شعار الموقع

شرح كتاب الصيام من صحيح البخاري (30-1) من باب وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ - إلى باب تعجيل السَّحُورِ

00:00
00:00
تحميل
148

المتن:

(31)كِتَاب الصَّوْم

باب وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البَقَرَة: 183].

1891 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَائِرَ الرَّأْسِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلاَةِ فَقَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا. فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ؟ فَقَالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا. فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الزَّكَاةِ فَقَالَ: فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَرَائِعَ الإِْسْلاَمِ قَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لاَ أَتَطَوَّعُ شَيْئًا وَلاَ أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ.

الشرح:

قوله: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الصَّوْمِ» : أَخَّر المؤلف رحمه الله الصوم عن الحج، والإمام مسلم قدم الصوم على الحج وكذلك أصحاب «السنن» على ما جاء في حديث ابن عمر في قوله ﷺ: بني الإسلام على خمس: أن يوحد الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج [(364)] فصوم رمضان هو الركن الرابع؛ لكن جاء في بعض الروايات وفي بعض الأحاديث: وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ [(365)] وأخذ بهذا البخاري رحمه الله فقدم الحج على الصوم.

قوله: «كِتَابُ» الكتاب تحته أبواب، والأبواب تحتها فصول، قال: «كِتَابُ الصَّوْمِ» ، يعني: أن كتاب الصوم تحته أبواب.

والصوم في اللغة: مجرد الإمساك، فمجرد الإمساك عن الكلام أو الطعام والشراب يُسمى في اللغة صومًا، ومنه قول الله تعالى عن مريم: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مَريَم: 26]، أي: إمساكًا عن الكلام، فسمى الإمساك عن الكلام صومًا، ومنه أيضًا أنه يُقال للفرس الممسك عن السير: صائم.

يقال: خيل صيام أو خيل صائمة وخيل غير صائمة.

وأما في الشرع: فالصيام هو الإمساك بنية عن أشياء مخصوصة من شخص مخصوص في وقت مخصوص.

الإمساك بنية عن أشياء مخصوصة: وهي المفطِّرات: الأكل والشرب والجماع وسائر مفسدات الصوم.

من شخص مخصوص: وهو المسلم البالغ العاقل المقيم ـ في البلد ـ القادر غير مريض وغير مسافر وغير حائض ونفساء.

في وقت مخصوص: وهو شهر رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

والصيام ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: صيامٌ واجب.

القسم الثاني: صيامٌ نفل.

فالصيام الواجب هو صيام رمضان، وصيام قضاء رمضان، وصيام النذر والكفارة، وما عدا ذلك فهو نفل.

وقال بعضهم معرفًا له في الشرع: هو إمساك المكلف بنية عن تناول المطعم والمشرب وغيره من المفطِّرات من الفجر إلى المغرب.

لكن التعريف الأول جامع.

ثم ذكر الباب الأول فقال: «بَابُ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ» ثم ذكر الآية الكريمة وهي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البَقَرَة: 183]. أشار المؤلف رحمه الله بذكر هذه الآية إلى مبدأ فرضية الصيام، وفيها بيان أن الصيام مفروض على هذه الأمة كما فُرض على الأمم السابقة، أما العدد والكيفية فهذا مسكوت عنه.

1891 ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث طلحة بن عبيد الله وفيه: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَائِرَ الرَّأْسِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلاَةِ فَقَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا يعني: فرض الله عليك الصلوات الخمس.

والصلوات: جمع مؤنث سالم يُنصب بالكسرة؛ والخمس: وصفٌ لها منصوب بالفتحة.

قوله: «فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ؟ فَقَالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا. فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الزَّكَاةِ فَقَالَ: فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَرَائِعَ الإِْسْلاَمِ قَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ» ، هذا حلف وقسم؛ لأن الذي أكرمه هو الله، أكرم نبيه ﷺ بالحق: بالرسالة والبعثة.

قوله: «لاَ أَتَطَوَّعُ شَيْئًا وَلاَ أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ. هذا دليل على أن من أدى الواجبات والفرائض وترك المحرمات فهو ناجٍ، وهو من أهل الجنة ولو لم يتطوع؛ لأن هذا الرجل أقسم أنه لا يزيد على الفرائض ولا ينقص منها، فقال: لاَ أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، يعني: لا أزيد عليها من نوافل؛ يريد أنه سيأتي بالصلوات الخمس فقط ولا يتطوع ولا يتنفل، ويأتي بالزكاة الفريضة ولا يتطوع بالصدقة، ويأتي بصوم رمضان ولا يتطوع بصيام النفل، ويأتي بالحج مرة واحدة ولا يتطوع، وهذا النوع من الناس يسمى المقتصد، ويسمون أصحاب اليمين، فالمقتصدون هم الذين يقتصرون على أداء الواجبات وترك المحرمات، ولا يفعلون شيئًا من النوافل، ولا يتركون المكروهات كراهة تنزيه.

فإن تطوع مع ذلك بفعل النوافل والرواتب، فأتى بنوافل الصلاة القبلية والبعدية، كأن يصلي الضحى وقيام الليل، ويتطوع بنوافل الصوم؛ كأن يصوم ستًّا من شوال، والتاسع والعاشر من المحرم، وثلاثة أيام من كل شهر، والاثنين والخميس، ويتصدق زيادة على الفريضة، ويحج زيادة على الفريضة، كان من السابقين المقربين، وهم أهل الدرجات العالية.

وهناك قسم ثالث من المسلمين يقصر في بعض الواجبات، أو يفعل بعض المحرمات هؤلاء يُسمون الظالمين لأنفسهم، ولكنهم من أهل الجنة وإن أصابهم قبل ذلك شدة أو عذاب في القبر أو في النار؛ لكنَّ القسمين الأولين السابقين المقربين وأصحاب اليمين المقتصدين ـ يدخلون الجنة من أول وهلة؛ لأنهم أدوا ما عليهم فضلاً من الله وإحسانًا.

فالظالم لنفسه على خطر، إما من العذاب في القبر، أو من الأهوال والشدائد في موقف القيامة، أو من عذاب النار، وهو تحت المشيئة، قد يُعفى عنه وقد يُعذب، لكن في النهاية لابد أن يخرج إلى الجنة؛ لأنه مات على التوحيد والإيمان.

وكل هؤلاء الأصناف الثلاثة السابقين والمقتصدين والظالمين لأنفسهم، من أهل الجنة؛ وكلهم من المصطفين الذين أورثهم الله الكتاب وإن تفاوتوا؛ قال الله تعالى في كتابه العظيم: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ۝ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أْسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [فَاطِر: 32-33].

أما الكفار الذين ماتوا على الكفر الأكبر والشرك الأكبر فهؤلاء ليسوا من المصطفين، وليسوا ممن ورثوا الكتاب، وليسوا من المؤمنين، وليسوا من أهل الجنة، بل هم أهل النار، نسأل الله السلامة.

المتن:

1892 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: صَامَ النَّبِيُّ ﷺ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ لاَ يَصُومُهُ إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ صَوْمَهُ.

الشرح:

1892 قوله: «صَامَ النَّبِيُّ ﷺ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» . لما قدم ﷺ المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من شهر المحرم، فسألهم، فقالوا: هذا يوم صالح نجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصام موسى شكرًا لله فنحن نصومه؛ فأمر ﷺ بصيامه، وقال: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ [(367)]وقال: صوموا يوم عاشوراء، وصوموا يومًا قبله أو يوما بعده وخالفوا اليهود [(368)].

والأصل في الأوامر الوجوب؛ لهذا فإن في السنة الأولى من الهجرة صام النبي ﷺ عاشوراء وأمر بصيامه فكان واجبًا، وجاء في بعض الأحاديث أن النبي ﷺ أمر مناديًا ينادي أن اليوم يوم عاشوراء فمن صام فليتم صومه، ومن لم يصم فليصم بقية يومه [(369)] فدل هذا على أنه كان واجبًا.

قوله: «فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ» ؛ يعني: ترك صومه وجوبًا وبقي استحبابًا، هذا هو ظاهر الحديث.

وقال بعض العلماء: إن صوم يوم عاشوراء كان مستحبًّا، لكن ظاهر النصوص أنه كان واجبًا، فلما فرض الله رمضان نسخ الوجوب وبقي الاستحباب.

قوله: «وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ لاَ يَصُومُهُ» . هذا قول نافع يعني: أن ابن عمر كان لا يصوم يوم عاشوراء.

قوله: «إإِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ صَوْمَهُ» . هذا اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما، ولكن ينبغي قصد صومه؛ لما في ذلك من الأجر، وهو تكفير ذنوب سنة كما جاء في الحديث، أن النبي ﷺ قال: صوم يوم عاشوراء أحتسبه عند الله يكفر ذنوب سنة [(370)] وهذا عند أهل العلم لمن اجتنب الكبائر، فالأحاديث واضحة في أن صومه مشروع مستحب، فالأفضل صومه وصوم التاسع قبله.

المتن:

1893 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عِرَاكَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِصِيَامِهِ حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ.

الشرح:

1893 قوله: «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» ، فكان النبي ﷺ يصومه بمكة قبل الهجرة؛ وذلك تبعًا لليهود أهل الكتاب؛ لأنهم بلغهم هذا عنهم فصاروا يصومونه في الجاهلية وهم بمكة.

قولها: «ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِصِيَامِهِ» ، يعني: لما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه قال: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ.

قولها: «حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ» ، فذلك في السنة الثانية من الهجرة.

قولها: «وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ . هذا دليل قوي على أن صوم يوم عاشوراء كان فرضًا قبل فرض رمضان، فالتخيير بعد فرض رمضان دل على أنه قبل رمضان كان واجبًا، ولم يكن فيه تخيير.

المتن:

باب فَضْلِ الصَّوْمِ

1894 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.

الشرح:

1894 قوله: الصِّيَامُ جُنَّةٌ الجنة هي: الوقاية والستر، ومتعلق هذا الستر أنه من النار كما في الروايات الأخرى[(371)].

وقوله: فَلاَ يَرْفُثْ أي: الصائم، والمراد بالرفث: الجماع ودواعيه أي: فليجتنب الجماع ودواعيه، وليجتنب كذلك الكلام الفاحش.

قوله: وَلاَ يَجْهَلْ أي: لا يفعل شيئًا من أفعال أهل الجهل كالصياح والسفه، وفي الحديث الآخر: من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه [(372)].

قوله: وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ يعني حتى يقطع الخصومة بينه وبينه يقول: إني صائم، يعني: إني أراعي آداب الصوم ولا أقابلك بالمثل، ولست عاجزًا، وبذلك ينقطع النزاع.

قوله: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ هذا قسم من النبي ﷺ وكثيرًا ما يقسم به؛ لأن نفسه بيد الله، وفيه إثبات اليد لله .

قوله: لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ. الخلوف بفتح الخاء وضمها: تغير رائحة فم الصائم بسبب الصيام.

قوله: أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يعني: هذه الرائحة الكريهة التي تنبعث من فم الصائم وإن كانت مكروهة بمشام الناس في الدنيا إلا أنها طيبة عند الله؛ لكونها ناشئة عن مرضاته وطاعته، كما أن دم الشهيد يأتي يوم القيامة لونه لون الدم وريحه ريح المسك؛ لأنه ناشئ عن طاعة الله.

قوله: يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي. هذا من كلام الله ، وهذا يعني: أن الصائم يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل الله؛ إخلاصًا لله وابتغاء لمرضاته.

قوله: الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. هذا عام في الفرض والنفل، أي أجزي به جزاء غير مقدر، جزاء عظيمًا غير محدد؛ وهذه الإضافة للتشريف والتكريم؛ ومعلوم أن الأعمال كلها لله، فالصلاة لله والصيام لله والحج لله، لكن هذه إضافة خاصة للتشريف ولبيان أن الصيام له مَزِيَّة؛ حيث إنه عبادة سرية لا يطلع عليها إلا الله؛ لأن الصائم يستطيع أن يفطر حينما يغيب عن أعين الناس، بخلاف بقية شرائع الإسلام، فلا يستطيع أن يترك الحج ولا يستطيع أن يترك الصلاة، بل لابد أن يعلنها، لكن الصيام يستطيع تركه، فلهذا أضافه الرب له، وإن كانت كل الأعمال لله.

قوله: وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا أي: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، لكن الصيام غير محدد؛ لأن الصيام من الصبر وقد قال الرب : إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزُّمَر: 10]، يعني لا ينحصر تضعيفه في عدد، ففضله عظيم وثوابه عظيم، ويختلف باختلاف أحوال الناس وإخلاصهم وما قام في قلوبهم من حقائق الإيمان.

المتن:

باب الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ

1895 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا جَامِعٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ : مَنْ يَحْفَظُ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْفِتْنَةِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ، قَالَ: لَيْسَ أَسْأَلُ عَنْ ذِهِ؛ إِنَّمَا أَسْأَلُ عَنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ قَالَ: وَإِنَّ دُونَ ذَلِكَ بَابًا مُغْلَقًا قَالَ: فَيُفْتَحُ أَوْ يُكْسَرُ. قَالَ: يُكْسَرُ قَالَ: ذَاكَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ يُغْلَقَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ، أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مَنْ الْبَابُ؟ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها بيان أن الصوم كفارة للذنوب والمراد الصغائر، فإذا اجتنب الإنسان الكبائر وأدى الفرائض كفر الله عنه الصغائر، أما الكبائر فلابد لها من توبة؛ لقول الله في كتابه المبين: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النِّسَاء: 31] نكفر عنكم سيئاتكم، يعني الصغائر؛ فاشترط الرب سبحانه لتكفير الصغائر اجتناب الكبائر؛ وثبت في «صحيح مسلم» ، من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: الْصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعُةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانِ إِلَى رَمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ [(373)] وكذلك أيضًا ثبت أن حسن التطهر يوم الجمعة كفارة، وقال في آخره: مَا اجْتُنِبَتِ  الْمَقْتَلَةُ [(374)] والمقتلة هي الكبيرة، وكذلك الحج كفارة، واشترط النبي ﷺ عدم الرفث والفسوق ـ وهي المعاصي ـ فقال: من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه [(375)]. فالصوم كذلك كفارة.

1895 استدل المؤلف رحمه الله بحديث حذيفة، قال: «قَالَ عُمَرُ : مَنْ يَحْفَظُ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْفِتْنَةِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا سَمِعْتُهُ» يعني: النبي ﷺ، «يَقُولُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ فتنة الرجل في أهله وماله وجاره يعني ما يقع منه معهم مما لا يليق من كلام أو سب أو غضب أو نزاع ونحوه، وإن كان ينبغي التحرز من ذلك، لكن مهما بلغ الإنسان من الفضل فإنه لا يسلم من ذلك بل لابد أن يقع منه شيء، فالصدِّيق أفضل الناس بعد الأنبياء، ومع ذلك حصل بينه وبين أهله كلام في مسألة الضيوف ـ كما سبق ـ وسب وَجَدّع عند غضبه من ابنه عبدالرحمن ، فهذا من الصغائر التي تكفرها الصلاة والصيام والصدقة، فينبغي للإنسان أن يُكثر من النوافل، فإذا وقع منه شيء من ذلك كانت كفارة له.

قوله: «لَيْسَ أَسْأَلُ عَنْ ذِهِ» . قال عمر لحذيفة : ليس أسأل عن فتنة الرجل في أهله وماله.

قوله: «إِنَّمَا أَسْأَلُ عَنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ» ، يعني: فتنة الحروب، وفتنة الشبهات والشهوات.

قوله: «وَإِنَّ دُونَ ذَلِكَ بَابًا مُغْلَقًا» ، أي: هذه الفتنة العظيمة بينك وبينها باب مغلق.

قوله: «فَيُفْتَحُ أَوْ يُكْسَرُ؟» فتح الباب مظنة أن يغلق، لكن كسره مظنة ألا يغلق أبدًا.

قوله: «ذَاكَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ يُغْلَقَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، يعني: لو كان يفتح فالأمر سهل؛ فالذي يفتح يغلق، لكن الذي يكسر لا حيلة فيه، فالذي يكسر لا يغلق.

قوله: «فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ» ، أي: سل حذيفة .

قوله: «أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مَنْ الْبَابُ؟ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ» . الباب هو قتل عمر، فلما قتل عمر ـ قتله أبو لؤلؤة المجوسي وطعنه تحت سرته ست طعنات وهو يصلي بالناس الفجر ـ فتحت أبواب الفتن، ثم فتحت أيضًا بعد قتل عثمان ، وكان السبب في قتل عثمان خروج الثوار الذين طافوا ببيته، ونقموا عليه أشياء، وهم من السفهاء، وتجمعوا من الآفاق من البصرة والكوفة ومصر، وأحاطوا ببيته حتى قتلوه ، فانفتحت أبواب الفتن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

المتن:

باب الرَّيَّانُ لِلصَّائِمِينَ

1896 حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ؟.

1897 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَْبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَْبْوَابِ كُلِّهَا قَالَ: نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ.

الشرح:

هذا الباب في بيان أن للصائمين بابًا خاصًّا من أبواب الجنة الثمانية يسمى باب الريان، وهذا مناسب؛ لأن الصائم أظمأ نفسه لله، ففتح الله بابًا في الجنة يسمى الريان ليثيبه الله بالرِِّي مقابل العطش.

1896 قوله: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ؟. المراد صوم الفريضة، فالذي كان يصوم رمضان هو الذي يدخل من هذا الباب، وصوم التطوع سبب، ولكن حتى لو اقتصر على الفريضة فهو من أهل هذا الباب.

1897 قوله: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ. المراد بالزوجين: إنفاق الشيئين من أي صِنف من أصناف المال من نوع واحد: مثل درهمين أو دينارين أو شاتين أو بعيرين، وإن كان من نوعين فهو أولى، والحديث محتمل هذا مثل: درهم وشاة، أو دينار وبعير، أو ثوب ودرهم، أو لحم وفاكهة، وهكذا.

قوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل: الجهاد في سبيل الله، وقيل: ما هو أعم منه فيشمل جميع سبل الخيرات. وهذا هو الأرجح، فالمقصود الإنفاق في جميع وجوه الخير، وإذا أنفقها في الجهاد فهو آكد وأفضل.

قوله: فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ فالجنة لها أبواب.

قوله: وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ هذا هو الشاهد للترجمة.

ومن مات ولم يصم، كأن أسلم ثم جاهد وقتل ولم يدرك الصوم لا يدعى من باب الريان، ويدعى من باب التوحيد، يدخل الجنة من الأبواب الأخرى فيدعى من باب الصلاة إذا كان صلى.

وإذا آمن ووحد ولم يتمكن من الصلاة حتى توفي كذلك لا يدعى من باب الصلاة؛ لأنه لم يصل، لكن يدعى من الأبواب الأخرى كباب التوحيد، وقد يُدعى الإنسان من أبواب متعددة ولهذا سأل الصديق النبي ﷺ عن هذا.

قوله: «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ» يعني: أفديك بأبي وأمي.

قوله: «مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَْبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ» يعني: ليس عليه بأس ولا حرج؛ لأن كل واحد منها يوصل إلى الجنة فقد يدعى من باب الصلاة أو من باب الصيام أو من باب الحج.

قوله: «فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَْبْوَابِ كُلِّهَا قَالَ: نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ فأبو بكر يدعى من أبواب الجنة الثمانية؛ يدعى من باب الصلاة ويدعى من باب الصيام ويدعى من باب الجهاد ويدعى من باب الصدقة، من جميع الأبواب؛ لأنه سباق إلى الخيرات؛ لأنه قد ضرب في كل نوع من أنواع الخير وكل عبادة من أنواع العبادات بسهم.

فالمؤمن يدخل من جميع هذه الأبواب إذا كان يفعل الخيرات المتعددة، فإذا كان من أهل الصلاة ومن أهل الجهاد ومن أهل الصدقة ومن أهل الصيام يدعى من أبواب الجنة كلها، كلما جاء بابًا قال: يا فلان تعال تعال، ويختار هو فيدخل من أيها شاء، مثل أبي بكر الصديق ينادى من جميع الأبواب.

المتن:

باب هَلْ يُقَالُ رَمَضَانُ أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ.

وَقَالَ: لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ.

1898 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ.

1899 حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرنِي ابْنُ أَبِي أَنَسٍ مَوْلَى التَّيْمِيِّينَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ.

1900 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرنِي سَالِمُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: عَنْ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ وَيُونُسُ: لِهِلاَلِ رَمَضَانَ.

الشرح:

هذه الترجمة أراد بها المؤلف رحمه الله بيان أنه لا بأس أن يُقال: رمضان، ويقال: شهر رمضان، فالأمر في هذا واسع وأشار البخاري رحمه الله في هذه الترجمة إلى حديث ضعيف وهو: لا تقولوا: رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله ، ولكن قولوا: شهر رمضان [(376)] والصواب أنه لا بأس أن يقال: رمضان أو شهر رمضان، فالأمر في هذا واسع والحمد لله.

قوله: «وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا» ، يعني: من رأى أن كل ذلك واسع فنقول: رمضان أو شهر رمضان، وفي القرآن الكريم: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البَقَرَة: 185].

1898 قوله: إذَا جَاءَ رَمَضَانُ لم يقل: شهر رمضان؛ فدل على أنه لا بأس أن يقال: رمضان.

وفيه: بيان فضل رمضان وأن الجنة تفتح أبوابها في رمضان.

1899 في الحديث: بيان لفضائل رمضان، وأنه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق أبواب جهنم وتسلسل الشياطين، أي: تربط أيديها في أعناقها بالسلاسل، ولذلك تقل وسوستهم بسبب تصفيدهم وسلسلتهم، وبسبب تضييق مجاري الطعام والشراب التي هي مجاري الشيطان بالصيام.

والجمع بين تصفيد الشياطين في رمضان مع ما يحدث من الوسوسة للصائم أن المراد أنه تقل الوسوسة بتضييق مجاري الطعام والشراب والتي هي مجرى الشيطان كما في الحديث: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم» [(377)] وهي تضيق بالصوم فتقل الوساوس والإغواء لأهل الإيمان ولأهل الصلاح الذين يراعون حرمة الشهر. وأما الفساق الذين لا يراعون حرمة الشهر فهؤلاء ليسوا مرادين، إنما المراد من يراعي حرمة الشهر.

1900 قوله: إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ. اختلف العلماء في المراد بقوله: فَاقْدُرُوا لَهُ ، قيل: المراد احسبوا له، كما سيأتي للمؤلف رحمه الله في ترجمة قادمة.

والصواب أن المعنى: اقدروا له بإكمال العدة ثلاثين سواء كان شعبان أو رمضان، وهذا مذهب جمهور العلماء، ويؤيد هذا الحديث الآتي وهو قوله ﷺ: فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ [(378)] ويؤيد هذا المعنى الأحاديث التي وردت في النهي عن صوم يوم الشك[(379)].

وقال بعض العلماء: فَاقْدُرُوا لَهُ، أي: ضيقوا له بجعله تسعة وعشرين يومًا، فيُصام يوم الثلاثين من شعبان، إذا كان يوم غيم، وهذا قول ضعيف، وإن قال به بعض العلماء؛ لأنه مخالف للأحاديث التي فسرت هذه اللفظة، والأحاديث يفسر بعضها بعضًا كما سيأتي.

المتن:

باب مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَنِيَّةً

وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: عَنْ النَّبِيِّ ﷺ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ.

1901 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.

الشرح:

قوله: «بَابُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَنِيَّةً» ؛ عطف النية على الاحتساب عطف تفسير، فالنية هي الاحتساب، والاحتساب هو النية، ولم يذكر الجواب؛ لأن الجواب معروف من الحديث والتقدير: باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية غفر له ما تقدم من ذنبه؛ لأن هذا هو الذي دل عليه الحديث.

1901 في الحديث: فضل قيام ليلة القدر، وأن قيام ليلة القدر سبب في المغفرة، ولكن هذا قيد بأن يكون عن إيمان واحتساب، وكذلك صوم رمضان من أسباب مغفرة الذنوب بشرط أن يكون عن إيمان واحتساب.

ووقع في بعض روايات غير «الصحيحين» : غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ [(380)].

ومعنى قوله: وَمَا تَأَخَّرَ على هذه الرواية: أنه يوفق لعمل صالح ولتوبة فيما تأخر من ذنوبه.

ومعنى إِيمَانًا يعني: إيمانًا بالله، وإيمانًا بشرعية الصوم وفرضيته، «وَاحْتِسَابًا» يعني: إخلاصًا لوجه الله وطلبًا للأجر والثواب، فلا يصومه تقليدًا ولا رياء، ولا يستثقل صيامه ولا يستطيل أيامه، بل يغتنم طول أيامه لما يعلم عند الله من الأجر والمثوبة.

وقوله غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. ذنب: اسم جنس مضاف إلى الضمير، فيعم جميع الذنوب، وخصه الجمهور بالصغائر دون الكبائر؛ لأن الكبائر لابد لها من توبة كما في الآية: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النِّسَاء: 31]، فصوم رمضان من أسباب مغفرة الذنوب لمن اجتنب الكبائر، وكذلك قيام ليلة القدر من أسباب مغفرة الذنوب لمن اجتنب الكبائر.

المتن:

باب أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَكُونُ فِي رَمَضَانَ

1902 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.

الشرح:

قوله: «بَابٌ أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَكُونُ فِي رَمَضَانَ» . جزم المؤلف بالترجمة لحديث ابن عباس أن النبي ﷺ «كان أجود ما يكون في رمضان» ، فينبغي الاقتداء به ﷺ.

1902 قوله: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ» . هذا كلام عام، يشمل تلاوة القرآن والصدقة والإحسان والتعليم والدعوة إلى الله وإغاثة الملهوف وإطعام الجائع وكسوة العاري.

قوله: «وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ الْقُرْآنَ» ، يعني: يقرؤه عليه حتى يختمه، فكانا يتدارسان القرآن من أوله إلى آخره، وفي السنة التي تُوفي فيها ﷺ عرض القرآن مرتين وختمه مرتين، فكان خير عمله ﷺ في آخر عمره.

وفي الحديث من الفوائد: فضل مدارسة القرآن في رمضان، وفضل مجالسة الصالحين، وأنه قد يكون عند المفضول ما ليس عند الفاضل؛ لأن النبي ﷺ أفضل من جبريل، وجبريل هو الذي أتى به إلى النبي ﷺ من عند الله، ولذلك يدارسه القرآن.

وفيه: أنه ينبغي للمسلم أن يقتدي بالنبي ﷺ بالجود في رمضان بجميع أنواع الجود وبجميع أنواع الخير.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال الزين ابن المنير: وجه التشبيه بين أجوديته ﷺ بالخير وبين أجودية الريح المرسلة: أن المراد بالريح ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام الذي يكون سببًا لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة، أي: فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة، ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة ﷺ» .

فكما أن الغيث يعم الأرض الميتة وغير الميتة، فكذلك الكريم يعم كرمه وجوده الفقير وغيره.

المتن:

باب مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فِي الصَّوْمِ

1903 حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ.

الشرح:

قوله: «بَابُ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فِي الصَّوْمِ» ، يعني: فإن صومه ناقص، وهو منقوص الحظ فاته الأجر والثواب.

1903 قوله: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ. زاد في رواية: والجهل [(381)] وسبق حديث: فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ [(382)].

قوله: فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ. ليس لله حاجة إلى أعمال العباد مطلقًا، والمراد: أنه لا ينتفع بصيامه، ولا يحصل كمال الثواب المرتب على الصيام إذا لم يترك قول الزور والعمل به والجهل.

وفيه: التحذير من المعاصي، وهذا يشمل: قول الزور والعمل به، والسباب والرشوة والتعامل بالربا، والعدوان على الناس في الدماء والأموال والأعراض وغير ذلك، فمن لم يدع هذه الأشياء فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، كيف يتقرب إلى الله بترك المباحات من الطعام والشراب، وهو لا يترك المحرمات التي حُرمت في كل وقت، ويفعل الكبائر من سرقة وغيرها؟! ما قيمة هذا الصوم؟

هذا صوم ضعيف لا يقوى على تكفير السيئات ورفع الدرجات.

وعلى هذا فمن صام رمضان وقامه ولكنه يكثر من النظر إلى القنوات الفضائية الهابطة في رمضان فهل يحصل له فضيلة غفران الذنوب؟!

لا شك أن صيامه ناقص وضعيف.

المتن:

باب هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ

1904 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرنِي عَطَاءٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها بيان أن الصائم لا يُقابَل من شتمه بالمثل وإنما يقول له: إني امرُؤ صائم؛ قطعًا للخصومة والنزاع ولبيان أنه ليس عاجزًا عن الرد، ولهذا قال: «بَابٌ هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ» أي: إذا شتمه أحد، والشتام يشمل السباب، سواء أكان بلفظ اللعن أم بغير لفظ اللعن، ومن ذلك ما جاء في الحديث القدسي يقول الله تعالى: يشتمني ابن آدم، وليس له ذلك [(383)] وبين أن شتمه يكون بنسبة الولد إليه، قال: يقول: إن لي ولدًا.

1904 قوله: قَالَ اللَّهُ هذا الحديث قدسي؛ لأن النبي ﷺ نسبه إلى الله وأضافه إليه، والحديث القدسي هو من كلام الله لفظًا ومعنى مثل القرآن، إلا أن له أحكامًا تختلف عن القرآن، فالقرآن لابد في مسه من الوضوء، والحديث القدسي يُمَسُّ بغير وضوء، والقرآن يتعبد بتلاوته والحديث القدسي غير متعبد بتلاوته، والقرآن معجز والحديث القدسي قد لا يكون لفظه معجزًا.

قوله: قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ إضافة الصيام إلى الله تفيد شرفه وفضله، وإلا فجميع الأعمال كلها لله: الصلاة والصوم والحج، لكن الصيام خُصَّ لشرفه وبيان أن فضله وثوابه عظيم وأنه لا ينحصر تضعيف أجره بعدد، ولأنه عبادة سرية بين العبد وربه.

قوله: وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ يعني: وقاية من الذنوب ومن النار.

قوله: وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ . سبق معنى الرفث وأنه يشمل الجماع ودواعيه والكلام السيئ.

قوله: وَلاَ يَصْخَبْ: أي بالصياح والشتم.

قوله: فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. هذا هو الشاهد للترجمة في أنه لا بأس أن يقول: إني صائم للحاجة؛ لبيان عدم المسابَّة وعدم المقابلة بالمثل.

وفيه: أن هذا القول ليس من الرياء، إنما هو لقطع النزاع، فليس المراد أن يخبر أنه صائم ولكن المعنى: إني لا أقابلك بالمثل ولا أرد عليك، وإنما أحترم الصوم الذي أنا متلبس به، وإلا فإني أستطيع الرد، فيرد بذلك ولو كان يريد إخفاء عمله؛ لأنه مضطر إلى هذا، والحديث عام فيقوله حتى في صيام النفل إذا سابه أحد أو شاتمه.

قوله: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يعني: وإن كان مستكرهًا عند الناس إلا أنه أطيب عند الله من ريح المسك؛ لأنه ناشئ عن طاعة الله ومرضاته.

قوله: لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بإتمام صومه وبما أباح الله له من المفطرات.

قوله: وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِه ، أي: حين يلقى ثوابه مدخرًا عند الله.

المتن:

الصَّوْمِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُزُوبَةَ

1905 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ.

الشرح:

قوله: «بَابُ الصَّوْمِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُزُوبَةَ» ، يعني: باب مشروعية الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة، والعزوبة: مصدر، والأعزب: الذي لا زوجة له، فإذا خاف الإنسان على نفسه العزوبة فإنه يشرع له الصوم.

1905 قوله: «بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ » ، هو ابن مسعود؛ لأن علقمة من تلاميذه.

قوله: «فَقَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ ، هي: مؤن النكاح، أي: القدرة على النكاح من المهر وما يتبعه.

قوله: فَلْيَتَزَوَّجْ. هذا أمر ظاهره الوجوب، وأنه يجب على الإنسان أن يتزوج إذا خاف على نفسه الوقوع في الفاحشة.

والعلماء ذكروا أن الزواج تَرِدُ فيه الأحكام الخمسة:

الحكم الأول: قد يكون واجبًا.

الحكم الثاني: قد يكون مندوبًا.

الحكم الثالث: قد يكون مكروهًا.

الحكم الرابع: قد يكون محرمًا.

الحكم الخامس: قد يكون مباحًا.

وهنا إذا خاف على نفسه العزوبة يجب عليه الزواج.

قوله: فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ. هذه هي العلة من الزواج، أنه يعين الإنسان على غض بصره وتحصين فرجه.

قوله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، ظاهره وجوب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة حتى لا يقع في المحرم.

وقوله: فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ، يعني: يخفف الشهوة، والوجاء أصله أن ترض الخصيتان فتنقطع بذلك الشهوة.

المتن:

باب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: إِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلاَلَ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا

وَقَالَ صِلَةُ: عَنْ عَمَّارٍ مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ.

1906 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ.

1907 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ.

1908 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَخَنَسَ الإِْبْهَامَ فِي الثَّالِثَة.

1909 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَوْ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ﷺ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ؛ فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ.

1910 حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا أَوْ رَاحَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ حَلَفْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ شَهْرًا؟ فَقَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.

1911 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتْ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِي مَشْرَُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتَ شَهْرًا؟ فَقَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان أن الصوم معلق برؤية الهلال، أو بإكمال الشهر السابق ثلاثين يومًا.

قوله: «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: إِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلاَلَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا. فالصوم معلق برؤية الهلال، والفطر معلق برؤيته، وإذا لم يُر الهلال فإنه يُكمَّل الشهر السابق ثلاثين يومًا.

قوله: «وَقَالَ صِلَةُ: عَنْ عَمَّارٍ مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ» يوم الشك هو اليوم الذي يُشك فيه أنه من شعبان أو من رمضان.

1906 قوله: لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلاَلَ. فالصوم يكون برؤية الهلال، والإفطار يكون برؤيته.

قوله: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ يعني: إذا لم تروا الهلال بسبب الغيم والقتر.

قوله: فَاقْدُرُوا لَهُ . للعلماء في هذه الجملة تأويلان:

الأول: وهو للجمهور، قالوا: المراد انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين، ويرجح هذا التأويل الروايات الأخرى المصرحة بذلك كقوله في الحديث الذي بعده حديث ابن عمر: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ ، وفي حديث أبي هريرة الآتي: فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ، وأولى ما يفسر به الحديث الحديث، فهذه الروايات يفسر بعضها بعضًا، فهذا مذهب الجمهور وهو الصواب، وهو أنه لا يُصام إلا برؤية الهلال أو بإتمام عدة الشهر السابق ثلاثين يومًا سواء كان شعبان أو رمضان، ويؤيد هذا المعنى الأحاديث التي وردت في النهي عن صوم يوم الشك كحديث أبي هريرة مرفوعًا: لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ [(384)] وحديث عمار: «من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم ﷺ» [(385)].

الثاني: أن المراد بقوله: فَاقْدُرُوا لَهُ ضيقوا له بجعله تسعة وعشرين يومًا، فيصام يوم الثلاثين من شعبان إذا كان يوم غيم أو قتر، وإلى هذا ذهب بعض الحنابلة وهو المذهب عندهم[(386)]، وإليه ذهب ابن عمر رضي الله عنهما، فقد ثبت عنه أنه كان يأمر من ينظر ليلة الثلاثين من شعبان فإن كان يوم صحوٍ ولم يُر أصبح مفطرًا، وإن كان يوم غيم أصبح صائمًا، وهذا اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما مخالف للنصوص التي فسرت قوله: فَاقْدُرُوا لَهُ؛ إذ الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، فهذا الذي قال به ابن عمر رضي الله عنهما ضعيف، فهو اجتهد، والاجتهاد يخطئ ويصيب، والحجة في كلام الله وكلام رسول الله ﷺ، والرواية الثانية عن الإمام أحمد[(387)] أن معنى فَاقْدُرُوا لَهُ، أي احسبوا له، وأنه لا يُصام إلا بالرؤيا أو بإكمال الشهر السابق ثلاثين يومًا.

وهناك تأويلات أُخر لقوله: فَاقْدُرُوا لَهُ، ولكنها أقوال باطلة لا يُعول عليها، مثل قولهم: فَاقْدُرُوا لَهُ، بحساب المنازل، ومنه قول بعضهم: يجوز تقليد الحاسب دون المنجم، وفي قول بعضهم: يجوز لهما ولغيرهما مطلقًا.

قوله: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ. هذا الحديث يبين معنى الحديث السابق وأن معنى فَاقْدُرُوا لَهُ: أكملوا العدة ثلاثين.

1908 قوله: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَخَنَسَ الإِْبْهَامَ فِي الثَّالِثَة» يعني: بسط يده، فهذه عشر، «وَخَنَسَ الإِْبْهَامَ فِي الثَّالِثَة» . يعني: هو عشر، وعشر وتسع يعني يكون تسعًا وعشرين ويكون ثلاثين.

1909 قوله: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ؛ فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ. هذا يؤيد أن معنى فَاقْدُرُوا لَهُ: فاحسبوا له.

1910 قوله: «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا أَوْ رَاحَ» . آلى يعني: حلف ألا يدخل على نسائه شهرًا.

قولها: «فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ حَلَفْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ شَهْرًا؟» . فدخل بعد تسع وعشرين.

قولها: «فَقَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا . هذا هو المحقق، وقد يكمل فيكون ثلاثين يومًا، وهذا محمول على أن النبي ﷺ دخل المشربة من أول الشهر فكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين.

1911 قوله: «آلَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ نِسَائِهِ» ، يعني: حلف ألا يدخل عليهن شهرًا.

قوله: «وَكَانَتْ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِي مَشْرَُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتَ شَهْرًا؟ فَقَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. هذا محمول على أن النبي ﷺ أقام في المشربة من أول الشهر الهلالي، وأن ذلك الشهر كان تسعة وعشرين يومًا، وإلا لو كان قد دخل المشربة في أثناء الشهر لأكمل ثلاثين.

1907 قوله: فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ. اختلف العلماء فيه، هل هو خطاب للأمة كلها؟ أو هو خطاب لأهل كل بلد؟

القول الأول: أنه خطاب للأمة كلها لقوله ﷺ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ. وهذا قول الجمهور، وعليه فإذا رؤي الهلال في بلد لزم الناس كلهم الصوم، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(388)]، وكاد يحكي الإجماع.

القول الثاني: أن الخطاب لأهل كل بلد؛ لأن الخطاب في الحديث لأناس مخصوصين، واستدلوا بما ثبت في «صحيح مسلم» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة كريب مولى أم سلمة: أنها أرسلته إلى الشام في حاجة، فاستهل عليه هلال رمضان ليلة الجمعة، فصام وصام معاوية وصام أهل الشام يوم الجمعة، ثم قدم كريب في آخر الشهر فسأله ابن عباس رضي الله عنهما: متى صمتم؟ قال: صمنا يوم الجمعة، رأينا الهلال ليلة الجمعة فصام معاوية والناس. فقال ابن عباس: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصومه حتى نرى الهلال أو نكمل الشهر ثلاثين، قال كريب: فقلت له: أفلا تعملون برؤية معاوية والناس؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله ﷺ[(389)].

قالوا: هذا دليل على أن لكل أهل بلد رؤيتهم.

والأرجح رأي الجمهور بأن هذا الخطاب للأمة كلها، أي: إذا رؤي الهلال لزم الناس كلهم الصوم، ولكن القول الثاني له وجاهته في قطع النزاع.

والمراد بالرؤية: الرؤية بالعين المجردة، وإذا استعان بالمراصد التي تُقرب فيراه بعينه فلا بأس، أما قول الحسَّاب: إنه يولد الليلة أو يأتي في كذا فلا يُعتمد عليه؛ لأن النبي ﷺ علق الحكم بالرؤية لا بالحساب، والرؤية يدركها الخاص والعام والعالم والجاهل، ويدل على ذلك حديث ابن عمر ـ كما سيأتي: إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا [(390)] يعني: يكون مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين، وهذا وصف أغلبي للأمة، والمعنى أنه لا يُعول على الحساب، وإنما يُعوَّل على رؤية الهلال في الأحكام.

المتن:

باب شَهْرَا عِيدٍ لاَ يَنْقُصَانِ

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ إِسْحَاقُ: وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَهُوَ تَمَامٌ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لاَ يَجْتَمِعَانِ كِلاَهُمَا نَاقِصٌ.

1912 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ وَحَدَّثَنِي مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، قَالَ: أَخْبَرنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: شَهْرَانِ لاَ يَنْقُصَانِ شَهْرَا عِيدٍ رَمَضَانُ وَذُو الْحَجَّةِ.

الشرح:

قوله: «بَابٌ شَهْرَا عِيدٍ لاَ يَنْقُصَانِ» . هما شهر رمضان وشهر ذي الحجة.

1912 اختلف العلماء في معنى قول النبي ﷺ شَهْرَانِ لاَ يَنْقُصَانِ على قولين سبق ذكرهما:

الأول: قول إسحاق بن راهويه أن المعنى أنهما لا ينقصان في الأجر والثواب وإن نقصا في العدد.

الثاني: قول أحمد رحمه الله[(392)] وهو اختيار البخاري أنهما لا يجتمعان ناقصين في العدد بل إذا نقص أحدهما تم الآخر.

ولكن القول الأول أرجح؛ لأن العلماء سبروا الشهرين فوجدوهما يجتمعان ناقصين؛ فقد يكون شهر رمضان تسعًا وعشرين ويكون شهر ذي الحجة تسعًا وعشرين أيضًا.

وزاد في بعض النسخ: «قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ:» ، هو البخاري، «قَالَ إِسْحَاقُ:» ، هو ابن راهويه، «وإن كان ناقصًا فهو تمام» ، يعني: وإن نقص الشهر فهو تام في الأجر والثواب.

قوله: «وَقَالَ مُحَمَّدٌ:» ، هو البخاري، «لاَ يَجْتَمِعَانِ كِلاَهُمَا نَاقِصٌ» . وهذا قول الإمام أحمد[(391)] يعني: لا يجتمعان ناقصين، بل إذا نقص شهر رمضان لابد أن يتم ذو الحجة، وإذا نقص ذو الحجة لابد أن يتم شهر رمضان.

والصواب: أن المعنى لا ينقصان في الأجر والثواب وإن نقصا في العدد كما قال إسحاق.

المتن:

باب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ

1913 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الأَْسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ.

الشرح:

1913 قوله: إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ، يعني: العرب وأهل الإسلام, وهذا وصف أغلبي للأمة من عهد النبي ﷺ إلى وقتنا هذا؛ لأنك إذا نظرت إلى البوادي والقرى والهِجَر والأعراب رأيت كثيرًا منهم لا يقرأ ولا يكتب، فهذا وصف أغلبي بالنسبة لجميع العصور وإن كان كثر في هذا الزمان أن انمحت الأمية وكثر الكتَّاب، لكن يوجد عدد كبير ما زالوا لا يعرفون القراءة والكتابة، والمراد أنه لا يُعول على الحساب، وإنما يعول على رؤية الهلال في الأحكام.

قوله: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ» . هذا دليل على إبطال الاعتماد على الحساب في دخول الشهر وخروجه، وإنما يُعتمد على الرؤية، أو إتمام عدة الشهر ثلاثين يومًا.

قوله: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ ، يعني: ليس من شأنهم الكتابة والحساب في دخول الشهر وخروجه وإن كانت تكتب وتحسب في الأمور الأخرى، كأمور التجارة وغيرها.

المتن:

باب لاَ يَتَقَدَّمَنَّ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ

1914 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ.

الشرح:

1914 في الحديث: تحريم الصيام قبل رمضان بيوم أو يومين بقصد الاحتياط لرمضان، لكن من وافق عادة له فلا بأس بصيامه، كمن كانت عادته أن يصوم الاثنين والخميس، فإذا كان آخر يوم من شعبان الخميس فله أن يصومه؛ لأنه ما صام بنية الاحتياط وإنما صام لأجل عادته، أما من لم يكن له عادة فيحرم عليه الصوم لأجل الاحتياط للشهر.

ويجوز له أن يصوم النذر ـ إن كان عليه نذر ـ أو كفارة أو قضاء رمضان السابق.

وهذا الحديث من الأدلة على أن معنى قوله ﷺ: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ [(393)] أي احسبوا تمام الثلاثين ولا تصوموا يوم الغيم بنية الاحتياط لئلا يتقدم رمضان بيوم.

المتن:

باب قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ

1915 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الإِْفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلاَ يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الأَْنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا فَلَمَّا حَضَرَ الإِْفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لاَ وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا وَنَزَلَتْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ.

الشرح:

1915 في الحديث: بيان ابتداء مشروعية السحور، وابتداء مشروعية الصيام وأنه على أطوار ثلاثة:

أحدها: التخيير بين الصيام وبين الإفطار والإطعام عن كل يوم، فكان المسلم يُخير في أول الإسلام بين أن يصوم وبين أن يُفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا ولو كان قادرًا، والصيام أفضل وذلك في قول الله : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البَقَرَة: 184].

الطور الثاني: إيجاب الصيام حتمًا على المقيم الصحيح القادر لقول الله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البَقَرَة: 185]، لكن إذا حضر الإفطار فنام قبل أن يُفطر أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى الليلة القابلة، فحصل من ذلك حرج، كما في قصة قيس بن صِرْمة التي ذكرها المؤلف رحمه الله.

الطور الثالث: وهو إباحة الأكل والشرب والنساء من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.

وقوله: «كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ» ﷺ يعني: في أول افتراض الصيام.

قوله: «إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الإِْفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلاَ يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الأَْنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا فَلَمَّا حَضَرَ الإِْفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لاَ وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ» ، يعني: في مزرعته طول النهار، فذهبت امرأته تأتي له بشيء يأكله.

قوله: «فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ» ، يعني: ما تستطيع أن تأكل فقد حَرُمَ عليك الطعام والشراب، فلم يأكل تلك الليلة وأصبح صائمًا.

قوله: «فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البَقَرَة: 187]، ابتلاهم الله أولاً فصبروا، ثم خفف عنهم .

المتن:

باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ

فِيهِ الْبَرَاءُ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.

1916 حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرنِي حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلاَ يَسْتَبِينُ لِي، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ​​​​​​​.

1917 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ ابْنِ سَعْدٍ ح حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ وَلَمْ يَنْزِلْ مِنَ الْفَجْرِ فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الأَْبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأَْسْوَدَ وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: مِنَ الْفَجْر فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.

الشرح:

هذه الترجمة: «بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ المقصود منها: بيان انتهاء وقت الأكل والشرب والجماع الذي أبيح بعد أن كان ممنوعًا، وأنه من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.

1916 قوله: إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ . هذا قول النبي ﷺ لعدي بن حاتم عندما جعل عقالاً أسود وعقالاً أبيض تحت وسادته ثم جعل ينظر فلا يستبين له، وكذلك فعل هذا عدد من الصحابة، وليس هذا خاصًّا بعدِي ، ففي الحديث الثاني: «فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الأَْبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأَْسْوَدَ وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: مِنَ الْفَجْرِ [البَقَرَة: 187]، فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» .

ولم يأمرهم النبي ﷺ بالقضاء؛ لأنهم اعتنوا وفعلوا الأسباب، فعدي بن حاتم جعل عقالين تحت وسادته، وكان غيره من الصحابة يربط أحدهم في رجله خيطين أبيض وأسود، بخلاف من أكل بعد طلوع الفجر ولم يعلم فإنه مفرط، لم يعتن بالأسباب التي يُعرف بها طلوع الفجر فهذا عليه القضاء.

وكذلك أيضًا لو أفطر يظن أن الشمس غربت ثم تبين له أنها لم تغرب فإنه يقضي ذلك اليوم، هذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء، خلافًا لما عليه بعض العلماء في عدم وجوب القضاء.

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(396)] أن من أكل أو شرب ويظن أن الفجر لم يطلع ثم تبين أنه طلع أنه لا يقضي، وكذلك أيضًا إذا أفطر يظن أن الشمس غربت ثم تبين طلوعها، وهو اختيار الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.

والصواب: هو الذي عليه الجمهور من وجوب القضاء.

أما إذا لم يتبين له فلا يقضي؛ فإذا أكل أو شرب ثم ظن أن الفجر طلع فالأصل بقاء الليل، لكنه إذا تبين له وتحقق أن الفجر قد طلع فهذا يقضي؛ لأنه مفرط.

1917 قوله: «فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الأَْبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأَْسْوَدَ وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: مِنَ الْفَجْرِ [البَقَرَة: 187]، فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» . فلم يأمرهم النبي ﷺ بالقضاء؛ لأنهم اعتنوا وفعلوا الأسباب؛ وقد سبق بيان ذلك.

المتن:

باب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: لاَ يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلاَلٍ

1918، 1919 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ بِلاَلاً كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ؛ فَإِنَّهُ لاَ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ.

قَالَ الْقَاسِمُ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانِهِمَا إِلاَّ أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا.

الشرح:

قوله: مِنْ سَحُورِكُمْ يقال: سَحور للطعام والشراب ويقال: سُحور للفعل.

قولها: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ؛ فَإِنَّهُ لاَ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ هذا فيه: بيان أن النبي ﷺ كان له مؤذنان في رمضان خاصة، كان بلال يؤذن الأذان الأول للتنبيه كما جاء في الحديث الآخر: لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ [(397)] حتى يستيقظ النائم ويُصلي ما قُسم له ويصلي الوتر، ويرد المصلي حتى لا يطيل الصلاة، فيعلم أن الوقت قريب فهو يؤذن بليل، والمؤذ الثاني ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى لا يؤذِّن حتى يقال له: أصبحت أصبحت.

أَنَّ بِلاَلاً كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ تعني: أن بلالاً كان يؤذن قبل الصبح.

قوله: «قَالَ الْقَاسِمُ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانِهِمَا إِلاَّ أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا» يعني يرقى هذا إلى السطح وينزل الآخر، والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر ابن أخي عائشة، والمراد من قول القاسم المبالغة في قصر المدة التي بينهما، وقد جاء تحديدها تقريبًا في حديث زيد بن ثابت الآتي[(398)] وأنها تقدر بخمسين آية، وهي مع الترتيل كافية لطلوع الصبح؛ لأن الحديث صريح بأن بلالاً يؤذن بليل قبل الصبح ثم بعده يؤذن ابن أم مكتوم.

المتن:

باب تعجيل السَّحُورِ

1920 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها تعجيل السَّحور. قال: «باب تعجيل السحور» . وفي نسخة العيني قال: «بَابُ تَأْخِيرِ السَّحُورِ» ، وهي أوجه وأقرب؛ لمناسبة الحديث لها، ومعنى تعجيل السحور: أي الإسراع بالأكل حتى لا يطلع عليه الصبح؛ هذا إذا أُريد تعجيل السحور، وإذا أُريد تأخير السحور فيعني تأخيره لآخر الليل؛ لأنه وقت الفضيلة.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد