شعار الموقع

شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري (2-6) تابع باب سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الإِيمَانِ، وَالإِسْلاَمِ، وَالإِحْسَانِ، وَعِلْمِ السَّاعَةِ - إلى نهاية كتاب الإيمان

00:00
00:00
تحميل
131

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «فمراده بهذا الكلام: أن النبي  ﷺ سمى جميع ما ذكره في هذا السؤال دينًا، والدين هو الإسلام، كما أخبر الله بذلك».

أي كما قال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ [آل عِمرَان: 19] فالدين هو الإسلام والإسلام هو الدين، وهو الإيمان أيضًا.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وقد أجاب وفد عبد القيس عن سؤالهم عن الإيمان بما أجاب به جبريل عن سؤاله عن الإسلام؛ فدل على أن الإيمان هو الإسلام، وأنه يدخل في مسماه ما يدخل في مسمى الإسلام؛ هذا تقرير ما ذكره البخاري هاهنا».

المتن:

 51 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِْيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ؛ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِْيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لاَ يَسْخَطُهُ أَحَدٌ.

الشرح:

 51 وذكر من الحديث الطويل الذي سبق في قصة أبي سفيان مع هرقل.

فالحادثة حصلت لأبي سفيان قبل أن يسلم، ثم رواها بعد الإسلام وهذا لا بأس به، يعني أن الكافر إذا تحمل شيئًا في حال كفره، ثم رواه بعد إسلامه، صح؛ أما في حال كفره فلا يقبل منه.

وهذه القطعة أتى بها المؤلف رحمه الله ليستدل بها على أن الدين هو الإيمان، والإيمان هو الدين وأنه يشمل جميع الأعمال؛ ولهذا قال: «سَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ ـ يعني: أتباع النبي  ﷺ ـ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِْيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ؛ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِْيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لاَ يَسْخَطُهُ أَحَدٌ» .

فالشاهد من الترجمة أنه سمى الدين إيمانًا، فقال: «هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ» ؛ ثم قال: «وَكَذَلِكَ الإِْيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ» ؛ فسمى الدين إيمانًا.

والحجة من هذا أن النبي  ﷺ أقره على ذلك؛ إذ الحجة ليست في قول هرقل، ولكن في كون النبي  ﷺ أقره على ذلك.

 المتن:

باب فَضْلِ مَنْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ

 52 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ يَقُولُ: الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ.

الشرح:

 52 استدل المؤلف رحمه الله بحديث الباب على فضل من استبرأ لدينه.

قوله: اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، فيه: بيان أن من استبرأ لدينه فقد كمل دينه، ومن كمل دينه فقد كمل إيمانه؛ لأن الدين هو الإيمان، فالدين عند الإطلاق يدخل فيه الإيمان، والإيمان عند الإطلاق هو الدين؛ ولهذا جاء المؤلف بهذه الترجمة: «بَاب فَضْلِ مَنْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ» .

وفي هذا الحديث: فضل الورع، وأنه ينبغي للمسلم أن يتحلى به ويسلك سبيله، وأن الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن، كما قال  ﷺ: الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ، وفي رواية: وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَة [(222)].

فالأشياء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: حلال بين يباشره الإنسان ويفعله.

القسم الثاني: حرام بين يبتعد عنه ويتركه.

القسم الثالث: المشتبه.

قوله: لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فيه: دليل على أن بعض الناس يعلمونه وهم العلماء الراسخون في العلم، فهو ليس مشتبهًا عليهم، فمن اشتبه عليه توقف وسأل أهل العلم، وعند أهل العلم أيضًا قد تتكافأ الأدلة، ولا يتبين لهم، أو لبعضهم، وسبيل الورع في هذا أن يتوقف الإنسان في الشيء الذي يشتبه عنده، ولا يدري أحلال هو أم حرام؛ حتى لا يقع في الحرام؛ ولهذا يقول النبي  ﷺ في حديث آخر: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ [(223)]. يعني دع ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه.

وفيه: دليل على أن من يفعل المشتبهات لم يكمل دينه، ولم يستبرئ لدينه، ولا لعرضه ـ يعني سهل للناس طريقًا لعرضه ـ ومن اتقى الشبهات سلم دينه وعرضه.

ثم ضرب النبي  ﷺ مثلا، فقال: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، وفي رواية مسلم: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى [(224)] والحمى: أرض الملك المحمية، وكانت عادة الأمراء سابقًا أن يجعلوا أرضًا محمية تكون لدوابهم وأنعامهم، فيمنع كل أحد أن يقترب منها، فإذا جاء أحد بدوابه ورعى هذه الأرض المحمية عاقبوه، فمن قرب من الحمى وأتى بدوابه ورعاها حول حمى الملك أو الأمير يوشك أن تقع دوابه في الحمى ويعاقب، لكن من خاف وابتعد عن الحمى يكون في مأمن.

ثم قال  ﷺ: أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ فمن حام حول الحمى ـ وهي المشبهات أو المشتبهات أو صار قريبًا منها يمكن أن يقع في الحرام، ومن كان بعيدًا عن الشبهات فإنه لا يقع في الحرام، فتكون الشبهات فاصلة بينه وبين الحرام.

ثم قال  ﷺ: أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً؛ سمي مضغة؛ لأنه بقدر ما يمضغ في الفم، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ؛ لأن القلب هو أمير البدن وهو أمير الأعضاء، فإذا صلح الراعي صلحت الرعية، والقلب هو الراعي، والأعضاء هي الرعية، فإذا صلح القلب صلح الجسد، وإذا فسد القلب فسد الجسد.

فينبغي للمسلم أن يسلك سبيل الورع، وأن يبتعد عن المشتبهات حتى يتبين له أمرها؛ لأنه إذا تساهل في المشتبهات فسرعان ما يقع في الحرام ولا يبالي، لكن إذا جعل بينه وبين الحرام فاصلاً بالبعد عن المشبهات فلن يقع في الحرام؛ وهذا هو سبيل الورع، ويكون قد استبرأ لدينه وعرضه.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «هذا الحديث حديث عظيم، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الدين وقد قيل: إنه ثلث العلم أو ربعه».

قال بعض العلماء: مدار الدين على ثلاثة أحاديث، فجعل منها هذا الحديث، وحديث: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ [(225)]، وحديث: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى [(226)] فجعله بعضهم ثالث ثلاثة، وجعله بعضهم رابع أربعة، أي أن ربع الدين يدور عليه.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وهو حديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص، والمعنى واحد أو متقارب، وقد روي عن النبي  ﷺ من حديث ابن عمر، وعمار بن ياسر، وجابر، وابن مسعود، وابن عباس ، وحديث النعمان أصح أحاديث الباب، ومعنى الحديث: أن الله أنزل كتابه وبين فيه حلاله وحرامه، وبين النبي  ﷺ لأمته ما خفي من دلالة الكتاب على التحليل والتحريم، فصرح بتحريم أشياء غير مصرح بها في الكتاب، وإن كانت عامتها مستنبطة من الكتاب، وراجعة إليه فصار الحلال والحرام على قسمين:

أحدهما: ما هو واضح لا خفاء به على عموم الأمة لاستفاضته بينهم وانتشاره فيهم، ولا يكاد يخفى إلا على من نشأ ببادية بعيدة عن دار الإسلام».

وهذا مثل المحرمات الظاهرة المعروفة لكل أحد، مثل: الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، فهذه محرمات ظاهرة لكل أحد لا تخفى إلا على إنسان نشأ في بادية، أو أسلم حديثًا، وهذا قليل نادر.

ثم قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «فهذا هو الحلال البين والحرام البين، ومنه: ما تحليله وتحريمه لعينه، كالطيبات من المطاعم والمشارب، والملابس والمناكح، والخبائث من ذلك كله، ومنه: ما تحليله وتحريمه من جهة كسبه، كالبيع، والنكاح، والهبة، والهدية، وكالربا والقمار، والزنا، والسرقة، والغصب، والخيانة، وغير ذلك.

القسم الثاني: ما لم ينتشر تحريمه وتحليله في عموم الأمة؛ لخفاء دلالة النص عليه، ووقوع تنازع العلماء فيه ونحو ذلك، فيشتبه على كثير من الناس هل هو من الحلال أو من الحرام؟ فأما خواص أهل العلم الراسخون فيه فلا يشتبه عليهم؛ بل عندهم من العلم الذي اختصوا به عن أكثر الناس ما يستدلون به على حل ذلك أو حرمته، فهؤلاء لا يكون ذلك مشتبهًا عليهم لوضوح حكمه عندهم».

ولهذا قال: لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، ففيه: بيان أن قليلاً من العلماء من يعلم حقيقة هذه الشبهات.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «أما من لم يصل إلى ما وصلوا إليه فهو مشتبه عليه؛ فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتبه عليه واجتنبه اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، بمعنى: أنه طلب لهما البراءة مما يشينهما، وهذا معنى الحديث الآخر: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ [(227)]؛ وهذا هو الورع، وبه يحصل كمال التقوى، كما في الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه: لَا يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ البَأْسُ [(228)].

وأنواع الشبه تختلف بقوة قربها من الحرام، وبعدها عنه؛ وقد يقع الاشتباه في الشيء من جهة اشتباه أسباب حله وحرمته، كما يشك الإنسان في شيء هل هو ملكه أم لا؟ وهذا قد يرجع فيه إلى الأصل فيبنى عليه، وقد يرجع في كثير منه إلى الظاهر إذا قوي على الأصل، وقد يقع التردد عند تساوي الأمرين، وقد يقع الاشتباه لاختلاط الحلال بالحرام في الأطعمة، والأشربة من المائعات وغيرها من المكيلات، والموزونات والنقود.

فكل هذه الأنواع من كان عنده فيها علم يدله على حكم الله ورسوله فيها فتبعه فهو المصيب، ومن اشتبهت عليه فإن اتقاها واجتنبها فقد فعل الأولى، واسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ فسلم في الدنيا والآخرة، ومن اشتبهت عليه فوقع فيها فمثله كمثل: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، وفي رواية: وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ [(229)].

ومعنى هذا: أن من وقع في الشبهات كان جديرًا بأن يقع في الحرام، أي بالتدريج؛ فإنه يسامح نفسه في الوقوع في الأمور المشتبهة فتدعوه نفسه إلى مواقعة الحرام بعده؛ ولهذا جاء في رواية: ومَن يُخالِطُ الرِّيبةَ يوشِكُ أنْ يَجسُرَ [(230)].

ومن هنا كان السلف يحبون أن يجعلوا بينهم وبين الحرام حاجزًا من الحلال يكون وقاية بينهم وبين الحرام، فإن اضطروا واقعوا ذلك الحلال ولم يتعدوه، وأما من وقع في المشتبه فإنه لا يبقى له إلا الوقوع في الحرام المحض، فيوشك أن يتجرأ عليه ويجسر» أ.هـ.

والحاصل أنه ينبغي للمسلم أن يسلك سبيل الورع، وأن يبتعد عن المشتبهات حتى تكون فاصلاً وحاجزًا بينه وبين الوقوع في الحرام.

وفيه: دليل على أن من ترك الشبهات فقد طلب البراءة لدينه وعرضه، ومن طلب البراءة لدينه وعرضه فقد كمل دينه، ومن كمل دينه كمل إيمانه وهذا هو الشاهد من الترجمة.

المتن:

باب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنْ الإِْيمَانِ

 53 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ  ﷺ قَالَ: مَنْ الْقَوْمُ؟ أَوْ مَنْ الْوَفْدُ؟. قَالُوا: رَبِيعَةُ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ؛ وَسَأَلُوهُ عَنْ الأَْشْرِبَةِ. فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ أَمَرَهُمْ بِالإِْيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الإِْيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ؛ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ، وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ وَقَالَ: احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ.

الشرح:

 53 حديث الباب فيه فوائد، منها: الترحيب بالوفد الذين جاءوا ليتعلموا التقوى؛ ولهذا قال: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى.

وفيه: أن النبي  ﷺ فسر الإيمان بالأعمال الظاهرة، فدل على دخول الأعمال في مسمى الإيمان، ولذلك لما سألوه عن الأعمال التي يدخلون بها الجنة «أَمَرَهُمْ بِالإِْيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الإِْيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟» ثم فسره بالشهادتين والصلاة والزكاة، والصيام وإعطاء الخمس، فدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان.

وفيه: أن إعطاء الخمس خصلة من خصال الإيمان، وهذا هو الشاهد للترجمة: «بَاب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنْ الإِْيمَانِ» ؛ فهي خصلة من خصال الإيمان.

وهذا فيه: الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان؛ حيث أن النبي  ﷺ فسر الإيمان بالشهادتين والصلاة، والزكاة، والصيام، وإعطاء الخمس، وهذه كلها أعمال؛ فقول المرجئة باطل، وهذا الحديث من أقوى الأدلة في الرد عليهم.

وقولهم: «لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ» ؛ لأن الحروب كانت تقوم بين العرب، وكانوا لا يقاتلون في الأشهر الحرم التي هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب؛ ولهذا كانوا لا يأتون إلى النبي  ﷺ إلا في الأشهر الحرم.

وسألوه عن الأوعية التي ينتبذون فيها، فقد كان العرب ينتبذون من التمر شرابًا ـ بأن ينقعوا التمر في الماء ثم يشربوه ـ وينتبذون من العنب، ومن البر، ومن الشعير، وكانوا يشربون الخمر، فنهاهم النبي  ﷺ عن الانتباذ في الأوعية القاسية، وهي: الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت.

والدباء: هو القرع، يؤخذ اللب الذي في وسطها فتكون صلبة، ثم ينتبذون فيها الشراب من التمر، أو من العنب، أو من البر، ويظل فيها الشراب يومين، أو ثلاثة، أو أربعة، فمن شدة الحر يقذف الزبد، ويتخمر ولا يعلمون، والنقير: الجذع من النخل ينقرونه، فيصير كهيئة الإناء ثم ينبذون فيه.

والحنتم: هو المطبوخ من الطين والفخار، مثل الأزيار التي يستعملها الناس الآن.

والمقير: المطلي بالقار.

والمزفت: المطلي بالزفت.

فهذه أشياء صلبة إذا انتبذوا فيه النبيذ يتخمر ولا يعلمون فيشربون المسكر، فنهاهم النبي  ﷺ أن ينتبذوا في هذه الأوعية الصلبة، وقال في رواية مسلم: انْتَبِذُوا فِي الْأَسْقِيَةِ [(231)] أي: من الجلد وغيرها؛ لأنها خفيفة؛ فإذا تخمرت الأشربة، وقذفت الزبد، تمزق الجلد فيعرفون أنها مسكرة.

وكان هذا النهي في أول الإسلام، فلما استقرت الشريعة وعرف الناس حكم المسكر، وأنه لا يجوز رخص لهم النبي  ﷺ أن ينتبذوا في كل وعاء مع اجتناب المسكر؛ ولهذا قال النبي  ﷺ بعد ذلك: انْتَبِذُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا [(232)]؛ أي: انتبذوا في أي وعاء، سواء كان صلبًا أو غير صلب، مع الحذر من شرب المسكر.

وكان النبي  ﷺ ينتبذ له النبيذ فيشربه اليوم الأول والثاني، وفي اليوم الثالث يصبه أو يسقيه الخادم؛ خشية أن يتخمر؛ لأنه في الغالب يتخمر من شدة الحر بعد ثلاثة أيام؛ أما الآن ففرصة عدم التخمر أكبر لانتشار المبردات والمواد الحافظة؛ أما قديمًا فكانوا ينتبذون الأشياء في الشمس والحر فإذا مضى عليها ثلاثة أيام تخمرت، وقذفت الزبد، فصارت خمرًا؛ ولهذا نهاهم النبي  ﷺ في أول الإسلام أن ينتبذوا في الأشياء الصلبة، ثم لما استقرت الشريعة، وعرفوا الحكم الشرعي أذن لهم النبي  ﷺ، ورخص لهم أن ينتبذوا في كل وعاء، مع الحذر من شرب المسكر.

قوله: «أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي» استدل بهذا بعض العلماء على جواز أخذ الأجرة على الحديث، لكنه ليس بظاهر؛ لأن أبا جمرة هذا مولى يبلغ عنه، وكان ابن عباس رضي الله عنهما عالمًا من العلماء دعا له النبي  ﷺ بأن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل؛ فاستجاب الله دعاءه، فكان الجم الغفير من الناس يأتون إليه، ويحضرون درسه، فجعل له مبلغين بسبب كثرة طلاب الحديث، وكان أبو جمرة يقعد عنده على السرير يسمع ويبلغ الناس البعيدين، فقال له: «أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي» ، وكان المحدثون بعد ذلك يكون لهم مبلغون بسبب كثرة طلاب الحديث، وكان الحديث يومها يملى، فكان الشيخ، أو المحدث يملي فيقول: حدثنا فلان ثم يقول المبلغ: حدثنا فلان، وإذا كان الجمع أكبر قام مبلغ ثان يسمع من الأول، ويبلغ من لم يسمع، وهكذا.

واستدلوا به على تبليغ الحديث إلى كل من لا يسمع صوت المحدث، بمبلغ يرفع الصوت ليسمع الآخرين.

قال العيني: «فيه استعانة العالم في تفهيم الحاضرين، والفهم عنهم كما فعله ابن عباس ».

المتن:

باب مَا جَاءَ إِنَّ الأَْعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى

فَدَخَلَ فِيهِ الإِْيمَانُ وَالْوُضُوءُ وَالصَّلاَةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ وَالأَْحْكَامُ.

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ عَلَى نِيَّتِهِ.

نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةٌ.

وَقَالَ: وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ.

الشرح:

تدل ترجمة الباب على أن الأعمال الشرعية لابد فيها من النية والحسبة، والحسبة هي احتساب الأجر والثواب عند الله ؛ ولهذا قال المؤلف: «فدخل فيه الإيمان» ؛ وهذا هو الشاهد في الترجمة؛ فالإيمان يحتاج إلى نية؛ والأعمال داخلة في مسمى الإيمان؛ فتحتاج إلى نية، فالوضوء، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، كلها لابد لها من نية.

قوله: «وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ: عَلَى نِيَّتِهِ» ، يعني: أن كل عامل له ما عمل على حسب نيته.

قوله: «وَقَالَ: وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ؛ وذلك لما فتحت مكة قال النبي  ﷺ: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ [(233)]؛ أي: يؤجر الإنسان على الجهاد، وعلى النية.

المتن:

54 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ قَالَ: الأَْعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.

الشرح:

54 قوله: الأَْعْمَالُ بِالنِّيَّةِ هو الشاهد من الحديث؛ والأعمال تدخل كلها في مسمى الإيمان، فلابد لها من نية؛ وضرب النبي  ﷺ مثلاً للنية لمن هاجر إلى الله يقصد وجه الله والدار الآخرة، ومن هاجر لأجل الدنيا فيجازى كل على حسب نيته.

المتن:

55 حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ قَالَ: إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا، فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ.

الشرح:

 55 قوله: إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا، فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ؛ يشير هذا الحديث إلى اشتراط الحسبة، ويَحْتَسِبُهَا، أي: يطلب الثواب من الله، أي: يعملها بقصد الثواب والأجر، وهذا داخل في قوله: «الأعمال بالنية والحسبة».

ومعنى الحديث أن الإنسان إذا أنفق نفقة يأجره الله على هذه النفقة، وإذا احتسب يأجره الله على الاحتساب أيضا، فيكون له أجران.

المتن:

56 حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ.

الشرح:

 56 والشاهد في قوله: إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ أي: تحتسب عنده الأجر؛ وهذا قاله النبي  ﷺ لما عاد سعد بن أبي وقاص في مرضه بمكة، الذي خشي أن يموت منه، ولا يرثه إلا ابنة له؛ فقال للنبي  ﷺ: أتصدق بثلثي مالي؟ قال له: لا قال: فالشطر، قال: لا، قال: فالثلث؟ قال: فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، ثم قال: إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، ثم قال له: إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ. [(236)].

فإذا لم يحتسب، يؤجر أجر أداء الواجب فقط، وإذا احتسب كان له أجران: أجر الحسبة، وأجر النفقة.

المتن:

باب قَوْلِ النَّبِيِّ  ﷺ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ.

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ

 57 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.

الشرح:

قصد المؤلف رحمه الله من هذه الترجمة بيان أن الدين يشمل الإيمان، والإحسان والأقوال.

قوله: الدِّينُ النَّصِيحَةُ؛ النصيحة: خلوص الشيء، والصدق فيه؛ فإذا كان الدين هو النصيحة، فإن معناه يشمل الأعمال، والأقوال كلها.

والدين إذا أطلق يشمل: الأقوال والأعمال، ويدخل فيه: الإسلام والإيمان؛ وكذلك الإيمان إذا أطلق.

والنصيحة تكون في كل شيء، ففي حديث تميم الداري قال: قال النبي  ﷺ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ قلنا: لمن؟ قال: لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ [(237)] فدخلت النصيحة في جميع أمور الدين؛ فالنصيحة بـ:توحيده، وإخلاص الدين له، ولكتابه بـ:العمل به وتطبيقه، ولرسوله بـ:محبته واتباعه، ولأئمة المسلمين بـ: الولاء والنصح لهم، ولعامة المسلمين بـ:الشفقة عليهم وتوجيههم، فدخل في ذلك كل أمور الدين؛ فمسمى الدين هو مسمى الإيمان عند الإطلاق فيشمل جميع الأعمال، وهذا هو الشاهد من الترجمة.

 57 قوله: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» ، فيه: دليل على أن الإيمان قول، وعمل، فإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، كلها أعمال، وهي داخلة في مسمى الإيمان.

المتن:

58 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَالْوَقَارِ، وَالسَّكِينَةِ، حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ، فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمْ الآْنَ؛ ثُمَّ قَالَ: اسْتَعْفُوا لأَِمِيرِكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ  ﷺ، قُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الإِْسْلاَمِ، فَشَرَطَ عَلَيَّ: وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا، وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ. ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ.

الشرح:

 58 قوله: «سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ» فيه: أن جريرًا نصح للناس لما توفي المغيرة بن شعبة ـ وكان المغيرة أميرًا على الكوفة ـ فصعد المنبر، وحمد الله، وأثنى عليه، وأمر الناس بتقوى الله.

قوله: «فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمْ الآْنَ» أي: لبيان القرب، وأنه سيأتيهم الأمير قريبًا، وبالفعل لما علم معاوية أرسل لهم أميرًا.

وفيه: بيان أنه قال: «إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ» ؛ لأن النبي  ﷺ أخذ عليه النصح لكل مسلم، وهذا من النصح.

قوله: «اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ» أي: اطلبوا له العفو واستغفروا له؛ «فإنه كان يحب العفو» أي: أنه أمر الناس أن يطلبوا المغفرة، والعفو لأميرهم؛ لأنه كان يحب العفو، ويعفو عن الناس؛ والجزاء من جنس العمل، فعليكم أن تستغفروا له، وتسألوا الله له العفو.

وبين لهم أنه إنما فعل ذلك من باب النصح؛ لأنه أخذ عليه النبي  ﷺ النصح لكل مسلم، فهذا من الوفاء بالبيعة التي بايع النبي  ﷺ عليها.

والشاهد في الحديث قوله: «وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» ، فكلمة النصح كلمة عامة تشمل الدين كله، فالدين هو النصيحة، والنصيحة هي الدين، والدين هو الإيمان، والإيمان هو الإسلام، فإذا أطلق أحدها شمل الدين كله.

قال العيني: «قوله: يَحْتَسِبُهَا، أي: يريد بها وجه الله، والنفقة المطلقة في الأحاديث ترد إلى هذا الحديث وأمثاله المقيد بالنية لحديث امرأة عبد الله بن مسعود ، وامرأة من الأنصار، وسؤالهما أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وأيتامهما، فقال رسول الله  ﷺ: لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ [(234)]، وقول أم سلمة رضي الله عنها: هل لي أجر في بني أبي سلمة أنفق عليهم؟ فقال رسول الله: نَعَمْ، لَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ [(235)].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والمقصود منه في هذا الباب قوله: يَحْتَسِبُهَا. قال القرطبي: أفاد منطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة، سواء كانت واجبة، أو مباحة؛ وأفاد مفهومه أن من لم يقصد القربة لم يؤجر، لكن تبرأ ذمته من النفقة الواجبة، لأنها معقولة المعنى؛ وأطلق الصدقة على النفقة مجازًا؛ والمراد بها الأجر؛ والقرينة الصارفة عن الحقيقة الإجماع على جواز النفقة على الزوجة الهاشمية التي حرمت عليها الصدقة».

والأقرب أنه إذا احتسب زاد أجره، وإلا فقد أدى الواجب؛ لأنه قد يغفل عن الاحتساب.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد