شعار الموقع

شرح كتاب العلم من صحيح البخاري (3-4) تابع باب التَّنَاوُبِ فِي الْعِلْمِ - إلى باب إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ  ﷺ

00:00
00:00
تحميل
87

لا تفعلي؛ أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكين؟! أو كما قال [(314)].

 قال: فجئت إلى المشربة مشربة ـ يعني: في غرفة مرتفعة ـ قال عمر: فجئت إلى المشربة وعليها بواب، فقلت: استأذن لعمر، قال: فذهب ثم عاد وقال: ذكرتك له فلم يرد شيئًا، فذهبت إلى المسجد وجلست مع أناس جالسين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فذهبت فقلت: استأذن لعمر، فذهب فاستأذن، ثم قال: ذكرتك فلم يرد شيئًا، يقول عمر: فذهبت فجلست عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فذهبت فقلت للبواب: استأذن لعمر، فاستأذن وقال: ذكرتك فلم يرد شيئًا، فذهبت، ثم ناداني الرجل وقال: أذن لك. فأتيت المشربة، وقلت: يا رسول الله، أطلقت نساءك؟ قال: لاَ، فقلت: الله أكبر؛ فرحًا بكونه لم يطلق نساءه، وتعجبًا ممن أشاع هذا الخبر، وقلت: يا رسول الله، إني قلت لحفصة كذا وكذا، وكذلك هن النساء، ثم قلت وأنا قائم: أستأنس يا رسول الله، لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب نساءنا، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فضحك النبي  ﷺ. قال: فنظرت في الغرفة فوالله ما أجد شيئًا يرد البصر غير أَهَبة ثلاث ـ جمع إهاب، وهو الجلد ـ ورأيت النبي  ﷺ نائمًا على حصير، قد أثر الحصير في جنبه، فقلت له: يا رسول الله، هؤلاء فارس والروم قد أعطاهم الله من الدنيا، فادع الله أن يعطيك، قال: فاستوى النبي  ﷺ جالسًا، وقال: أفي شك يا ابن الخطاب؟ إن هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا [(315)] ، أو كما قال.

والشاهد في القصة ـ وقد اختصرها المؤلف ـ: التناوب في طلب العلم، فإذا لم يتمكن المرء من التزام الحضور تناوب هو وزميل له في الطلب حتى لا يفوت العلم.

المتن:

باب الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ

 90 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلاَةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلاَنٌ، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ  ﷺ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ، وَالضَّعِيفَ، وَذَا الْحَاجَةِ.

الشرح:

90 قوله: إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ ـ وفي لفظ: إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ [(316)] ـ وفيه: أنه يشرع للإمام أن يراعي حال المأمومين فلا يطيل عليهم؛ لأن فيهم المريض والضعيف وصاحب الحاجة؛ فليس له أن يشق عليهم.

ولكن المراد من التخفيف هنا التخفيف النسبي، وهو الذي يفسر بما دلت عليه النصوص، ففي حديث أنس قال: ما رأيت صلاة أخف من صلاة رسول الله  ﷺ في تمام [(317)]، فصلاة النبي صلاة  ﷺ يجتمع فيها الأمران: التخفيف مع الإتمام، فلابد من الأمرين.

فصفة التخفيف مردها إلى الشرع، وليس إلى رغبة الإمام، ولا إلى رغبة المأمومين؛ فكان النبي  ﷺ في صلاته يحصر له الصحابة في الركوع عشر تسبيحات، وفي السجود عشر تسبيحات[(318)] وذلك مع التدبر، وكان إذا رفع رأسه من الركوع يقف حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجود ـ يعني بين السجدتين ـ جلس حتى يقول القائل: قد نسي [(319)]، وهذه هي الصلاة التي وصفها أنس بأنها خفيفة في تمام، وهذا هو فعل الرسول  ﷺ.

فقوله  ﷺ: فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ يعني: تخفيفًا يناسب ويوافق الشرع، وليس تخفيفًا يخل بواجبات الصلاة؛ فينقرها كنقر الغراب، ويسرق الركوع والسجود، فهذا ليس المراد من التخفيف، وإنما المراد التخفيف الذي يفسر بفعل النبي  ﷺ، فكأن هذا الإمام الذي شُكي منه كان يُطيل إطالة زائدة عن صلاة النبي  ﷺ؛ ولهذا غضب  ﷺ ووعظ.

والشاهد من الحديث: هو غضب النبي  ﷺ، حيث استدل به المؤلف على أن الواعظ قد يغضب أحيانًا في الموعظة والتعليم إذا وجد ما يبعث على الغضب.

المتن:

91 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو عامِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ ابْنُ بِلاَلٍ الْمَدِينِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ ابْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ  ﷺ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا أَوْ قَالَ: وِعَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الإِْبِلِ؟ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوْ قَالَ احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ: وَمَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا، وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا، قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: لَكَ، أَوْ لأَِخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ.

الشرح:

 91 قوله: فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وقد استدل المؤلف رحمه الله بغضب النبي  ﷺ على جواز الغضب في الموعظة.

قوله: «سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ اللُّقَطَةِ»؛ اللقطة هي: المال الضائع، والمال الضائع إذا وجده الإنسان ـ سواء أكان نقودًا أم متاعًا ـ وكان شيئًا يسيرًا؛ فذكر العلماء أنه يُلتقط، والشيء اليسير هو الذي لا تتبعه همة أوساط الناس، والنبي  ﷺ كان يمثل له بالسوط، وقاس أهل العلم عليه ما في قيمته: كالعصا، والبيضة، والريال، والريالين، والخمسة ريالات، ونحوها؛ فالشيء اليسير يلتقطه الإنسان؛ أما الشيء الذي تتبعه همة أوساط الناس في الغالب: كالخمسين، أو المائة، أو الخمسمائة ريال، وما أشبه ذلك من اللقطة؛ فلا بد للإنسان أن يعرفها؛ ولهذا قال النبي  ﷺ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا أَوْ قَالَ: وِعَاءَهَا وَعِفَاصَهَا. يعني: يعرف الوكاء: وهو الرباط، أو الخيط الذي يُربط به، والعفاص: وهو الوعاء الذي تكون فيه؛ وإذا كانت نقودًا يعرف عددها، ومن أي الفئات هي؟ من فئات المائة، أو من فئات الخمسين، وهكذا؛ ثم يحفظها، ويسجلها عنده، ثم يعرِّفها سنة في مجامع الناس، في كل أسبوع بعد صلاة الجمعة ـ مثلا ـ ويعرفها على حسب الحاجة، فإذا مضت سنة ولم يأت أحد فإنه يتملكها مع ضبط صفاتها، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر دفعها إليه، وإن لم يأت لها أحد فهي له؛ وكذلك ضالة الغنم.

أما ضالة الإبل، فلما سئل عنها النبي  ﷺ احمر وجهه وغضب، وهذا هو الشاهد من الترجمة، أن النبي  ﷺ غضب في الموعظة، واحمرت وجنتاه واحمر وجهه، ثم قال: وَمَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا، وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا يعني: لا داعي أن تلتقط البعير، فالإبل تستطيع أن تمنع نفسها من السباع، ومعها خف قوي تمشي عليه المسافات الطويلة، وتصبر على الماء، وترده ولو كان بعيدًا، فتشرب وترعى الشجر حتى يجيء لها ربها، وقال فريق من العلماء: ومثلها البقر، واستثنى أهل العلم ما لو كانت البعير في مسبعة، وسبعت عليها السباع، أو في مكان مخوف، فإنه ينقلها من هذا المكان المخوف إلى مكان آخر آمن، ولا يأخذها.

وقيل له  ﷺ: «فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟» فقال: لَكَ، أَوْ لأَِخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ أي: خذها؛ لأن الشاة لا تمنع نفسها من الذئب، فإن لم تأخذها أنت أخذها غيرك، أو أكلها الذئب.

فإذا أخذ ضالة الغنم فلا بأس أن يبقيَها، أو يأكلها مع حفظ أوصافها، أو يبيعها ويحفظ ثمنها، ويعرِّفها حتى يجيء صاحبها؛ فإذا جاء صاحبها دفعها إليه؛ وإن لم يأت صاحبها فهي له.

والشاهد من الحديث أن النبي  ﷺ غضب في الموعظة؛ فعندما سئل عن ضالة الإبل احمرت وجنتاه، وفي لفظ: فتمعر وجه النبي ﷺ [(321)].

أما لقطة الحرم فلها خصوصية؛ فمكة لا ينفَّر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، كما قال النبي  ﷺ لما خطب الناس يوم الفتح: وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ [(320)]، فما يلتقطه المرء يعرفه مدى الدهر، ولا يتملكه بعد عام ولا عامين ولا أكثر من ذلك ولا أقل؛ ولذلك فالأسلم أن يسلمها لأولي الأمر؛ فهناك الآن لجنة موجودة في مكة تسلم إليهم اللقطة، فإذا سلمها إلى اللجنة المختصة برئت ذمته، وإلا فالأصل أنه يعرفها مدى الدهر، وهذه خصوصية لمكة.

المتن:

92 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ  ﷺ عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، قَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ .

الشرح:

 92 قوله: «سُئِلَ النَّبِيُّ  ﷺ عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ» ، والسبب في هذا أن بعض الناس أكثر على النبي  ﷺ من سؤال التعنت، والامتحان، والاختبار، والتشكيك؛ وهذا صدر من بعض المنافقين؛ فلما أكثروا عليه غضب  ﷺ، ثم قال للناس: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، وفي رواية: لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ، مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا، فقام رجل يشك في نسبه، وكان إذا تخاصم مع أحد نسبه إلى غير أبيه، فقال: من أبي؟ قال: أَبُوكَ حُذَافَةُ، فثبت نسبه إلى حذافة، فقالت له أمه: ما سمعت بابن قط أعق منك! أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس؟ فقال: والله لو ألحقني إلى عبد أسود للحقته[(322)].

قوله: «فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ » ، حتى سكن غضب النبي  ﷺ.

والشاهد من الحديث: هو غضب النبي  ﷺ في الموعظة.

المتن:

باب مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الإِْمَامِ أَوْ الْمُحَدِّثِ

 93 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ خَرَجَ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ، ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي، فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِْسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ  ﷺ نَبِيًّا، فَسَكَتَ.

الشرح:

 93 وحديث الباب فيه: قصة عبدالله بن حذافة التي مرت في الباب السابق.

والشاهد: منها بروك عمر على ركبتيه أمام النبي  ﷺ لما أكثر الناس عليه؛ أي: أنه لا بأس أن يبرك الطالب على ركبتيه في جلسته أمام المحدث أوالعالم.

المتن:

باب مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلاَثًا لِيُفْهَمَ عَنْهُ

فَقَالَ: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا.

وَقَالَ: ابْنُ عُمَرَ قَالَ النَّبِيُّ  ﷺ: هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاَثًا. 

الشرح:

يستفاد من ترجمة هذا الباب أنه يستحب للمتعلم إذا لم يفهم شيئًا من العالم أن يطلب منه التكرار، أما إذا فهم منه فليس في حاجة إلى تكرار.

المتن:

94 حَدَّثَنَا عَبْدَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاَثًا وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا.

 95 حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثًا.

الشرح:

94، 95 في الحديث أنه  ﷺ سلم ثلاثًا، وهذا إذا لم يُسمع التسليم، أما إذا سمع من أول مرة فلا حاجة للتكرار؛ وكذلك يعيد الكلمة ثلاث مرات إذا لم تُفهم عنه، أما إذا فُهمت اكتفى بمرة واحدة.

ولهذا قال: «حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ»، ومفهومه أنها إذا فهمت في المرة الأولى أو الثانية فلا يعيدها، وهذا من العلم، فإن العالم يكرر كلامه ثلاث مرات إذا لم يفهم عنه، ويسلم المسلم ثلاثًا إذا لم يُسمع تسليمه، أما إذا سمع في أول مرة فلا حاجة للتكرار.

المتن:

96 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلاَةَ صَلاَةَ الْعَصْرِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: وَيْلٌ لِلأَْعْقَابِ مِنْ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا.

الشرح:

 96 وأما في حديث عبدالله بن عمرو الشاهد منه: أنه  ﷺ نادى بأعلى صوته مرتين أو ثلاثًا؛ ففيه: مشروعية رفع الصوت للمعلم والواعظ حتى يفهم عنه، وأنه يكرر مرتين أو ثلاثًا ليحصل الفهم؛ أما إذا فهم في المرة الواحدة فلا يكرر.

وفيه: أنه ينبغي للمسلم أن يعتني بإسباغ الوضوء؛ فالنبي  ﷺ لما تأخر رأى الصحابة يتوضئون ويمسحون على أعقابهم، ولم يبلغوا مؤخر الرِّجل؛ فنادى بأعلى صوته: وَيْلٌ لِلأَْعْقَابِ مِنْ النَّارِ.

والمقصود أنه ينبغي للمسلم أن يلاحظ الرِّجلين، ويلاحظ مؤخر القدم، ويلاحظ ما بين الأصابع، ويلاحظ الشيء الذي ينبو عنه الماء.

المتن:

باب تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ

 97 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: قَالَ: عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: ثَلاَثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ  ﷺ، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ.

ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ: أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ.

الشرح:

 97 حديث الباب فيه: بيان فضل التعليم وخاصة تعليم الرجل أمته وأهله، وقد ذكر النبي  ﷺ في هذا الحديث ثلاثة نفر يُؤتَون أجرهم مرتين بسبب أنهم عملوا عملين:

الأول: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد، فله أجران: أجر لإيمانه بنبيه، وأجر لإيمانه بمحمد  ﷺ.

الثاني: عبد مملوك أدى حق الله، وحق مواليه، فله أجران: أجر لأداء حق الله، وأجر لأداء حق الموالي.

الثالث: رجل كانت عنده أمة أدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران: أجر في مقابل التعليم والتأديب، وأجر في مقابل العتق.

والثالث هو الشاهد للترجمة؛ ففيه: فضل تعليم الرجل أمته وتأديبها؛ فهذا له أجر، وإذا أعتقها بعد ذلك صار له أجر آخر مقابل العتق؛ سواء تزوجها أم لم يتزوجها، فإذا تزوجها بعد ذلك فهذا زيادة في الخير؛ لأنها بعد أن كانت أمة له صارت أمًّا لأولاده؛ فالأجر الأول في مقابل التعليم والتأديب، والأجر الثاني في مقابل العتق.

وإذا كان هذا الأجر العظيم لمن علم أمته وهي أجنبية رقيقة له، فمن علم ابنته أو أخته أو والدته، أو زوجته، كان أجره أعظم؛ ولهذا ينبغي للمسلم أن يعلم أهله وأولاده ما يحتاجون إليه، وأن يجعل لهم جلسة خاصة لتعليمهم ما ينفعهم حتى يحصل له الأجر؛ وعليه فيستنبط من الحديث فضل التعليم مطلقًا.

قوله: «ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ: أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ» ، وعامر هنا هو الشعبي.

فقيل: إن الخطاب للراوي عنه، أي: صالح بن حيان، وقيل: لغيره، ومعناه: أنه أعطاه هذه الفائدة دون تعب ومشقة، فقد كان طالب العلم يسافر سفرًا بعيدًا حتى يحصِّل الفائدة ولو قلَّتْ، وقد أعطاه عامر هذه الفائدة دون تعب ولا سفر، فذكره بهذا لما فيه من تشويق وترغيب في العلم، وحث على اقتناص الفوائد والحرص عليها.

وقوله: ثَلاَثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ ليس حصرًا؛ فالمفهوم العددي لا يفيد الحصر، لكن المقصود أن هؤلاء الثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، وقد يكون هناك من يضاف إلى هؤلاء الثلاثة ويشاركهم؛ فقد ورد في النصوص الأخرى أن بعض الناس يؤتى أجره مرتين؛ ومن ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحَديد: 28].

المتن:

عِظَةِ الإِْمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ

 98 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ  ﷺ أَوْ قَالَ عَطَاءٌ: أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ خَرَجَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ وَبِلاَلٌ يَأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَطَاءٍ وَقَالَ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ  ﷺ.

الشرح:

 98 موعظة النبي  ﷺ للنساء في حديث الباب كانت في يوم عيد؛ فالنبي  ﷺ لما صلى العيد خطب فظن أنه لم يسمع النساء؛ فجاء إليهن ووعظهن موعظة خاصة؛ فيؤخذ منه أنه ينبغي للإمام أن يعلم النساء ويخصهن بالموعظة كما يعلم الرجال.

وهذا فيه: دليل على أن الإمام إذا خطب يوم العيد فإنه يوجه للنساء موعظة خاصة إذا لم يسمعن، فإذا سمعن كما هو الحال الآن مع مكبرات الصوت فلا حاجة إلى أن يخصهن بموعظة، فإن خصص لهن موعظة اقتداء بالنبي  ﷺ فله وجه، لكن النبي  ﷺ فعل ذلك؛ لأنه ظن أنه لم يُسمِع النساء؛ ولهذا قال ابن عباس: «فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ» ، فجاء إليهن ومعه بلال، ووعظهن، وذكرهن، وأمرهن بالصدقة؛ فاستجبن له، وأثرت فيهن هذه الموعظة؛ فجعلت المرأة منهن تتصدق بما عليها من الحلي، فجعلت تلقي القرط والخاتم في ثوب بلال.

والقرط ما تضعه المرأة في أذنها من الذهب، والخاتم ما تضعه في أصبعها.

وفي لفظ آخر: أن النبي  ﷺ أمرهن، وقال: تَصَدَّقْنَ فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ؛ فقالت امرأة: ولم يا رسول الله؟ قال: لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ [(323)]؛ والعشير هو الزوج.

وفيه: دليل على أن المرأة لها أن تتصدق، وأن تتصرف في مالها إذا كانت رشيدة، ولو لم تستأذن وليها؛ فإن هؤلاء النسوة تصدقن ولم ينكر عليهن النبي  ﷺ، ولم يقل لهن: استأذن أزواجكن؛ ويدل على ذلك ما رواه مسلم في «صحيحه»، من أن ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها أعتقت وليدة لها فقالت: يا رسول الله، أشعرت أني أعتقت وليدتي فلانة؟ فقال: أَما إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيتِهَا أَخوالَكِ كَانَ أَعظَمَ لأجرِكِ [(324)]، فقد أخبرت النبي  ﷺ أنها أعتقت وليدتها ـ وهي لم تستأذنه ـ فلم ينكر عليها، بل بين لها أنها لو أعطتها أخوالها لكان أفضل، وهذا فيه: دليل على أن صلة الرحم أفضل من العتق.

وأما حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: ليس لامرأة عطيَّةٌ إلَّا بإذنِ زَوجِها [(325)] فهو حديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، أو أنه محمول على أنها ليس لها عطية في مال زوجها إلا بإذنه؛ أما إذا كانت رشيدة فلها أن تتصرف في مالها ولو لم يأذن زوجها؛ لهذه الأحاديث الصحيحة.

والشاهد من الحديث في كتاب العلم: أن الإمام وهو رسول الله  ﷺ وعظ النساء وخصهن بالموعظة في يوم العيد، فلا بأس أن يخص الإمام النساء بالموعظة.

المتن:

باب الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ

 99 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لاَ يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ.

الشرح:

 99 حديث الباب فيه: دليل على فضل أبي هريرة ، وحرصه على الحديث؛ ولهذا لما سأل النبي  ﷺ هذا السؤال، قال له النبي  ﷺ: لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لاَ يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ؛ فينبغي للمسلم أن يحرص على الحديث؛ لأن الحديث هو سنة الرسول  ﷺ، وهو الوحي الثاني؛ والسنة هي التي تفسر القرآن وتوضحه، وتقيد المطلق منه، وتخصص العام، وتأتي بالأحكام الجديدة؛ كتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، فهذه أحكام جاءت في السنة، ولم تأت في القرآن؛ فالسنة وحي ثان، وقال الله تعالى عن نبيه  ﷺ: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النّجْم: 3-4].

ومن حرص أبي هريرة على العلم وعلى الحديث وعلى الخير سأل النبي  ﷺ عن هذا السؤال العظيم: أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قال: مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ، وهذا شك من الراوي؛ هل قال: من قلبه، أو من نفسه؟

وفيه: دليل على أن أسعد الناس بالشفاعة يوم القيامة هم الموحدون؛ لأن الشفاعة إنما تكون للموحدين، أما الكفار والمشركون فلا نصيب لهم في الشفاعة يوم القيامة؛ قال الله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدَّثِّر: 48]، وقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ [البَقَرَة: 254]، وقال: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ [غَافر: 18].

أما الشفاعة العظمى فهذه عامة في موقف القيامة لأهل الموقف مؤمنهم وكافرهم، يشفع فيهم نبينا  ﷺ حتى يقضى بين العباد، ثم بعد ذلك عصاة الموحدين الذين استحقوا دخول النار، فمنهم من يعفو الله عنه، ومنهم من يشفع فيه قبل أن يدخل النار، ومنهم من يدخل النار ثم يشفع فيه، فالشفاعة تكون للموحدين العصاة، أما من مات على الشرك والكفر فهو آيس من رحمة الله، ولا نصيب له في الشفاعة، فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النِّسَاء: 48].

فالشفاعة إنما هي لمن مات على التوحيد والإيمان والإخلاص، ولم يقع في عمله شرك، ولو مات على كبائر لم يتب منها، كأن يموت على الزنا، أو على السرقة، أو على عقوق الوالدين، أو على التعامل بالربا، أو على أكل مال اليتيم، أو على العدوان على الناس في دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم، أو على الغيبة والنميمة، فهؤلاء عصاة لكن ما ماتوا على الشرك، فمنهم من يعفو الله عنه، ومنهم من لا يُعفى عنه، وهم على خطر من عذاب القبر، وعلى خطر من الأهوال والشدائد التي تصيبهم في يوم القيامة، وعلى خطر من دخول النار.

وقد تواترت الأخبار عن رسول الله  ﷺ أنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر مصلون موحدون، فلا تأكل النار وجوههم، فهم ليسوا مشركين، بل موحدون ولكنهم ماتوا على كبائر ومعاصٍ أصروا عليها ولم يتوبوا منها، فيدخلون النار ويعذبون على حسب جرائمهم ومعاصيهم؛ ومنهم من يطول مكثه على حسب الأعمال؛ فقد أخبر الله تعالى أن بعض العصاة يخلد كالقاتل، لكنه تخليد بمعنى المكث الطويل، فهو خلود مؤقت له نهاية، وليس كخلود الكفار، قال الله تعالى في القاتل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النِّسَاء: 93]، فهذا خلود مؤقت، أما الكافر فخلوده مؤبد لا نهاية له.

وقد ثبت أن النبي  ﷺ يشفع فيهم أربع مرات، في كل مرة يحد الله له حدًّا فيخرجهم من النار، ويشفع كذلك بقية الأنبياء والملائكة والشهداء وسائر المؤمنين، وتبقى بقية في النار من العصاة لا تنالهم الشفاعة، فيخرجهم رب العالمين برحمته، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة: فَيَقُولُ ربُّ العالمين: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ [(326)] يعني: زيادة على التوحيد والإيمان.

فثبت أن العصاة يخرجون من النار ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، قَدْ امْتَحَشُوا وصاروا فحمًا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الحَيَاةِ، ويصب عليهم منه، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ [(327)] يعني: البذرة، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فإذا تكامل الموحدون وتكامل خروجهم من النار ولم يبق في النار أحد من العصاة أطبقت النار على الكفرة بجميع أصنافهم؛ اليهود والنصارى والشيوعيين والوثنيين والمرتدين والمنافقين، كلهم تطبق عليهم النار، والمنافقون في الدرك الأسفل منها؛ قال الله تعالى: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ [الهُمَزة: 8]، يعني: مطبقة مغلقة، وقال سبحانه: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المَائدة: 37]، وقال سبحانه: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البَقَرَة: 167]، وقال سبحانه: لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النّبَإِ: 23]، وقال سبحانه: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا[الإسرَاء: 97]، فمن مات على الكفر والشرك الأكبر لا تناله الرحمة يوم القيامة؛ فقد قال الله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعرَاف: 156]، والمشرك ليس من المتقين؛ فلا تناله الرحمة.

ولهذا لما سأل أبو هريرة النبي  ﷺ فقال: أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قال: مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، وفيه: أنه لابد من النطق بالشهادة؛ لقوله: مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، ولابد من الإخلاص؛ لقوله: خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ، ففيه: اشتراط الإخلاص، فمن قال: لا إله إلا الله لكن أشرك في العبادة لا تناله الشفاعة؛ لأن النبي  ﷺ اشترط الإخلاص، والإخلاص ينافي الشرك، فإذا قال: لا إله إلا الله، ثم دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو طاف بغير بيت الله، أو فعل ناقضًا من نواقض الإسلام؛ كأن لم يُكفِّر المشركين أو اليهود أو النصارى أو الوثنيين، أو قال: إنهم على حق؛ فهذه ردة عن الإسلام وشرك، وكذلك لو شك في الله، أو في الكتب، أو في الرسل، أو في اليوم الآخر، أو في البعث، أو في الجنة، أو في النار، أو سب الله، أو سب الرسول، أو سب دين الإسلام، أو استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله، انتقضت عليه هذه الكلمة؛ لأنه لم يقلها عن إخلاص؛ ولهذا اشترط النبي  ﷺ الإخلاص فقال: مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ، والإخلاص معناه: أن يكون التوحيد خالصًا لله؛ فلا يقع في عمل العبد شرك.

وفي هذا الحديث: دليل على أنه ليس المراد من كلمة التوحيد التلفظ فقط، بل التلفظ ومعرفة المعنى، والاعتقاد والالتزام بمدلولها وبمقتضاها، وبهذا يتبين ضلال كثير من الناس الذين يظنون أنه يكفي مجرد النطق بكلمة التوحيد أو بالشهادتين ولو كان يعمل الشرك؛ وهذا ضلال؛ لأن الرسول  ﷺ اشترط الإخلاص، كما في الحديث الآخر: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللهِ، حَرُمَ مَالُهُ، وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ [(328)]، فلابد من الكفر بما يعبد من دون الله، ولابد من العمل بمقتضى هذه الكلمة، وألا يقع في عمل العبد شرك، وقد جاء في الحديث الآخر: من قال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ [(329)]، وفي لفظ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ غَيْرَ شَاكٍّ ، لم يُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ [(330)].

فلابد أن يقول كلمة التوحيد عن يقين مناف للشك والريب، وعن إخلاص مناف للشرك، وعن صدق مانع من النفاق، وإلا فلا تنفع، والأحاديث والنصوص تُضَم بعضها إلى بعض؛ فهذا الحديث فيه اشتراط الإخلاص، والحديث الثاني فيه اشتراط اليقين، وعدم الشك والريب، والثالث فيه دليل على أنه لابد من النطق بها مع الإخلاص، ولا بد من العلم بمعناها، وأنها مشتملة على النفي والإثبات.

قوله: أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يدل على أن الشفاعة لا تكون إلا للموحدين، ولكن هناك شفاعة خاصة لأبي طالب، وهي شفاعة تخفيف من العذاب لا إخراج من النار؛ فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي  ﷺ سئل فقيل له: إن أبا طالب يحوطك ويحميك فهل نفعته؟ قال: نَعَمْ، وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنَ النَّارِ، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ، منها يغلي دماغه [(331)]، وفي لفظ: أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ [(332)]، فهذه شفاعة تخفيف؛ فإنه لما خف كفره بحمايته النبي  ﷺ وذوده عنه شفع له النبي  ﷺ شفاعة خاصة تخفف عنه العذاب ولكن لا تخرجه من النار، أما أبو لهب فكان يؤذي النبي  ﷺ.

وأما صاحب البدعة، إذا كانت بدعته توصل إلى الكفر، فهو من الكفار، وإن كانت لا توصل إلى الكفر فحكمه حكم العصاة وأهل الكبائر، ولا يخرج عن دائرة الإسلام؛ فالبدعة حكمها حكم الكبيرة وإن كانت أشد، فالكبيرة نوعان: كبيرة بدعية وكبيرة عملية؛ فالكبيرة العملية تكون في العمل، مثل: الزنا، والسرقة، وشرب الخمر؛ والكبيرة البدعية تكون في الاعتقاد، أو في القول، مثل: البدعة في عقيدة الخوارج، وعقيدة المعتزلة، وعقيدة المرجئة، وعقيدة الشيعة، وعقيدة القدرية؛ لأن هذه البدع بعضها يوصل إلى الكفر وبعضها لا يوصل، وظاهر كلام كثير من العلماء ـ كما هو ظاهر الحديث ـ أن هذه الفرق متوعدة بالنار، وأنهم عصاة وليسوا كفارًا؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الجهمية كفار وليسوا من الثنتين والسبعين فرقة، يعني خارجون عنها؛ فدل على أن الثنتين والسبعين فرقة هي من فرق هذه الأمة، وهم عصاة مبتدعون متوعدون بالنار، ولكن ليسوا كفارًا؛ فقد قال  ﷺ: تفترق هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة [(333)]، يعني هم متوعدون بالنار، وقال بعض العلماء: إنهم يدخل فيهم الكفار، ولكن ظاهر الحديث أن هؤلاء الفرق ليسوا كفارًا، لكن الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة، وهم الطائفة المنصورة، وما عداهم متوعدون بالنار.

والخوارج، من العلماء من كفَّرهم[(334)]، ومن العلماء من بدعهم؛ لأنهم متأولون، والجمهور على أن الخوارج مبتدعة عصاة[(335)]، ولما سئل عنهم علي : هل هم كفار؟ قال: من الكفر فروا.

والقول الثاني: أنهم كفار، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، واستدلوا بالأحاديث الكثيرة التي ظاهرها أنهم كفار؛ كقوله  ﷺ: يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ [(336)]، وفي لفظ: يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ فِيهِ [(337)]، وفي لفظ أن النبي  ﷺ قال: لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ [(338)]، فشبههم  ﷺ بعاد، وهم قوم كفار؛ فهذه الأحاديث ظاهرة في كفرهم، لكن الجمهور على أنهم مبتدعة؛ لأنهم متأولون، ومثلهم المعتزلة كذلك.

المتن:

باب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ

وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ فَاكْتُبْهُ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ وَلاَ تَقْبَلْ إِلاَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ  ﷺ وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ فَإِنَّ الْعِلْمَ لاَ يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا.

حَدَّثَنَا الْعَلاَءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ دِينَارٍ بِذَلِكَ يَعْنِي حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى قَوْلِهِ ذَهَابَ الْعُلَمَاءِ.

الشرح:

في هذا الحديث: بيان نصح الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ فقد كتب إلى أبي بكر بن حزم: «انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ فَاكْتُبْهُ» وهذا من نصحه ، وقد أمر بكتابة العلم خوفًا من اندراسه وضياعه؛ لأنه قال: «فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ»، فإذا ذهب العلماء اندرس العلم.

قوله: «وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ» فيه أيضًا: حث للعلماء أن يعقدوا مجالس للعلم ويعلموا الناس، ويبلغوا عن الله وعن رسوله  ﷺ؛ حتى يفشو العلم وينتشر، ويبلغ العالم ما أخذ عليه من الميثاق ببيان العلم وعدم كتمانه.

قوله: «فَإِنَّ الْعِلْمَ لاَ يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا» فإذا كان سرًّا ضاع العلم، ولا يكون سرًّا إلا إذا كان بين العالم وبين نفسه، لكن إذا أفشاه وعقد المجالس وعلَّم وسُئل وأفتى انتشر العلم وتعلم من لا يعلم، واستفاد الناس، وبلغ العالم ما علمه الله وخرج من العهدة.

المتن:

100 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ:حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.

قَالَ الْفِرَبْرِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ هِشَامٍ نَحْوَهُ.

الشرح:

 100 في هذا الحديث: بشرى من النبي  ﷺ بأن العلم لا يقبض انتزاعًا من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء.

وفيه: الحث على أخذ العلم من العلماء قبل وفاتهم؛ لأن العلم إنما يقبض بقبض العلماء، وهذا هو الغالب، وإن كان قد يفوت العالم شيئ من العلم لسبب ما، لكنه لا يقبض من صدور الرجال، وإنما يقبض بموت العلماء، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، وفي لفظ: فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ [(339)]؛ وذلك لأن الناس لا بد لهم من رؤساء يرجعون إليهم في الأحكام وفي الفتيا، فإذا قبض العلماء العارفون بالله واحدًا بعد واحد ولم يبق عالم، وأراد الناس أن يتخذوا رءوسًا، فلا يجدون عالمًا، فيتخذون رءوسًا جهالاً، فإذا كان هؤلاء الرءوس جهالا وتصدروا للناس فلا بد أن يُسألوا، وإذا سُئلوا فلا بد أن يُفتوا، وإذا أفتوا بالجهل أفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا.

فالحديث فيه: الحث على تعلم العلم، وأخذ العلم من أفواه العلماء قبل وفاتهم؛ فإن العلم إنما يقبض بقبض العلماء، ولا يقبضه الله انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال.

وفيه: التحذير من أن يفتي المسلم أو يتكلم بما لا يعلم؛ لأنه إذا تكلم بغير علم ضل بنفسه وأضل غيره، فكان عليه إثمه وإثم غيره ممن أفتاهم بغير علم.

المتن:

باب هَلْ يُجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ فِي الْعِلْمِ

 101 حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ الأَْصْبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَتْ النِّسَاءُ: لِلنَّبِيِّ ﷺ غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ؛ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ فَقَالَ: وَاثْنَتَيْنِ.

الشرح:

 101 في الحديث: دليل على أنه لا بأس أن يجعل العالم للنساء يومًا على حدة يأتي فيه إليهن ويحدثهن ويعظهن ويرشدهن كما فعل النبي  ﷺ.

وفيه: فضل الصحابيات رضي الله عنهن وأرضاهن، وحرصهن على العلم؛ فإنهن قلن للنبي  ﷺ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، وفي لفظ: «ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يومًا» [(340)] فجعل لهن النبي  ﷺ يومًا واعدهن فيه، فجاء إليهن في هذا اليوم المحدد، فوعظهن وأمرهن  ﷺ، وكان فيما قال  ﷺ لهن: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ فَقَالَ: وَاثْنَتَيْنِ، وفي هذا بشرى لمن مات له ثلاثة من الولد، أو اثنان، وأن هذا من أسباب دخول الجنة، ومن أسباب السلامة والنجاة من النار.

وجاء في الرواية الأخرى تقييد بأن هؤلاء الأولاد لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ؛ أي لم يبلغوا، فإذا مات للإنسان اثنان أو ثلاثة لم يبلغوا الحنث فهذا من أسباب دخوله الجنة، ونجاته من النار، وهذا مقيد بالنصوص الأخرى التي اشترطت الإيمان بالله ورسوله لدخول الجنة، ومقيد أيضًا باجتناب الكبائر؛ لقول الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النِّسَاء: 31]، وقال  ﷺ: الْصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعُةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانِ إِلَى رَمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ [(341)].

وهذا الفضل والثواب الذي جاء في الحديث ليس خاصًّا بالمرأة، بل أيضًا للرجل، فالمرأة أو الرجل إذا مات له اثنان لم يبلغوا الحنث كان ذلك من أسباب السلامة من النار، ودخول الجنة، مع الشروط الأخرى التي جاءت في النصوص من الإيمان بالله ورسوله  ﷺ، فإذا كان كافرًا فلا يدخل في هذا الوعد؛ لأن الكافر لا يدخل الجنة، فلا بد أن يكون مؤمنًا بالله ورسوله  ﷺ، ولا بد أن يكون ملتزمًا بأداء الفرائض والانتهاء عن المحارم، فإن كان يزني، أو يسرق، أو يشرب الخمر، أو يتعامل بالربا، أو يغتاب الناس وينم عليهم فهذا متوعد بالوعيد الشديد، ومتوعد بالنار، فلا بد أن يجتنب الكبائر، فإذا اجتنب الكبائر وأدى الفرائض، ثم قدم اثنين من ولده لم يبلغا الحنث فهذا يرجى له هذا الوعد الكريم، وفي لفظ أن النبي  ﷺ قال هذا وهو يخاطب الرجال، وخطابه  ﷺ لهم خطاب للأمة كلها، وأنه قال: من قدم ثلاثة من الولد كانوا له حصنًا من النار، قالوا: واثنين يا رسول الله؟ قال: وَاثْنَيْنِ،، قالوا: ثم لم نسأله عن الواحد.

لكن جاء أيضًا ما يدل على أن من مات له صفي واحد من ولده فاحتسبه ـ أنه موعود بالجنة، فقد جاء في الحديث: مَا لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ، إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إِلَّا الجَنَّةُ [(342)] وهذا فيه: أنه إذا مات له صفي، يعني محب؛ كأن يموت له ابن أو أخ أو والد، أو زوجة يموت لها زوج صفي محب لها، أو زوج كذلك، ثم احتسبه فله هذا الأجر العظيم، فهذه بشرى أيضًا لمن مات له صفي، ويفيد ثواب احتساب موت الواحد.

المتن:

102 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الأَْصْبَهَانِيِّ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ بِهَذَا.

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَْصْبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ثَلاَثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ.

الشرح:

 102 في هذا الحديث: التقييد بأنهم ثَلاَثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ؛ فهذا يقيد به الحديث السابق، والْحِنْثَ معناه الإثم؛ أي أنهم لم يبلغوا السن الذي يكتب عليهم فيه الإثم، والسن الذي يكتب عليهم فيه الإثم هو البلوغ.

والبلوغ يحصل بواحدة من العلامات التي جاءت النصوص بها وهي:

العلامة الأولى: الاحتلام وإنزال المني في اليقظة أو في النوم، للذكر أو الأنثى؛ فبهذا يعتبر بالغًا ويكون مكلفًا، فإذا مات فله الجنة أو النار، ولو كان ابن إحدى عشرة سنة أو ابن عشر سنوات.

العلامة الثانية: إنبات الشعر الخشن حول الفرج، للذكر أو الأنثى؛ فبه يعتبر بالغًا، ولو لم يبلغ خمس عشرة سنة، كما في قصة بني قريظة أن النبي  ﷺ حكَّم فيهم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بأن تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية والنساء، فكان من شك فيه من الذراري هل هو بالغ أم غير بالغ؟ يكشف عن مؤتزره، فإذا وجد أنه أنبت شعرًا خشنًا حول فرجه عُدّ من الرجال فيقتل، وإذا لم ينبت عُدّ من الذرية فيترك، وكان عطية القرظي ممن لم ينبت فترك[(343)].

العلامة الثالثة: بلوغ خمس عشرة سنة إذا لم توجد واحدة من العلامتين السابقتين؛ فمن بلغ خمس عشرة سنة فإنه يعتبر بالغًا مكلفًا؛ لأن النبي  ﷺ أجاز بعض صغار الصحابة لما بلغ خمس عشرة سنة، ولم يجزه قبل ذلك[(344)].

العلامة الرابعة: خاصة بالأنثى وهي خروج دم الحيض، فالبنت إذا حاضت تعتبر بالغًا ولو كانت بنت تسع سنين، وإن كان هذا قليل الحدوث؛ ولهذا يقول العلماء: لا حيض قبل تسع سنين؛ فقد تحيض الأنثى ولها تسع سنوات، فإذا حاضت وخرج منها الدم فهذا من علامات البلوغ الخاصة بها.

ومما سبق يتضح أن علامات البلوغ أربع بالنسبة للأنثى، وثلاث بالنسبة للذكر.

وأما الحمل فهو من علامات البلوغ من باب أولى؛ لأن الحمل يسبقه الإنزال قبل ذلك، والولد يخلق من ماء الرجل وماء المرأة؛ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطّارق: 7] فخروج المني سابق على الحمل.

وقوله: لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، لا منافاة بينه وبين حديث: «مَا لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ، إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إِلَّا الجَنَّةُ [(345)]؛ لأن هذا الحديث عام للصفي سواء كان من الأبناء أم لا؛ لأن الصفي يعني المحب؛ فهذا ليس مقيدًا ببلوغ الحنث.

المتن:

باب مَنْ سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَفْهَمْهُ فَرَاجَعَ فِيهِ حَتَّى يَعْرِفَهُ

 103 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ وَأَنَّ النَّبِيَّ  ﷺ قَالَ: مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا قَالَتْ: فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ.

الشرح:

 103 في هذا الحديث: بيان لفضل عائشة رضي الله عنها وفقهها، وأنها لا تسمع شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه؛ ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها أفقه النساء؛ لأنها حريصة على العلم، فقد سمعت وحفظت من النبي  ﷺ علمًا كثيرًا، وبعد وفاة النبي  ﷺ كانت تسأل الصحابة أيضًا؛ ولهذا صارت مرجعًا في العلم للنساء وللرجال.

ومن ذلك أن النبي  ﷺ لما قال: مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّبَ [(346)] استشكلت عائشة رضي الله عنها ذلك؛ فقد قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ۝ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 7-8] أي: أن المؤمن يحاسب حسابًا يسيرًا يوم القيامة، والنبي ﷺ يقول: مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّبَ، فأشكل عليها الجمع بين الآية والحديث؛ فبين لها النبي  ﷺ أنه لا تعارض بينهما، وأن المراد بالحساب في الآية: العرض، لكن الذي يعذب إنما هو الذي يناقش الحساب، فمن حوسب بمعنى: أنه تعرض عليه ذنوبه ولا يناقش لا يهلك، لكن من عرضت عليه ذنوبه ونوقش هلك، فالآية ليس فيها النقاش، والحديث فيه النقاش.

وفي الحديث: دليل على أن الصحابة كانوا يسألون الرسول  ﷺ عن الأشياء التي كانت تشكل عليهم كعائشة رضي الله عنها، وأنه ليس من المنهي عنه أن يسأل المسلم عما أشكل عليه؛ حتى يستفيد، وإنما المنهي عنه الأسئلة التي فيها تعنت وتنطع، أو الأسئلة التي فيها إحراج للمسئول وإيقاعه في الغلط، أو الأسئلة عن الأشياء التي لم تقع، أو الأسئلة التي يقصد منها صاحبها الرياء، أو التي تكون سببًا في نزول ما يكون فيه حرج على المؤمنين، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [المَائدة: 101]، فهذه هي الأسئلة المنهي عنها، أما السؤال للاسترشاد والاستفادة فلا بأس به بل هو مأمور به.

المتن:

باب لِيُبَلِّغْ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ.

 104 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَْمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلاَ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْأَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَْمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَقِيلَ لأَِبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمْرٌو:؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، لاَ يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلاَ فَارًّا بِدَمٍ، وَلاَ فَارًّا بِخَرْبَةٍ.

الشرح:

 104 هذا الحديث فيه: أنه ينبغي للحاضر أن يبلغ الغائب، فالذي يحضر مجالس الذكر ومجالس العلم عليه أن يبلغ ما استفاده هو من العلم إلى من لم يحضر من أهله وأولاده وجيرانه وأقاربه.

وفي هذه القصة أن أبا شريح الصحابي الجليل خاطب عمرو بن سعيد، وكان أميراً على المدينة من قبل يزيد بن معاوية، وكان يقاتل عبدالله بن الزبير في مكة، وكان ابن الزبير قد بايعه أهل الحجاز على مكة والمدينة والطائف لما مات معاوية أو بعد ذلك، فلما تولى يزيد بن معاوية ـ وكان أميره على المدينة عمرو بن سعيد ـ عهد إليه أن يقاتل عبدالله بن الزبير، فكان يبعث البعوث ويجهز الجيوش إلى مكة لقتال عبدالله بن الزبير، فقام أبو شريح يبلغ عمرو بن سعيد، ويخاطبه خطاباً فيه أدب، فقال له: «ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَْمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً» ، وهذا الاستئذان من باب حسن الأدب، ومن التلطف في خطاب الأ مراء.

وهذا الحديث فيه:

 1- أن أبا شريح بلغ ما عنده من العلم.

 2- نصح عمرو بن سعيد أمير المدينة، وبين له أنه لا يجوز القتال في الحرم.

 3- خاطب الأمير بخطاب فيه لطف.

 4- استأذنه في أن يحدثه حديثا سمعه بأذنه ووعاه بقلبه، ورأى النبي  ﷺ حين كان يحدث بهذا الحديث؛ فقال: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، وفي اللفظ الآخر: إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ [(347)]، وفي الحديث الآخر: وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ [(348)] فالله تعالى قد حرم القتال في الحرم، وحرم قطع شجره، كما في الحديث هنا: فَلاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلاَ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، وكذلك لا يحل لأحد أن يصيد فيها صيدا؛ فالحديث له روايات، لكن الحديث هنا فيه اقتصار على تحريم سفك الدم، وتحريم قطع الشجر.

ثم قال  ﷺ: فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْأَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وفي اللفظ الآخر: فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ أي: أن مكة حرام لا يجوز أن يسفك فيها دم، ولكن أحلت للنبي  ﷺ ساعة من نهار، يعني جزءًا من الزمن، وهو يوم الفتح من طلوع الشمس أو ارتفاعها إلى آخر النهار، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَْمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فكأن المعنى أن أبا شريح يقول لعمرو بن سعيد: إني بلغتك.

«فَقِيلَ لأَِبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمْرٌو:؟» أي: ماذا قال لك؟ قال: «أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ» ، يعني: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح؛ فإن الحرم «لاَ يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلاَ فَارًّا بِدَمٍ، وَلاَ فَارًّا بِخَرْبَةٍ» أو: بخُربة، فكان رد عمرو بن سعيد على الصحابي الجليل ردًّا قبيحا؛ لأنه كان من الواجب عليه أن يقول: سمعًا وطاعةً لله ولرسوله  ﷺ، ولكنه رد عليه قائلاً: أنا أعلم بهذا الحديث منك يا أبا شريح، فالعاصي لا يمنعه الحرم، وكذلك الذي عليه دم ويفر إلى الحرم يقام عليه القصاص ولا يمنعه الحرم، والفار بخَربة ـ يعني بسرقة ـ أو بخُربة ـ يعني بجناية ـ لا يمنعه الحرم كذلك من أن يقام عليه حد السرقة أو الجناية، وهذا تشدق من عمرو بن سعيد؛ لأن عبدالله بن الزبير لم يرتكب شيئا من هذه المعاصي والجرائم؛ فليس له أن يقاتله، وليس له أن يبعث البعوث لمحاربته، ولكن عمرو بن سعيد رد بهذا الرد السيئ، بينما كان الواجب عليه أن يمتثل لأمر الرسول  ﷺ.

والشاهد من الحديث: قول النبي  ﷺ: وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فأخذ منه الإمام البخاري رحمه الله أنه ينبغي لمن حضر العلم وشهد واستفاد أن يبلغ الغائب الذي لم يحضر ولم يشهد.

قوله: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وكذلك المدينة، ولكن حرم المدينة أخف من حرم مكة؛ فالحرم في مكة فيه الجزاء في الصيد؛ أي: إذا صاد فعليه الجزاء؛ وكذلك قطع الشجر قال فيه بعض العلماء: إن فيه الجزاء، أما المدينة فإنه يحرم ذلك فيها أيضا، ولكنه ليس فيه الجزاء؛ فتحريم الحرم في مكة أغلظ.

المتن:

105 حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ذُكِرَ النَّبِيُّ  ﷺ قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلاَ لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ. وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ كَانَ ذَلِكَ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ مَرَّتَيْنِ.

الشرح:

 105 وفي الحديث محمد هو: ابن سيرين، وهذا الذي حسبه ابن سيرين قد جاء في الأحاديث الأخرى؛ وهو قوله  ﷺ: كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ [(349)]، وكذلك أيضا جاء في هذا الحديث: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، وهذا في خطبة النبي  ﷺ إلى الناس في حجة الوداع بعرفة، ثم قال: أَلاَ لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ، ثم قال: أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ، وفي رواية أنهم أجابوه بقولهم: نعم، فقال: اللَّهُمَّ اشْهَدْ [(350)].

والشاهد من الحديث: هو الأمر بالتبليغ، وأنه ينبغي للشاهد أن يبلغ العلم الذي فهمه وحفظه لمن لم يحضر.

المتن:

باب إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ  ﷺ

 106 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ قَالَ: سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ  ﷺ: لاَ تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجْ النَّارَ

الشرح:

 106هذا الحديث فيه: وعيد شديد لمن يكذب على النبي  ﷺ؛ مما يدل على أنه من الكبائر، فمن كذب على النبي  ﷺ فإنه متوعَّد بالنار؛ ولهذا قال النبي  ﷺ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجْ النَّارَ؛ وفي اللفظ الآخر: فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وفي الحديث الآخر: إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ [(351)]، ففيه: التقييد بالتعمد؛ فمن كذب متعمداً أصابه هذا الوعيد الشديد، ويكون مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب.

وقوله: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ، ليس له مفهوم في الاستثناء؛ فإنه لا يتصور أن يكذب له كما اغتر به قوم من الجهلة، وبعض الزهاد من الذين وضعوا بعض الأحاديث في الرقائق والزهد؛ فقالوا: إننا لم نكذب عليه، وإنما كذبنا له ولتأييد الشريعة!! وقد جاء هذا عن بعض الزهاد مثل نوح بن أبي مريم، الذي وضع أحاديث في فضائل سور القرآن؛ فوضع حديثا مطولاً بعد كل سورة: من قرأ سورة البقرة فله كذا وكذا من الأجر، ومن قرأ سورة آل عمران فله كذا وكذا، فلما قيل له: هل بلغتك هذه الأحاديث عن رسول الله  ﷺ؟ قال: لا، وإنما رأيت الناس قد انصرفوا عن القرآن إلى فقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق، فأردنا أن نصرفهم إلى القرآن. وقال بعضهم لما قيل له في ذلك، قال: هذه وضعناها؛ لنرقق بها قلوب العامة!! وهذا من أبطل الباطل؛ فالكذب كله حرام، وليس هناك كذب له وكذب عليه، بل كله كذب عليه؛ فقوله: كَذَبَ عَلَيَّ ليس له مفهوم في الاستثناء، وهذا يفيد الوعيد الشديد على من كذب على النبي  ﷺ، ويدل على أنه من الكبائر، وقال بعض العلماء: إنه يكفر[(352)]؛ لأن كذبًا على النبي  ﷺ ليس ككذب على غيره؛ لأنه بسببه يمكن أن يزيد في الشريعة ما ليس منها، أو ينقص منها ما هو ثابت فيها، ولكن الذي عليه جمهور العلماء أنه مرتكب لكبيرة[(353)]، إلا إذا استحل الكذب؛ لأن تحريمه معلوم من الدين بالضرورة، ومن استحل أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة كفر.

ومناسبة هذا الباب لكتاب العلم أن الكذب على النبي  ﷺ مناف ومناقض لإبلاغ العلم؛ فالعلم هو تبليغ وبيان ما جاء عن الله وعن رسوله  ﷺ.

والكذب كبيرة من كبائر الذنوب على رأي جمهور العلماء، إلا إذا استحل الكذب؛ فإذا استحله معتقدًا أنه حلال، فهذا كما لو استحل الزنا، أو الخمر، أو الربا، أو استهان بما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ فهذا يكفر باستحلاله؛ نعوذ بالله من ذلك.

ولكن الغالب فيمن يضع الحديث أنه يكون متأولا مثل بعض الزهاد الذين يقولون: وضعناها لنرقق بها قلوب العامة، وهذا لا يكفر من باب أن التأويل شبهة له.

المتن:

107 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: إِنِّي لاَ أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ كَمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ.

الشرح:

107 هذا الحديث فيه: التوقي والحذر من الكذب على النبي  ﷺ؛ فقد أخبر الزبير أنه لا يكثر الحديث عن رسول الله  ﷺ؛ خشية أن يقع في شيء لم يتأكد منه؛ فينبغي للمسلم أن يحذر من الكذب على النبي  ﷺ؛ فيتثبت مما يروي؛ ولا يقول إلا ما ثبت عن النبي  ﷺ.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد