شعار الموقع

شرح كتاب مواقيت الصلاة من صحيح البخاري (9-2) تابع بَابُ الإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي السَّفَرِ - إلى بَاب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ

00:00
00:00
تحميل
80

وفيه: أن الأذان يؤخر؛ لأنه إذا أراد أن يبرد بالصلاة وقدم الأذان اجتمع الناس؛ ولهذا لما أراد المؤذن أن يؤذن قال له ﷺ: أَبْرِدْ حتى رؤي فيء التلول.

قوله: «أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ» ، وفي الحديث السابق قال: «أذن» [(38)]، والجمع بين الحديثين: أن الحديث الأول فيه أنه بدأ بالأذان فقال له ﷺ: أَبْرِدْ فقطع الأذان، وفي الحديث الثاني أنه أراد أن يؤذن ـ يعني أراد أن يتم الأذان ـ فقال له ﷺ: أَبْرِدْ.

قوله: «فَيْءَ التُّلُولِ» : يعني مالت الشمس إلى الغروب، وحصل الظل.

والمؤذن هنا لا يقيم إلا بإذن النبي ﷺ؛ ففي الحديث الآخر: المُؤَذِّنُ أَمْلَكُ بِالأَذَانِ، وَالإِمَامُ أَمْلَكُ بِالإِقَامَةِ [(39)]، أي: أن الأذان من حق المؤذن؛ ولهذا أذن قبل أن يأمره النبي ﷺ، أما الإقامة فليست من حقه؛ فلا يقيم إلا بأمر الإمام.

ومن ثَمَّ يستحب تأخير الأذان إلى وقت الإبراد؛ أما إذا أذن في أول الوقت اجتمع الناس، وصار عليهم مشقة؛ لأن الأذان دعوة لهم بالحضور.

المتن:

باب وَقْتُ الظُّهْرِ عِنْدَ الزَّوَالِ

الشرح:

في هذا الباب ذكر وقت الظهر بعدما ذكر الإبراد، وكان الأظهر أن يبدأ بذكر وقت الظهر أولاً؛ لأن الإبراد لا يكون إلا بعد دخول الوقت.

وقد جزم المؤلف رحمه الله بالحكم فقال: «بَاب وَقْتُ الظُّهْرِ عِنْدَ الزَّوَالِ» ؛ لأن هذا واضح من النصوص أن وقت الظهر إذا زالت الشمس، ولا إشكال فيه ولا خلاف إلا خلافًا ضعيفًا كما سيأتي.

وعادة المؤلف رحمه الله أنه لا يجزم بالحكم إلا إذا كان الدليل واضحًا، وإذا كان الدليل غير واضح يترك الترجمة.

المتن:

وَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي بِالْهَاجِرَةِ

540 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ فَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ، فَلاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ وَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِْسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ فَلَمْ أَرَ كَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

الشرح:

540 في الحديث: أن وقت الظهر إذا زالت الشمس، لقول أنس : «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ» ، زاغت يعني: مالت للغروب؛ فوقت الظهر إذا مالت الشمس.

قوله: «فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ» فيه: مشروعية صعود المنبر عند وعظ الناس ولو في غير الجمعة إذا حدث أمر حتى يكون مرتفعًا فيسمعه الناس.

قوله: «فَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا» ؛ يعني: الساعة، وأنه يسبقها أمور عظام، من ذلك أشراط الساعة الكبار، وأشراط الساعة الصغار.

ومن أشراط الساعة الصغار: ما حدث الآن من تقارب الأسواق، ومنها المخترعات الحديثة، كالطائرات، والسيارات، والهاتف.

قوله ﷺ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ فَلاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي، السبب في هذا أنه ﷺ كان مغضبًا ـ وكأن بعض الناس أغضبه ـ أو أرادوا أن يسألوه من باب التعجيز؛ فأوحى الله إليه في مقامه أنه لا يُسأل عن شيء إلا أخبرهم به، فهذا بوحي من الله .

قوله: «فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ» ؛ لأنهم علموا أن الرسول ﷺ غضبان، ولهذا قال أنس في الحديث الآخر ـ وكان صغير السن قارب البلوغ ـ: «لم أر أحدًا من أصحاب رسول الله إلا قد لف على وجهه ثوبًا وهو يبكي، لهم خنين من البكاء» [(40)] لأنهم خافوا من أن تنزل عقوبة لما رأوا الرسول ﷺ مغضبًا.

قوله: «وَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي فقام رجل يسمى عبدالله بن حذافة السهمي ـ وكان عند الملاحاة وعند الخصومة ينسب إلى غير أبيه ـ فأراد أن يعلم من أبوه، فقال: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ فثبت نسبه، وجاء في بعض الروايات أن أمه قالت: «ما رأيت ولدًا أعق منك! ألا تخشى أن تكون أمك قد قارفت بعض ما يقارف بعض أهل الجاهلية فتفضح أمك»، يعني لو نسبك إلى غير أبيك! فقال: «لو ألحقني بعبد أسود للحقته» [(41)]. يعني :أن أمه بينت له: أما تخشى أن تكون أمك وقعت فيما وقعوا، وقارفت ما يقارف بعض أهل الجاهلية ـ لأنهن في الجاهلية كن يقعن في الفحشاء ـ فينسبك إلى غير أبيك فتكون فضحت أمك، فقال: «لو ألحقني بعبد أسود للحقته»؛ لأن بعض الناس كانوا يطعنون في نسبه، وكانوا عند الملاحاة والخصومة ينسبونه إلى غير أبيه، فأراد أن يتثبت نسبه.

ولما أكثر ﷺ أن يقول: سَلُونِي، عرف ذلك عمر ، وجاء وبرك على ركبتيه وقال: «رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِْسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا» ، وفي اللفظ الآخر أنه قال: «نعوذ بالله من الفتن، رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا» [(42)]، حتى سكت غضب النبي ﷺ، ثم قال: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ فَلَمْ أَرَ كَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ؛ هذا معناه أنه صورت ومثلت له الجنة والنار أمامه في عرض الحائط.

وفي الحديث: إثبات الجنة والنار وأنهما موجودتان الآن؛ وفيه الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن الجنة والنار إنما تخلقان يوم القيامة، ووجودهما الآن ولا جزاء عبث، والعبث محال على الله .

وقولهم: إنهما معطلتان هذا من أبطل الباطل! فالجنة والنار ليس وجودهما عبثًا الآن، فالجنة فيها أرواح المؤمنين تنعم وفيها الحور العين، وكذلك النار فيها أرواح الكفرة تعذب، والنصوص أيضًا دلت على أنهما أعدتا وهُيِّئَتَا وأرصدتا، وأنه يفتح للمؤمن باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها في القبر، ويفتح للكافر باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها.

كما أن النبي ﷺ أيضًا كشف له عن الجنة والنار في صلاة الكسوف فتقدم حين تدلى له عنقود من عنب، فأراد أن يأخذه وتقدمت الصفوف، وتأخر ﷺ حين قربت له النار وتأخرت الصفوف.

والشاهد من الحديث: قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ» ، فدل على أن وقت الظهر عند الزوال، يعني: إذا زالت الشمس في الهاجرة، يعني عند الظهيرة.

المتن:

541 حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي الصُّبْحَ وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ وَيَقْرَأُ فِيهَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ وَيُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَالْعَصْرَ وَأَحَدُنَا يَذْهَبُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجَعَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ وَلاَ يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ: إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ وَقَالَ مُعَاذٌ: قَالَ شُعْبَةُ: لَقِيتُهُ مَرَّةً فَقَالَ: أَوْ ثُلُثِ اللَّيْلِ.

الشرح:

541 في هذا الحديث: بيان أوقات الصلوات الخمس.

قوله: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي الصُّبْحَ وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ» ، يعني: أنه إذا صلى الفجر وانصرف الناس كان كل واحد يعرف من بجواره، يعني أنه قد زالت ظلمة الليل؛ وهذا لأنهم كانوا يصلون في الظلام؛ إذ لم يكن هناك كهرباء ولا مصابيح.

وجاء في الحديث الآخر: «والصبح كان يصليها بغلس» [(43)]؛ والغَلَس هو: اختلاط ضياء الصبح بظلام الليل، فإذا انصرف من الصلاة صار الرجل يعرف جليسه، وصار كل واحد يرى من بجواره؛ لوجود النور وضياء الصبح.

وجاء في الحديث الآخر: «وكان ﷺ يصلي معه نساء متلفعات بمروطهن، ما يعرفهن أحد من الغلس» [(44)]؛ يعني: من اختلاط الصبح بظلمة الليل، ومن المعلوم أن الوقت لا يدخل إلا إذا طلع الصبح، والصبح كما جاء في الحديث الآخر: يرى بجهة المشرق ينتشر [(45)]، يعني: هذا هو الفجر الصادق فينتشر ضياؤه، أما الفجر الكاذب فيكون قبل الوقت بساعة أو نصف ساعة ضياء مثل ذنب السرحان في وسط السماء ثم يزول، فلا تصح الصلاة إلا إذا دخل الوقت، والمعنى أنه ﷺ كان يبادر بالصلاة عند انشقاق الصبح وظهوره وتبينه.

وكان ﷺ يبكر بها في عرفة وفي المزدلفة في الحج كما قال ابن مسعود : ما رأيت النبي ﷺ صلى صلاة لغير ميقاتها إلا الفجر يوم عرفة[(46)]، أي: غير: الميقات المعتاد؛ لأنه في غير هذا الوقت كان يتأخر بعض الشيء حتى إذا انشق الصبح صلى ركعتين، ثم جاء بلال فآذنه بالصلاة فصلى ركعتي الفجر، أما في مزدلفة فإنه ﷺ صلاها من أول انشقاق الفجر حتى يتسع الوقت للوقوف بمزدلفة؛ لأن الوقوف إنما يبدأ بعد الصلاة.

وأما ما ثبت في الصحيحين أن النساء كن يشهدن مع النبي ﷺ الفجر متلفعات بمروظهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حيث يقضين الصلاة لا يعرفهن أحدٌ من الغلس[(47)]، فليس فيه دليل على كشف الوجه، فالمرأة قد تعرف ولا تكون كاشفة الوجه، وستر الوجه وجوبه معروف من النصوص الأخرى، فهذا حديث مجمل فلا يُتعلق به ويُترك الحديث الصريح، قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزَاب: 53]، وفي «صحيح البخاري» في قصة الإفك قالت عائشة رضي الله عنها: «فخمرت وجهي بجلبابي وكان صفوان بن المعطل يعرفني قبل الحجاب» [(48)] فدل على أن النساء قبل الحجاب يكشفن الوجوه،وبعد الحجاب يخمرن الوجوه، فلا إشكال؛ فأحاديث ستر الوجه صريحة واضحة، وهذا عام، فقوله: « لا يعرفهن أحد» ، يشمل بعضهن بعضًا، وكذلك غيرهن.

وأكثر حالات صلاة النبي ﷺ للفجر بغلس، يعني أنه كان يبادر ويتحقق طلوع الفجر، وبعض الناس الآن يبادر جدًّا، لأن الأذان الآن على التقويم والتقويم، فيه تقدم يسير ـ فهو مقارب ـ فينبغي للإنسان أن يتمهل، ولا ينبغي للإنسان أن يسابق الوقت، فلابد من تحقق طلوع الفجر.

قوله: «وَيُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ» ؛هذا هو الشاهد، فإذا زالت الشمس دخل وقت الظهر.

قوله: «وَالْعَصْرَ وَأَحَدُنَا يَذْهَبُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجَعَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ» ، فيه: دليل على التبكير بصلاة العصر؛ وسيأتي في الحديث الآخر: «أنهم يصلون مع النبي ﷺ العصر ويذهب أحدهم إلى بني عمرو ـ أي: حوالي ثلاثة أميال أو أربعة أميال» [(49)] الميل يقارب كيلو متر ونصف الكيلو يعني تقريبًا خمسة كيلو مترات ـ والشمس مرتفعة، وسيأتي أيضًا أن عائشة رضي الله عنها حدثت: «أن النبي ﷺ كان يصلي العصر والشمس في حجرتها» [(50)] فهذا دليل على أنه كان ﷺ يبكر بصلاة العصر.

وقوله: «وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ» ، جاء في الحديث الآخر: «والمغرب إذا وجبت»، يعني: إذا غابت الشمس[(51)].

وقوله: «وَلاَ يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ: إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ وَقَالَ مُعَاذٌ: قَالَ شُعْبَةُ: لَقِيتُهُ مَرَّةً فَقَالَ: أَوْ ثُلُثِ اللَّيْلِ» يعني: أنه قد يؤخرها أحيانًا، وجاء في الحديث الآخر: «والعشاء أحيانًا إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا أخر» [(52)]. وجاء في بعض الأحاديث أن النبي ﷺ تأخر مرة عن العشاء حتى نام الناس، فجاءه عمر وقال: يا رسول الله نام النساء والصبيان، فخرج ورأسه يقطر ماء وقال: إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي [(53)] يعني: أنه وقتها الأفضل، لكن في مساجد المدن والقرى لا تؤخر الصلاة؛ لأن هذا فيه مشقة على الناس، لكن لو كان هناك قرية صغيرة محصور، أو مزرعة، أو مسافرون واتفقوا على أن يؤخروها إلى ثلث الليل فهو الأفضل، وكذلك إذا أخرتها المرأة وليس عليها مشقة فلا بأس، ولكن لا تؤخر تأخيرًا يخرجها عن الوقت؛ لأن الوقت يخرج بعد نصف الليل كما جاء في الحديث الآخر: «والعشاء إلى نصف الليل» [(54)] يعني: إذا انتصف الليل خرج الوقت، فلا يجوز أن تتأخر إلى نصف الليل، بل تصلي قبل نصف الليل، والباقي وقت الضرورة.

ووقت ثلث الليل أو نصف الليل يختلف في الصيف والشتاء؛ لأن الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فإذا كان أذان المغرب في الشتاء في الخامسة وخمس دقائق، والفجر في الخامسة والربع، يكون الليل اثنتي عشرة ساعة إلا الربع، يعني : نصف الليل ست ساعات تقريبا فيكون وقت العشاء حتى الحادية عشرة والنصف تقريبًا؛ فإذا أخرت للحادية عشرة فلا بأس.

لكن وقت الليل في الصيف أقل، فقد يكون أذان المغرب في السابعة أو السابعة إلا الربع، وأذان الفجر في الثالثة والنصف، فيكون الليل ثمان ساعات تقريبًا؛ فيكون نصف الليل أربع ساعات.

والمقصود أن وقت العشاء إلى نصف الليل، وهذا يختلف بطول الليل وقصره، ولا يجوز التأخير إلى ما بعد نصف الليل، بل تُصلى قبل ذلك؛ وإذا أخرها إلى ثلث الليل الأول كان ذلك أفضل إذا لم تكن هناك مشقة؛ أما المدن والقرى فيصلون في أول الوقت؛ لأن التأخير فيه مشقة على الناس؛ لأن الناس عادة يكون فيهم المريض، وفيهم من ينام مبكرًا، وفيهم أصحاب الحاجات.

وأما عن حديث: أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ [(55)] ففيه كلام، وإذا صح فقد حمله بعضهم على أن المعنى: تبينوا الصبح، وإلا فما في الصحيحين مقدم، وفيهما أن النبي ﷺ كان يصليها بغلس[(56)].

المتن:

542 حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنِي غَالِبٌ الْقَطَّانُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالظَّهَائِرِ فَسَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الْحَرِّ.

الشرح:

542 قوله: «بِالظَّهَائِرِ» ، جمع ظهيرة، وهي الهاجرة، وفيه دليل على أنهم كانوا يصلون بعد أن يبردوا، ولا يعني الإبراد ذهاب الحر، بل الحر موجود حتى العصر وحتى بعد العصر، إنما المراد انكسار شدة الحر.

 مسألة:

ذهب الشارح رحمه الله إلى أن الحديث فيه المبادرة بصلاة الظهر ولو كان في شدة الحر، ففهم من قوله في الحديث: «كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالظَّهَائِرِ» أنه بادر في شدة الحر، وأن هذا الحديث فيه دليل على الصلاة في أول وقتها،وليس فيه إبراد؛ وأحاديث الإبراد محمولة على الأفضل، وهذا محمول على الجواز.

 الجواب: أن قوله: «صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالظَّهَائِرِ» ، لا ينافي الإبراد، وإنما المعنى أنهم صلوا وأبردوا، ولكن مع ذلك لا يزال الحر موجودًا؛ فإن الإبراد لا يعني ذهاب الحر بالمرة، وإنما المعنى انكسار شدة الحر بوجود الظل.

وفيه: دليل على جواز السجود على طرف الثوب أو الكم أو العمامة؛ لاتقاء شدة الحر إذا كانت الأرض حارة أو باردة، لكن عند عدم الحاجة تكون مباشرة المصلي بجبهته الأرض هو الأولى والأفضل.

مسألة:

ذكر بعض الفقهاء أن الإنسان ليس له أن يصلي على شيء يتحرك بحركته مثل الثوب والكم. وكان الصحابة يصلي أحدهم ويسجد على طرف ردائه من شدة الحر، فإذا كان لحاجة فلا بأس، أما إذا لم يكن لحاجة فلا ينبغي، والترك أولى.

والناسي لا حرج عليه، فإن انتبه فأولى أن يباشر المصلى بجبهته، سواء كان المصلَّى أرضًا أو سجادة مفروشةً، والنبي ﷺ صلى على الأرض، وصلى على البساط، وصلى على الحصير؛ فالأمر في هذا واسع.

المتن:

باب تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ

543 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ.

فَقَالَ أَيُّوبُ: لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ قَالَ: عَسَى.

الشرح:

543 هذا الحديث أشكل على العلماء؛ لأن فيه أنه صلى بهم سبعًا وثمانيًا، أي جمع بين الظهر والعصر وجمع بين المغرب والعشاء.

وقوله: «فَقَالَ أَيُّوبُ: لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ قَالَ: عَسَى» ، جاء في الحديث الآخر: «أنه جمع بينها من غير خوف ولا سفر» [(57)]، وفي الحديث الآخر: «من غير خوف ولا مطر» [(58)] فأشكل هذا على العلماء، وأصح ما قيل في الجواب عنه جوابان:

الجواب الأول: أنه جمعٌ صوري ـ يعني في الصورة ـ والمعنى أنه أخَّر الظهر إلى آخر وقتها، فلما صلى أربع ركعات دخل وقت العصر فصلى العصر في أول وقتها، فصارت كل صلاة في وقتها والجمع في الصورة فقط، وكذلك أخر المغرب إلى قرب مغيب الشفق بمقدار ثلاث ركعات، فصلى المغرب فلما صلى المغرب غاب الشفق ودخل وقت العشاء فصلى العشاء، فكل صلاة وقعت في وقتها ولكن الجمع في الصورة.

هذا أصح ما قيل، وجاء في هذا حديث رواه النسائي رحمه الله[(59)]: أن النبي ﷺ أخر الظهر إلى آخر وقتها، وقدم العصر في أول وقتها، وأخر المغرب إلى آخر وقتها، وقدم العشاء في أول وقتها.

الجواب الثاني: أنه جمع لعذر مرض، أو مطر، أو دحر. فلعل ذلك لمرض ووباء أصاب المدينة، أو لغير ذلك من الأعذار.

والسبب الذي دعا لهذا التأويل أن أحاديث مواقيت الصلاة محكمة وهي: الظهر عند زوال الشمس، والعصر عندما يصير ظل كل شيء مثله، والمغرب إذا غابت الشمس، والعشاء إذا غاب الشفق، والفجر إذا طلع الفجر.

والأحاديث مُوقَّتة: فقد جاء جبريل وصلى بالنبي ﷺ في يومين متواليين: اليوم الأول صلى الصلوات في أول وقتها، واليوم الثاني في آخر وقتها؛ فلما كانت الصلوات موقتة وهذا الحديث يخالفها اضطر العلماء إلى تأويل هذا الحديث؛ فالأصل أن الصلوات تصلى في ميقاتها فلا يعدل عنها، ومن خالفها فهو لسبب أو لعذر.

وقد دلت النصوص على أن الجمع بين الصلاتين من غير عذر من كبائر الذنوب، والنسائي رحمه الله روى هذا الحديث وذكر أنه جمع جمعًا صوريًّا، وهو أنه أخّر الظهر في آخر وقتها، وقدم العصر في أول وقتها، وأخّر المغرب في آخر وقتها، وقدم العشاء في أول وقتها؛ وعلى هذا فيكون الحديث لا إشكال فيه؛ لأن كل صلاة في وقتها، ويكون تأخير كل من الظهر والمغرب إلى آخر وقتها لسبب وعذر اقتضى ذلك.

وقد تعلق الشيعة بهذا الحديث في جمعهم الصلوات، فبعض الشيعة يجمع الصلوات الخمس كلها في وقت واحد، ولا حجة لهم في ذلك؛ فإن أحاديث مواقيت الصلوات محكمة، فيجب العمل بها، فإذا قالوا: الحديث دليلٌ لنا على الجمع بين الصلوات، نقول لهم: الرسول ﷺ وقَّت الصلوات، وأحاديث التوقيت محكمة وهذا الحديث مشتبه، ولا يَتعلق بالمشتبه ويَترك المحكم إلا أهل الزيغ، قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عِمرَان: 7].

فالأحاديث صريحة بأن وقت الظهر إذا زالت الشمس والعصر إذا صار ظل كل شيء مثله، والمغرب إذا وجبت الشمس، وهكذا فترك هذا المحكم وتعلق بهذا الحديث المتشابه «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا»؛ لأن في قلبه زيغًا، أما أهل الحق فيفسرون المتشابه بالمحكم، ويردونه إليه.

وكذلك أيضًا من أهل الزيغ من يقول: كشف الوجه جائز، والدليل قصة الخثعمية وأنه كان ينظر إليها الفضل وتنظر إليه! فنقول له: تتعلق بحديث الخثعمية وتترك الأحاديث والنصوص الصريحة كقوله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزَاب: 53]، وحديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود رحمه الله: «كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله ﷺ محرمات، فإذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه» [(60)] وحديث عائشة رضي الله عنها في «صحيح البخاري» قالت: «فلما استيقظت باسترجاع صفوان، خمرت وجهي بجلبابي، وكان يعرفني قبل الحجاب» [(61)] والآية الكريمة: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ [الأحزَاب: 59]؟! لكن أهل الحق يفسرون حديث الخثعمية فيردونه إلى المحكم؛ فطريقة أهل الحق أنهم يردون المتشابه إلى المحكم ويفسرونه به، والنصوص لا تتناقض.

وأما أهل الزيغ فيأخذون بالمتشابه ويتركون المحكم، فنقول للشيعة: أنتم من أهل الزيغ تتعلقون بهذا الحديث: «صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا» ، وتتركون النصوص المحكمة في توقيت الصلاة، وأحسن ما يحمل عليه هذا الحديث ـ كما سبق ـ أنه جمعٌ صوري، كما جاء هذا في حديث رواه النسائي رحمه الله[(62)] من طرق؛ وعليه فلا إشكال لأنه صلى كل صلاة في وقتها، ويحتمل أن يكون النبي ﷺ جمع بينهما لعذر من مرض أو دحض أو برد شديد، وعلى كل حال فإن النبي ﷺ إنما فعل هذا مرة واحدة في المدينة، قال ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل: أراد ألا يحرج أمته، يعني أن يرفع الحرج عن أمته.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «عَسَى» ، أي أن يكون كما قلت، واحتمال المطر قال به أيضًا مالك رحمه الله عقب إخراجه لهذا الحديث عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه، وقال بدل قوله: «بالمدينة» : «من غير خوف ولا سفر» [(63)].

قال مالك رحمه الله: لعله كان في مطر؛ لكن رواه مسلم وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير بلفظ: «من غير خوف ولا مطر» [(64)]، فانتفى أن يكون الجمع المذكور للخوف أو السفر أو المطر. وجوز بعض العلماء أن يكون الجمع المذكور للمرض، وقواه النووي، وفيه نظر؛ لأنه لو كان جمعه ﷺ بين الصلاتين لعارض المرض لما صلى معه إلا من به نحو ذلك العذر، والظاهر أنه ﷺ جمع بأصحابه، وقد صرح بذلك ابن عباس في روايته.

قال النووي رحمه الله: «ومنهم من تأوله على أن الجمع المذكور صوري بأن يكون أخَّر الظهر إلى آخر وقتها وعجل العصر في أول وقتها. قال: وهو احتمال ضعيف أو باطل؛ لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل».

هذا ما قاله النووي رحمه الله، والصواب أن أصح ما قيل فيه: أنه جمعٌ صوري؛ لأنه جاء في النسائي من طرق ثابتة، والأحاديث يفسر بعضها بعضًا.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وهذا الذي ضعفه استحسنه القرطبي، ورجحه قبله إمام الحرمين، وجزم به من القدماء ابن الماجشون والطحاوي».

وهذا هو الصواب؛ فتضعيف النووي لا وجه له؛ لأن الحديث ثابت في سنن النسائي، والحديث يفسر بالحديث، وأصح ما يفسر به كلام رسول الله ﷺ هو كلام رسول الله ﷺ.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقواه ابن سيد الناس بأن أبا الشعثاء، وهو راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به، وذلك فيما رواه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار، فذكر هذا الحديث وزاد: «قلت: يا أبا الشعثاء، أظنه أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب، وعجل العشاء؛ قال: وأنا أظنه» [(65)] قال ابن سيد الناس: وراوي الحديث أدرى بالمراد من غيره. قلت: لكن لم يجزم بذلك، بل لم يستمر عليه، فقد تقدم كلامه لأيوب، وتجويزه لأن يكون الجمع بعذر المطر، لكن يقوي ما ذكره من الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها تعرض لوقت الجمع، فإما أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الإخراج، ويجمع بها بين مفترق الأحاديث والجمع الصوري أولى، والله أعلم».

وهذا هو الصواب.

قال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله: «هذا الجمع ضعيف، والصواب حمل الحديث المذكور على أنه ﷺ جمع بين الصلوات المذكورة لمشقة عارضةٍ ذلك اليوم،من مرضٍ غالب، أو برد شديد، أو وحل، ونحو ذلك؛ ويدل على ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن علة هذا الجمع فقال: لئلا يحرج أمته، وهو جواب عظيم سديدٌ شافٍ، والله أعلم»[(66)].

هذا كلام سماحة الشيخ أن الجمع الصوري ضعيف، وأنا قرأت عليه «سنن النسائي» من أوله لآخره وفيه الحديث، فسألته عنه رحمه الله فقال عن التعليق السابق: «إنما قلت هذا قبل أن أطلع على حديث النسائي الذي فيه الجمع الصوري، والأرجح عندي الآن أنَّ أَحسَنَ ما أجيب به عن الحديث أنه جمع صوري لحديث النسائي؛ لأن الأحاديث يُفسَّر بعضها بعضًا ويضم بعضها إلى بعض».

هذا كلام سماحة الشيخ رحمه الله بعد ما اطلع على الحديث الذي عند الإمام النسائي، فهذا آخر كلامه في المسألة رحمه الله؛ فعلى هذا يكون أرجح ما قيل فيها: إنه جمع صوري؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، وأن هذا التأخير لآخر وقت الصلاة لحاجة أو شغل شغله.

المتن:

باب وَقْتُ الْعَصْرِ

وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: عَنْ هِشَامٍ مِنْ قَعْرِ حُجْرَتِهَا

544 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا.

545 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا لَمْ يَظْهَرْ الْفَيْءُ مِنْ حُجْرَتِهَا.

546 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي صَلاَةَ الْعَصْرِ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي لَمْ يَظْهَرْ الْفَيْءُ بَعْدُ وَقَالَ مَالِكٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَشُعَيْبٌ وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ: وَالشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها بيان وقت العصر، فوقت العصر يتبين من الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله أنه من خروج وقت الظهر إلى اصفرار الشمس، فدخول وقت العصر هو أن يصير ظل كل شيء مثله بعد فيء الزوال ـ أي يصير ظل الشيء مثله زيادة على فيء الزوال ـ فإذا كان كذلك خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر.

قوله: «وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: عَنْ هِشَامٍ مِنْ قَعْرِ حُجْرَتِهَا» ، الصواب تأخيره عن الإسناد الموصول.

544 قوله: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا» ؛ لأنها إذا خرجت صارت في رؤوس الجدران، وهذا دليل على أنه كان يبكر بها.

545 قوله: «لَمْ يَظْهَرْ الْفَيْءُ مِنْ حُجْرَتِهَا» ؛ لأنه إذا ارتفعت الشمس ظهر الفيء وإذا بقيت لم يكن هناك فيء.

546 قول عائشة رضي الله عنها: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي صَلاَةَ الْعَصْرِ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي لَمْ يَظْهَرْ الْفَيْءُ بَعْدُ» ، يعني: باقية في الحجرة؛ لأنها إذا ارتفعت ومالت إلى جهة الغروب نزل الفيء وخرجت الشمس من حجرتها، أما إذا لم ترتفع فهي باقية، وهذا دليل على التبكير بها؛ لأن الحجرة صغيرة ليست بواسعة،فلو ارتفعت قليلاً خرجت من الحجرة، فلما كانت الشمس ساقطة في الحجرة دل على تبكيره ﷺ بصلاة العصر في أول وقتها، ودل هذا على استحباب التبكير بصلاة العصر.

المتن:

547 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ عَنْ سَيَّارِ بْنِ سَلاَمَةَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَْسْلَمِيِّ فَقَالَ لَهُ أَبِي: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ فَقَالَ: كُانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُْولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ وَيُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ وَيَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ.

الشرح:

547 قوله في حديث أبي برزة الأسلمي: «كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟» ، فيه بيان تحديد الأوقات المكتوبة التي فرضها الله وكتبها على العباد، وهي الصلوات الخمس.

وقوله: «كُانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ» ؛ الهجير: هي الظهر، سميت بالهجير، لأن لها صلة بالهاجرة.

وقوله: «الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُْولَى» ، سميت الأولى؛ لأنها أول الصلاة النهارية، أو لأنها أول صلاة أمَّ بها جبريلُ النبيَّ ﷺ.

وقوله: «حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ» ، أي: زاغت، ودحضت ومالت بمعنى واحد، أي: حين تزول الشمس.

وقوله: «وَيُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِوَالشَّمْسُ حَيَّةٌ» ، فيه: دليل على التبكير بصلاة العصر؛ لأنه يصلي العصر ويذهب الذاهب إلى أقصى المدينة ويرجع والشمس حية.

وقوله: «وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ» ، في اللفظ الآخر أنه قال: «والمغرب إذا وجبت» [(73)] يعني: غابت الشمس.

قوله: «وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ» ، يعني: الأفضل تأخيرها إذا لم يكن هناك مشقة؛ أما إذا كانت مشقة ولا ضرورة فلا تؤخر؛ وقد جاء في الحديث الآخر النهي عن تسميتها العتمة، فقال ﷺ: لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمُ الْعِشَاءِ، فَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللهِ الْعِشَاءُ، وَإِنَّهَا تُعْتِمُ بِحِلَابِ الْإِبِلِ [(74)] فلا بأس أن تسمى بالعتمة أحيانًا؛ لكن ينبغي ألا يكون هو الغالب، بل الغالب تسميتها بالعشاء.

وقوله: «وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا» . هذه الكراهة كراهة تنزيه عند أهل العلم؛ والكراهة إذا أطلقت في الكتاب والسنة فالمراد بها التحريم، لكن أحيانًا يراد بها التنزيه كما في هذا الموضع؛ والفقهاء والمتأخرون إذا قالوا يكره يقصدون به كراهة التنزيه ـ وهو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله ـ والدليل على أن الكراهة في الكتاب والسنة المراد بها كراهة التحريم، على الأصل: أنه لما ذكر الله تعالى المحرمات العظيمة :الشرك، وعقوق الوالدين،والزنا،وتطفيف المكيال والميزان، قال: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسرَاء: 38]، يعني: محرمًا؛ وفي الحديث: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ [(75)] يعني: حرم.

قوله: «وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا» ، يعني: بين العشاءين؛ لأنه يؤدي إلى تأخير صلاة العشاء أو تركها.

قوله: «وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا» يعني المجالس بعد العشاء مكروهة، لأنها تؤدي أيضًا إلى تأخير صلاة الصبح، وجاء الاستثناء للسمر مع الأهل؛ فقد كان النبي ﷺ يسمر مع أهله، ويسمر مع الضيف، وفي المشاورة في أمور المسلمين، أو في طلب العلم إذا لم يؤد إلى تأخير صلاة الصبح. أما مثل حديث الناس إذا كان في قيل وقال، وإضاعة وقتل الأوقات بدون فائدة فمكروه؛ ولما فيها من الغيبة والنميمة، وإن أوى سهر إلى إقامة صلاة الفجر صار محرما.

وقوله: «وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ» ، يعني: يسلم من صلاة الفجر.

وقوله: «حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ» ، يعني إذا صار الواحد يعرف من بجواره؛ إذ لم يكن كهرباء ولا أنوار.

وقوله: «وَيَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ» ، فيه أن السنة الإطالة في القراءة في صلاة الفجر، فيقرأ بستين آية إلى مائة آية، وكثير من الأئمة أضاع هذه السُّنة، فيقرأ آيتين، أو ثلاث، أو أربع! والله تعالى قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسرَاء: 78]، يعني: سمى صلاة الفجر قرآنًا؛ لأن أطول ما فيها القراءة.

والشاهد من الحديث قوله: «وَيُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ» ، والمعنى: أن النبي ﷺ كان يبكِّر بالعصر.

المتن:

548 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَخْرُجُ الإِْنْسَانُ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَنَجِدُهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْرَ.

الشرح:

548 وأما قوله في حديث أنس: «بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ» في قباء، وهي على مسافة ميلين من المدينة ـ والميل يقارب كيلو متر ونصف الكيلو أو اثنين كيلو متر إلا ثلثًا ـ يعني أنهم على مسافة ثلاثة كيلومترات تقريبا، وهذا يدل على التبكير؛ لأنهم يصلون مع الرسول ﷺ، ثم يذهبون إلى بني عمرو في قباء فيجدونهم يصلون، وتأخير بني عمرو للصلاة، لأنهم كانوا أهل حراثة وفلاحة، والعادة أن الحراثين والفلاحين يتأخرون لانشغالهم بأعمالهم، أما النبي ﷺ فإنه يبكِّر.

المتن:

549 حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ يَقُولُ: صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الظُّهْرَ ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ فَقُلْتُ: يَا عَمِّ مَا هَذِهِ الصَّلاَةُ الَّتِي صَلَّيْتَ؟ قَالَ: الْعَصْرُ وَهَذِهِ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّتِي كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ.

الشرح:

549 وقوله في حديث أبي أمامة: «صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الظُّهْرَ» هذا لما كان عمر بن عبد العزيز أميرًا على المدينة في زمن الوليد بن عبدالملك فكان يؤخِّر الظهر على عادة بني أمية؛ ثم لما تولى الخلافة وتبينت له السُّنة صلى الصلاة في وقتها بدون تأخير، وكان بنو أمية مشهورين بتأخير الصلاة عن وقتها؛ ولهذا لما صلوا مع عمر بن عبدالعزيز الظهر ودخلوا على أنس وجدوه يصلي العصر، فسأله أبو أمامة فقال: «يَا عَمِّ مَا هَذِهِ الصَّلاَةُ الَّتِي صَلَّيْتَ؟ قَالَ: الْعَصْرُ وَهَذِهِ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» ، فهذا دليل على أن بني أمية كانوا يؤخِّرون صلاة الظهر إلى قرب العصر.

أما عن صلاة أنس في بيته، فهذا لأنه معذور، فهو مريض كبير السن طالت حياته وجاوز المائة، فصلى الصلاة لأول وقتها؛ وهم يؤخرون الصلاة عن وقتها.

المتن:

باب وَقْتُ الْعَصْرِ

550 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ ابْنُ مَالِكٍ قَالَ: كُانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ أَوْ نَحْوِهِ.

الشرح:

قوله: «بَاب وَقْتُ الْعَصْرِ» : قال ابن حجر في «الفتح»: «كذا وقع في رواية المستملي دون غيره، وخطأ لأنه تكرار بلا فائدة».

550 قوله: «وَبَعْضُ الْعَوَالِي» ، وفي رواية: «وبُعْد العوالي» [(76)] هذا الحديث فيه دليل على التبكير بصلاة العصر؛ لأنهم كانوا يصلون مع النبي ﷺ ويذهب الذاهب إلى العوالي على مسافة أربعة أميال من المدينة، يعني ستة كيلو مترات تقريبًا والشمس مرتفعة.

المتن:

551 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ مِنَّا إِلَى قُبَاءٍ فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ.

الشرح:

551 في الحديث: دليل على التبكير بصلاة العصر، فأهل قباء كانوا على مسافة ميلين من المدينة، أي ثلاثة كيلو مترات تقريبًا.

وتكلم الحافظ ابن رجب رحمه الله في تعليقه على هذا الحديث فقال: «وقد اختلفت مسالك العلماء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا، في الجمع من غير خوف ولا سفر، ولهم فيه مسالك متعددة:

المسلك الأول: أنه منسوخ بالإجماع على خلافه، وقد حكى الترمذي في آخر كتابه أنه لم يقل به أحدٌ من العلماء».

ثم قال رحمه الله: « المسلك الثاني: معارضته بما يخالفه، وقد عارضه الإمام أحمد بأحاديث المواقيت، وقوله: الوقت ما بين هذين [(67)] وبحديث أبي ذر في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وأمره بالصلاة في الوقت[(68)]، ولو كان الجمع جائزًا من غير عذر لم يحتج إلى ذلك؛ فإن أولئك الأمراء كانوا يجمعون لغير عذرٍ، ولم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل، ولا صلاة الليل إلى النهار».

ولأنه حذر من أن الأمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، قال: سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ، فصَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ [(69)] فهذا يدل على أنه لا يجوز التأخير.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وقد عارض بعضهم حديث ابن عباس هذا بحديث آخر يروى عنه، وقد أشار إلى هذه المعارضة الترمذي وابن شاهين، وهو من رواية حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ، قال: مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الكَبَائِرِ. خرجه الترمذي[(70)]. وقال: حنش هذا هو أبو علي الرحبي، وهو حسين بن قيس، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره، والعمل على هذا عند أهل العلم. يعني: على حديث حنش مع ضعفه. وخرجه الحاكم وصححه[(71)]، ووثق حنشًا، وقال: هو قاعدة في الزجر عن الجمع بلا عذر. ولم يوافق على تصحيحه. وقال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل. ورواه بعضهم، وشك في رفعه ووقفه».

ثم قال رحمه الله: « المسلك الثالث: حمله على أن النبي ﷺ أخر الظهر إلى آخر وقتها».

وهذا هو الجمع الصوري.

ثم قال رحمه الله: « المسلك الرابع: أن ذلك كان جمعًا بين الصلاتين لمطر، وهذا هو الذي حمله عليه أيوب السختياني كما في رواية البخاري، وهو الذي حمله عليه مالك أيضًا».

ثم رحمه الله: «وقيل لأحمد: فيجمع بينهما بعد مغيب الشفق؟ قال: لا، إلا قبل، كما فعل ابن عمر. وقال: يجمع إذا اختلط الظلام، وأما الجمع بين الظهر والعصر في المطر، فالأكثرون على أنه غير جائز».

ثم رحمه الله: « المسلك الخامس: أن الذي نقله ابن عباس عن النبي ﷺ إنما كان في السفر لا في الحضر، كما في رواية قرة، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن ذلك كان في غزوة تبوك، وقد خرجه مسلم كما تقدم».

ثم قال رحمه الله: « المسلك السادس: أن جمعه ذلك كان لمرض، وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال: هذا عندي رخصة للمريض والمرضع».

ثم قال رحمه الله: « المسلك السابع: أن جمعه كان لشغل، وفي رواية حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أنه جمع من شغل، كما خرجه النسائي[(72)]؛ وقد سبق».

يعني إما أنه نُسِخَ، أو أنه جَمْع صوري، أو أنه لمرض، أو لمطر، أو لسفر، أو لشغل، أو أنه معارض بالأوقات، وأرجح ذلك ـ كما سبق ـ أنه جمع صوري، ووجه ترجيحه أنه جاء فيه صريح الأحاديث، وأحسن ما يفسر الحديث بالحديث.

المتن:

باب إِثْمُ مَنْ فَاتَتْهُ الْعَصْرُ

552 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان حكم من تفوته صلاة العصر، وأن عليه إثمًا عظيمًا.

552 قوله ﷺ: الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، يعني: كأنما سُلب أهله وماله ـ وأهله وماله يجوز فيهما الرفع والنصب ـ وهذا أمر عظيم، ما حال إنسان خرج من بيته ثم رجع فلم يجد في بيته أهلاً ولا مالاً؟! تكون المصيبة عظيمة، فكذلك الذي تفوته صلاة العصر كأنه سلب أهله وماله من شدة الإثم والنقص العظيم الذي حصل له.

وفيه: الوعيد الشديد على من فوت العصر عن وقتها باختياره حتى خرج الوقت، فإن تركها بالكلية ولم يصلّها كفر؛ كما يفيده الحديث الآتي: مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ [(77)] وليس هذا خاصًّا بصلاة العصر بل الصلوات كلها كذلك؛ لكن صلاة العصر خصت بالمزيد لشرفها، ولكون التساهل يقع فيها أكثر؛ لكونها في آخر النهار وفي وقت الراحة؛ ولذلك مثَّل النبي ﷺ بصلاة العصر والحكم ليس خاصًّا بها.

وصلاة العصر هي الصلاة الوسطى في أصح أقوال أهل العلم، وليس المراد كما قاله بعضهم.أنها تتوسط صلاتين نهاريتين وهما الفجر والظهر، وصلاتين ليليتن وهما المغرب والعشاء، فهذا قول مرجوح، بل الصواب أن معنى الصلاة الوسطى من الوسط، وهو الخيار والفضيلة، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البَقَرَة: 143].

والمراد بالتفويت: إخراجها عن وقتها، يعني تؤخر حتى يخرج الوقت بمغيب الشمس، أو باصفرارها؛ وإذا لم يصلها كلية يكفر، وهو أحد القولين لأهل العلم.

والقول الثاني: أن المراد بالتفويت فواتها جماعة، فإذا فاتت المسلم صلاة الجماعة فإن عليه هذا الوعيد؛ واختار هذا سماحة شيخنا الشيخ العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله؛ أما إذا فوَّت الوقت باختياره عمدًا فإنه يكفر، ولا تفيده صلاته لو صلاها.

وقد ذكر الشارح رحمه الله القولين، فقال: «ومما يدل على أن المراد بالتفويت إخراجها عن وقتها ما وقع في رواية عبدالرزاق؛ فإنه أخرج هذا الحديث عن ابن جريج عن نافع فذكر نحوه، وزاد: قلت لنافع: حين تغيب الشمس؟ قال: نعم.

قال المهلب ومن تبعه من الشراح: إنما أراد فواتها في الجماعة لا فواتها باصفرار الشمس أو بمغيبها، قال: ولو كان بفوات وقتها كله لبطل اختصاص العصر؛ لأن ذهاب الوقت موجود في كل صلاة».

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وقد تقدم أن الأوزاعي حمله على من فوت وقت الاختيار، وصلى في وقت الضرورة، وهو يدل على أنه يرى أن التأخير إليه محرم، كما هو أحد الوجهين لأصحابنا، وهو قول ابن وهب وغيره، ومنهم من حمله على من فوتها حتى غربت الشمس بالكلية».

وعلى القول بالجمع بين هذا الحديث وبين الحديث الآتي، وهو حديث بريدة، أن النبي ﷺ قال: مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [(78)] يكون الفوات في هذا الحديث صلاة الجماعة، والترك في حديث بريدة تركها حتى يخرج الوقت، وهو جمعٌ حسن.

ففوات الوقت متعمدًا عليه الوعيد فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [(79)]، ولا يفيده إذا صلاها بعد الوقت؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النِّسَاء: 103]، يعني: مفروضة في الأوقات، فكما أنه لو صلاها قبل دخول الوقت لا تصح، وكذلك لو صلاها بعد الوقت وليس له عذر فلا تصح.

أما تفويت صلاة العصر جماعة فهيه الوعيد كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ هذا إذا فاتته باختياره.

أما إذا فاتته بغير اختياره، بأن كان نائمًا نومًا يعذر فيه، غير مفرط، أو مشتغلاً بشرطها، حاقنًا، أو حاقبًا، أو مريضًا، أو خائفًا أو له عذر من أعذار الجماعة؛ فليس عليه الوعيد.

وقد اختلف العلماء في صلاة الحاقب أو الحاقن هل تصح، أو لا تصح والصواب أنها لا تصح إن كانت المدانعة شديدة؛ لقوله ﷺ: لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ [(80)] فلو صلى وهو يدافعه الأخبثان لا تصح الصلاة إذا كانت مدافعة شديدة؛ وعلى هذا إذا كان يدافعه الأخبثان ثم تأخر عن صلاة الجماعة يكون معذورًا في هذا.

أما من نام عنها، أو نسيها، فإن كفارته أن يصليها إذا ذكرها.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وظاهر تبويب البخاري يدل على أن الحديث محمول على من فوت العصر عمدًا، لتبويبه عليه: باب: إثم من فاتته العصر.

ويدل على ما قاله البخاري: ما خرجه الإمام أحمد من رواية حجاج بن أرطاة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ مُتَعَمِّدًا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ [(81)] ويدل عليه أيضًا حديث أبي هريرة، عن النبي ﷺ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلَم تَفُتهُ [(82)]».

المتن:

باب مَنْ تَرَكَ الْعَصْرَ

553 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ قَالَ: كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ فَقَالَ: بَكِّرُوا بِصَلاَةِ الْعَصْرِ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.

الشرح:

553 قوله: مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الْعَصْرِ، يعني: تركها حتى خرج الوقت متعمدًا فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، يعني: بطل عمله، والذي يحبط عمله هو الكافر؛ بدليل قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المَائدة: 5]، وقوله ﷺ: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البَقَرَة: 217]، وهذا من أدلة من قال بكفر تارك الصلاة.

والمراد بالترك في الحديث ترك أدائها في الوقت، وإخراجها عن وقتها، وليس المراد بالترك ترك أدائها جماعة، بخلاف الفوات في الحديث السابق؛ فإن المراد به فواتها في الجماعة؛ لأن الترك أقوى من الفوات، وعليه فيكون هذا الحديث من أحاديث الوعيد، ويكون تأخيرها عن وقتها من كبائر الذنوب، وخص العصر دون غيرها من الصلوات لمزيد العناية بها، وهذا الحديث فيه دليل على كفر تارك الصلاة كسلاً؛ لأن الذي يحبط عمله هو الكافر.

واستثنى العلامة ابن القيم رحمه الله وجماعة : الصلاة التي تُجمع مع ما بعدها، كالظهر إذا أخرها إلى العصر، والمغرب إذا أخرها إلى العشاء، فإنه لا يكفر؛ لأن له شبهة، حيث إنها تجمع إلى ما بعدها، فكان وقتهما في حكم الواحد[(83)]؛ لأن المريض يجمع بين الظهر والعصر والمسافر يجمع بينهما، فلا يكفر إذا أخر صلاة الظهر حتى يدخل وقت العصر، ولا يكفر إذا أخر صلاة المغرب حتى يدخل وقت العشاء.

والصحيح أنه كما تقدم إذا ترك صلاة واحدة متعمدا حتى خرج وقتها كفر، وليس هذا الحكم المذكور في حديث الباب خاصًّا بصلاة العصر، بل كل صلاة يتركها فإنه يكفر، ويدل على هذا أن النبي ﷺ سئل عن الخروج على الأمراء الفاسقين فقالوا: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ [(84)] فمفهومه أنهم إذا لم يقيموا الصلاة فهم كفار يجوز الخروج عليهم، وهذا يدل على أن ترك الصلاة كفر، وكذلك حديث: بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ. رواه الإمام مسلم من حديث جابر بن عبدالله [(85)]، وقوله ﷺ: الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمِ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ [(86)]، وهذا الحديث: مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، كلها تدل على كفر تارك الصلاة.

أما حديث عبادة بن الصامت : خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ [(87)]، فهذا لو صح لكان دليلاً لمن لم يقل بكفر تارك الصلاة، لكنه حديث ضعيف عند أهل العلم، ففي سنده رجل مجهول يقال له: المخدجي؛ فلا يقاوم الأحاديث الصحيحة.

المتن:

باب فَضْلُ صَلاَةِ الْعَصْرِ

554 حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً يَعْنِي الْبَدْرَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ قَالَ إِسْمَاعِيلُ: افْعَلُوا لاَ تَفُوتَنَّكُمْ.

الشرح:

554 في هذا الحديث : فضل صلاة العصر وصلاة الفجر، وفيه دليل على أن المحافظة على الفجر والعصر من أسباب النظر إلى الرب والنظر إلى وجه الله أعظم نعيم يعطاه أهل الجنة. وهم ينظرون إلى الرحمن بكرة وعشيًّا، يعني: بمقدار البكرة والعشي، وإلا فليس في الجنة ليل ولا نهار، ولا شمس ولا قمر، بل نهار مطرد لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا [الإنسَان: 13]، لكن يعرفون ذلك بأنوار تجعل لهم تحت العرش.

قوله: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، يعني: البدر، والبدر إنما يسمى بدرًا إذا كان في منتصف الشهر مستديرًا واضحًا في كبد السماء.

ولما ذكر الرؤية أمر بالمحافظة على صلاة قبل طلوع الشمس ـ وهي صلاة الفجر ـ وصلاة قبل غروبها ـ وهي صلاة العصر ـ فقال: فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، وهما البردان، كما جاء في الحديث الآخر: مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ [(88)]، فالبردان: الصبح والعصر.

وليس معنى الحديث أن يحافظ الإنسان على صلاة الفجر والعصر ويضيع الظهر والمغرب والعشاء، بل المعنى أن من حافظ على هاتين الصلاتين وكبح جماح نفسه، فقام واستيقظ لصلاة الصبح، وكذا العصر؛ حيث تقع في وقت الراحة ووقت الغفلة، فلابد أن يحافظ على بقية الصلوات من باب أولى، ومن ترك صلاة واحدة كفر، ولا ينفعه كونه يصلي بقية الصلوات، فلو حافظ على الفجر والعصر وترك الظهر والمغرب والعشاء كفر، وهذا معلوم من النصوص؛ لأن النصوص يُضم بعضها إلى بعض.

المتن:

555 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ.

الشرح:

555 في الحديث: فضل هاتين الصلاتين؛ لأنهما تقعان في أول النهار وآخر النهار، حيث تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار، ففي صلاة الصبح تنزل ملائكة النهار؛ وتصعد ملائكة الليل، وفي صلاة العصر تنزل ملائكة الليل وتصعد ملائكة النهار.

قوله: يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، اللغة الأكثير أن تقول: يتعاقب فيكم... وهنا قال: يَتَعَاقَبُونَ، فجمع بين الظاهر والمضمر، وهذه لغة قليلة تسمى لغة: أكلوني البراغيث، ومنه في القرآن الكريم: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبيَاء: 3]، فجمع بين المضمر والظاهر، وهي لغة ليست ضعيفة ولكن قليلة، وعلى اللغة الأكثير: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.

وقوله: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟، هذا السؤال من الله وهو أعلم بهم ولا يخفى عليه خافية، والإخبار من الملائكة أنهم يصلون: رفع لشأن المصلين واهتمام بهم، وبيان لفضلهم.

المتن:

بَاب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ

556 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ.

الشرح:

556 قوله : إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً المراد بالسجدة الركعة، وتسمى الركعة سجدة؛ لأن السجدة أهم أركان الركعة.

المؤلف رحمه الله لم يجزم بالحكم في الترجمة، فقال: «بَاب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ» ، فحذف جواب «من» ، والتقدير: فقد أدرك الصلاة أداءً في الوقت.

والشارح رحمه الله ذكر أن الحكمة في كون المؤلف لم يذكر جواب الشرط ما أورده من الاحتمال، في قوله كما سيأتي في حديث الباب: فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ؛ لأن المراد بالإتمام أعم من أن يكون ما يتمه أداء أو قضاء، والأقرب أنه أداء؛ لأنه في الوقت، فمن أدرك ركعة من العصر قبل الغروب فقد أدرك الصلاة أداء في الوقت.

وفيه: أن إدراك ركعة من العصر قبل غروب الشمس وإدراك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس، إدراك للصلاة أداء في الوقت، وإن كان يأثم بالتأخير إلى قرب الطلوع أو الغروب إذا كان من غير عذر.

ومثال العذر: مثل أن تكون امرأة طهرت من الحيض أو من النفاس ثم اغتسلت وأدركت ركعة من صلاة العصر قبل غروب الشمس، أو أدركت ركعة من صلاة الفجر قبل طلوعها؛ وكذلك النائم فهو معذور لو أخرها، إذا جعل له أسبابًا توقظه؛ وكذلك إذا كان ناسيًا؛ لقول النبي ﷺ: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك [(89)].

أما من ليس له عذر فليس له أن يؤخرها إلى قرب طلوع الشمس، أو إلى قرب غروب الشمس، وإذا فعل فعليه الوعيد الشديد.

والمراد من الحديث مَن أدرك الركعة كاملة، فإذا رفع من الركوع قبل أن تغرب الشمس أدرك الركعة، وكذلك في الجماعة إذا ركع قبل أن يرفع الإمام رأسه أدرك الجماعة، فالجماعة تدرك بالركعة، وكذا الوقت يدرك بالركعة.

المتن:

557 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنْ الأُْمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإِْنْجِيلِ الإِْنْجِيلَ فَعَمِلُوا إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: أَيْ رَبَّنَا أَعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلاً! قَالَ: قَالَ اللَّهُ : هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالُوا: لاَ قَالَ: فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ.

558 حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلاً إِلَى اللَّيْلِ فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ فَقَالُوا: لاَ حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ فَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَلَكُمْ الَّذِي شَرَطْتُ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلاَةِ الْعَصْرِ قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ.

الشرح:

557، 558 حديثا الباب الأخيران ضرب فيهما النبي ﷺ مثلين لأهل الكتاب ولهذه الأمة،

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد