شعار الموقع

شرح كتاب العلم من صحيح البخاري (3-6) باب السُّؤَالِ وَالْفُتْيَا عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ - إلى نهاية كتاب العلم

00:00
00:00
تحميل
86

المتن:

باب السُّؤَالِ وَالْفُتْيَا عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ

 124 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ  ﷺ عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَهُوَ يُسْأَلُ فَقَالَ: رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ، قَالَ آخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟ قَالَ: انْحَرْ وَلاَ حَرَجَ، فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ.

الشرح:

 124 استدل المؤلف رحمه الله بهذا الحديث على أنه لا بأس بسؤال العالم ولو كان مشتغلاً بشيء من مناسك الحج إذا لم يشغله عن أداء النسك، فإذا سأله وهو عند طريق الجمرة، أو وهو يرمي، ويكون السؤال خفيفا، فلا حرج، وإن كان في هذا تضييق على الرامين، لكنه إن كان شيئًا يسيرًا قد تدعو الحاجة إليه فلا بأس؛ ولهذا سأل رجل النبي  ﷺ حينما رمى جمرة العقبة، فقال: «نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟» يعني: قدمت الذبح على الرمي، قال: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ، وسأله آخر، فقال: «حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟ قَالَ: انْحَرْ وَلاَ حَرَجَ فما سئل عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ وهذا فيه: دليل على أن أعمال يوم العيد لا بأس بتقديم بعضها على بعض، ولكن الأفضل كونها مرتبة؛ فيبدأ أولاً برمي جمرة العقبة، ثم يذبح الهدي إذا كان متمتعًا، أو قارنًا، ثم يحلق رأسه، ثم يطوف ويسعى؛ فهذا هو الأفضل، لكنه إذا قدم بعضها على بعض فلا حرج.

والشاهد من هذا الحديث: هو أنه لا بأس في السؤال والفتيا عند شيء من أعمال الحج.

المتن:

باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً.

 125 حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ  ﷺ فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ تَسْأَلُوهُ لاَ يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقُمْتُ فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ قَالَ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.

قَالَ الأَْعْمَشُ: هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا.

الشرح:

 125 قوله: وَمَا أُوتِيْتُمْ، وعبدالله هو ابن مسعود .

وفي الحديث: أن اليهود سألوا النبي  ﷺ عن الروح بقصد التعجيز، فقال بعضهم: اسألوه ـ لما مر بهم ـ وقال بعضهم: لا تسألوه حتى لا يجيئكم بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: والله لنسألنه، فسألوه عن الروح، قيل: المعنى أنهم سألوه عن الروح التي في الجسد، أو عن الروح الذي هو جبريل أو عيسى، أو الروح الذي هو القرآن؛ لأنه روح أو لأنه عظيم، فنزلت هذه الآية:  وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً.

وفي هذا الحديث: دليل على أن الناس لم يؤتوا من العلم إلا قليلا، وأن علمهم في جنب علم الله لا يساوي شيئًا.

مسألة: هل الخضر ما زال موجودًا أم مات؟

الجواب: أن الخضر قد مات، وقال بعضهم: هو موجود وحي إلى الآن، وهذا قول ضعيف؛ والصواب أنه ميت لأمرين:

الأمر الأول: أنه لو كان حياً لجاء إلى النبي  ﷺ وآمن به وصدقه؛ لأن كل نبي أخذ الله عليه الميثاق لئن بُعث محمد وهو حيٌّ ليتبعنه، وعيسى إذا نزل في آخر الزمان فإنه يحكم بشريعة نبينا محمد  ﷺ؛ فقد قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عِمرَان: 81]، فلا يمكن أن يكون نبيٌّ من الأنبياء حيًّا ولا يأتي ليبايع النبي  ﷺ ويتبعه، وهذا يطرد مع القول بأنه عبد صالح كذلك؛ فكيف يكون عبدًا صالحًا ولا يؤمن بمحمد  ﷺ، ولا يأتي ليبايعه ويتبعه.

الأمر الثاني: أننا لو فرضنا أنه حي لمات بعد مائة سنة من قول النبي  ﷺ في آخر حياته: أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا، لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ [(393)]؛ لأن معنى هذا الحديث أن مائة سنة تخرم ذلك القرن ومنهم الخضر.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قولان بخصوص الخضر في «مجموع الفتاوى»[(394)]؛ الأول: أنه حيٌّ، والثاني: أنه ميت، وصوّب الثاني فيهما؛ فكأنه رجع عن القول الأول بأنه حيٌّ إلى القول الثاني: بأنه ميت، وهو الصواب.

قوله: «فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ قَالَ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.

«قَالَ الأَْعْمَشُ: هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا» ، وكأن الضمير يعود على اليهود الذين سألوا.

المتن:

باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاِخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَقَعُوا فِي أَشَدَّ مِنْهُ

 126 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَْسْوَدِ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَتْ عَائِشَةُ تُسِرُّ إِلَيْكَ كَثِيرًا فَمَا حَدَّثَتْكَ فِي الْكَعْبَةِ قُلْتُ: قَالَتْ لِي: قَالَ النَّبِيُّ  ﷺ: يَا عَائِشَةُ، لَوْلاَ قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ.

الشرح:

 126 هذا الحديث فيه: بيان أن من العلم أن يترك الإنسان بعض الاختيار حتى لا تنكر القلوب شيئا من الحق، فيتم الوقوع في أشد من ذلك، ومن ذلك حديث عائشة لأن النبي  ﷺ قال لها: لَوْلاَ قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ. فالذي منع النبي  ﷺ من فتح باب غربي مع الباب الشرقي هو أن قريشًا تنكر قلوبهم ذلك؛ لأنهم حديثو عهد بكفر، فربما ظنوا أنه  ﷺ يريد أن يمتاز عنهم بشيء، فلما خشي ذلك تركه؛ لأنه أمر مستحب، ولما تولى عبدالله بن الزبير الخلافة وبايعه أهل الحجاز، عمل بهذا الحديث وقال: الآن ثبت الإيمان في القلوب، وليس الناس حديثي عهد بكفر، فهدم الكعبة وأدخل الحِجْر، وفتح بابًا غربيًّا، وأنزل الباب الشرقي فجعله ملصقًا بالأرض؛ فصار الناس يدخلون من باب ويخرجون من باب، وأدخل الحجر في الكعبة، وصار عبدالله بن الزبير يستلم الأركان الأربعة كلها؛ لأنها على قواعد إبراهيم.

أما الآن فلا يستلم إلا الركن اليماني وركن الحجر الأسود؛ لأنهما على قواعد إبراهيم، أما الركنان الشاميان فلا يستلمان؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم؛ لأن قريشًا أخرجت الحجر، والسبب في هذا أنهم لما بنوا الكعبة أرادوا أن يبنوها بمال حلال خالص، فقالوا: اجمعوا مالاً حلالاً تُبنى به الكعبة، لا يكون فيه درهم من ربا، أو درهم من كهانة، أو درهم من مكس، أو غيره، فجمعوا فلم يجدوا من المال الحلال ما يكفي، فلما لم يجدوا مالاً حلالاً بنوا بعض الكعبة، وأخرجوا بعضها، فأدخل عبدالله بن الزبير الحجر في الكعبة؛ لأن النبي  ﷺ قال: لولا أنهم حديثو عهد بجاهلية أو قال: بكفر لأدخلت الحجر. [(399)].

وكان عبدالله بن الزبير قد بايعه بالخلافة أهلُ الحجاز ـ أهل مكة والمدينة والطائف ـ وتولى ما يقارب من تسع سنين أو عشر سنين، فنازعه عبدالملك بن مروان في الشام، وأوكل المهمة إلى الحجاج بن يوسف، فكان يرسل بالجيوش؛ فرمى الكعبة بالمجانيق فهدمها، وقتل عبدالله بن الزبير، وصلبه على خشبة، وأخرج الحجر، وسد الباب الغربي ورفع الباب الشرقي، وجعل بناية الكعبة على ما كانت عليه في الجاهلية، فلما حج عبدالملك بن مروان قال وهو يطوف بالبيت ما معناه: يكذب عبدالله بن الزبير ويقول: إنه عنده حديث كذا وكذا، فسمعه بعض التابعين فقال له: لا تقل هكذا يا أمير المؤمنين، إني سمعت عائشة تقول: كذا وكذا، فأطرق عبدالملك بن مروان وقال: ليتنا تركناه وما أراد.

والمقصود من هذا الحديث أن النبي  ﷺ ترك بعض الاختيار مخافة أن تنكره قلوب الناس، واحتج به العلماء للقاعدة المشهورة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فهذه المفسدة ـ وهي: إنكار قلوب الناس ـ قُدِّم درؤها على جلب المصلحة ـ وهي: إدخال الحجر ـ وكذلك احتجوا به للقاعدة الأخرى: إذا وجدت مفسدتان لا يمكن درؤهما، فإننا نرتكب المفسدة الصغرى لدرء المفسدة الكبرى.

وكذلك ترك إنكار المنكر إذا كان يترتب عليه منكر أعظم، فهذه قاعدة معروفة أيضًا؛ لأن الشريعة جاءت لإزالة المفاسد أو تقليلها ما أمكن، وجلب المصالح والزيادة منها ما أمكن، فإذا كان إنكار المنكر لا يزول إلا بمنكر أشد منه فلا يفعل، ومن أمثلة هذا إنكار المنكر على ولاة الأمور بالخروج عليهم، مثل أن يكون ولي الأمر يشرب الخمر، أو يتعامل بالربا، أو يقتل بعض الناس بغير حق، أو يسجن بعضهم بغير حق، فإن أراد بعض الناس أن ينكر هذا بالخروج عليه يكون قد وقع في منكر أعظم؛ لأنه يترتب على الخروج عليه اختلال الكلمة، وسفك الدماء، واختلال الأمن بجميع أنواعه، والاضطراب والفوضى، واختلال الأحوال المعيشية من التجارة والزراعة والتعليم وغيرها، ويدخل الأعداء الذين يتربصون بهم الدوائر، وغير ذلك من المفاسد.

ومن ذلك أيضًا ما مثل به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه مر يوماً ما بقوم من التتار كانوا يشربون الخمر، فأراد بعض تلاميذه أن ينكر عليهم، فقال له شيخ الإسلام: اتركهم ولا تنكر عليهم؛ لأن هؤلاء الآن يفعلون المنكر لكنهم مشتغلون به عن منكر أعظم، فإذا أنكرت عليهم شُرْبَ الخمر تفرغوا لقتل الناس وهتك أعراضهم[(400)].

فأيهما أعظم مفسدة؛ قتل النفوس وهتك الأعراض، أم شرب الخمر؟

الجواب: القتل وهتك الأعراض أعظم، فترك إنكار المنكر وهو شرب الخمر؛ لدفع مفسدة كبرى وهي قتل الناس وهتك أعراضهم، وهذا من الفقه.

المتن:

باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا

 127 وَقَالَ عَلِيٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ بِذَلِكَ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان أنه لا بأس بالعالم أن يخص بالعلم قوما دون قوم مخافة ألا يفهموا.

 127 ذكر المصنف رحمه الله أثر علي: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟»، وساق هذا الأثر الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كتاب «التوحيد» بلفظ: «أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!» فهذا فيه: دليل على أنه لا بأس أن يخص بالعلم قوماً دون قوم؛ لأنه لو نشر هذا العلم عند غيرهم لأنكرته قلوبهم، وحصل من ذلك مفسدة؛ ومن أجل هذا قال بعضهم: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، ومن ذلك أن الإمام أحمد أنكر على بعض الناس أن يحدث ببعض الأحاديث التي يفهم منها بعض الناس الخروج على السلطان، وكذلك أيضًا الإمام مالك أنكر الحديث في بعض الصفات؛ لأن بعض الناس لا يفهمها، ومن ذلك أيضًا الحسن البصري أنكر على أنس أن يحدث الحجاج قصة العرنيين الذين قتلهم النبي ﷺ وقطع أيديهم وأرجلهم؛ لأنه اتخذه طريقًا لسفك الدماء، فإذا خُص قوم بالعلم دون قوم فلا بأس لأجل درء المفسدة.

وقوله في الترجمة: «بَاب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا» ؛ أي: كراهية ألا يفهم الذين لم يخبرهم ولم يحدثهم بهذا، وهذا داخل في القاعدة السابقة أنه يترك بعض الأخبار مخافة أن تنكره قلوب بعض الناس، فإذا كان بعض العامة لا يفهم الأمر فلا يحدث به؛ لئلا يكون سببًا في إنكاره.

المتن:

128 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ :حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ: يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ: يَا مُعَاذُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلاَثًا قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا، وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.

الشرح:

128 وحديث معاذ حديث عظيم، فيه: الرجاء لأهل التوحيد، وأن من مات مقرًّا بالشهادتين، صادقًا من قلبه، فإن الله يحرمه على النار؛ لكن الصادق من قلبه هو الذي يقولها عن إخلاص، وهو الذي لا يصر على المعاصي والسيئات، فلا يمكن أن يقع مع الصدق والإخلاص سيئات ومعاصٍ يصر عليها، فإذا ضعف الصدق، وضعف الإخلاص جاءت السيئات والمعاصي، وحينئذ يكون متوعدًا بالنار، ويكون عليه الوعيد الشديد، وهذا هو الجمع بين النصوص.

والشاهد قوله: إِذًا يَتَّكِلُوا فهذا فيه أنه خَصَّ معاذًا بهذا.

قوله: «وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا» أي: خروجا من الإثم؛ لأن معاذًا فهم أن النبي  ﷺ ما أراد بذلك المنع، وإنما أراد به وقتًا دون وقت؛ أي: أن النهي ليس للتحريم، وإنما للتنزيه في وقت دون وقت؛ ولهذا أخبر بها عند موته خشية الإثم.

وينبغي لطالب العلم إذا أخبر بذلك أن يُعلم الناس أن معنى الحديث هو أن من قالها بإخلاص وصدق فإنها تحرق الشبهات والشهوات، فتراه صادقًا مخلصًا، أما إذا ضعف الصدق، والإخلاص، جاءت السيئات والمعاصي، وحينئذ يكون متوعدًا بالنار.

قال العلماء: إنما كان يكتمها معاذ عن الذين يخشى منهم أن يتكلوا، أما الأكياس فإنهم إذا سمعوا مثل ذلك فإنهم يستبشرون ويزدادون عملاً صالحًا.

المتن:

129 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ  ﷺ قَالَ لِمُعَاذٍ: مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قَالَ: أَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: لاَ؛ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا.

الشرح:

 129 قوله في الحديث الأخير من الباب: «أَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: لاَ؛ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا فيه: أن من مات على التوحيد فإنه من أهل الجنة والكرامة.

والمقصود من مات على التوحيد الخالص، ولم يصر على معصية، فإنه يدخل الجنة من أول وهلة، وأما إن ضعف الإخلاص والصدق وجاءت المعاصي فهو على خطر من دخول النار، فقد يدخل النار وقد يعفى عنه؛ وإذا دخلها فإنه يطهر، ثم يخرج منها إلى الجنة والكرامة.

المتن:

باب الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لاَ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلاَ مُسْتَكْبِرٌ.

وَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَْنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ. 

130 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامَُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ  ﷺ: إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ؛ فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَعْنِي وَجْهَهَا وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا.

الشرح:

هذه الترجمة من كتاب العلم عقدها المؤلف رحمه الله للحياء في العلم فقال: «بَاب الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لاَ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلاَ مُسْتَكْبِرٌ» يعني: هذان الصنفان من الناس لا ينالون العلم ولا يحصلون عليه:

الصنف الأول: المستحيي الذي يمنعه الحياء من دراسة العلم وحضور حلقاته ومجالسه، وسؤال أهل العلم، فهذا يبقى في جهله حتى يموت، وهذا ليس بحياء في الحقيقة، وإنما هو ضعف، وجبن، وخور؛ لأن الحياء خلق داخلي يبعث الإنسان على فعل ما يجمله ويزينه، ويمنعه عما يشينه، ويحمله على فعل الفضائل، ويمنعه عن الرذائل، وخوارم المروءة؛ أما الذي يمنع من التحصيل، وسؤال أهل العلم، وحضور حلقات العلم، فليس حياء.

الصنف الثاني: هو المستكبر الذي يمنعه الكبر من التواضع للعلماء والجلوس مع الطلبة والسؤال وحضور الحلقات؛ لأن له مركزًا، أو لأن له جاهًا أو منصبًا، أو لأن له مالاً، أو لأن له نسبًا، فهذا أيضًا يظل جاهلاً حتى يموت؛ فمن لم يتجرع ذل طلب العلم في أول الأمر، فإنه يتجرع ذل الجهل طول حياته.

فهذان الصنفان من الناس لا ينالون العلم، وصدق مجاهد رحمه الله إذ يقول: «لاَ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلاَ مُسْتَكْبِرٌ» .

فالواجب على الإنسان أن يطلب العلم وأن يدرسه، وألا يستحيي من السؤال الذي يستفاد منه؛ فالسؤال الذي يقصد به صاحبه الاسترشاد والفهم فهذا مطلوب، وأما السؤال الذي يقصد به صاحبه التعنت، أو إظهار نفسه، أو تعجيز المسئول، فهذا ممنوع.

والأثر الثاني أثر عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَْنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ» فهذا فيه منقبة لنساء الأنصار رضي الله عنهن، وهو أنهن يسألن عما أشكل عليهن، ولا يمنعهن الحياء.

130 في حديث أم سلمة أن أم سليم جاءت إلى النبي  ﷺ فقالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ  ﷺ: إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ؛ فهذا من سؤال أهل العلم، فالرسول ﷺ هو إمام العلماء؛ لأنه أوتي العلم من ربه ؛ ولذلك سألته أم سليم رضي الله عنها، ولم تستحي، رغم أنه سؤال يستحيا منه في العادة؛ لكنها قدمت لذلك فقالت: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ»، وهذا أخذته من آية الأحزاب: وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزَاب: 53]، فأقرها النبي  ﷺ على ذلك.

وفيه: أن الله تعالى يوصف بالحياء كما يليق بجلاله وعظمته كسائر صفاته، ولا يشابهه خلقه في شيء من صفاته، فهو لا يستحيي من الحق، ولهذا قال في سورة الأحزاب: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزَاب: 53]، وقال: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البَقَرَة: 26].

وسبق ذكر الحديث في قصة الثلاثة الذي جاءوا، والنبي  ﷺ يحدث أصحابه، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الثاني فجلس خلف الحلقة، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فأخبر النبي  ﷺ عنهم، فقال: أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ [(401)] ففيه وصف الله بالحياء، كما في حديث: إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ [(402)] أما الساتر فليس اسمًا من أسماء الله تعالى، لكن من أسماء الله تعالى الستير.

والله تعالى له صفات كثيرة ثبتت بالقرآن أو السنة، قد يؤولها البعض كالأشاعرة، والذي عليه أهل السنة والجماعة أنها ثابتة لله ولا يشابهه فيها خلقه، ومن صفات الله تعالى الاستواء على العرش؛ فهو سبحانه يستوي استواء يليق بجلاله وعظمته لا يكيَّف، ولا يشبهه فيه خلقه، وتأويله بالاستيلاء تأويل باطل بَيَّنه العلماء من وجوه كثيرة.

قوله: «فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟» فيه: منقبة لأم سُليم؛ فما منعها الحياء أن تسأل عن دينها، وهذا من التفقه في الدين، كما قالت عائشة: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَْنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ» .

قوله: إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَعْنِي وَجْهَهَا وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟» ؛ هذا استفهام حذف فيه حرف الاستفهام، والتقدير: أوَتحتلم المرأة؟ وجاء في رواية الكشميهني بإثبات الهمزة: «أوَتحتلم المرأة؟» ، قال النبي ﷺ: نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا، أي نعم، تحتلم المرأة، والدليل على ذلك أن ولدها يشبهها، فالولد يخلق من ماء الرجل، وماء المرأة؛ وجاء في الحديث: أنه إِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءُ ماءَ المرأة  أَشْبَهَ الولدُ أَعْمَامَهُ، وإِذَا عَلَا مَاءُ المرأة مَاءَ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الولدُ أَخْوَالَهُ [(403)]، وجاء في الحديث الآخر: إِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَتْ بإذن اللَّهِ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ آنَثَتْ [(404)].

وكون أم سلمة استنكرت هذا فيه دليل على أن الاحتلام قليل في النساء، لكنه واقع.

وقول النبي  ﷺ: نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ يعني: لصقت يدك اليمنى بالتراب من الفقر، وهذا ليس المراد به ظاهره، وإنما المراد الزجر عن الإنكار، وإثبات هذا الشيء، وليس المراد بذلك أن النبي  ﷺ يدعو عليها بالفقر.

وفي الحديث: أن المرأة تحتلم كالرجل، وفيه: أنه يجب الغسل على المحتلم ذكرًا كان أو أنثى إذا خرج منه المني في النوم، وكذلك في اليقظة من باب أولى، فإذا خرج منه المني دفقًا بلذة في حال اليقظة بجماع كان أو بشهوة عن المباشرة أو القبلة، أو التفكير أو النظر وجب عليه الغسل؛ أما إذا خرج منه المني في حال اليقظة لا عن شهوة، لكن خرج عن مرض، فهذا لا يوجب الغسل، ويكون حكمه حكم البول؛ فيوجب الوضوء ولا يوجب الغسل؛ وكذلك أيضًا يجب الغسل بالجماع ولو لم ينزل، فإذا غيب الحشفة في الفرج فقد وجب الغسل ولو لم ينزل، وإن أنزل وجب عليه الغسل لأمرين: للإيلاج، والإنزال.

والمقصود أن الرجل أو المرأة إذا احتلم كل واحد منهما في النوم ورأى المني فإنه يجب عليه الغسل، أما إذا احتلم ولم يجد بللاً في ثوبه فلا يجب الغسل، وإذا استيقظ وتذكر أنه احتلم لكنه لم ير منيًّا في ثيابه ولا في بدنه فلا يجب الغسل.

وإن استدعى المني بما يسمى بالعادة السرية، ثم أنزل، وجب عليه الغسل، وفسد صومه إن كان صائمًا؛ لقول النبي  ﷺ في الحديث القدسي الصحيح: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي. [(405)].

وكذلك أيضًا إذا تسبب بأن قبل أو لمس أو باشر، أو كرر النظر فأنزل، فإنه يجب عليه الغسل ويفسد صومه إذا كان متعمدًا، أما إذا كان من باب التفكير ثم أنزل، فلا يفسد صومه؛ لأنه ليس له اختيار، لكن يجب عليه الغسل.

ولا بأس بكلمة: لا حياء في الدين، فهي مأخوذة من قول عائشة: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَْنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ» .

المتن:

131 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ قَالَ: إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَهِيَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا بِهَا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: هِيَ النَّخْلَةُ.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا.

الشرح:

 131 والحديث الأخير في هذا الباب هو حديث ابن عمر، والشاهد فيه: قوله: «فَاسْتَحْيَيْتُ» .

وفي هذه القصة أن النبي  ﷺ حدث أصحابه، فألقى هذا السؤال عليهم: إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَهِيَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟.

وفيها: جواز إلقاء العالم السؤال على أصحابه وعلى تلاميذه ليختبر ما عندهم من العلم.

وفيها: التعليم بطريقة السؤال؛ لأن العلم إذا ألقي على طريقة السؤال يتشوق السامع إلى معرفة الجواب.

قوله: «فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ» ، وفي الرواية الأخرى أنه قال: «فنظرت فإذا أنا أصغر القوم فسكت، فقال النبي  ﷺ: هِيَ النَّخْلَةُ. [(406)]، فلما خرجوا من المجلس، قال عبدالله: «فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا».

فيه: دليل على أنه ينبغي للصغير ألا يحقر نفسه إذا كان بين الكبار، وأن يلقي ما عنده من العلم إذا سئل؛ فكم من صغير بزَّ الكبار وفاقهم.

وفيه: دليل على أن الصغير إذا كان يفهم فلا بأس أن يحضر حلقات العلم، وقد كانوا يُحضرونهم مجالس المحدثين ويعتبرون هذا سماعًا لهم، قال ابن الصلاح: «التحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث فيكتبون لابن خمس فصاعداً «سمع»»[(407)].

فالمقصود: أن الصغير لا بأس بحضوره مجلس الكبار، وإذا كان عنده شيء من العلم وطلب منه فيتكلم ولا يستحي، ولهذا قال عمر لابنه عبدالله: «لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا» .

المتن:

باب مَنْ اسْتَحْيَا فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالسُّؤَالِ

 132 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ مُنْذِرٍ الْثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَْسْوَدِ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ  ﷺ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: فِيهِ الْوُضُوءُ.

الشرح:

 132 هذا الحديث فيه: أن من استحيا وأمر غيره أن يسأل وهو حاضر فلا بأس، فعلي كان مذاء ـ يعني: كثير المذي، ومذاء صيغة مبالغة ـ فاستحيا فأمر غيره أن يسأل وهو حاضر، وفي اللفظ الآخر أنه قال: «وكنت أستحيي أن أسأل رسول الله  ﷺ لمكان ابنته» [(408)] لأنه زوج ابنته فاطمة، فأمر المقداد أن يسأل وهو حاضر، فقال النبي  ﷺ: فِيهِ الْوُضُوءُ، والشاهد من الحديث للترجمة: أن من استحيا فأمر غيره أن يسأل وهو حاضر فلا بأس؛ لأنه يسمع الجواب، وإذا سأل هو وأجيب فلا بأس.

قوله: فِيهِ الْوُضُوءُ، فيه: دليل على أن المذي يوجب الوضوء، ولا يوجب الغسل، بخلاف المني، فالمني يوجب الغسل، والمني ماء أبيض غليظ يخرج دفقًا بلذة، وهو أصل الولد، وهو طاهر، أما المذي فهو ماء أصفر رقيق لزج يخرج على رأس الذكر عند اشتداد الشهوة، أو عند الملاعبة، وهو نجس يوجب الوضوء، لكن نجاسته مخففة، فيكفي فيه النضح إذا أصاب الثوب مثل بول الصبي الصغير الذي لم يأكل الطعام، فإن لم يكن عنده ماء نشفه بمناديل ورق أو غير ذلك، وأيضًا المذي يوجب غسل الأنثيين، وهما الخصيتان، كما جاء في الحديث الآخر: فَتَغْسِلُ مِنْ ذَلِك فَرْجَكَ وَأُنْثَيَيْكَ [(409)]، وكأن الحكمة والله أعلم حتى يتقلص الخارج.

أما البول فهو نجس، لكن نجاسته غير مخففة ـ ومعنى النجاسة المخففة أنه يكفي فيها النضح، ولا تحتاج إلى فرك ـ وفي البول يغسل رأس الذكر فقط، ولا تُغسل الأنثيان ـ الخصيتان ـ ولا يغسل الذكر كله، بل يغسل موضع الخارج فقط.

المتن:

باب ذِكْرِ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا فِي الْمَسْجِدِ

 133 حَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً قَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأْمِ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ، وَقَالَ: ابْنُ عُمَرَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ قَالَ: وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ أَفْقَهْ هَذِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ.

الشرح:

 133 هذا الحديث فيه: شاهد للترجمة، وهو إلقاء العلم والفتيا في المسجد، حيث إن هذا الرجل سأل النبي  ﷺ في المسجد، فأفتاه في المسجد.

وفيه من الفوائد: وجوب الإهلال؛ لقوله: يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وهذا خبر بمعنى الأمر، والمعنى ليهلوا.

وفيه: أنه يجب الإهلال من الميقات، فهنا واجبان:

الأول: وجوب الإهلال، وهو رفع الصوت بالتلبية، أي أن الناسك إذا أراد النسك ووصل إلى الميقات يهل بالعمرة إذا كان معتمرًا فيقول: لبيك عمرة، ويهل بالحج إذا كان مفردًا فيقول: لبيك حجًّا؛ ويهل بالحج والعمرة إذا كان قارنا فيقول: لبيك عمرة وحجًّا، وأصل الإهلال رفع الصوت عند رؤية الهلال للإخبار برؤيته.

الثاني: أن يكون الإهلال من الميقات.

والمواقيت خمسة، وقتها رسول الله  ﷺ، وذكر في هذا الحديث أربعة؛ قال: يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وهي أبيار علي، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأْمِ مِنْ الْجُحْفَةِ، وكانت قرية خربة ثم أعيدت الآن، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ، وهي قرن المنازل، وتسمى السيل، أو وادي محرم، وقال ابن عمر: ويزعمون أن رسول الله  ﷺ قال: وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ؛ وهذا من ورع ابن عمر وتحريه، فهو سمع النبي  ﷺ، لكن لم يفقه هذه، فأخذها من غيره.

وفيه: إطلاق الزعم على القول المحقق، فيزعمون يعني: يقولون، فالزعم يطلق على الادعاء الكاذب، كما في قوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التّغَابُن: 7]، ويطلق على القول المحقق كما في هذا الحديث، وكما في قصة السائل الذي جاء من نجد يسأل النبي  ﷺ، فقال: زعم رسولك أن الله أوجب علينا في كل يوم وليلة خمس صلوات، ثم قال: زعم رسولك أن الله أوجب علينا صيام شهر رمضان[(410)]، فزعم بمعنى: قال.

وهذا الذي لم يفقهه ابن عمر ثابت في الأحاديث الأخرى، أن النبي  ﷺ وقت لأهل اليمن يلملم[(411)]؛ وجاء في الحديث الآخر أن النبي  ﷺ وقت لأهل المشرق وأهل العراق ذات عرق[(412)]، وهي الضريبة؛ فتكون المواقيت خمسة.

والذي لا يمر بأحد المواقيت يحرم إذا حاذاها برًّا، أو بحرًا، أو جوًّا؛ كالذي في الطائرة إذا حاذاها في الجو، والذي في البحر كذلك إذا حاذاها في البحر، والذي يمر بطريق بعيدة عن المواقيت إذا حاذى أقربها يحرم، لكن غالب الذي في طريق البر أنه لا يحاذي المواقيت، بل يمر من أحد المواقيت الخمسة، وإذا كان في الطائرة وخشي احتاط قبل الوصول إلى الميقات بخمس دقائق أو عشر فلا بأس، أما أن يحرم من الرياض فلا؛ لأن المسافة طويلة، وأقل أحواله الكراهة، وينعقد على الصحيح.

والنية لا تحتاج إلى التوقف، فإذا وصل لميقاته ماشيًا يقول: لبيك عمرة، لبيك حجة، ولا يلزم التوقف، وإذا كان مارًّا يقول: لبيك اللهم لبيك؛ لأن الوادي واسع، وكله محل الميقات، وكذلك من كان في السيارة إذا كان تأهب، واغتسل، ولبس الإزار، والرداء؛ فإذا مر ودخل الوادي فإنه يلبي ويسير، ولا يحتاج التوقف.

والشاهد من الحديث: إلقاء العلم والفتيا في المسجد.

المتن:

باب مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ

 134 حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: لاَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلاَ الْعِمَامَةَ، وَلاَ السَّرَاوِيلَ، وَلاَ الْبُرْنُسَ، وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوْ الزَّعْفَرَانُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ.

الشرح:

هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لإجابة السائل بأكثر مما سأل.

 134 وفي هذا الحديث: أن السائل سأل رسول الله  ﷺ عن الأشياء التي يلبسها المحرم، فأجابه بالشيء الذي لا يلبسه؛ والسبب في ذلك أن الذي يلبسه المحرم غير محصور، أما الذي لا يلبسه فمحصور ومعدود، فأراد منه النبي  ﷺ أن يحفظ الأشياء التي لا يلبسها والباقي يلبسه، فقال: لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلاَ الْعِمَامَةَ، وَلاَ السَّرَاوِيلَ، وَلاَ الْبُرْنُسَ، وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوْ الزَّعْفَرَانُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ.

ولا يقال: إن الجواب غير مطابق للسؤال كما يقول بعض الناس، بل هو مطابق؛ لأن السائل يقول: ما هي الأشياء التي يلبسها المحرم يا رسول الله؟ فقال النبي  ﷺ: أنا أعد عليك الأشياء التي لا يلبسها والباقي يلبسها.

قوله: الْقَمِيصَ وهو ما خيط على قدر البدن.

قوله: وَلاَ الْعِمَامَةَ وهي ما يستر به الرأس، ومثل ذلك الطاقية والشال وما أشبه ذلك.

قوله: وَلاَ السَّرَاوِيلَ وهي ما خيط على النصف الأسفل، ومثله الفانلة، وهي ما خيط على النصف الأعلى، فهي داخلة في هذا.

قوله: وَلاَ الْبُرْنُسَ وهي ثياب تأتي من المغرب متصلة بها رؤوسها.

قوله: وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوْ الزَّعْفَرَانُ وهما نوعان من الطيب، والمعنى لا يلبس من الثياب ما فيه طيب.

قوله: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ المراد بالخفين ما يستر الكعبين، وهو الخف أو الجورب الذي يتجاوز الكعب، أما ما كان أسفل من الكعبين فهي في حكم النعلين.

ولا يلبس المحرم الجورب، أما المرأة فتلبس جورب الرجلين، لكن لا تلبس القفازين، فكما أنها لا تغطي وجهها بالبرقع، فلا تغطي يديها بالقفازين، لكن تغطي يديها بثيابها.

وقوله: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ قاله النبي  ﷺ في المدينة في خطبته قبل الحج، ثم خطب الناس  ﷺ ـ كما في حديث ابن عباس ـ في عرفة في حجة الوداع، وقال: مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ [(413)] ولم يقل: فليقطعهما أسفل من الكعبين، فاختلف العلماء في الجمع بين حديث ابن عباس وحديث ابن عمر، فحديث ابن عمر فيه أن المحرم إذا لم يجد إلا خفين يقطعهما أسفل من الكعبين، وفي حديث ابن عباس أمر من لم يجد نعلين أن يلبس الخفين ولم يأمره بقطعهما.

فاختلف العلماء فيهما على ثلاثة أقوال:

فقال بعض أهل العلم[(414)]: إن الأمر بقطع الخفين في حديث ابن عمر منسوخ؛ لأن هذا قاله النبي  ﷺ أولاً في المدينة، وأما حديث ابن عباس فإنه متأخر؛ لأن النبي  ﷺ خطب به الناس يوم عرفة في حجة الوداع، وقد حضر هذه الخطبة من لم يحضر خطبته في المدينة، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإنما يؤخذ بالآخر من حديثه  ﷺ، فيكون حديث ابن عباس هو الأخير في حجة الوداع، وحديث ابن عمر متقدم في المدينة، والمتأخر ينسخ المتقدم؛ فعلى هذا إذا لم يجد إلا خفين فإنه يلبسهما ولا يقطعهما، ويؤيد ذلك أن قطع الخف فيه إفساد له وإضاعة لماليته، وقد وردت الأحاديث بالنهي عن إضاعة المال[(415)]، ويؤيد ذلك أيضًا أن النبي  ﷺ أمر من لم يجد إزارًا أن يلبس السراويل، فقال: مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ [(416)]، ولم يقل فليفتقها، فكذلك الخف لا تقطع.

والقول الثاني : أن يحمل الأمر بالقطع على الاستحباب[(417)]، فيكون قطعها مستحبًّا وتركها جائزًا، فيكون حديث ابن عمر: وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ محمول على الاستحباب، وحديث ابن عباس محمول على الجواز.

والقول الثالث: هو حمل المطلق على المقيد، فيحمل الحديث الذي ليس فيه القطع وهو حديث ابن عباس على الحديث الذي فيه القطع وهو حديث ابن عمر، فقالوا بوجوب قطع الخفين[(418)].

والراجح هو القول الأول أن حديث ابن عباس ناسخ لحديث ابن عمر، فالأرجح عدم القطع، وأن القطع إما منسوخ أو مستحب.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد