شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. الحديث وعلومه
  4. شرح كتاب الوضوء من صحيح البخاري
  5. شرح كتاب الوضوء من صحيح البخاري (4-4) تابع باب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلاَّ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ - إلى باب الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فِي الْمِخْضَبِ وَالْقَدَحِ وَالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ

شرح كتاب الوضوء من صحيح البخاري (4-4) تابع باب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلاَّ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ - إلى باب الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فِي الْمِخْضَبِ وَالْقَدَحِ وَالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ

00:00
00:00
تحميل
77

القول الأول: مس الفرج لا ينقض الوضوء مطلقًا بشهوة أو بغير شهوة.

القول الثاني: أنه ينقض الوضوء مطلقًا بشهوة أو بغير شهوة.

القول الثالث: أنه إذا مس فرجه بشهوة نقض الوضوء، وإلا فلا ينقض الوضوء.

والصواب: أنه ينقض الوضوء على كل حال إذا مسه بالكف: بظهر الكف أو ببطنها ـ لا بذراعه ـ بدون حائل، أما إذا كان من وراء حائل فلا، ولكن إذا مس اللحم اللحم.

وكذلك إذا مس ذكر غيره أيضًا، فالمرأة إذا مست ذكر الصغير وهي تغسله فعليها أن تتوضأ، هذا هو الصواب من الأقوال الثلاثة.

ولا فرق في ذلك بين كونه متعمدًا أو غير متعمد؛ لعموم الحديث: مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ [(559)] وكذلك إذا مس حلقة الدبر.

المتن:

باب الرَّجُلُ يُوَضِّئُ صَاحِبَهُ

 181 حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا أَفَاضَ مِنْ عَرَفةَ عَدَلَ إِلَى الشِّعْبِ؛ فَقَضَى حَاجَتَهُ، قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّي؟ فَقَالَ: الْمُصَلَّى أَمَامَكَ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها حكم جواز الإعانة في الوضوء، والمؤلف رحمه الله لم يجزم بالحكم قال: «بَاب الرَّجُلُ يُوَضِّئُ صَاحِبَهُ» .

وإعانة المتوضئ ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن يعينه بأن يأتي له بالماء، وهذا ليس فيه شيء، سواء بطلب أو بغير طلب، فإذا قال شخص لآخر: ائتني بالماء ثم توضأ به، فهذا لا كراهة فيه.

النوع الثاني: الإعانة بصب الماء، بأن يتوضأ إنسان وآخر يصب عليه الماء، والأقرب في هذا أيضًا أنه لا كراهة فيه، ولا سيما عند الحاجة، وذكر بعضهم أن فيه قولين: الكراهة، أو أنه خلاف الأولى، لكن الرسول ﷺ فعله، فكان أسامة يصب عليه الماء، وكذلك المغيرة بن شعبة كان يصب عليه وهو يتوضأ، فلا كراهة فيه، ولكن الأولى أن يفعل الإنسان هذا بنفسه، لكن إذا احتاج إلى ذلك أو صب عليه أحد الماء بغير طلب فلا بأس، كما فعل النبي ﷺ حينما صب عليه أسامة الماء وهو يتوضأ، وكما فعل النبي ﷺ حينما صب عليه المغيرة بن شعبة.

النوع الثالث: أن يباشر الإنسان أعضاء الوضوء عن الشخص، بأن يغسل له وجهه ويغسل يديه، ويمسح رأسه وأذنيه، ويغسل رجليه، وهذا هو الذي توقف فيه المؤلف رحمه الله، هل يجوز أو لا يجوز؟

والمحتمل أنه كصب الماء، فكما أن الإعانة بصب الماء لا بأس بها، فكذلك الإعانة بكونه يباشر أعضاء الوضوء، وهذا إذا كان الإنسان محتاجًا إلى ذلك، كأن يكون مريضًا فلا شيء في ذلك، وفي هذه الحالة يوضئه من عنده وهو ينوي الوضوء قبل أن يغسل له وجهه، فالأقرب الجواز، لكن إذا كان غير محتاج فهذا محل نظر ومحل تأمل، ولهذا توقف الإمام البخاري رحمه الله في هذا، وقال بعضهم: إن البخاري رحمه الله قاس كون الإنسان يُباشر أعضاء الوضوء عن المتوضئ على صب الماء؛ لأن المتوضئ الأصل أن يغترف هو بيديه، فكونه يعينه ويصب عليه الماء فقد كفاه التناول، لكن لا بد من النية من المتوضئ.  

 181 هذا الحديث فيه: حكم كون الرجل يوضئ صاحبه، وفيه: أن أسامة ابن زيد رضي الله عنهما كان يصب على النبي ﷺ الماء وهو يتوضأ، وذلك في مسيره من عرفة إلى مزدلفة؛ لأنه ﷺ نزل بالشعب فبال وتوضأ وضوءًا خفيفًا، فقال أسامة: «أَتُصَلِّي؟ فَقَالَ: الْمُصَلَّى أَمَامَكَ، ثم لما وصل المزدلفة توضأ وأسبغ الوضوء، فصلى المغرب والعشاء.

ففي الحديث: دليل على الإعانة في الوضوء، وفيه دليل على تنبيه المفضول للفاضل، والطالب للمعلم في الأمور التي قد ينساها، كما فعل أسامة في قوله: «أَتُصَلِّي؟» .

قوله: الْمُصَلَّى أَمَامَكَ فيه: دليل على أن الحاج إذا دفع من عرفة إلى مزدلفة، فإنه يصلي المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعًا وقصرًا، بأذان وإقامتين متى ما وصل: في وقت المغرب أو في وقت العشاء، إلا إذا خشي خروج الوقت بأن تأخر به السير حتى قرب نصف الليل، فإنه يصلي ولو في الطريق، ولا تؤخر الصلاة عن وقتها، فالصلاة في مزدلفة سنة إذا كانت في وقتها، وأما ما يفعله بعض الجهال أنه لا يصلي حتى يصل إلى المزدلفة ولو لم يصل إلا الفجر، فهذا لا يجوز؛ لأنه تأخير للصلاة عن وقتها، وثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: صَلاَةَ العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ [(560)]، لكن إذا لم يخش خروج الوقت، فإن السنة أن يصلي المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا بأذان واحد وإقامتين في مزدلفة.

المتن:

182 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى ابْنَ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ لَهُ، وَأَنَّ مُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

الشرح:

 182 هذا الحديث فيه: دليل على الإعانة في الوضوء؛ وذلك أن المغيرة كان يصب على النبي ﷺ وفي اللفظ الآخر: أنه كان يصب عليه فغسل وجهه، ولما أراد أن يغسل ذراعيه كان عليه جبة شامية ضيقة الكمين، فلم يستطع إخراج يديه، فأخرجهم من أسفل، فغسل ذراعيه، ثم مسح رأسه، ثم قال المغيرة: فأهويت لأنزع خفيه، وكان عليه خفان، فقال: دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فمسح عليهما[(561)].

فيه دلالة على الإعانة على الوضوء بصب الماء لا بأس بها لا سيما عند الحاجة إليها.

وفيه: جواز لباس الثوب ضيق الكمين، وأنه لا بأس به؛ ولهذا لبس النبي ﷺ الجبة ضيقة الكمين، ولم يستطع إخراج يديه فأخرجهما من أسفل لما أراد غسلهما.

وفيه: دليل على جواز لباس الكفار؛ لأن هذه الجبة من الشام، وكانت الشام في ذلك الوقت في عهد النبي ﷺ من بلاد الروم قبل أن تفتح والروم نصارى، ومع ذلك لبس هذه الجبة، فدل على أنه لا بأس بلبس الثياب التي تأتي من بلاد الكفار، وكذلك استعمال الأواني؛ لأن الأصل فيها الطهارة، إلا إذا علم الإنسان فيها نجاسة فإنه يغسل النجاسة.

المتن:

قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَغَيْرِهِ

وَقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: لاَ بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ وَبِكَتْبِ الرِّسَالَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ.

وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ إِزَارٌ فَسَلِّمْ وَإِلاَّ فَلاَ تُسَلِّمْ.

الشرح:

قوله: «قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْحَدَثِ» يعني: من غير مس للمصحف لا بأس بها، وقوله: «وَغَيْرِهِ» يعني: غير الحدث، كالنوم الذي هو مظنة للحدث، وقال بعضهم: إنه معطوف على قراءة القرآن، فيكون قوله: «وَغَيْرِهِ» ، يعني: من الذكر. لكن هذا بعيد، والأقرب أن المعنى: وغير الحدث.

والمعنى: لا بأس أن يقرأ القرآن وهو على غير طهارة عن ظهر قلب، دون أن يمس المصحف، وهذا يكون في الحدث الأصغر، أما الجنابة فلا يجوز؛ لما جاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: فَأَمَّا الْجُنُبُ فَلا، وَلا آيَةَ [(562)]، أما غير الجنب فيجوز أن يقرأ القرآن عن ظهر قلب من غير مس المصحف.

وأما الحائض والنفساء فاختلف العلماء فيهما، فالجمهور على أنهما لا تقرآن؛ لأنهم ألحقوهما بالجنب، واستدلوا أيضًا بحديث ضعيف أن الحائض والنفساء لا تقرآن[(563)].

والقول الثاني: أنهما تقرآن ولا تقاسان على الجنب؛ لأنه قياس مع الفارق، فالجنب يستطيع أن يغتسل ويقرأ، وإن كان فاقدًا للماء يتيمم ويقرأ، أما الحائض والنفساء فلا تستطيعان؛ لأن حدثهما ليس بيديهما، ولأن المرأة الحائض أو النفساء مدتها تطول، فقد تكون مدة النفساء أربعين يومًا، وقد تنسى القرآن إذا كانت حافظة له، فليست مثل الجنب؛ ولهذا ذهب جمع من العلماء إلى أنهما تقرآن عن ظهر قلب؛ لأن الحديث الذي استدل به الجمهور حديث ضعيف، ولأن قياسهما على الجنب أيضًا قياس مع الفارق.

قوله: «وَقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: لاَ بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ» ، المراد بالحمام الأمكنة التي أعدت للاغتسال، وتؤجَّر للناس؛ فإذا كان فيه مكان، وليس به محل للنجاسة فلا بأس أن يقرأ فيه القرآن.

فقول إبراهيم النخعي هذا مشروط بأن يكون الحمام ليس فيه مكان لقضاء الحاجة.

وقوله: «وَبِكَتْبِ الرِّسَالَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ» ، المعنى: حتى لو كانت الرسالة فيها بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن النبي ﷺ كان يذكر الله على جميع أحواله، فذكر الله لا بأس به، كما أن قراءة القرآن عن ظهر قلب ـ لغير الجنب ـ لا بأس بها على غير وضوء.

قوله: «وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ إِزَارٌ فَسَلِّمْ وَإِلاَّ فَلاَ تُسَلِّمْ» يعني: الذين يغتسلون في الحمام معك، إن كان عليهم إزار فسلم عليهم لأنهم ستروا عوراتهم، وإن لم يكن عليهم إزار فلا تسلم عليهم لأنهم عراة متلبسون بمعصية، ولأن سلامك عليهم يؤدي إلى أن تنظر إليهم، وهذا رأي إبراهيم النخعي.

وقال بعضهم: لعل المراد: لا تسلم عليهم؛ لأن هذا يستدعي الرد منهم، والرد إنما هو بالسلام، والسلام اسم من أسماء الله وهو ذكر لله ، ولا ينبغي أن يذكروا الله على هذه الحال.

والأقرب للإنسان أن يغض بصره ويسلم عليهم وينهاهم عن ذلك، ويأمرهم بستر العورة، كما لو مر الإنسان بمدخن فالأفضل أن يسلم عليه وينهاه عن التدخين، أو مر بمسبل إزاره يسلم عليه وينهاه عن الإسبال، أو بحليق أو بمغن أو غير ذلك؛ لأن السلام يبذل لكل مسلم، والذي لا يسلم عليه هو الكتابي فلا يُبدأ الكتابي بالسلام، وإذا سلم نرد عليه سلامه؛ لقول النبي ﷺ: لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ [(564)].

أما العاصي فهو مسلم ناقص الإيمان، والمُسْلِم في حال المعصية يُسلم عليه وينصح، هذا هو الأقرب وهذا من أسباب قبوله النصيحة، والمجهول يُسلم عليه إذا كانت البلد بلد إسلام بناء على الأغلب، إلا إذا غلب على الظن أنه غير مسلم؛ وإذا كانت بلد كفار فلا يُسلم، وصاحب البدعة مثل العاصي يُسلم عليه ويُنكر عليه، إلا إذا كانت البدعة مكفرة.

وقول إبراهيم النخعي يفيد جواز السلام في الحمام؛ لأن الحمام في الغالب يكون فيه عدة أشخاص، والجميع في مكان واحد، فإذا كان أحد في الحمام فيجب ستر العورة؛ لأن الحمام ليس لواحد بل لعدة أشخاص، وقد يكون هناك أيضًا من يقوم بالتدليك، هذا هو المعروف في الحمامات التي تؤجر، وهذا هو معنى ما جاء في الأحاديث: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلا يَدْخُلِ الْحَمَّامَ إِلَّا بِإِزَارٍ [(565)] حتى يستر عورته عن الآخرين، وليس المراد الحمام الذي في البيت، فالحمام الذي في البيت يدخله الإنسان ويغلقه على نفسه ويخلع ثيابه ولا بأس بهذا؛ لأنه لا يراه أحد.

المتن:

183 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ وَهِيَ خَالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآْيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ؛ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.

الشرح:

 183 حديث الباب قصته: أن ابن عباس نام عند النبي ﷺ هذه الليلة، وكان صغيرًا قريبًا من الاحتلام، وكان في بيت خالته ميمونة زوج النبي ﷺ، وهذا من ذكائه وفطنته، وإنما نام عند النبي ﷺ ليرى صلاته حتى يقتدي به وهو صغير دون الاحتلام.

قوله: «فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا» فيه: دليل على أنه لا حرج في نوم الصبي الصغير مع الرجل وأهله إذا كان محرمًا للمرأة، ومعلوم أن الرجل يراعي ما يناسب في هذه الحالة، وعرض الوسادة هو الجانب الآخر الصغير منها.

قوله: «فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ» يعني: قام يصلي ﷺ؛ لأن صلاته طويلة ﷺ.

والشاهد من الحديث الذي ساقه المؤلف قوله: «فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآْيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ» وهي قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ... [آل عِمرَان: 190] إلى آخرها، قرأها وهو مستيقظ من النوم ولم يتوضأ؛ فدل على جواز قراءة القرآن للمحدث عن ظهر قلب، لكن يقال: إن النبي ﷺ نومه لا ينقض الوضوء، كما في الحديث الآخر: أنه تنام عيناه ولا ينام قلبه[(566)]، فيشعر بالحدث بخلاف غيره، وقد جاء في بعض الأحاديث الكثيرة أنه ينام ﷺ حتى ينفخ ثم يقوم ويصلي[(567)] يعني: أنه لو خرج منه الحدث كالريح لعلم، أما لو أحدث فينتقض الوضوء، وعلى كل حال قراءة القرآن للمحدث عن ظهر قلب لا بأس بها إذا لم يمس المصحف.

قوله: «ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ» الشن هي القربة التي يوضع فيها ماء، قام النبي ﷺ وتوضأ منها وأحسن الوضوء، ثم قام يصلي وابن عباس يرقب النبي ﷺ ليفعل مثل فعله، وجاء في بعض الروايات أن العباس أمره بذلك، فلم ينم ابن عباس في تلك الليلة بل قام وفعل مثلما فعل النبي ﷺ وصب من القربة وتوضأ ثم قام يصلي بجوار النبي ﷺ مأمومًا، لكنه صف عن يساره، قال: «فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا» ؛ لأن هذا ليس بموقف للمأموم؛ فالمأموم الواحد يقف عن يمين الإمام، وفي الروايات الأخرى أنه أداره من خلفه وجعله عن يمينه[(568)] فدل على أن موقف الواحد من الإمام يكون عن يمين الإمام لا عن يساره، وإذا صف عن يساره لا تبطل صلاته؛ ولهذا أداره ﷺ عن يمينه ولم يأمره بإعادة أول الصلاة.

قوله: «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ» ، يعني: اثنتي عشرة ركعة، «ثُمَّ أَوْتَرَ» ، فيكون بهذا قد صلى ثلاث عشرة ركعة، ثم نام حتى جاءه بلال فآذنه بالصلاة فصلى ركعتين خفيفتين ـ وهما ركعتا الفجر ـ ثم قام إلى الصلاة.

فهذا الحديث فيه أنه ﷺ أوتر بثلاث عشرة ركعة، وأما ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله ﷺ يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة[(569)] فتعني في الأغلب، وقد أوتر بتسع[(570)] وقد أوتر بسبع[(571)]، لكن الأغلب أن يوتر بإحدى عشرة.

وفي الحديث: دليل على أن عادة النبي ﷺ أن يصلي صلاة طويلة، كما جاء في حديث حذيفة أنه ﷺ قرأ في ركعة واحدة البقرة وآل عمران والنساء[(572)]، وهو ما يزيد على خمسة أجزاء في ركعة واحدة مع الترتيل والترسل، فلا يمر بآية رحمة إلا وقف يسأل الله من فضله، ولا بآية عذاب إلا وقف يتعوذ، ولا بآية تسبيح إلا وقف يسبح، وكان يحصى له في ركوعه قدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية يعني بمقدار ربع ساعة أو ثلث ساعة والسجود كذلك، هذه صلاته ﷺ.

وبعض الناس يقول: أريد أن أقتدي بالنبي ﷺ، وأصلي إحدى عشرة ركعة، وإذا زاد الإمام في صلاة التراويح عن إحدى عشرة ركعة جلس وقال: ليس هذا فعل الرسول ﷺ، فنقول له: إن الرسول ﷺ ما نهى عن الزيادة، ثم هل أنت تفعل مثل فعل الرسول ﷺ؟ أنت تصلي إحدى عشرة ركعة في ربع ساعة أو ثلث ساعة، والرسول ﷺ يصليها من نصف الليل، كما قال ابن عباس: «حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ» . والصحابة صلوا إحدى عشرة ركعة وصلوا ثلاثًا وعشرين ركعة، جاء عنهم هذا وهذا.

والأفضل في صلاة الوتر أن تكون مثنى مثنى ثم ركعة، لكن إذا أحب أن يوتر بثلاث ركعات أو بخمس أو بسبع سردًا فلا بأس، أو بتسع لكن يجلس في الثامنة ويتشهد، ثم يقوم ويأتي بالتاسعة لا بأس، لكن الأفضل أن يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة.

المتن:

 مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ إِلاَّ مِنْ الْغَشْيِ الْمُثْقِلِ

 184حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي، فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ، وَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَقُلْتُ: آيَةٌ فَأَشَارَتْ أَيْ نَعَمْ، فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ، وَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي مَاءً، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا، حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: يُؤْتَى أَحَدُكُمْ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُوقِنُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا: فَقُلْتُهُ.

الشرح:

 184 هذه القصة حدثت لما كسفت الشمس فصلى النبي ﷺ بالناس صلاة الكسوف، وفي اللفظ الآخر أنه «خرج ﷺ يجر رداءه مسرعًا [(573)]، كان يخشى أن تكون الساعة، وهذا قبل أن يعلم ﷺ بأن الساعة لا تقوم إلا بعد ظهور أماراتها في آخر الزمان، فصلى بالناس صلاة طويلة ﷺ، كما جاء في الأحاديث الأخرى في كيفية صلاة الكسوف، وأنه قرأ قراءة طويلة، ثم ركع ركوعًا طويلاً، ثم رفع وقرأ ـ بعد الفاتحة ـ قراءة طويلة، إلا أنها دون الأولى، ثم ركع ركوعًا آخر، ثم رفع ثم سجد سجدتين طويلتين[(574)]، ثم صلى الركعة الثانية مثلها بركوعين، إلا أن كل ركوع أقل من الركوع الذي يسبقه.

فصلى الرجال والنساء جميعًا، الرجال يصلون خلف النبي ﷺ، والنساء خلف الرجال، وليس هناك حاجز بين الرجال والنساء مثل ما يكون لنا من الحواجز في مؤخر المسجد من جدار أو قماش، بل كانت النساء تصلي خلف الرجال مع التستر، وكانت عائشة رضي الله عنها تصلي مع النساء خلف النبي ﷺ.

وجاءت أسماء ورأت الناس يصلون، فَفُجِئْتُ وقالت: يا عائشة ما هذا؟! فأشارت بيدها إلى السماء. هذا دليل على أنه لا بأس بالإشارة في الصلاة، فقالت أسماء: آية؟ فأشارت برأسها أن نعم، فلا بأس من الإشارة بالرأس أو باليد عند الحاجة. فصفت أسماء وصلت معهم قالت: «حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ» يعني: حصل لها نوع من الإغماء إلا أنه خفيف لا يزول معه الشعور، وهذا يحصل للإنسان من التعب أو الوقوف الطويل أو رؤية شيء، أو سماع شيء يخاف منه، وهو دون الإغماء الذي يزول معه الشعور؛ ولهذا جعلت تصب على نفسها الماء؛ حتى يزول هذا الذي اعتراها.

والشاهد للترجمة أنها لم ينتقض وضوؤها من الغَشْي الخفيف الذي لا يزول معه الإحساس، مثل: النوم الخفيف، فالنوم إذا كان يزول معه الإحساس بحيث إن الإنسان لا يشعر بمن حوله فإنه يتوضأ، سواء كان راكعًا أو ساجدًا أو جالسًا، أما إذا كان يحس بمن حوله ولكن يأتيه نعاس أو خفقان بالرأس فلا بأس، كما جاء في الأحاديث أن الصحابة كانت تخفق رءوسهم وهم ينتظرون صلاة العشاء، ثم يصلون ولا يتوضئون[(575)]، وفي رواية: «ينامون» [(576)] يعني: ينعسون، ومثل ذلك الَغشْي أو الإغماء، فإذا أغمي على الشخص حتى زال شعوره انتقض وضوءه، أما إذا أغمي عليه إغماءً خفيفًا لا يزول معه الشعور، ولا يصل إلى حد الغيبوبة، كما حصل لأسماء، فلا ينتقض الوضوء؛ ولهذا أتمت أسماء صلاتها ولم تتوضأ؛ لأن شعورها وإحساسها معها، ولذلك صارت تصب الماء على نفسها.

وفي الحديث: دليل على مشروعية الخطبة بعد صلاة الكسوف، والموعظة؛ فالنبي ﷺ بعدما صلى الكسوف، خطب ووعظ الناس.

وقوله: مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا، حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، فيه: إثبات للحياة البرزخية في القبر، وجاء في حديث آخر أن المؤمن يمتحن كالكافر في قبره، يسأل عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه؛ فيقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ هذه الأصول الثلاثة التي يسأل عنها الإنسان في قبره، المؤمن والكافر؛ ففي الحديث: فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُوقِنُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا: فَقُلْتُهُ، فدل على أن الإنسان يمتحن في قبره، المؤمن والكافر جميعًا، لكن المؤمن يثبته الله فيجيب على هذه الأسئلة حينما يسأل عنها، وأما المنافق والكافر فلا يجيب ـ نسأل الله الثبات والعافية ـ.

وقد يعذب المؤمن إذا ارتكب بعض الكبائر مثل قصة الرجلين اللذين مر بهما النبي ﷺ؛ مر بقبرين يعذبان؛ قال: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَبرُئُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثم أخذ جريدة فشقها نصفين ووضع على كل قبر واحدة، وقال: لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا [(577)]؛ فدل على أن ترك التنزه من البول من أسباب عذاب القبر، وكذلك الغِيبة والنميمة، قد يعذب العاصي في القبر، والعاصي مرتكب الكبيرة على خطر من عذاب القبر، وقد تصيبه كذلك أهوال يوم القيامة، وقد يعذب في النار مدة ثم يخرج منها لكن مآله الجنة والسلامة، وقد يعفى عنه فهو داخل في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النِّسَاء: 48]، فبعض العصاة يعفو الله عنه وبعضهم يستحق دخول النار، ثم يُشفع فيه فلا يدخلها، وبعضهم تسقط عنه عقوبة جهنم بما يصيبه من العذاب في قبره، أو ما يصيبه من الأهوال والشدائد في موقف القيامة، وبعضهم يعذب ثم يخرج منها، لكن مآله إلى الجنة والسلامة؛ لأنه مات على التوحيد، والإيمان، والإسلام.

المتن:

باب مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا.

وَسُئِلَ مَالِكٌ أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ الرَّأْسِ فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ.

الشرح:

قوله: « وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ [المَائدة: 6]» ظاهر الآية التعميم، وقوله: بِرُؤُوسِكُمْ الباء للإلصاق، وهو أن يبل يده بالماء ثم يمسح رأسه، كما جاء في حديث عبدالله بن زيد أن النبي ﷺ عمم رأسه من مقدم رأسه إلى قفاه ومن قفاه إلى مقدم رأسه، وهذا التعميم هو السنة، خلافًا لبعض الشافعية[(578)] الذين يقولون: يكفي أن يمسح ربع الرأس، أو ثلث الرأس، وهذا قول ضعيف مرجوح، فظاهر الآية التعميم.

قوله: «وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَاا» ، يعني: أن المرأة والرجل سواء؛ فالمرأة تمسح، وتعمم الرأس مثل الرجل.

وإذا عمم الإنسان رأسه بأي كيفية أجزأه ذلك، لكن الأفضل أن يبدأ بمقدم رأسه إلى قفاه ـ كما في الحديث ـ ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، وإن مسح بيد واحدة وعمم فلا بأس، لكن الأفضل ما فعله النبي ﷺ.

قوله: «وَسُئِلَ مَالِكٌ أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ الرَّأْسِ فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ» يعني: بحديث عبدالله بن زيد أن النبي ﷺ عمم الرأس بدأ بمقدم رأسه إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه.

المتن:

185 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ نَعَمْ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.

الشرح:

 185 هذا الحديث فيه: دليل على جواز المخالفة في أعضاء الوضوء، بغسل بعضها مرتين، وبعضها ثلاثًا، فعبدالله بن زيد مضمض واستنشق ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، وغسل يديه إلى المرفقين مرتين فلا بأس بالمخالفة، لكن الأفضل التثليث فيغسل وجهه ثلاثًا ويغسل يديه كل واحدة ثلاثًا ويغسل رجليه ثلاثًا، أما الرأس فلا يكرر، وكذلك الأذنان يمسحهما مرة واحدة.

وقد جاء عن النبي ﷺ في الوضوء أربع سنن:

السُّنَّة الأولى: أن يثلث؛ فيغسل وجهه ثلاثًا ويديه ثلاثًا ورجليه ثلاثًا.

السُّنَّة الثانية: أن يثني؛ فيغسل وجهه مرتين ويغسل يديه مرتين ويغسل رجليه مرتين.

السُّنَّة الثالثة: أن يوحد ـ مرة واحدة ـ فيغسل وجهه مرة ويديه كل واحدة مرة ورجليه مرة.

السُّنَّة الرابعة: أن يخالف؛ فيغسل بعض أعضائه مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثًا؛ إلا الرأس، ففي كل الحالات الرأس تمسح مرة واحدة.

قوله: «فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ» هنا غسل يديه مرتين، والسنة للمسلم قبل الوضوء أن يغسل يديه ثلاثًا، وهذا مستحب، إلا إذا استيقظ من نوم الليل فيتأكد، حتى أوجبه بعض العلماء؛ لقول النبي ﷺ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ [(579)].

وظاهر النهي أنه يجب عليه أن يفعل هذا، حتى قال بعضهم: إنه لو غمس يده وهو قائم من نوم الليل يكون الماء مستعملاً، فلا يتوضأ به، والصواب أنه لا يكون مستعملاً، لكنه خالف الأمر، فلو غمس فقد أساء، والماء طهور.

والشاهد من الحديث: أنه عمم رأسه بالمسح في قوله: «ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ» ، فدل على وجوب التعميم خلافًا لبعض الشافعية[(580)] القائلين بأنه يكفي مسح بعض الرأس، الثلث أو الربع، وهو قول ضعيف.

وإذا اقتصر على مسح بعض الرأس فالأحوط أن يعيد الوضوء في هذه الحالة؛ لأنه ينبغي له أن يعمم؛ لما دل عليه القرآن، وما دلت عليه السنة المطهرة.

وتمسح المرأة الرأس إلى منابت الشعر كالرجل، من مقدم الرأس إلى القفا، أما الضفائر فلا يجب مسحها؛ لأنها قد تكون طويلة.

والإنسان إذا لبس العمامة على طهارة وكانت محنكة فله أن يمسح عليها، كما ثبت في الأحاديث؛ ومعنى مُحَنَّكة: مدارة تحت الحنك فيشق نزعها، قال بعض الحنابلة[(581)]: وتكون ذات ذؤابة، أي: تدار لها أطراف ويديرها تحت الحنك مرات فتكون مثبتة، أما إذا كانت العمامة غير محنكة ـ كالعقال ـ فهذه ينزعها ويمسح على رأسه.

وإذا وضع العمامة وبدا شيء من الرأس يمسح على الرأس ويكمل على العمامة؟! كما جاء في بعض الأحاديث أن النبي ﷺ مسح بناصيته وعلى العمامة[(582)]؛ لأن المقصود من هذا دفع المشقة؛ مثل نزع الخفين يشق على الإنسان نزعهما إذا لبسهما على طهارة، فكذلك العمامة؛ لأن المشقة تجلب التيسير.

المتن:

باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ

 186 حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ ﷺ، فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ النَّبِيِّ ﷺ، فَأَكْفَأَ عَلَى يَدِهِ مِنْ التَّوْرِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثَ غَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.

الشرح:

 186 هذا الحديث فيه: أن النبي ﷺ توضأ مخالفًا، فغسل وجهه ثلاثًا، ومضمض واستنشق ثلاثًا، وغسل يديه إلى المرفقين مرتين.

وفيه: دليل أنه لا بأس بغسل بعض الأعضاء مرتين وبعضها ثلاثًا.

وفيه: دليل أيضًا على أن الرأس إنما يمسح مرة واحدة؛ لقوله: «فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً» .

وفيه: دليل على دخول المرفقين في اليدين، ودخول الكعبين في الرجلين في الغسل وهذا هو الشاهد للترجمة؛ دخول الكعبين مع الرجلين، ودخول المرفقين مع اليدين، والله تعالى يقول في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المَائدة: 6].

 مسألة: هل يدخل المرفقان في الغسل مع اليدين، والكعبان مع الرجلين؟

الجواب: فيه خلاف، قد تكون وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ بمعنى «مع»، فيكون معنى قوله: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ أي: مع المرافق، ومعنى قوله: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ يعني: مع الكعبين؛ كقوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النِّسَاء: 2]، أي: مع أموالكم.

لكن الأصل أن ما بعد إِلَى لا يدخل فيما قبلها؛ كقول الله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البَقَرَة: 187] فالليل ليس داخلاً في الصيام.

ودخول المرفقين والكعبين في الغسل ثابت بدليل السنة، كما في «صحيح مسلم» أن النبي ﷺ لما غسل يديه أشرع في العضد، ولما غسل رجليه أشرع في الساق[(583)]، والمعنى: أنه تجاوز وغسل المرفقين، وتجاوز وغسل الكعبين.

وفي الحديث: جواز المخالفة بغسل بعض الأعضاء ثلاث مرات وبعضها مرتين، وبعضها مرة، والمراد بالمرة تعميم العضو بالماء، وليس المراد الغرفات، فإذا أخذ غرفة وعمم اليد بالماء هذه تعتبر مرة، فإن كان بقي من اليد شيء لم يصبه الماء يأخذ غرفة ثانية، فيكون عممها بغرفتين، وإذا لم تعمم بغرفتين، واحتاج إلى ثالثة، يأخذ غرفة ثالثة، ويعتبر بذلك عمم مرة واحدة، فإذا عمم العضو مرة واحدة، فهذا هو الواجب، وإذا عممه مرة ثانية فهذا مستحب، وإذا عممه مرة ثالثة فهذا هو الأولى، ولا يزيد على ثلاث؛ لأنه جاء النهي عن هذا؛ ففي الحديث: فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ [(584)].

المتن:

باب اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ

وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّئُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ. 

الشرح:

قوله: «بَاب اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ» ، يعني: استعمال الماء الفاضل بعد الوضوء، فإذا توضأ إنسان وبقي في الإناء ماء جاز أن يتوضأ به غيره رجلاً كان أو امرأة.

وأما ما جاء في الحديث الآخر: نهى النبي ﷺ المرأة أن تتوضأ بفضل وضوء الرجل، والرجل بفضل وضوء المرأة[(585)] ـ فهو محمول على كراهة التنزيه؛ فقد جاء في الحديث: أن بعض أزواج النبي ﷺ توضأت من جفنة فجاء النبي ﷺ كي يتوضأ فأخبرته أنها توضأت منها فتوضأ منها ﷺ[(586)].

فلا بأس أن يغترف الإنسان بيده من الماء.

قوله: «وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّئُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ» ومعنى «بِفَضْلِ سِوَاكِهِ» ، أنه يضع السواك في الماء ويتسوك به، والمعنى أن السواك يخالط ريقه، ثم يضعه في الماء، فدل على أن الماء لا يؤثر فيه الريق، ولا يكون بذلك مستعملاً.

المتن:

187 حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْهَاجِرَةِ فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ، فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، فَصَلَّى النَّبِيُّ ﷺ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ.

الشرح:

187 الحديث: جاء أن هذا كان في حجة الوداع؛ لأنه يقصد صلى ركعتين ركعتين في البطحاء بمكة.

وقوله: «وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ» ، العنزة هي عصا في طرفها حديدة جعلها سترة له ﷺ.

وفي الحديث: أنه توضأ وجعل الناس يتمسحون بفضل وضوئه، فدل على أن فضل الوضوء طاهر، ويجوز للإنسان أن يتوضأ به ويستعمله، وهذا الذي يتمسح به الناس يحتمل أنه الباقي بعد وضوئه يقتسمه الناس، ويحتمل أن يكون ما تقاطر من أعضائه ﷺ، وهذا من أجل التبرك به وبما لامس جسده ﷺ؛ لما جعل الله في جسده وفضلاته من البركة، فقد كان الصحابة يتبركون بفضلاته ﷺ إذا توضأ أخذوا القطرات وإذا تنخم كانت في يد واحد يدلك بها جسده[(587)] وإذا حلق شعر رأسه ـ كما في حجة الوداع ـ وزع الشعر على الناس الشعرة والشعرتين[(588)] يتبركون بها، وهذا خاص به ﷺ، ولا يقاس عليه غيره، فلا يتبرك بغيره.

والشاهد من الحديث: أن الناس كانوا يتوضؤون من فضل وضوئه، وهذا دليل على طهارته، وغير النبي ﷺ كذلك، فالماء لا يكون مستعملاً إذا توضأ منه إنسان أو اغترف منه بيده، ولا خلاف في أنه يجوز للإنسان أن يتوضأ به، وإنما الخلاف فيما لو جمعت القطرات التي يتوضأ بها الناس، ووضعت في إناء فهل يجوز الوضوء بها أو لا؟ فجمهور الفقهاء على أنه يكون مستعملاً، فيكون طاهرًا في نفسه لا يطهر غيره؛ فيجوز أن يستعمله الإنسان في غير الوضوء، والصواب الذي عليه المحققون أنه يتوضأ به؛ فليس هناك دليل على سلبه الطهورية.

المتن:

188 وَقَالَ أَبُو مُوسَى: دَعَا النَّبِيُّ ﷺ بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا.

الشرح:

 188 ورواية أبي موسى عنه ﷺ أنه قال لهما: اشْرَبَا مِنْهُ، أراد به ﷺ لهما الخير لما في هذا من البركة، فقد غسل وجهه ويديه في الماء، ثم تمضمض، ومج فيه ﷺ، فقال لأبي موسى ومعه بلال: اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا؛ يعني: للتبرك، وهذا استدل به المؤلف على جواز استعمال فضل الماء بعد الوضوء، وأنه لا يؤثر في طهارته.

المتن:

189 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي مَجَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي وَجْهِهِ وَهُوَ غُلاَمٌ مِنْ بِئْرِهِمْ.

وَقَالَ عُرْوَةُ: عَنْ الْمِسْوَرِ وَغَيْرِهِ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ: وَإِذَا تَوَضَّأَ النَّبِيُّ ﷺ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِه.

الشرح:

 189 الحديث يدل على جواز استعمال فضل وضوء الإنسان، وأنه لا حرج فيه.

قوله: «وَإِذَا تَوَضَّأَ النَّبِيُّ ﷺ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ» ، يعني: يزدحمون على القطرات التي تتساقط من يديه، يأخذونها ويتمسحون بها؛ لما جعله الله فيه ﷺ من البركة.

وهذا يدل على أن فضل وضوء المسلم طاهر، وغير النبي ﷺ يقاس عليه في هذا؛ لأن الأصل أن النبي ﷺ كغيره في الأحكام، إلا إذا دل الدليل على التخصيص.

المتن:

باب

 190 حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ الْجَعْدِ، قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ.

الشرح:

هذا الباب تابع للباب السابق فيعتبر كالفصل من الباب.

 190 قوله: «فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ» يعني: الماء الذي توضأ به، فدل على أن فضل الوضوء طاهر، وهذا هو الشاهد من الحديث.

وهذا الحديث فيه: أن السائب بن يزيد، وهو صغير ذهبت به خالته إلى النبي ﷺ وهو مريض، فمسح على رأسه، ودعا له بالبركة، وشرب السائب من وضوء النبي ﷺ.

قوله: «فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ» ، وهي لحمة زائدة تحت نُغض كتفه الأيسر، والحجلة طائر يقال له: اليعقوب، وجاء في الحديث: «مثل بيضة الحمامة» [(589)] وقيل: الحَجَلة هي بيت كالقبة لها أزرار كبار وعرى، وهو وصف لخاتم النبوة.

والسائب بن يزيد كان صغيرًا، فشرب من وضوء النبي ﷺ، ثم جعل ينظر لخاتم النبوة ويلعب به؛ لأنه وجده قطعة لحم زائدة، فجعل يلعب بها .

المتن:

باب مَنْ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ

 191 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ أَفْرَغَ مِنْ الإِْنَاءِ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ غَسَلَ أَوْ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثًا، فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَا أَقْبَلَ وَمَا أَدْبَرَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

الشرح:

 191 هذا الحديث واضح في الدلالة على ما ترجم له المؤلف رحمه الله من استحباب المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة، وإن مضمض من غرفة واستنشق من غرفة فلا حرج، لكن الأفضل أن تكون المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة؛ لأن هذا هو السنة.

وفي الحديث: أن عبدالله بن زيد غسل يديه قبل الوضوء، وهذا يدل على استحباب غسل اليدين ثلاثًا قبل الوضوء، وإذا كان مستيقظًا من نوم ليل ناقض للوضوء فإنه يتأكد، وهو واجب عند الحنابلة[(590)] وجماعة؛ لقول النبي ﷺ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ [(591)]، أما ما عدا ذلك فإنه يستحب قبل الوضوء أن يغسل يديه ثلاثًا أو مرتين أو مرة.

وفيه: أنه مضمض واستنشق ثلاثًا، وغسل يديه إلى المرفقين مرتين، وغسل وجهه ثلاثًا، وهو دليل على جواز المخالفة بين أعضاء الوضوء، وأنه لا حرج في أن يغسل بعض أعضاء الوضوء مرة، وبعضها مرتين، وبعضها ثلاثًا.

فالسنة جاءت عن النبي ﷺ في الوضوء على أربعة أنواع:

النوع الأول: أن يغسل كل عضو من أعضاء الوضوء ثلاثًا.

النوع الثاني: أن يغسل أعضاء الوضوء مرتين مرتين.

النوع الثالث: أن يغسل أعضاء الوضوء مرة مرة.

النوع الرابع: أن يخالف بين أعضاء الوضوء، فبعضها مرة وبعضها مرتين، وبعضها ثلاثًا، والرأس في جميع الأحوال تمسح مرة واحدة.

ولهذا لما توضأ مخالفًا قال: «هَكَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» .

وفي الحديث: أنه لا بد من غسل الرجلين إلى الكعبين، ولا بد من أن يتجاوز الكعبين حتى يشرع في الساقين، وكذلك في المرفقين لا بد أن يتجاوز المرفقين حتى يشرع في العضد، وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي ﷺ كان يدير الماء على مرفقيه[(592)].

أما الرأس فإنه يمسح ولا يغسل، والمسح مرة واحدة ولا يثلث، وأما ما جاء عن بعض الشافعية[(593)] أنه يثلث فهذا قول ضعيف لا دليل عليه، فهو غير مشروع، فالسنة مسح الرأس مرة واحدة، والأفضل أن يبدأ بمقدم رأسه إلى قفاه ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، كما جاء في الحديث: «يقبل بيديه ويدبر» [(594)]، وإن مسح الرأس على أي كيفية أجزأه بيديه أو بيد واحدة.

والأذنان مثل الرأس أيضًا، يُمسح ظاهرهما وباطنهما؛ فيمسح بالسبابتين داخل أذنيه وبالإبهامين ظاهرهما، ولا يأخذ لهما ماء جديدًا؛ لأنهما تابعتان للرأس، فالماء الذي أخذه لرأسه يمسح به رأسه وأذنيه.

المتن:

باب مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً

 192 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ ﷺ، فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ لَهُمْ فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاَثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِْنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثًا بِثَلاَثِ غَرَفَاتٍ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِْنَاءِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِْنَاءِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِْنَاءِ فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ بِهِمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِْنَاءِ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ.

وحَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً.

الشرح:

 192 في الحديث: أنه غسل اليدين قبل وضعهما في الإناء ثلاثًا، هذا هو السنة.

قوله: «ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِْنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثًا بِثَلاَثِ غَرَفَاتٍ مِنْ مَاءٍ» ، يعني: كان يأخذ ماءً بكفه اليمنى، ثم يتمضمض بجزء منه ويستنشق بالجزء الآخر، ثم يأخذ كفًّا ثانيًا وثالثًا.

هذا الحديث فيه: دليل على أن المسح لا يكون إلا مرة واحدة؛ ولهذا جزم المؤلف رحمه الله بالترجمة؛ لأن الحديث ليس فيه إلا أنه مسح رأسه مرة.

قال الإمام العيني رحمه الله: «قال ابن بطال: قال الشافعي: المسنون ثلاث مسحات، والحجة عليه أن المسنون يحتاج إلى شرع، وحديث عثمان وإن كان فيه توضأ ثلاثًا ثلاثًا[(595)]، وفيه أنه مسح برأسه مرة وهو قول الشافعي، وقال الكرماني: الشرع الذي قال الشافعي في مسنونية الثلاث ما روى أبو داود في «سننه» أنه ﷺ مسح ثلاثًا[(596)]».

لكن هذا لا يصح، فهذه الرواية غير صحيحة.

قال العيني: «والقياس على سائر الأعضاء».

والقياس ليس له محل هنا؛ لأنه لا قياس في العبادات.

قال العيني: «قلت: روى أبو داود حدثنا هارون بن عبدالله قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: حدثنا إسرائيل عن عامر عن شقيق بن حمزة عن شقيق بن سلمة قال: رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثًا ومسح رأسه ثلاثًا[(597)]، ثم قال: رأيت رسول الله ﷺ فعل هذا.

قلت: المذكور من حديث الجماعة هو مسح الرأس مرة واحدة؛ ولهذا قال أبو داود في «سننه»: أحاديث عثمان الصحاح تدل على أن مسح الرأس مرة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثًا وقالوا: فيها مسح الرأس ولم يذكروا عددًا، كما ذكروا في غيره، ووصف عبدالله بن زيد وضوء النبي ﷺ وقال: مسح برأسه مرة واحدة[(598)]، متفق عليه.

وهذا هو الصواب، والقول بالمسح ثلاثًا لا يصح، والحديث الذي فيه أنه مسح ثلاثًا لا يصح، فهو ضعيف؛ شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، فالصواب أن الرأس لا يثلث وإنما يمسح مرة واحدة كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة.

المتن:

باب وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ وَفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ

وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالْحَمِيمِ وَمِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها أنه لا بأس بوضوء الرجل مع امرأته والاغتسال جميعًا، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد نغترف منه جميعًا» [(599)] فلا بأس لو توضأ الرجل وامرأته أو أحدهما مع بعض محارمه من إناء واحد، والوضوء هو استعمال الماء في الأعضاء الأربعة: الوجه واليدين والرأس والرجلين، فإذا توضأ مع أحد محارمه فلا بأس، ولا بأس أن يغتسل الرجل وزوجته.

وكذلك أيضًا فضل وضوء المرأة الصواب أنه لا بأس بالوضوء منه، وقد جاء في الحديث أن النبي ﷺ: «نهى الرجل أن يتوضأ بفضل وضوء المرأة» [(600)]، قال بعضهم: هذا محمول على أن هذا إذا جمع الماء الذي استعمله في الوضوء، وهو الماء الذي يتقاطر من الأعضاء، والخطابي حمله على هذا. والصواب أنه لا بأس به، وأن ما جاء من النهي فهو محمول على التنزيه؛ لما ثبت أن النبي ﷺ جاء وتوضأ من فضل وضوء بعض نسائه[(601)].

قوله: «وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالْحَمِيمِ» يعني: بالماء الحار، ومنه قوله تعالى: مَاءً حَمِيمًا [محَمَّد: 15]، فلا بأس بالوضوء بالماء الحار، ويكاد يكون هذا إجماعًا إلا ما نقل عن مجاهد؛ لأن الحاجة قد تدعو إليه في الشتاء.

قوله: «وَمِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ» فيه: أنه لا بأس بالوضوء من أواني الكفار واستعمالها؛ لأن الكفار أبدانهم طاهرة، والنجاسة إنما هي في الكفر، فنجاستهم معنوية، لكن أبدانهم وطعامهم وثيابهم كلها طاهرة إلا إذا علم أن فيها نجاسة.

وذبائح أهل الكتاب تؤكل لقوله تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [المَائدة: 5] إلا إذا علم أنهم يذبحون بغير الطريقة الشرعية كالصعق الكهربائي أو بالخنق، وحتى المسلم إذا ذبح بالخنق أو بالصعق ما تصح ذبيحته، وأما إذا لم يعلم فالأصل الحل.

أما ذبائح غير أهل الكتاب، وذبائح الوثنيين، فإنها لا تؤكل.

والمراد من الأثر أنه لا بأس بالوضوء من أواني غير المسلمين؛ ولهذا توضأ عمر من بيت نصرانية، وكذلك ثبت في البخاري أن النبي ﷺ وأصحابه توضؤوا من مزادة مشركة[(602)]؛ وذلك لما قل الماء، وجاءت امرأة مشركة على بعير معها مزادة من ماء، أمر النبي ﷺ بأن يصبوا من المزادة ـ أي: القربة ـ ويتوضؤوا منها.

المتن:

193 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُونَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جَمِيعًا.

 الشرح:

193 هذا محمول على أنه كان قبل الحجاب حينما كانت النساء لا تغطي الوجه وكان يبدو بعض الجسد؛ لأن الحجاب لم يشرع في أول الإسلام، ثم استقرت الشريعة على وجوب الحجاب، وأنه لا يجوز للرجل أن يتوضأ مع المرأة الأجنبية.

وقد يكون هذا محمولاً على كون الرجال يتوضئون مع محارمهم من النساء، وهذا أقرب كما قال البخاري رحمه الله: «وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ» ، فيحمل قوله: «كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُونَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جَمِيعًا» على وضوء الرجال مع النساء من محارمهم، فيتوضأ الرجل مع زوجته، أو مع أخته، أو بنته في إناء واحد.

المتن:

باب صَبِّ النَّبِيِّ ﷺ وَضُوءَهُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ

 194 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لاَ أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَعَقَلْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَنْ الْمِيرَاثُ، إِنَّمَا يَرِثُنِي كَلاَلَةٌ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ.

الشرح:

وهذه قصة جابر، وهي تختلف عن قصة سعد بن أبي وقاص الذي زاره النبي ﷺ في مكة فقال: يا رسول الله أتصدق بمالي كله؟ قال: لَا، قال: أتصدق بثلثيه؟ قال: لَا، قال: فالشطر؟ قال: لَا، قال: فالثلث؟ قال: فالثُّلثُ والثُّلُثُ كثِيرٌ؛ إِنَّكَ إِنْ تَذرَ وَرثتك أغنِياءَ خَيْرٌ مِن أَنْ تذرهُمْ عالَةً يَتكفَّفُونَ النَّاس، وَإِنَّكَ لَنْ تُنفِق نَفَقةً تبْتغِي بِهَا وجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى ما تَجْعلُ فِيِّ امْرَأَتكَ قال: يا رسول الله، أخلف بعد أصحابي؟ قال: لعَلَّك أَنْ تُخلَّف حَتَى ينْتفعَ بكَ أَقَوامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخرُونَ [(612)] وهذا من علامات النبوة؛ لأن سعدًا خُلف يعني تأخرت حياته ورزقه الله أولادًا، وصار أميرًا على الكوفة، وشارك في الغزوات، فنفع الله به أقوامًا ـ وهم الذين أسلموا على يديه ـ وضُرَّ به آخرون، وهم الذين ماتوا على الكفر من الفرس وغيرهم.

والشاهد: أن النبي ﷺ صَب عليه من وضوئه لأمرين:

الأمر الأول: أن الماء منبه.

الأمر الثاني: بيان البركة التي تحصل منه ومن فضلاته ﷺ، ومما لامس جسده.

والتبرك خاص به ﷺ، ولا يقاس عليه غيره، وأما قول النووي: «وفيه التبرك بآثار الصالحين»[(603)] فهذا قول ضعيف، والصواب أن هذا خاص بالنبي ﷺ.

أولاً: لما جعل الله في فضلاته ﷺ وما لامس جسده من البركة.

ثانيًا: لأن الصحابة لم يتبركوا بأحد غيره، تبركوا بأبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي.

ثالثًا: لأن التبرك بغيره وسيلة من وسائل الشرك، فهذا خاص به ﷺ.

وكان الصحابة يتبركون بوضوء النبي ﷺ، ويأخذون القطرات يتبركون بها، وإذا تنخم وقعت النخامة في كف واحد منهم فدلك بها وجهه[(604)]، وكذلك لما حلق شعره في حجة الوداع قسم شعره على الناس الشعرة والشعرتين[(605)] يتبركون بها، وكذلك لما نام عند أم سليم ـ كان بينه وبينها محرمية ـ فعرق فجعلت تسلت العرق وتجعله في قارورة لها، تجعله مع طيبها، وقالت: «إنه لأطيب الطيب»[(606)]؛ فهذا من خصائصه ﷺ، أما غيره فلا يتبرك به.

194 قوله: «وَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ» ، يعني: من الماء الذي توضأ به، أو من بقية وضوئه فأفاق، فقال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَنْ الْمِيرَاثُ، إِنَّمَا يَرِثُنِي كَلاَلَةٌ؟» ، والكلالة: هو الذي لا ولد له ولا والد.

قال العيني: «قوله: «لِمَنْ الْمِيرَاثُ» قال: أي: لمن ميراثي؟ ويؤيده ما أخرجه في «الاعتصام» أنه قال: «كيف أصنع في مالي؟» [(607)]، وفي رواية: «ما تأمرني أن أصنع في مالي؟» [(608)]، وفي أخرى: «كيف أقضي في مالي؟» [(609)]، وفي أخرى: «إنما ترثني سبع أخوات» [(610)].

قوله: «فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ» وهي قوله تعالى في سورة النساء: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النِّسَاء: 176].

وفي رواية أخرى: فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ [(611)].

وآيات الميراث ثلاث آيات: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ [النِّسَاء: 11]، والآية التي بعدها: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النِّسَاء: 12]، والآية الثالثة آخر آية في سورة النساء   يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ هذه آيات المواريث.

المتن:

باب الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فِي الْمِخْضَبِ وَالْقَدَحِ وَالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ

الشرح:

هذه الترجمة تدل على أنه لا بأس بالوضوء والغسل في أي نوع من الأواني، كالمخضب: وهو يشبه الطست الذي يغسل فيه الثياب، والقدح كذلك: وهو إناء من خشب ضيق الأعلى، وكذلك باقي الأواني من الخشب، أو من الحجارة، أو من الزجاج، أو من النحاس، أو من الحديد، أو من الرصاص، أو من المعدن، أو من أي نوع كان إلا الذهب والفضة، فلا يجوز الوضوء فيهما؛ وكذلك المضبب بهما، إلا ضبة يسيرة من فضة، والضبة اليسيرة: هي التي تتخذ مكان الشق أو الكسر.

المتن:

195 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَضَرَتْ الصَّلاَةُ، فَقَامَ مَنْ كَانَ قَرِيبَ الدَّارِ إِلَى أَهْلِهِ، وَبَقِيَ قَوْمٌ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ، فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، قُلْنَا كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَمَانِينَ وَزِيَادَةً.

الشرح:

 195 قوله: «فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ» ، فيه: دليل على أن الصغير الذي من حجارة يقال له: مخضب، وقد يكون كبيرًا كالذي يغسل فيه الثياب، ويقال له: الطست، كما في الحديث الآخر: بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ [(613)]، وهنا كان صغيرًا حتى إن النبي ﷺ لما أراد أن يبسط يده فيه ما استطاع من صغره.

قوله: «فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ» هذا من معجزات النبي ﷺ، ومن دلائل قدرة الله، وأن الله على كل شيء قدير، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، فهذا إناء صغير صغر أن يبسط فيه النبي ﷺ يده، ما فيه إلا ماء قليل، ثم لما وضع يده نبع الماء من بين أصابعه ﷺ حتى توضأ القوم كلهم، وكانوا ثمانين وزيادة.

وهذه من المعجزات التي اختص الله بها الأنبياء، فتكثير الطعام، وتكثير الماء لا يستطيعها أحد، فالسحرة وإن كان لهم خوارق لكنها مقدورة لجنس الحيوانات والطير؛ فالساحر قد يطير في الهواء، وهذا يشاركه فيه الطير، وقد يغوص في البحر، ويشاركه في هذا الحيتان، لكن معجزات الأنبياء لا يشاركهم فيها غيرهم، وكذلك الإسراء والمعراج فهو من المعجزات الخاصة بالأنبياء، التي لا يمكن أن يشاركهم فيها أحد ممن تجري على يديه الخوارق.

والشاهد هنا: أن النبي ﷺ توضأ من هذا الإناء، وأنه لا بأس بالوضوء من إناء الحجارة وغيرها إلا الذهب والفضة.

المتن:

196 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ»

 الشرح:

196 قوله: «وَمَجَّ فِيهِ» ؛ وذلك لحصول البركة، وفي اللفظ الآخر أنه قال لأبي موسى: اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا [(614)]، وهذا لما جعل الله في جسده ﷺ وما لامس جسده من البركة.

والشاهد: أنه أتي بإناء من ماء فاستعمل هذا الإناء، فيجوز استعمال جميع الأواني إلا الذهب والفضة.

الله عليه وسلم دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ.

 المتن:

197 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ، فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، وَيَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِهِ وَأَدْبَرَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ.

الشرح:

197 الشاهد من هذا الحديث: أنه توضأ من تور من صفر، والتور: هو إناء صغير أصغر من المخضب، وقيل: هو المخضب، وهو الطست.

قوله: «تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ» يعني من نحاس، والأواني من النحاس، أو الحديد، أو الزجاج، أو الخشب، أو الحجارة، كلها لا بأس باستعمالها، والشرب منها، والوضوء، والغسل منها، إلا أواني الذهب والفضة فلا يجوز استعمالها؛ لقول النبي ﷺ: لاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلاَ تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا،؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ [(615)] أي: للكفرة.

وفيه: أن النبي ﷺ توضأ مخالفًا؛ فغسل يديه مرتين وغسل وجهه ثلاثًا، فدل على أنه لا بأس بالمخالفة بين أعضاء الوضوء، أما الرأس فإنه يمسح مرة واحدة.

المتن:

198 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ ﷺ وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِي الأَْرْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَرَجُلٍ آخَرَ.

قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَأَخْبَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الآْخَرُ؟ قُلْتُ: لاَ قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: بَعْدَمَا دَخَلَ بَيْتَهُ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ: هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ. وَأُجْلِسَ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ تِلْكَ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ.

الشرح:

 198 هذا الحديث: حديث مرض موت النبي ﷺ.

وفيه: أن الرجل إذا كان له عدد من الزوجات، ثم مرض فإنه يستأذن بقية أزواجه في أن يكون عند واحدة منهن؛ لأن المريض يشق عليه أن يقسم وأن يتنقل بين أربعة بيوت، فإن لم يأذن فإنه يقرع بينهن، فمن خرجت لها القرعة بقي عندها، وكذلك إذا أراد السفر.

وفيه: حرص النبي ﷺ على الصلاة، وهو مريض ﷺ قال: هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، لعله ينشط ﷺ، وفي اللفظ الآخر: أنهم صبوا عليه وهو في مخضب، ثم أفاق ثم أغمي عليه فقال: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قالوا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، ثم أغمي عليه ثم أفاق فقال: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قالوا: لا يا رسول الله هم ينتظرونك[(616)]. وهكذا مرات يغمى عليه.

وفي هذه الرواية: «تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِي الأَْرْضِ» يعني: من شدة المرض، فالرسول ﷺ مريض، ولكنه تجشم المشقة؛ أخذ بيده العباس وبيده الأخرى علي بن أبي طالب، ورجلاه تخطان في الأرض حتى وصل إلى المسجد ﷺ، والله تعالى يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزَاب: 21].

ففيه: دليل على أهمية صلاة الجماعة؛ ولهذا قال ابن مسعود : «من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم ﷺ سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها ـ يعني الجماعة ـ إلا منافق معلوم النفاق»[(617)] هكذا كان حرصهم ، كان الرجل المريض يؤتى به يُهادى حتى يقام في الصف.

فينبغي للمسلم أن يحافظ على الصلوات الخمس، فإذا كان النبي ﷺ وهو مريض يؤتى به يُهادى، وكان هذا شأن الصحابة ـ كما قال ابن مسعود ـ فكيف يجد الصحيح لنفسه عذرًا في أن يصلي في بيته، ويتشبه بالنساء، ويتشبه بالمنافقين، ويتشبه بالمرضى؟! فالواجب على الرجل الصحيح أن يتقي الله، وأن يصلي في المسجد، وأن يجاهد نفسه.

وفيه من الفوائد: مشروعية العلاج والتداوي؛ فالعلاج والتداوي أفضل من الترك، وإذا ترك العلاج فلا حرج، فالعلاج ليس بواجب بل مستحب، وقال بعض العلماء: إنه مباح على حد سواء، متساوي الطرفين، إن شاء تعالج أو ترك، والصواب أن العلاج أفضل وأنه مستحب؛ لأن النبي ﷺ لما مرض قال: هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، وهذا نوع من العلاج. لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، يعني: سبع قرب ملآنة، والوكاء هو الرباط الذي يربط على فم القربة؛ وكونه اختار سبع قرب، فالسبع عدد له خاصية في الشرع وفي الخلق، فالله تعالى جعل السموات سبعًا، وخلق الأرضين سبعًا، وجعل آيات الفاتحة سبعًا، وجعل الطواف بالبيت سبعًا؛ فلهذا قال النبي ﷺ: هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ​​​​​​​ فالتداوي مستحب.

ولكن لا يجب التداوي؛ فإذا أحب الإنسان أن يبقى ولا يتعالج فلا بأس إذا كان صحيحًا معه عقله فلا يجبر على العلاج، وأما ما يفعله بعض الناس من كونهم يجبرون آباءهم على العلاج وهم لا يريدون فهذا غلط؛ فبعض الناس يصبر على المرض ويحتسب الأجر لا يريد العلاج؛ فكيف يجبر؟!

أما إذا كان في غيبوبة أو ليس معه عقله، فيجتهد وليُّه في ذلك، وينظر هل يعالجه أو لا يعالجه.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد