ثبت في «صحيح مسلم» في الحديث الآخر: «من غش فليس منا»[(231)] ، خلافًا للخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالمعاصي، فالخوارج استدلوا بهذا الحديث على كفر مرتكب الكبيرة وقالوا: إن الوالي إذا غش فإنه يكفر ويجب قتله وخلعه وإزالته من الإمامة لكفره، فيستحلون دمه وماله من جهلهم وضلالهم.

 مَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْه

}7152{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ طَرِيفٍ أَبِي تَمِيمَةَ، قَالَ: شَهِدْتُ صَفْوَانَ وَجُنْدَبًا وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ، فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ: «وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقْ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَقَالُوا: أَوْصِنَا، فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنْ الإِْنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ إِلاَّ طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ، قُلْتُ لأَِبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جُنْدَبٌ؟ قَالَ، نَعَمْ جُنْدَبٌ.

 

قوله: «بَاب مَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْه» ، المعنى أن من أدخل على الناس المشقة أدخل الله عليه المشقة، وهذا دعاء عليه، فهو جزاء من جنس العمل، ويؤخذ منه أن من خفف على الناس خفف الله عليه، وهذا يكون في الولاة والأمراء وغيرهم من الرؤساء الذين يشقون على الناس.

}7152{ قوله: «إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ» : هو إسحاق بن شاهين أبو بشر الواسطي شيخ البخاري.

قوله: «خَالِدٌ» : هو ابن عبدالله الطحان.

قوله: «عَنْ الْجُرَيْرِيِّ»: بضم الجيم وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف، هو سعيد بن إياس.

قوله: «عَنْ طَرِيفٍ» : بالطاء المهملة على وزن كريم هو ابن مجالد بضم الميم وتخفيف الجيم الهجيمي بالجيم، مصغرًا نسبة إلى بني هجيم بطن من تميم، وكان مولاهم وهو بصري.

قوله: «أَبِي تَمِيمَةَ» ، كنية طريف.

قوله: «صَفْوَانَ» : هو ابن محرز بن زياد التابعي الثقة المشهور من أهل البصرة.

قوله: «وَجُنْدَبًا» : هو ابن عبدالله البجلي الصحابي المشهور.

قوله: «وَأَصْحَابَهُ» ، يعني: أصحاب جندب، أو أصحاب صفوان.

قوله: «وَهُوَ يُوصِيهِمْ» يعني: يحذرهم من التعرض لقتل المسلم زمن فتنة عبدالله بن الزبير «فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»» .

فالجزاء من جنس العمل، فالذي يرائي الناس في المسموعات يفضح يوم القيامة، والتسميع هو مراءاة الأعمال القولية كأن يحسن قراءته من أجل الناس، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من أجل أن يثني عليه الناس، والرياء يكون في الأعمال المرئية الظاهرة كالصلاة والصيام والحج، فالرياء والسمعة كلاهما رياء إلا أن الرياء يكون في الأعمال والسمعة تكون في الأقوال، وفي الحديث الآخر: «من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به»[(232)] .

وكذلك قوله: «وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقْ اللَّهُ عَلَيْهِ» ، فيه: أن الجزاء من جنس العمل.

وفيه: عظم إثم من أدخل المشقة على الناس، وأن الله يجازيه من جنس عمله بإدخال المشقة عليه، فمن شق على الناس من الولاة أو غيرهم أدخل الله عليه المشقة.

وفيه: حث الولاة على الرفق بالرعية وعدم إدخال المشقة عليهم لا في دينهم ولا في دنياهم.

قوله: «فَقَالُوا: أَوْصِنَا، فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنْ الإِْنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ إِلاَّ طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ» هذا تحذير من أكل الحرام وفيه: وجوب الأكل من الطيبات، وأن أكل الحرام له تأثير في نتن بطن الإنسان بعد موته، والنتن الرائحة الكريهة.

قوله: «وَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ» . أهراقه: بفتحات آخرها مضمومة يعني: صبه، وهذا دليل على تحريم دم المسلم، وأنه من كبائر الذنوب حيث يعود عليه بالحيلولة بينه وبين الجنة، وفي رواية الطبراني عن الحسن عن جندب: تعلمون أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحولن بين أحدكم وبين الجنة وهو يراها ملء كف دم امرئ مسلم أهراقه بغير حله»[(233)] وهذا وعيد شديد لقتل المسلم بغير الحق، وليس المراد التحديد بل إراقة دم المسلم حرام سواء كان ملء الكف أو أكثر أو أقل، وعند الطبراني من حديث الأعمش عن أبي تميمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحولن بين أحدكم وبين الجنة ملء كف من دم»[(234)] وفي آخر الحديث قال: فبكى القوم فقال جندب: لم أر كاليوم قط قومًا أحق بالنجاة من هؤلاء إن كانوا صادقين لما بكوا.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ولعل هذا هو السر في تصديره كلامه بحديث: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ» وكأنه تفرس فيهم ذلك، ولهذا قال: إن كانوا صادقين، ولقد صدقت فراسته فإنهم لما خرجوا بذلوا السيف في المسلمين، وقتلوا الرجال والأطفال وعظم البلاء بهم... قال ابن بطال: المشاقة في اللغة مشتقة من الشقاق وهو الخلاف ومنه قول الله تعالى: [النِّسَاء: 115]{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى}.

والمراد بالحديث النهي عن القول القبيح في المؤمنين، وكشف مساوئهم وعيوبهم، وترك مخالفة سبيل المؤمنين، ولزوم جماعتهم والنهي عن إدخال المشقة عليهم، والإضرار بهم وأن تكون من الشقاق وهو الخلاف، ومفارقة الجماعة وهو أن يكون في شق أي ناحية عن الجماعة، ورجح الداودي الثاني، ومن الأول قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه» . أخرجه مسلم»[(235)] .

 الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا فِي الطَّرِيقِ

وَقَضَى يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِي الطَّرِيقِ.

وَقَضَى الشَّعْبِيُّ عَلَى بَابِ دَارِهِ.

}7153{ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَارِجَانِ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلاَ صَلاَةٍ وَلاَ صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ».

 

قوله: «بَاب الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا فِي الطَّرِيقِ» هذه الترجمة لبيان حكم القضاء والفتيا في الطريق.

وكان القاضي سابقًا قبل أن تخصص له أمكنة للحكم يجلس في البيت أو في المسجد أو في الطريق، والفتيا من باب أولى، وقد أدركت بعض القضاة كان يحكم للخصوم في المسجد بعد صلاة العصر يأتي الخصوم ويقضي بينهم، وأحيانًا يجلس على عتبة بابه المفتوح ويأتون أمامه ويقضي بينهم وينصرفون راضين ليس بينهم منازعات ولا مخاصمات ولا كلام على القاضي، ولا رفع الدعوى، ولكن الآن تغيرت الأمور فلابد من ضبط القضايا، ولابد من جلسات محددة، فقد كثر الناس واختلط الحابل بالنابل، وتغيرت الأحوال فلا بأس بالقضاء والفتيا في الطريق إذا لم يكن هناك ما يمنع من ذلك.

قوله: «وَقَضَى يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِي الطَّرِيقِ» ، أي: قضى وهو يمشي في الطريق بين اثنين.

قوله: «وَقَضَى الشَّعْبِيُّ عَلَى بَابِ دَارِهِ» ، يعني: وهو واقف بالباب قضى بين اثنين وانصرفا راجعين.

}7153{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث أنس رضي الله عنه وفيه قوله: «بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَارِجَانِ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ» ؛ السدة بضم السين وتشديد الدال المهملتين هي الساحة أمام البيت. وقيل: هي عتبة الدار. وقيل: هي باب الدار نفسه. وقيل: هي المظلة على الباب لوقاية المطر والشمس.

قوله: «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»» وفي نسخة: «ما عددت» بالتشديد، أي: ما هيأت للساعة واستعددت لها.

وهذا يسمى أسلوب الحكيم، وهو أن الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ميعاد الساعة فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بجواب آخر، فكأنه أراد أن ينبهه إلى أنه كان ينبغي عليه أن يسأل عما يهمه منها وهو ما ينجيه منها، وهذا له نظير في القرآن قال تعالى: [البَقَرَة: 189]{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فهم يسألون عن ظاهرة تغير أشكال القمر كيف يظهر في أول الشهر هلالاً، ثم يظل يكبر حتى يكتمل فيصير بدرًا، ثم بعد ذلك يظل يصغر حتى يتلاشى كأن لم يكن فأجابهم القرآن بأن هذه الأهلة خلقها الله؛ ليعلم الناس كيف ينظمون أوقات عباداتهم من حج وصيام وصلاة وغير ذلك؛ فنقلهم من الإجابة عن أشكال القمر إلى الإجابة عن الهدف من هذه الأشكال وهو إقامة شعائر الله وتنظيم سائر مناحي الحياة.

قوله: «فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ» ، أي: خضع.

قوله: «كَبِيرَ صِيَامٍ» بالباء الموحدة، وفي رواية أخرى: «كثير صيام»[(236)] بالثاء المثلثة. يعني: عملي ضعيف في الصلاة والصيام والصدقة لكن عندي شيء مهم وهو أني أحب الله ورسوله.

قوله: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» ، وفي اللفظ الآخر: «المرء مع من أحب»[(237)] والشاهد من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى هذا الرجل وهو على باب المسجد.

وهذا الحديث فيه: بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم بأن المحب يكون مع من أحب يوم القيامة، فمن أحب الأنبياء والصالحين فهو معهم، ومن أحب الأشرار فهو معهم قال أنس رضي الله عنه: أنا أحب رسول الله وأحب أبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم.

ولكن المحبة تقتضي العمل فمن أحب أحدًا فإنه يشاركه في العمل، ويجتهد في اللحاق بالمحبوب بالعمل الصالح، ولكن لا يجب أن يكون عمل المحب مساويًا لمن يحبه بل ربما يكون دونه، ولكن على المحب أن يبذل وسعه في اللحاق بالمحبوب، فإذا بذل وسعه في اللحاق بالمحبوب وحصل تقصير فإن المحبة تجبر هذا النقص.

أما الذي يدعي المحبة وهو لا يبذل وسعه في اللحاق بالمحبوب فهذا ليس صادقًا في دعواه بل هو كاذب، ولهذا لما ادعى قوم محبة الله امتحنهم الله بقوله تعالى: [آل عِمرَان: 31]{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وهذه الآية تسمى آية المحنة؛ فعلامة الصادق في محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فيصدق أخباره، وينفذ أحكامه، والذي يدعي المحبة ولا يعمل ولا يتبع فهو كاذب في دعواه، والدعوى إذا لم يقم أصحابها عليها دليلاً فلا قيمة لها وأصحابها أدعياء.

وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أجابه عن موعد الساعة؛ ففيه: جواز سكوت العالم عن جواب سؤال المستفتي إذا كانت المسألة لا تعرف، أو كانت مما لا حاجة بالناس إليها، أو كانت مما يخشى منها الفتنة، أو يخشى سوء التأويل أو أن المسألة لم تقع أو أنها لا تتعلق بأحوال الناس، مثلما كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم وعاءين من العلم، أما وعاء فبثثته بينكم وهو ما يتعلق بالأحكام من المعاملات والعبادات، كالصلاة والصيام والزكاة والحج وأما الثاني فلو بثثته لقطع هذا البلعوم.

قال العلماء: هذا الوعاء الذي لم يبثه يتعلق بالأمراء والولاة وما يكون منهم والفتن، وكان يستعيذ بالله من إمارة الصبيان وقال: اللهم إني أعوذ بك من إمارة الصبيان ومن رأس الستين، فاستجاب الله دعاءه وتوفي قبل الستين بسنة قبل ولاية يزيد بن معاوية.

فأبو هريرة رضي الله عنه كتم هذا الوعاء؛ لأن الناس ليسوا بحاجة إليه؛ لأنه يتعلق بولاة الجور وأوصافهم، وأمور لا تتعلق بأمور الناس وأحوال الناس، فإذا لم يكن بالناس لها حاجة فلا يلزم الجواب.

وأدركنا بعض المشايخ مثل الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله سأله بعض الناس عن مسألة فقال: هل وقعت؟ قال: لا، قال: إذن إن شاء الله إذا وقعت يكون الجواب، ولم يجبه.

وهذا معروف عند السلف أن السؤال عن الأشياء التي لم تقع لا يلزم الجواب عليها إذا كانت المسألة لم تقع، فالإنسان في عافية منها وليس ملزمًا بالجواب.

كذلك يجوز أن يفتي وهو على الدابة في السيارة وغيرها، وقد سبق أن ترجم المؤلف في كتاب العلم «باب الفتيا على الدابة» ، أي: لا بأس بأن يفتي وهو في السيارة، وكان شيخنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله يفتي وهو في السيارة، وهو راكب وهو يمشي أيضًا.

واختلف العلماء في القضاء سائرًا أو ماشيًا، فقال أشهب من علماء المالكية: لا بأس بالقضاء ولو كان ماشيًا إذا لم يشغله عن الفهم، وقال سحنون أيضًا من المالكية: لا ينبغي. وقال اللخمي: لا بأس به فهذه ثلاثة أقوال كلها للمالكية[(238)].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: وهو حسن، وقول أشهب أشبه بالدليل» وقول أشهب إذا كان الأمر يسيرًا، «وقال ابن التين: لا يجوز الحكم في الطريق فيما يكون غامضًا... وقال ابن المنير: لا تصح حجة من منع الكلام في العلم في الطريق، وأما الحكاية التي تحكى عن مالك في تعزيره الحاكم الذي سأله في الطريق ثم حدثه فكان يقول: وددت لو زادني سياطًا وزادني تحديثًا ـ فلا يصح ـ».

أي: يقول: هذه الرواية لا تصح عن الإمام مالك، قال بعضهم: يفرق بين حالة النبي صلى الله عليه وسلم وحالة غيره، فإن حالة النبي صلى الله عليه وسلم ليست كحالة غيره، قال: فإن غير النبي صلى الله عليه وسلم مظنة التشاغل بلغو الكلام في الطريق فلا يفتي، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشغله الطريق.

والأقرب والله أعلم أنه لا حرج في هذا، وهذا واقع ومجرب ولا شيء في الفتيا في الطريق، وكذلك القضاء إذا كان يسيرًا لا بأس به ولو كان في الطريق، ولو كان في السيارة، أما إذا كانت المسألة غامضة سواء كانت في الفتوى أو في القضاء فهذه تؤجل إلى وقت آخر.

 مَا ذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَّابٌ

}7154{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَد،ِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ لاِمْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ: تَعْرِفِينَ فُلاَنَةَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهَا وَهِيَ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: «اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي» فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ خِلْوٌ مِنْ مُصِيبَتِي، قَالَ: فَجَاوَزَهَا وَمَضَى، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: مَا عَرَفْتُهُ، قَالَ: إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَجَاءَتْ إِلَى بَابِهِ فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا عَرَفْتُكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ».

 

قوله: «بَاب مَا ذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَّابٌ» هذه الترجمة معقودة للحاكم والوالي هل يجعل بوابًا على بابه أو لا يجعل؟ وهل يشرع أن يكون للحاكم حجاب؟

}7154{ قوله: «اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي» ، فيه: مشروعية نصيحة المسلم لمن فعل معصية؛ لأن النياحة من المعاصي.

وفيه: الأمر بالصبر فالنبي صلى الله عليه وسلم نصح للمرأة وأمرها أن تصبر.

وفيه: أن النصيحة تكون من الرجل للمرأة، وتكون من المرأة للرجل إذا أمنت الفتنة، أما إذا كان هناك فتنة فلا، بل للمرأة أن تبلغ غيرها، وكذلك الرجل.

قوله: «فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ خِلْوٌ مِنْ مُصِيبَتِي» ، وفي اللفظ الآخر: «إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي»[(239)] والمعنى واحد.

قوله: «قَالَ: فَجَاوَزَهَا وَمَضَى، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟» وفي لفظ: «فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم... قالت: لم أعرفك»[(240)] ، ثم جاءت إليه تعتذر، «فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا عَرَفْتُكَ» ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ» ، وفي لفظ: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى»[(241)] فيه: مشروعية الصبر عند المصيبة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتسخط فالصبر واجب، والصبر هو حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عما يغضب الله، والجزع حرام وهو أن يفعل ما حرم الله عليه من الكلام السيئ أو الفعل السيئ، كأن يتكلم بما يخالف الشرع فيتسخط ويشكو ربه للناس يقول: لماذا حصل لي كذا وكذا؟ أنا كذا وكذا، أو يفعل ما يغضب الله كأن يلطم خده أو يشق ثوبه أو ينتف شعره.

ولما مات أبو سلمة رضي الله عنه ضج ناس من أهله فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لا تقولوا إلا خيرًا؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، وقال: اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين»[(242)] فالصبر واجب والتسخط حرام، وأما الرضا فهو مستحب على الصحيح، فالأفضل أن يرضى بالمصيبة لكن الصابر تجده لا يتسخط وإن لم يكن راضيًا، وأما الراضي فإنه ليس عنده فرق بين المصيبة وبين عدمها.

وهناك حال أرفع من هذه الحال، وهي: الشكر على المصيبة، وهؤلاء الخلص من عباد الله، وهم قلائل، تكون المحن في حقهم منحًا، فهم يعتبرون هذه المصيبة نعمة يُشكر الله عليها؛ لأنهم يعلمون أن فيها تكفير السيئات ورفع الدرجات من دون تعب.

قوله: «فَجَاءَتْ إِلَى بَابِهِ فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا» . وهو الشاهد، وهذا هو الغالب من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن له بواب ولا حارس يحرسه، وقد يتخذ بوابًا في بعض الأحيان كما في قصة دخوله صلى الله عليه وسلم بئر أريس فكان أبو موسى بوابًا[(243)] له، ولم ينكر ذلك عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وكل منهم يدلي رجله في القف كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد يُحرس النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان حتى بعد نزول قوله تعالى: [المَائدة: 67]{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} كما حُرس يوم أحد، ولبس النبي صلى الله عليه وسلم درعين يوم أحد[(244)]، وهذا من فعل الأسباب، ولا ينافي التوكل على الله، كذلك حرسه سعدُ بن أبي وقاص، لما أرق في بعض الليالي؛ فقد سهر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ليت رجلاً صالحًا من أصحابي يحرسني»[(245)] فقال الراوي: فسمعنا صوت السلاح فإذا سعد بن أبي وقاص، فقال: جئت أحرسك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع له بين أبويه وقال: «فداك أبي وأمي» ، ونام صلى الله عليه وسلم.

وفي صلح الحديبية لما جاءت وفود قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يفاوضونه في الصلح كان المغيرة بن شعبة حارسًا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما مد عروة بن مسعود الثقفي يده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضربه المغيرة بنعل السيف، وقال: كف يدك عن لحية النبي صلى الله عليه وسلم[(246)] فكان يُحرس صلى الله عليه وسلم أحيانًا وأحيانًا لا يحرس.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال المهلب: لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم بواب راتب، يعني: فلا يرد ما تقدم في المناقب من حديث أبي موسى: أنه كان بوابًا للنبي صلى الله عليه وسلم لما جلس على القف، قال: فالجمع بينهما أنه إذا لم يكن في شغل من أهله، ولا انفراد لشيء من أمره أنه كان يرفع حجابه بينه وبين الناس، ويبرز لطالب الحاجة إليه.

وقال الطبري: دل حديث عمر حين استأذن له الأسود ـ يعني في قصة حلفه صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرًا كما تقدم في النكاح ـ أنه صلى الله عليه وسلم كان في وقت خلوته بنفسه يتخذ بوابًا، ولولا ذلك لاستأذن عمر لنفسه ولم يحتج إلى قوله: يا رباح استأذن لي.

قلت: ويحتمل أن يكون سبب استئذان عمر أنه خشي أن يكون وجد عليه بسبب ابنته، فأراد أن يختبر ذلك باستئذانه عليه، فلما أذن له اطمأن وتبسط في القول كما تقدم بيانه.

وقال الكرماني ملخصًا لما تقدم: معنى قوله: «فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا» أنه لم يكن له بواب راتب، أو في حجرته التي كانت مسكنًا له، أو لم يكن البواب بتعيينه بل باشرا ذلك بأنفسهما، يعني: أبا موسى ورباحًا».

$ر مسألة: وقد اختلف العلماء كما ذكر الحافظ رحمه الله في مشروعية الحجاب للحكام والوالي والقاضي والأمير هل يجعل حجابا؟

القول الأول: قول الشافعي وجماعة: ينبغي للحاكم ألا يتخذ حاجبًا.

القول الثاني: جوازه وحمل الأول على زمن سكون الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم، في هذه الحالة لا يحتاج إلى بواب.

القول الثالث: بل يستحب ذلك حينئذ ليرتب الخصوم ويمنع المستطيل ويدفع الشرور، وهذا إذا كثر الناس في وقت الفتن فلابد من بواب، ولابد من حراسة، كما في هذا الوقت لو ترك القاضي أو الحاكم وليس عنده حارس، أو ليس عنده بواب يرتب الناس لصارت فوضى؛ لأن كثيرًا من الناس لا يلتزمون بالأدب بل قد يعتدي على الحاكم.

قال الداودي: الذي أحدثه بعض القضاة من شدة الحجاب، وإدخال بطائق الخصوم لم يكن من فعل السلف، وجاء في حديث رواه أبو داود والترمذي بسند جيد كما ذكر الحافظ عن أبي مريم الأسدي أنه قال لمعاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ولاه الله من أمر الناس شيئًا فاحتجب عن حاجتهم احتجب الله عن حاجته يوم القيامة»[(247)] وفي هذا الحديث وعيد شديد لمن كان حاكمًا بين الناس فاحتجب عنهم لغير عذر، ولما سمع معاوية هذا الحديث جعل على حوائج الناس شخصًا هروبًا من هذا الوعيد؛ وذلك لأن الاحتجاب عن الناس فيه تأخير إيصال الحقوق إلى أهلها، وفيه تضييع للحقوق.

وقد اتفق العلماء على أنه يستحب تقديم الأسبق فالأسبق في الدعوى وتقديم المسافر على المقيم، ولا سيما إن خشي فوات الرفقة وكذلك قالوا: إن من اتخذ بوابًا أو حاجبًا فعليه أن يتخذه ثقة عفيفًا أمينًا حسن الأخلاق عارفًا بمقادير الناس.

 الْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالْقَتْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ

دُونَ الإِْمَامِ الَّذِي فَوْقَهُ

}7155{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا الأَْنْصَارِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنْ الأَْمِيرِ.

}7156{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ وَأَتْبَعَهُ بِمُعَاذٍ.

}7157{ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا مَحْبُوبُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ رَجُلاً أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، فَأَتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: مَا لِهَذَا؟ قَالَ: أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ. قَالَ: لاَ أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

 

هذه الترجمة معقودة لحكم الحاكم وهو القاضي بالقتل على من وجب عليه دون الرجوع إلى الإمام الذي فوقه وهو إمام المسلمين، فإذا ولى الإمامُ القاضي قضاء المسلمين ثم وجب القتل على شخص فإنه يحكم بالقتل عليه دون أن يرجع إلى الإمام، وكما هو الواقع الآن فالقضاة يحكمون على من استحق القتل لكن التنفيذ يكون لولي الأمر، فالقاضي يحكم على هذا بأنه يستحق القتل أو يستحق القطع، وهذا يستحق أن يقام عليه الحد.

}7155{ ذكر المؤلف رحمه الله أثر ثمامة عن أنس بن مالك رضي الله عنهقال: «إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنْ الأَْمِيرِ» يعني: فهو كالحارس الذي يتفقد الأمور، يقول أنس رضي الله عنه هذا في آخر حياته، ولم يكن هناك شرطة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لكن أنسًا طال عمره حتى جاوز المائة وأدرك الشرطة فصار يمثل للناس الموجودين في زمانه كيف كان الأمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، يبين لهم شيئًا يعرفونه فهم يعرفون الشرطة ويعرفون الأمير وأن صاحب الشرطة يكون أمام الأمير فقال: إن قيس بن سعد كان يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما يكون الشرطي الذي ترونه الآن أمام الأمير.

ويحتمل أن مناسبة الترجمة: أن قيس بن سعد قد ينفذ بعض الأمور التي جعلت له دون مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه زيادة الإسماعيلي كما ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لما ينفذ من أموره»[(248)] ، والمراد بصاحب الشرطة كبيرهم، قيل: سموا بذلك؛ لأنهم رذالة الجند وقيل: لأنهم الأشداء الأقوياء ومنه في حديث الزكاة «وَلاَ الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ»[(249)] ومن حديث الملاحم: «وتشترط شُرْطة للموت»[(250)] يعني: يتعاقدون على ألا يفروا ولو ماتوا. وقيل: سموا شرطًا؛ لأن لهم علامات يعرفون بها من هيئة وملبس وقيل: لأنهم أعدوا أنفسهم لذلك، يقال: أشرط فلان نفسه لأمر كذا إذا أعدها، وقيل: مأخوذ من الشريط وهو الحبل المبرم.

 

}7156{ ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ» يعني: إلى اليمن «وَأَتْبَعَهُ بِمُعَاذٍ» فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى قاضيًا ومعلمًا، ثم بعث معاذًا قاضيًا ومعلمًا، وكان كل من أبي موسى ومعاذ في ناحية من نواحي اليمن، وكان اليمن ولايتين جنوبا وشمالا، فكان أبو موسى على ولاية ومعاذ على ولاية وكانا يتزاوران.

 

}7157{ في هذا الحديث أن أبا موسى رضي الله عنه لما جاءه معاذ رضي الله عنه وجد عنده رجلاً أسلم، ثم انتقل إلى اليهودية، وفي لفظ آخر: أنه موثق عنده[(251)] فقال معاذ: «مَا لِهَذَا؟ قَالَ: أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ. قَالَ: لاَ أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ» وفي اللفظ الآخر: «لا أجلس حتى يقتل»[(252)] أي: اقتله فإنه ما جيء به إلا ليقتل، فلا أجلس حتى يقتل، فقتل في الحال.

قال معاذ رضي الله عنه: «قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم» يعني: هذا قضاء الله ورسوله: أن يقتل المرتد.

وفيه: دليل على السرعة في تنفيذ الأحكام، وأنه لا ينبغي التباطؤ؛ لأن التباطؤ في تنفيذ الأحكام قد تحصل معه أمور تمنع من إقامة الحد، كما هو معروف الآن عند كثير من الدول التي لا تحكم بالشريعة يتباطئون فيمن وجب عليه الحد يتركونه، ثم تكون محاكمات تمكث شهرًا وشهرين وسنة أو سنتين، وقد يعفى عنه لكن تنفيذه في الحال يقطع جميع الأمور التي تكون سببًا في تأخير الحكم.

والشاهد من الحديث أن أبا موسى ومعاذًا رضي الله عنهما وهما حاكمان في اليمن وقاضيان قتلا اليهودي دون مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم وهو إمام المسلمين وقدوتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولاهم القضاء والحكم فحكما دون مراجعته صلى الله عليه وسلم.

$ر مسألة: هناك خلاف في استتابة المرتد هل يستتاب أو لا يستتاب؟

_خ الجواب: أما من تكررت ردته فإنه لا يستتاب عند المحققين، وكذلك أيضًا الزنديق المنافق، والساب الذي سب الله ورسوله، والمستهزئ، والساحر، فهؤلاء لا يستتابون عند المحققين، بمعنى أنه يقتل في الحال ولا يستتاب حتى ولو ادعى التوبة فلا تقبل توبته في الدنيا؛ زجرًا للناس؛ حتى لا يتجرءوا على هذا الكفر الغليظ.

أما توبته في الآخرة فيما بينه وبين الله، فإن كان صادقًا فالله يقبل توبة التائبين في الآخرة، وقد ألف في هذا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله كتابًا سماه «الصارم المسلول على شاتم الرسول».

القول الثاني: أنه يستتاب ولو كان ساحرًا، ولو كان سابًّا، ولو تكررت ردته، فهي أقوال لأهل العلم.

وهذا اليهودي يحتمل أنهم استتابوه وهو مصر على ردته، ويحتمل أنهما رأيا أنه لا يستتاب.

$ر مسألة: من العلماء من قال: إن الوالي يقيم الحد ولو لم يؤذن له، ومنهم من قال: لابد أن يؤذن له، لكن الحديث دل على الأول وهو أن الحاكم يقيم القصاص على من وجب عليه إلا إذا نهاه ولي الأمر، أو جعل إقامة الحد إلى غيره.

 هَلْ يَقْضِي الْقَاضِي أَوْ يُفْتِي وَهُوَ غَضْبَانُ

}7158{ حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، سَمِعْتُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كَتَبَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى ابْنِهِ وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ، بِأَنْ لاَ تَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ».

}7159{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ».

}7160{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الْكَرْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ الزُّهْرِيُّ، أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: «لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ؛ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا».

 

هذه الترجمة معقودة لقضاء القاضي وفتوى المفتي وهو غضبان، ويقاس على الغضب ما يوافقه من تغيير الشعور؛ وذلك لأن الغضب يغير الشعور فربما حكم بغير الحق، فإذا حكم وهو غضبان وأصاب الحق نفذ، وأصل النهي للتحريم وهو يقتضي الفساد عند جمع من أهل العلم، فإذا كان يسيرًا فلا يؤثر في القضاء ولا في الفتوى، أما إذا كان الغضب شديدًا يغير الشعور فلا يجوز له القضاء؛ لأن النهي يقتضي الفساد، ويقاس على الغضب كل ما يغير شعوره كأن يكون عنده شدة عطش أو شدة جوع أو شدة سهر، أو شدة فرح أو شدة حزن فكل هذه الأمور تغير شعوره، أو يدافعه الأخبثان البول أو الغائط أو الريح، فالذي يدافع الأخبثين لا يصلي ولا تصح صلاته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان»[(253)] والذي يدافع البول يسمى حاقنًا، والذي يدافع الغائط يسمى حاقبًا، والذي يدافع الريح يسمى حاسرًا، ولا تصح صلاة الحاقن ولا الحاقب ولا الحاسر إذا كانت مدافعة شديدة فالصلاة باطلة، أما إذا كانت مدافعة خفيفة فلا بأس، فكذلك أيضًا القضاء والفتوى.

}7158{ ذكر المؤلف حديث أبي بكرة حينما كتب لابنه وهو بسجستان بألا يقضي بين اثنين وهو غضبان؛ وقال: «فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»» ، يعني: القاضي، ويقاس عليه ما سبق من الأمور التي تغير شعور القاضي.

وفي الحديث من الفوائد: أن الكتابة بالحديث كالسماع من الشيخ في وجوب العمل؛ لأن أبا بكرة كتب إلى ابنه وهو بسجستان: ألا تقضي بين اثنين وأنت غضبان، وأما في الرواية فمنع منها قوم إذا تجردت عن الإجازة والمشهور الجواز.

وفيه: نشر العلم للعمل به والاقتداء وإن لم يسأل العالم عنه.

 

}7159{ ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه وفيه قوله: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَال:...» وهذا الشاهد من الحديث أن الموعظة والفتوى حال الغضب لا بأس بها إذا كان الغضب ليس شديدًا ولا يغير الشعور؛ لأنه يتحمس في الموعظة فيؤثر في السامعين فلا بأس به، فإن غير الغضب شعوره فلا يفتي.

قوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ» وفيه: مشروعية تخفيف الإمام على المأمومين، وأنه لا يجوز للإمام أن ينفر الناس بالإطالة الشديدة.

قوله: «فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ» ؛ ما زائدة للتأكيد، والتقدير: أيكم صلى بالناس فليخفف.

قوله: «فَإِنَّ فِيهِمْ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ» لكن ليس المراد بالتخفيف الذي يختاره الإمام ويختاره المأمومون، وإنما المراد التخفيف الذي يرجع إلى السنة، وضابط التخفيف فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم كما وصفت الأحاديث أنه: كان يقرأ في صلاة الفجر من الستين إلى المائة[(254)]. وكان يقرأ في الركعة الأولى من الظهر بمقدار ثلاثين آية[(255)]، وكان يحسب له عشر تسبيحات مع التدبر في الركوع وعشر تسبيحات مع التدبر في السجود[(256)]، وكان إذا رفع رأسه من الركوع وقف حتى يقول القائل: قد نسي يعني: أنه يطيل فيها، وإذا رفع رأسه من السجدة الأولى جلس حتى يقول القائل: قد نسي[(257)]، فهذه صلاته وهذا فعله، وهو لا يتناقض صلى الله عليه وسلم مع قوله، فإذا سبح المأموم عشر تسبيحات فهذا تخفيف وطمأنينة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول أنس رضي الله عنه: ما رأيت أحسن من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاز مع إتمام[(258)].

إذن فهذا يرجع إلى السنة، فإذا وجدنا إمامًا يسبح أربعين تسبيحة في الركوع فنقول: هذه إطالة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ» ، فلا تزد إلى أربعين تسبيحة، إلا إذا كنت وحدك تصلي في الليل فسبح أربعين تسبيحة، أما أن تشق على الناس فتسبح ثلاثين تسبيحة أو عشرين تسبيحة فقد خالفت فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ما دام في حدود السنة وفعله هو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يزال تخفيفًا، فلابد للمسلم أن يكون على دراية من هذا الأمر.

 

}7160{ قوله في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه «أَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . وهذا هو الشاهد، أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب وتغيظ ثم أفتى عمرَ وهو غضبان؛ لأنه غضب خفيف لا يغير شعوره صلى الله عليه وسلم.

«ثُمَّ قَالَ: «لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ؛ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا» ، وفي اللفظ الآخر: «مره فليراجعها»[(259)] فيه: تحريم طلاق المرأة وهي حائض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تغيظ وغضب على ابن عمر.

وفيه: أن من طلق امرأته وهي حائض يجب عليه أن يراجعها ويمسكها حتى تطهر من حيضتها، ثم تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر، فإن بدا له أن يطلقها في الطهر الثاني فليطلقها، فهذه هي السنة وهذا هو طلاق السنة، وفي لفظ: «فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء»[(260)] .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال المهلب: سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق فمنع، وبذلك قال فقهاء الأمصار، وقال ابن دقيق العيد: فيه النهي عن الحكم حالة الغضب لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه، قال: وعدّاه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النعاس» كل هذا مقيس عليه.

 مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ

فِي أَمْرِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفْ الظُّنُونَ، وَالتُّهَمَةَ

كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا.

}7161{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ لَهَا: «لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ».

 

قوله: «بَاب مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ» . هذه الترجمة معقودة لحكم القاضي بعلمه في أمر الناس، يعني: في غير الحدود «إِذَا لَمْ يَخَفْ الظُّنُونَ، وَالتُّهَمَةَ» وهذه مسألة خلافية؛ وفيها قولان لأهل العلم:

القول الأول ـ وهو الصواب الذي اختاره البخاري ـ: جواز قضاء الحاكم بعلمه في أمر الناس وحقوق الناس ولكن بشروط:

- الشرط الأول: أن لا يكون في الحدود، بل يكون في أمر في الناس.

- الشرط الثاني: أن يكون الأمر مشهورًا.

- الشرط الثالث: ألا يخاف التهمة والظنون، واختار هذا القول الكرابيسي شيخ البخاري رحمه الله.

القول الثاني: أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه مطلقًا لا في الحدود، ولا في أمور الناس؛ قالوا: لأنه غير معصوم فيجوز أن تلحقه التهمة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفْ الظُّنُونَ، وَالتُّهَمَةَ» ، أشار إلى قول أبي حنيفة ومن وافقه أن للقاضي أن يحكم بعلمه في حقوق الناس، وليس له أن يقضي بعلمه في حقوق الله كالحدود؛ لأنها مبنية على المسامحة، وله في حقوق الناس تفصيل، قال: إن كان ما علمه قبل ولايته لم يحكم؛ لأنه بمنزلة ما سمعه من الشهود وهو غير حاكم بخلاف ما علمه في ولايته.

وأما قوله: «إِذَا لَمْ يَخَفْ الظُّنُونَ، وَالتُّهَمَةَ» فقيد به قول من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه؛ لأن الذين منعوا ذلك مطلقًا اعتلوا بأنه غير معصوم، فيجوز أن تلحقه التهمة إذا قضى بعلمه أن يكون حكم لصديقه على عدوه فحسمت المادة، فجعل المصنف محل الجواز ما إذا لم يخف الحاكم الظنون والتهمة، وأشار إلى أنه يلزم من المنع من أجل حسم المادة أن يسمع مثلاً رجلاً طلق امرأته طلاقًا بائنًا، ثم رفعته إليه فأنكر فإذا حلفه فحلف لزم أن يديمه على فرج حرام فيفسق به، فلم يكن له بد من ألا يقبل قوله ويحكم عليه بعلمه، فإن خشي التهمة فله أن يدفعه ويقيم شهادته عليه عند حاكم آخر، وسيأتي مزيد لذلك في «باب الشهادة تكون عند الحاكم» . وقال الكرابيسي: الذي عندي أن شرط جواز الحكم بالعلم أن يكون الحاكم مشهورًا بالصلاح والعفاف والصدق ولم يعرف بكبير زلة، ولم يؤخذ عليه خربة بحيث تكون أسباب التقى فيه موجودة وأسباب التهم فيه مفقودة فهذا الذي يجوز له أن يحكم بعلمه مطلقًا، قلت: وكأن البخاري أخذ ذلك عنه فإنه من مشايخه».

واستدل المؤلف لما ذهب إليه بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند رضي الله عنها: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» واحتج من منع مطلقًا بالتهمة.

 

}7161{ هذا الحديث فيه: قصة هند بنت عتبة رضي الله عنها وأنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ» ، وفي اللفظ الآخر: «أهل بيت»، «وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ» فيه: دليل على أن الإسلام يقلب حياة الإنسان، فهذه هند بنت عتبة كانت شديدة العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تسلم، تخبر عن نفسها بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أبغض الناس إليها لما كانت على شركها، فلما أسلمت صار النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أحب الناس إليها.

ثم قالت تستفتي: «إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ» ، وفي لفظ: «رجل شحيح»[(261)] مسيك يعني: يمسك المال ولا يؤدي الواجب، وأبو سفيان هو قائد الجيوش، وهذا فيه دليل على أنه لا بأس بالغيبة عند الفتوى؛ لأنه مستثنى من الغيبة، فالغيبة تجوز في أمور ستة منها: عند الحاجة للفتوى، قالت: «فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟» ، وفي اللفظ الآخر: «فهل علي جناح أن آخذ من ماله ما يكفيني وبني»[(262)] فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: «لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ» . فهذا فيه: دليل على أنه يجوز للمرأة أن تستفتي الرجل، وأن صوت المرأة ليس بعورة إذا لم يكن فيه خضوع، قال تعالى: [الأحزَاب: 32]{فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}، وإذا كانت تسأل بصوت عال فلا بأس.

وفيه: دليل على جواز أخذ الزوجة من مال زوجها ما يكفيها ويكفي أولادها من النفقة إذا كان لا يعطيها نفقة كافيه، وهذه تسمى عند أهل العلم مسألة الظفر، إذا ظفر الإنسان بحقه عند شخص فهل له أن يأخذ؟ مثلاً: شخص يطلب شخصًا بدين وأنكره ثم استطاع أن يأخذ من ماله فهل يأخذ أم لا يأخذ؟ فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم:

القول الأول: يجوز أن يأخذ من ماله مطلقًا.

القول الثاني: لا يجوز مطلقًا.

القول الثالث: يجوز إذا كان سبب الحق ظاهرًا، ولا يجوز إذا لم يكن سبب الحق ظاهرًا.

وهذا القول ـ الثالث ـ هو الوسط وهو الأقرب، والدليل حديث هند، فسبب الحق ظاهر، فالزوجة تأخذ نفقتها، أو الولد يأخذ من مال أبيه، كذلك الضيف يأخذ من مال مضيفه.

وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله إنا ننزل بقوم فلا يقروننا، يعني: ما يعطوننا حق الضيافة فقال: «إذا نزلتم بقوم فلم يقروكم فخذوا حق الضيف»[(263)] فيجوز للضيف إذا نزل على شخص بخيل ولم يعطه حق الضيافة أن يأخذ إذا استطاع، هذا سبب الحق وهو ظاهر، لكن إذا لم يكن سبب الحق ظاهرًا فلا يأخذ، فإذا كان له دين لكن لا أحد يعلم عنه فإذا أخذ قد يتهم فيما بعد، وقد تقطع يده ويعتبر سارقًا وقد يذل فلا يأخذ حينئذ.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد