شعار الموقع

شرح كتاب مواقيت الصلاة من صحيح البخاري (9-5) تابع بَابُ قَضَاءِ الصَّلاَةِ الأُولَى فَالأُولَى - إلى نهاية كتاب مواقيت الصلاة

00:00
00:00
تحميل
76

وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، يعني: من المنافقين أيضًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزَاب: 13] ويثرب اسم جاهلي للمدينة، قد أبدله الرسول ﷺ، فالمدينة الآن تسمى طيبة[(171)]، ولا حجة في الآية على جواز تسميتها يثرب؛ لأن هذا إخبار من الله بكلام المنافقين وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا [الأحزَاب: 13]، ثم قال تعالى: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزَاب: 13-19].

ثم ذكر حال المؤمنين فقال: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيمًا [الأحزَاب: 22]، فانظر الفرق العظيم بين حال المنافقين إذ يقولون: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزَاب: 12]، وبين حال المؤمنين إذ قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فالأمر عظيم، ومن شدة الأمر نسي النبي ﷺ صلاة العصر حتى غربت الشمس.

المتن:

باب مَا يُكْرَهُ مِنْ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ

599 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَْسْلَمِيِّ فَقَالَ لَهُ أَبِي: حَدِّثْنَا كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ قَالَ: كُانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ وَهِيَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُْولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ وَيُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى أَهْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ قَالَ: وكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ قَالَ: وكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ أَحَدُنَا جَلِيسَهُ وَيَقْرَأُ مِنْ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ.

الشرح:

قوله: «مَا يُكْرَهُ مِنْ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ» هذه الكراهة كراهة تنزيه.

ووجه كراهته بعد العشاء؛ لأنه ربما يفضي إلى التأخر عن صلاة الفجر والنوم عنها، أو يفضي إلى ترك التهجد لمن كان يتهجد؛ لذلك كان النبي ﷺ «يكره النوم قبلها والحديث بعدها» . وكان النبي ﷺ إذا صلى العشاء أوى إلى فراشه،وهذا الحكم بالكراهة إذا كان الحديث مباحًا.

أما إذا كان الحديث محرمًا، فيه غيبة، أو نميمة، أو سماع غناء، أو تدبير مكيدة ضد الإسلام والمسلمين، أو غير ذلك من المحرمات، فهذا لا يجوز في أي وقت من الأوقات.

ويستثنى من هذه الكراهة المذكورة في الحديث ما سيأتي في التراجم الآتية من استثناء السمر في الفقه، والسمر في طلب العلم ودراسته، وسمر ولاة الأمور في مصالح المسلمين، والسمر مع الأهل، والسمر مع الضيف على وجه لا يكون فيه تضييع صلاة الفجر، ولا يكون فيه تضييع التهجد في آخر الليل، أما إذا كان فيه تضييع فالواجبات مقدمة.

جاء في بعض النسخ بعد الترجمة: «السامر من السمر» ؛ وهذا التفسير من كلام البخاري، فعادة البخاري إذا كانت هناك كلمة غريبة أن يفسرها، وينقل كثيرًا مثل تفسير هذه الكلمات عن أبي عبيدة عمرو بن المثنى.

فقوله: «السامر من السمر» : مُشُكل ولهذا قال الشارح الحافظ ابن حجر رحمه الله: «هكذا وقعت في رواية أبي ذر وحده، واستشكل ذلك؛ لأنه لم يتقدم للسامر ذكر في الترجمة»، لكن أجاب عنها الشارح بقوله: «والذي يظهر لي أن المصنف أراد تفسير قوله تعالى: سَامِرًا تَهْجُرُونَ [المؤمنون: 67]، وهو المشار إليه بقوله: «هاهنا» أي: في الآية».

599 في حديث الباب : بيان أوقات الصلوات الخمس، وتحديدها؛ وهو بيان لقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النِّسَاء: 103]، وقد تقدم هذا الحديث، ولكن المؤلف رحمه الله كرره من أجل استنباط الأحكام والفوائد، فهو يترجم الترجمة ـ وهي حكم من الأحكام الفقهية ـ ويستدل عليها بالأحاديث، وهي عادته رحمه الله في «الصحيح الجامع»، فربما كرر الحديث الواحد في أكثر من موضع حسب ما يستنبطه من أحكام.

قوله: «حَدِّثْنَا كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ» ؛ يعني: الفريضة، سميت مكتوبة؛ لأن الله كتبها وفرضها.

وقوله: «كُانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ» ، يعني: صلاة الظهر، سميت بالهجير لأن وقتها في الهاجرة، وهي اشتداد الحر في منتصف النهار.

وقوله: «وَهِيَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُْولَى» ، يعني: تسمونها الصلاة الأولى.

قوله: «حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ» ، يعني: تزول، أي يصليها إذا زالت الشمس عن كبد السماء، ومالت إلى الغروب.

وقوله: «وَيُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى أَهْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ» ، يعني: أنه يصليها في أول وقتها، وفي الحديث الآخر: أنه يصليها حين يصير ظل الشيء مثله[(172)]، فيدخل وقت العصر حين ينتهي وقت الظهر وليس بينهما شيء فاصل.

وسبق أيضًا في الأحاديث أن الصحابة كان يرجع بعضهم إلى قباء[(173)]، وبعضهم إلى أماكن أخرى في المدينة[(174)]، بينها وبين المسجد ميلين أو ثلاثة والشمس حية، يعني: مرتفعة؛ وسبق أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: «يصلي العصر والشمس في حجرتي» [(175)]، وهذا دليل على مشروعية واستحباب التبكير بها.

وقوله: «وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ» ، يعني: في تحديد وقت المغرب، وفي الحديث الآخر: «والمغرب إذا وجبت» [(176)] يعني: إذا سقط قرص الشمس وغابت دخل وقت المغرب إلى مغيب الشفق، وأما وقت العشاء فبعد أن يغيب الشفق.

وقوله: «وكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ» ، هذا هو الأفضل إذا تيسر بدون مشقة؛ ولهذا يقول العلماء: والأفضل تأخير العشاء إلى ثلث الليل إن سهل؛ أخذًا من هذا الحديث ومن الأحاديث الأخرى التي فيها أن النبي ﷺ أخر الصلاة يومًا، ثم جاء إلى قرب منتصف الليل وقال: إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي [(177)]، يعني: وقتها الأفضل إذا لم يكن هناك مشقة، لكن في المدن والقرى لا تؤخر؛ لما فيه من المشقة، أما لو كانوا جماعة عددهم محصور في قرية، أو في مزرعة، أو في سفر، واتفقوا على تأخيرها إلى ثلث الليل فهذا أفضل.

وقوله: «وكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا» ، أي: قبل صلاة العشاء، وبعد المغرب؛ لأنه يفضي إلى النوم عن صلاة العشاء.

وقوله: «وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا» ، أي: بعد العشاء، وتقدم الكلام عن ذلك أثناء الحديث على ترجمة الباب.

وقوله: «وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ» ، صلاة الغداة: هي صلاة الفجر، و «ينفتل» يعني يسلم.

وقوله: «حِينَ يَعْرِفُ أَحَدُنَا جَلِيسَهُ» ؛ لأنهم لم يكونوا يشعلون السرج في المساجد، بل كانوا يصلون في الظلام؛ ففي أول الصلاة لا يعرف الإنسان من بجواره؛ لأن النبي ﷺ كان يبكر بصلاة الفجر، فإذا سلم صار كل واحد يرى وجه جليسه الذي في جواره ويعرفه، فهذا يدل على أن النبي ﷺ كان يصليها بغلس، كما في الحديث السابق: «والصبح كان النبي ﷺ يصليها بغلس» [(178)]، وسبق في الحديث الآخر: أنه كان يصلي مع النبي ﷺ نساء متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن لا يعرفهن أحد من الغلس[(179)]. والغلس هو: اختلاط ظلام الليل بضياء الصبح.

وكان ﷺ يطيل القراءة حتى إنه كان يقرأ ثلاثين أو خمسين آية في الركعة الواحدة؛ ولهذا قال: «وَيَقْرَأُ مِنْ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ» ، يعني: يقرأ في الركعة الواحدة من ثلاثين إلى خمسين آية، وإذا كان يقرأ بهذه المثابة مع الترتيل فلابد أن يسفر.

المتن:

باب السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ

600 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ حَدَّثَنَا قُرَّةُ ابْنُ خَالِدٍ قَالَ: انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ وَرَاثَ عَلَيْنَا حَتَّى قَرُبْنَا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ فَجَاءَ فَقَالَ: دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلاَءِ ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: نَظَرْنَا النَّبِيَّ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ فَجَاءَ فَصَلَّى لَنَا ثُمَّ خَطَبَنَا فَقَالَ: أَلاَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا ثُمَّ رَقَدُوا وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمْ الصَّلاَةَ.

قَالَ الْحَسَنُ: وَإِنَّ الْقَوْمَ لاَ يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ.

قَالَ قُرَّةُ: هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.

الشرح:

قوله: «بَاب السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ» ، فيه: استثناء من كراهة السمر بعد العشاء التي مرت في الباب السابق، فلا بأس من سمر المسلم بعد صلاة العشاء في الفقه، وتعلم العلم والخير، أو سهر ولاة الأمور، ورجال الحسبة في مصالح المسلمين، والتشاور فيما ينفع، فهذا مستثنى على وجه لا يكون فيه تضييع لصلاة الفجر.

600 في هذا الحديث : حجة لما ترجم به، ففيه: أن النبي ﷺ لما صلى العشاء خطب وقال: أَلاَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا ثُمَّ رَقَدُوا وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمْ الصَّلاَةَ، فهذه خطبة بعد العشاء، ولكنه سمر في الفقه، وتعليم الناس الخير، وهو مستثنى من كونه ﷺ كان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها؛ يعني: أنه كان ﷺ يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها[(180)]، إلا في الخير، والفقه فلا يكرهه.

وقوله: «انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ» يعني: الحسن البصري.

وقوله: «وَرَاثَ عَلَيْنَا» ، يعني: تأخر، «حَتَّى قَرُبْنَا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ» ، يعني: أن الحسن كان له جلسة يعلم فيها الناس، وفي هذا اليوم جلسوا ينتظرونه فلم يأت حتى قرب وقت قيامه وانصرافه من الجلسة، فلما جاء اعتذر إليهم ذاكرًا سبب تأخره، ثم أراد أن يبين لهم أنهم ما داموا ينتظرون الخير فهم على خير، فلهم نيتهم ولهم أجرهم، واستدل بحديث أنس .

وقوله: «قَالَ أَنَسٌ: نَظَرْنَا النَّبِيَّ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ» ، يعني: انتظرناه لصلاة العشاء لكنه تأخر «حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ فَجَاءَ» ، يعني: كاد أن ينتصف الليل، «فَصَلَّى لَنَا» ، يعني: صلى بنا إمامًا.

وقوله: «ثُمَّ خَطَبَنَا فَقَالَ: أَلاَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا ثُمَّ رَقَدُوا وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمْ الصَّلاَةَ، يعني: أنتم في حكم المصلي، والملائكة تصلي عليكم، وتدعو لكم من أول ما انتظرتم إلى الآن، وهذا فضل عظيم، وبهذا يذكِّر الحسن أصحابه بأنهم على خير ما داموا ينتظرون الخير، واستدل بأن النبي ﷺ تأخر عن صلاة العشاء إلى قرب نصف الليل ثم قال لهم: لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمْ الصَّلاَة.

المتن:

601 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ صَلاَةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَحَدٌ فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الأَْحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ.

الشرح:

601 الشاهد للترجمة في هذا الحديث : أنه ﷺ لما صلى العشاء قام وخطب الناس وقال لهم: أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَحَدٌ، وهذه خطبة وكلام بعد العشاء، لكنه مستثنى من الكراهة المذكورة آنفا؛ لأنه سمر في الفقه وتعليم الناس الخير.

وقوله: «فَوَهِلَ النَّاسُ» ، يعني: غلطوا، واختلفوا في فهم مقالة النبي ﷺ، فقال بعضهم: معنى كلام الرسول ﷺ أن بعد مائة سنة تقوم الساعة، وقال بعضهم كلامًا آخر، فكل يتكلم ويقول: مقصود الرسول من هذا كذا وكذا.

ولكن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنهم غلطوا في هذا، وإنما مقصوده ﷺ أن مائة سنة تخرم ذلك القرن، يعني أن هذا الجيل يفنى ويأتي جيل جديد من أولادهم وأحفادهم؛ وبالاستقراء تحقق أنه بمائة سنة انخرم ذلك القرن، وكان آخر من ضبط أمره ممن كان موجودًا أبو الطفيل عامر بن واثلة، وبقي إلى سنة عشر ومائة وهي رأس مائة سنة من مقالة النبي ﷺ؛ لأن النبي ﷺ توفي على رأس عشر سنوات من الهجرة، فبسنة عشر ومائة مضت مائة سنة وانخرم ذلك القرن، فصدق قول النبي ﷺ: مائة سنة تخرم ذلك القرن.

وأشكل هذا مع قول بعضهم: إن الخضر موجود لم يمت وهو من المعمرين.

قال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله: «الذي عليه أهل التحقيق أن الخضر قد مات قبل بعث النبي ﷺ؛ لأدلة كثيرة معروفة في محلها، ولو كان حيًّا في حياة نبينا ﷺ لدخل في هذا الحديث، وكان ممن أتى عليه الموت قبل رأس المائة، كما أشار إليه الشارح هنا، فتنبه، والله أعلم»[(182)].

وأما قصة الجساسة والدجال الذي وردت في حديث تميم الداري[(183)]، فهذا تكلم فيه بعضهم وقال: إنه وإن كان في «صحيح مسلم» إلا أن في سنده مقالاً.

والصواب: أنه ليس في سنده مقال، والحديث صحيح وليس فيه إشكال، وهو من رواية الشعبي، عن فاطمة بنت قيس.

والجواب عنه: أنه مستثنى، وأن الدجال والجساسة خاص وهذا عام، والقاعدة الأصولية: أن الخاص يخصص العام ويقضي عليه ويخرج من أفراده.

وتردد شيخنا سماحة الشيخ ابن باز رحمة الله عليه في أول الأمر وقال: إنه وإن كان في «صحيح مسلم» ففي سنده مقال، ثم بعد المراجعة قلت له: عفا الله عنك ألا يقال: إن هذا من باب الخاص والعام وأن قصة الدجال والجساسة يكون فردًا من أفراده يخرج من العموم على قاعدة الخاص، فاستحسن هذا ورآه خيرًا، ورأى أن هذا من باب الخاص والعام، فيخرج منه قصة الدجال وتستثنى، والقاعدة معروفة عند أهل الأصول، والأمثلة عليها كثيرة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال النووي وغيره: احتج البخاري ومن قال بقوله بهذا الحديث على موت الخضر، والجمهور على خلافه وأجابوا عنه: بأن الخضر كان حينئذ من ساكني البحر فلم يدخل في الحديث».

ويجاب عن هذا بأن الصواب قول البخاري أنه قد مات قبل بعثة النبي ﷺ، ولو كان حيًّا لدخل في هذا الحديث فيخرمه القرن.

والجواب بأن الخضر من ساكني البحر جواب ضعيف.

وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له قولان في مجموع الفتاوى، قول بأنه مات وقول بأنه في البحر[(181)]، ولعل أحد القولين ناسخ للآخر، لكن لا يدرى أيهما الأول، والأقرب أن الأول أنه في البحر ثم تبين له أنه مات وهذا هو الصواب من القولين؛ لأنه لا يمكن أن يكون موجودًا ـ ولو حتى في البحر كما قالوا ـ ثم لا يأتي للنبي ﷺ.

وقوله: لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقيل: احترز بالأرض عن الملائكة، وقالوا: خرج عيسى من ذلك وهو حي؛ لأنه فى السماء لا في الأرض».

أي: لا تدخل الملائكة ولا عيسى في الحديث؛ لأنهم في السماء.

ثم قال الحافظ رحمه الله: «وخرج إبليس لأنه على الماء أو في الهواء».

ولأنه من المنظرين: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۝ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الحِجر: 36-37]، فهو مستثنى، قد أنظره الله تعالى.

وقال الحافظ رحمه الله أيضًا: «وأبعد من قال: إن اللام في الأرض عهدية، والمراد أرض المدينة، والحق أنها للعموم، وتتناول جميع بني آدم؛ وأما من قال: المراد أمة محمد، سواء أمة الإجابة أوأمة الدعوة، وخرج عيسى والخضر؛ لأنهما ليسا من أمته، فهو قول ضعيف؛ لأن عيسى، يحكم بشريعته فيكون من أمته، والقول في الخضر إن كان حيًّا كالقول في عيسى والله أعلم».

وقال أيضا: «قالوا: ومعنى الحديث لا يبقى ممن ترونه أو تعرفونه، فهو عام أريد به الخصوص».

المتن:

باب السَّمَرِ مَعَ الضَّيْفِ وَالأَْهْلِ

الشرح:

قوله: «السَّمَرِ مَعَ الضَّيْفِ وَالأَْهْلِ» ، يعني: أن السمر مع الأهل والضيف مستثنى من الكراهة الواردة في الحديث السابق: «كان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها» [(184)]، فكون الإنسان يتحدث مع أهله ويؤنسهم، أو إذا جاءه ضيف يزوره يتحدث معه، أو يتحدث بعد العشاء مع ولاة الأمور ورجال الحسبة في مصالح المسلمين، أو يكون السمر في طلب العلم وتحقيق المسائل فكل هذا مستثنى من الكراهة المذكورة آنفًا.

المتن:

602 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاَثَةٍ فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَشَرَةٍ قَالَ: فَهُوَ أَنَا وَأَبِي وَأُمِّي فَلاَ أَدْرِي قَالَ: وامْرَأَتِي وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتْ الْعِشَاءُ ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِيُّ ﷺ فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: وَمَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ أَوْ قَالَتْ: ضَيْفِكَ؟ قَالَ: أَوَمَا عَشَّيْتِيهِمْ؟ قَالَتْ: أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ فَقَالَ يَا غُنْثَرُ: فَجَدَّعَ وَسَبَّ وَقَالَ: كُلُوا لاَ هَنِيئًا فَقَالَ: واللَّهِ لاَ أَطْعَمُهُ أَبَدًا وَايْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلاَّ رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا قَالَ: يَعْنِي حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا فَقَالَ لاِمْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ قَالَتْ لاَ وَقُرَّةِ عَيْنِي لَهِيَ الآْنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاَثِ مَرَّاتٍ فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي يَمِينَهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ فَمَضَى الأَْجَلُ فَفَرَّقَنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ أَوْ كَمَا قَالَ.

الشرح:

602 في حديث الباب قصة، وهي أن أبا بكر استضاف أضيافًا وتركهم في بيته لابنه عبدالرحمن وزوجته يقرونهم، لكن الأضياف امتنعوا عن الطعام حتى يأتي أبو بكر ، لكن أبا بكر تأخر وتعشى وجلس عند النبي ﷺ حتى ذهب هزيع من الليل، ثم جاءهم فوجدهم لم يتعشوا؛ ولهذا غضب أبو بكر هذا الغضب.

يقول عبدالرحمن بن أبي بكر: «أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ» والصفة: غرفة في مسجد النبي ﷺ يسكن فيها جماعة من الفقراء ـ قرابة السبعين ـ ليس لهم أهل ولا مال؛ وكانوا يعيشون على الصدقات التي تأتيهم من النبي ﷺ ومن المؤمنين، فإذا جاء النبي ﷺ شيء أعطاهم.

قوله ﷺ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ؛ هذا حث منه ﷺ على إطعام الفقراء، وأن من يطعمهم ينزل له في طعامه البركة، فمن كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس، أي: يأتي بفقير يطعمه؛ ليبارك الله تعالى في الطعام، فطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة.

وقوله: «وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاَثَةٍ» أي: جاء بثلاثة أضياف إلى بيته وأدخلهم، وأوصى بهم ابنه الكبير عبد الرحمن ليخدمهم ويطعمهم.

قوله: «فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَشَرَةٍ» ، أي: بعشرة أضياف؛ ولذلك ذهب أبو بكر إلى النبي ﷺ ليساعده في قراء أضيافه، وابنه في بيته يكفيه وينوب عنه في خدمة الأضياف الثلاثة.

وقوله: «قَالَ:» ، القائل عبدالرحمن بن أبي بكر، «فَهُوَ أَنَا وَأَبِي وَأُمِّي» ، أي: ثلاثة في البيت.

قوله: «وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتْ الْعِشَاءُ» ، يعني: تعشى بعد المغرب، ثم لبث عند النبي ﷺ حتى صُليت العشاء، وهذا فيه دليل على أنهم كانوا يتعشون بعد المغرب، وأحيانًا كانوا يتعشون بعد العصر. وكان هذا أيضًا في نجد قبل وجود الوظائف، كان الناس يتعشون بعد العصر، والذي يتأخر يتعشى بعد المغرب، وكان من النادر أن يتأخروا إلى صلاة العشاء.

أما الآن فلا يتعشى الناس إلا إذا انتصف الليل، وهذا خلاف الأولى؛ يقول الأطباء: هذا ليس عشاء صحيًّا، وإنما العشاء الصحي يكون بعد العصر أو بعد المغرب كما كان في السابق، لكن الناس اضطروا إلى هذا بسبب الأعمال والوظائف واتساع البلاد.

قوله: «فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِيُّ ﷺ» ، ظاهره أن النبي ﷺ في هذا اليوم لم يتعش إلا متأخرًا، فلبث أبو بكر يساعد النبي ﷺ على ضيوفه حتى تعشى ﷺ.

قوله: «فَجَاءَ» ، يعني: أبو بكر، «بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ» ، أي: جاء إلى بيته بعدما مضى هزيع من الليل.

قوله: «قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ:» أي: امرأة أبي بكر، «وَمَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ أَوْ قَالَتْ: ضَيْفِكَ؟» ، فكلمة ضيف وإن كانت مفردة لكنها اسم جنس عام، فيقال للواحد: ضيف، وكذا للاثنين، والثلاثة، والأربعة، وهكذا. فلما قالت ذلك استغرب أبو بكر؛ لأنه قد وكل إلى ابنه القيام بما يريد الضيف، فقال: «أَوَمَا عَشَّيْتِيهِمْ؟» ، أي: ما عشيتهم إلى الآن وقد مضى هزيع من الليل؟!، فقالت: «أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ» ، أي: رفضوا وامتنعوا من الأكل حتى يأتي صاحب البيت، «قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا» أي: عرض عليهم الطعام فامتنعوا. وفي بعض الروايات عند البخاري أنه قال: «ما لكم ويلكم لا تقبلون عنا قرانا، قالوا: لا نأكل حتى تأكل ثم حلف فحلفوا، ثم قال: هذا من الشيطان، فأكل وأكلوا»[(185)].

قوله: «قَالَ: فَذَهَبْتُ» ، القائل عبدالرحمن بن أبي بكر، «فَاخْتَبَأْتُ» أي: لأنه خائف من والده؛ لأن أبا بكر كان غاضبًا من عدم إكرام الضيف، فاختبأ عبدالرحمن حتى إنه جاء في بعض الروايات أن أبا بكر قال: يا عبدالرحمن، يا عبدالرحمن! فسكت، فلما سكت قال له: إن كنت تسمعني فأجب كلامي.

قوله: «فَقَالَ يَا غُنْثَرُ: فَجَدَّعَ وَسَبَّ» ، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «غنثر بالغين المعجمة المضمومة وبالثاء المثلثة، فهو مأخوذ من الغثارة، وهي: الجهل، يقال: رجل أغثر وغنثر، والنون زائدة».

يعني: قال له: يا جاهل، وهذه الكلمة قالها من شدة الغضب، ولحرصه على العناية بأضيافه.

قوله: «كُلُوا لاَ هَنِيئًا» ، قال لهم ذلك لأنه كان مغضبا ومن شدة الغضب قال أيضًا: «واللَّهِ لاَ أَطْعَمُهُ أَبَدًا» ، فحلف الأضياف وقالوا: والله لا نطعمه، كما جاء في الرواية الأخرى، فأكل أبو بكر وقال: «إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ» ، فأكلوا.

- أن الرجل ـ وإن كان عظيمًا ـ فإنه قد يغضب على أولاده أو على زوجته، وهل هناك أعظم من أبي بكر وأفضل منه بعد النبيين؟! ومع ذلك فقد غضب لأجل حق الضيف، وهذا من فتنة الرجل في أهله، وولده، وجاره؛ فقد مر بنا أن عمر سأل: من يحفظ حديث رسول الله في الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا سمعته يقول: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ [(188)] وهذا مثل الذي حصل لأبي بكر مع زوجته، وأولاده، وأضيافه، وهذه فتنة تكفرها الصلاة، والصيام، والصدقة.

وقد يغضب الإنسان وإن كان نبيًّا رسولاً؛ ولهذا غضب موسى على بني إسرائيل ـ لما جاء من ميقات ربه ورآهم يعبدون العجل ـ غضبًا شديدًا، ومن شدة غضبه ألقى الألواح وفيها كلام الله حتى تكسرت، وأخذ برأس أخيه هارون يجره إليه، وقال: كيف تتركهم يعبدون الأصنام، فقال له أخوه هارون يستعطفه: يَا بْنَأُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه: 94]، فهو أخوه لأبيه وأمه لكن قال: يَابْنَأُمَّ، أي: من باب الاستعطاف، ثم بعد ذلك لما زال الغضب قال موسى : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَِخِي [الأعرَاف: 151]، ولم يؤاخذه الله على ما فعل، فدل على أن الغضبان الذي اشتد به الغضب لا يؤاخذ، لاسيما إذا كان غضبه لله.

قوله: «وَايْمُ اللَّهِ» قَسَمٌ أصله: وأيمن الله، «مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلاَّ رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا» ، أي: لما ألقى الله تعالى في هذا الطعام من البركة، وهذه كرامة للصديق . فأكلوا منها حتى شبعوا، وأكل الضيف حتى شبعوا. قال: «وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ» ، أي: صارت القصعة التي فيها الطعام أكثر مما كانت عليه قبل ذلك.

قوله: «فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ» أي: إلى القصعة التي فيها الطعام. «فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ» أي: قبل أن يأكل الضيف. «فَقَالَ لاِمْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟» يعني: ما هذا الطعام الكثير؟

قوله: «قَالَتْ لاَ وَقُرَّةِ عَيْنِي» ، هذا حلف بغير الله، وكان هذا في أول الإسلام قبل النهي عن الحلف بغير الله، فكانوا في أول الإسلام يحلفون بآبائهم وبالأنداد فنهوا عن ذلك، وقال النبي ﷺ: لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ولا بالأنداد، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ [(186)] وقال: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ [(187)].

قوله: «لَهِيَ الآْنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاَثِ مَرَّاتٍ» ، أي: زاد الطعام أكثر مما كان قبل الأكل بثلاث مرات، وهذه كرامة لأبي بكر .

قوله: «فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي يَمِينَهُ» ، يعني: قوله: «واللَّهِ لاَ أَطْعَمُهُ أَبَدًا» ، فاستعاذ بالله من الشيطان ثم أكل، وكفرعن يمينه، وأكل الضيف «ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً» أي: أبو بكر ، «ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ» أي: القصعة التي فيها الطعام.

قوله: «وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ فَمَضَى الأَْجَلُ فَفَرَّقَنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً» ، أي: فرقهم رسول الله يوزعون الطعام الذي بقي.

وقد اشتمل هذا الحديث على فوائد وأحكام عظيمة، منها:

1- إثبات كرامات الأولياء، فإن الله سبحانه كثّر الطعام كرامة لأبي بكر .

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وفي الحديث: جواز الحلف بقرة العين؛ فإن امرأة أبي بكر حلفت بذلك، ولم ينكره عليها، وقرة عين المؤمن هو ربه، وكلامه، وذكره، وطاعته».

ولا شك أنه تقر عين المؤمن بذكر الله، لكن ذكر الله عمل، فهل يجوز أن يحلف المرء بعمله؟

الصواب: أنه لا يجوز؛ فهذا ضعيف، والصواب أن هذا حلف بغير الله، وأن هذا كان أولاً قبل النهي.

ويؤخذ منه أن الأولى للمسلم أن يفعل ما حلف على تركه إن كان من الشيطان، وهذا ما دلت عليه النصوص، فقد قال النبي ﷺ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ [(189)]؛ فالحلف لا يمنع من فعل الخير؛ وقد جاء في بعض روايات الحديث: إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا [(190)] فهو مخير بين أن يأتي الخير قبل التكفير أو بعده، والكفارة معروفة، وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد