شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. الحديث وعلومه
  4. شرح كتاب المظالم والغصب من صحيح البخاري
  5. شرح كتاب المظالم والغضب صحيح البخاري (46-2) من باب إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ - إلى باب الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ الْمُشْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا

شرح كتاب المظالم والغضب صحيح البخاري (46-2) من باب إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ - إلى باب الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ الْمُشْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا

00:00
00:00
تحميل
72

المتن:

باب إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ

2451 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَْشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟ فَقَالَ الْغُلاَمُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا؛ قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي يَدِهِ.

الشرح:

قوله: «بَاب إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ» . هذه الترجمة من دقائق فقه الإمام البخاري وتعني: إذا أحله من حقه، ولم يبين كم الحق، ولكن أبرأه إجمالاً هل يصح هذا أم لا؟

2451 وجه دلالة الحديث للترجمة: أن الغلام ـ وهو ابن عباس ـ لو أذن للأشياخ بحقه لجاز، وكان ذلك تبرعًا بحقه من الشراب وهو غير معلوم، فدل على أنه إذا أذن له وأحله من حقه وكان مجهولاً صح.

وفيه: التبرك بالنبي ﷺ وبآثاره في حياته وأن هذا خاص به.

وفيه: دليل على أن من على يمين الإنسان أحق بالعطية التي يعطاها، فإذا شرب الإنسان ـ سواء كان ماءً أو لبنًا أو عسلاً ـ فإن الحق أن يعطي من على يمينه، ولو كان صغيًرا، ولا يعطي من على يساره ولو كان كبيرًا، إلا إذا استسمحه لذلك؛ كما استأذن النبي ﷺ الغلام، وقال: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟ فَقَالَ الْغُلاَمُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا» ؛ وهو بذلك يريد التبرك بالشرب بعد النبي ﷺ، وبالمكان الذي شرب منه، فلا يريد أن يؤثر به أحدًا.

وقوله: «فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي يَدِهِ» يعني: وضعه في يده، وهذا مكسب عظيم وخير عظيم، وكيف يفرط فيه ويؤثر به غيره؟! ولو كان المؤثر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.

المتن:

باب إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئًا مِنْ الأَْرْضِ

2452 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثنِي طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَنْ ظَلَمَ مِنْ الأَْرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ.

2453 حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها، فَقَالَتْ: يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبْ الأَْرْضَ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الأَْرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ.

2454 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ أَخَذَ مِنْ الأَْرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ.

الشرح:

قوله: «بَاب إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئًا مِنْ الأَْرْضِ» هذه الترجمة معقودة لبيان إثم من ظلم شيئًا من الأرض، وأن إثمه عظيم وشديد.

2452 قوله: مَنْ ظَلَمَ مِنْ الأَْرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ؛ وفي اللفظ الآخر: خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ فيه: الوعيد الشديد على من ظلم شيئًا من الأرض، وأنه يطوق الأرض إلى سبع أرضين، وقيل: المعنى أنه يكلف نقل ما ظلم يوم القيامة، ويكون كالطوق في عنقه.

وقيل: المعنى يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين، فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقًا في عنقه.

وفيه: دليل على أن الأرضين سبع، ويدل على ذلك أيضًا قول الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطّلاَق: 12].

وقيل: هي أرض واحدة لم تفتق وإلا لم يطوقها.

وفيه: دليل على أن من ملك أرضًا ملك أسفلها وهواءها، فليس لأحد أن يحفر تحت أرض غيره سردابًا أو بئرًا بغير رضاه؛ لأنه ملك الأرض ظاهرها وباطنها، بما فيها من حجارة ثابتة وأبنية ومعادن، فإذا وجد في أرضه معادن رصاص أو نحاس أو بترول تكون من حقه، وهناك من قال: إنه من الحق العام، ولكن الأصل أن ما تحت الأرض ملك له.

2453 قوله: مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الأَْرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ. قيل: المعنى أن الأرض الذي اغتصبها ظلمًا تكون في تلك الحالة طوقًا في عنقه.

2454 قوله: خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ. فيه: تحريم الظلم والغصب وتغليظ عقوبته، وأن عقوبة الغاصب للأرض عقوبة شديدة.

وفيه الدليل على إمكان غصب الأرض وأنه من الكبائر، والرد على من قال الأرض لا تغصب.

المتن:

باب إِذَا أَذِنَ إِنْسَانٌ لآِخَرَ شَيْئًا جَازَ

2455 حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَبَلَةَ كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فِي بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَصَابَنَا سَنَةٌ، فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ الإِْقْرَانِ إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ.

2456 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأَْنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ، كَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ: اصْنَعْ لِي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ ﷺ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَأَبْصَرَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ ﷺ الْجُوعَ؛ فَدَعَاهُ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ هَذَا قَدْ اتَّبَعَنَا أَتَأْذَنُ لَهُ؟؛ قَالَ: نَعَمْ.

الشرح:

2455 قوله: «كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فِي بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَصَابَنَا سَنَةٌ» يعني: جدب وشدة وقحط.

قوله: «فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ» يعني: يعطيهم التمر.

قوله: «فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ الإِْقْرَانِ إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ» . الإقران هو الجمع بين التمرتين أو العنبتين في الأكل، والحكمة في النهي أنه قد يأكل أكثر منهم، وقد يدل أو يشعر بالجشع والشره.

وفيه: إجحاف للغير، إلا إذا استأذنهم وأذنوا له فلا بأس، وهذا كان أولاً ثم لما وسع الله عليهم بعد ذلك فلا مانع من الإقران في التمر والعنب.

2456 قوله: «أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأَْنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ، كَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ» . لحام يعني: جزار، «فَقَالَ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ:» ، أي: لغلامه «اصْنَعْ لِي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ ﷺ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَأَبْصَرَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ ﷺ الْجُوعَ؛ فَدَعَاهُ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ» ، يعني: أبو شعيب أبصر في وجه النبي ﷺ الجوع فدعاه للطعام، فتبعهم رجل لم يدع، فاستأذن له النبي ﷺ فقال: إِنَّ هَذَا قَدْ اتَّبَعَنَا أَتَأْذَنُ لَهُ؟؛ قَالَ: نَعَمْ» .

والشاهد: أنه إذا صنع إنسان طعامًا لعدد محدد، كخمسة أو عشرة مثلاً، فلا يأتي أحد منهم بزيادة إلا إذا أذن له صاحب الطعام، وهذا إذا كان العدد محددًا، أما إذا كان العدد غير محدد فلا بأس أن يأتي غير المدعو، مثل الولائم الآن في العرس.

المتن:

باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البَقَرَة: 204]

2457 حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَْلَدُّ الْخَصِمُ.

الشرح:

2457 قوله: إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَْلَدُّ الْخَصِمُ فيه: الوعيد الشديد على شديد الجدال والخصومة، فالألد هو شديد الجدال، والخصم هو شديد الخصومة، وهذا الوعيد الشديد يدل على أن هذا من الكبائر.

فينبغي للإنسان أن يبتعد عن هذا الوصف، بأن يكون لينًا سهلاً؛ لأن شديد الجدال والخصومة قد يجعل الآخر يترك له حقه من أجل شدته وخصومته وجداله وإيذائه، أما إذا لم يكن كذلك وكان لينًا وسهلاً تفاهم معه وأخذ حقه.

وفيه: إثبات صفة البغض لله على ما يليق بجلالته وعظمته، ومنه قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غَافر: 10] والمقت: أشد البغض، ومنه: سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [المَائدة: 80]، كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ [التّوبَة: 46]، غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [المجَادلة: 14] فالغضب والسخط والكره والبغض والمكر من صفات الله ، وذلك بما يليق بجلاله وعظمته، ولا يماثله أحد من خلقه.

المتن:

باب إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ

2458 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ أَخْبَرَتْهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ؛ فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكْهَا.

الشرح:

قوله: «بَاب إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ» يعنى: أنه من الظلم، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فالإنسان الذي يخاصم بالباطل وهو يعلم أنه باطل يكون آثمًا، وهذا يتناول المحامين الذين يجادلون بالباطل، فمن يحامي عن شخص وهو يعلم أنه مبطل فهذا حرام عليه؛ لأنه تعاون معه على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المَائدة: 2].

فيجب على المحامين أن يحذروا من المحاماة للمبطلين والمزورين والذين يأكلون أموال الناس بالباطل، فلا يدافع عنهم، فإن خاصم عنهم وهو يعلم أنهم على الباطل فهو شريك لهم في الإثم؛ لأنه أعانهم على الباطل والظلم؛ والمعين على الباطل مبطل، والمعين على الظلم ظالم.

2458 قوله: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، دليل على أن النبي ﷺ من البشر كبني آدم يأكل ويشرب وينام وتصيبه الأمراض والأسقام ويبول ويتغوط كغيره، وليس إلهًا يعبد؛ والنبي ﷺ نهى عن الغلو فقال: لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ [(503)] والله تعالى نهى عن الغلو فقال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ [النِّسَاء: 171] فالنصارى غلوا في عيسى حتى جعلوه إلها، وقالوا: هو ابن الله ـ نعوذ بالله ـ وهناك أيضا من هذه الأمة من غلا في نبينا ﷺ وقال: إنه جزء من الله وليس ببشر، وبعضهم قال: إنه مخلوق من نور، وهذا غلط، وكله كفر وضلال، إنما هو بشر، ويصيبه ما يصيب البشر من الأسقام والأمراض والحاجة إلى الطعام والشراب والحاجة إلى البول والغائط، وتصيبه الجراحات؛ ففي يوم أحد سقط في حفرة وكسرت رباعيته وكسرت البيضة على رأسه، وصاح الشيطان إن محمدًا قد قتل، وخنقه أبو جهل في مكة، حتى أطلقه أبو بكر وقال: أتقتل رجلاً أن يقول ربي الله، وهو مخلوق من لحم ودم، ومخلوق من أم وأب، أبوه عبدالله بن عبدالمطلب وأمه آمنة بنت وهب قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف: 110]، فكل هذا يدل على أنه بشر يصيبه ما يصيب البشر، إلا أن الله اختصه بالرسالة والنبوة وقرّبه وأدناه وفضله على العالمين، لكن لا يعبد ولا يدعى مع الله، وكذلك جميع الأنبياء كلهم بشر وليسوا آلهة.

والمشركون أنكروا كون الرسول ﷺ يأكل الطعام ويمشي في الأسواق: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفُرقان: 7].

فبين الله لهم أنه ﷺ بشر خصه الله بالرسالة والنبوة وفضله على العالمين.

وقوله: وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ؛ فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ فيه: دليل على أن النبي ﷺ يقضي بظاهر البينات ولا ينتظر نزول الوحي؛ لأنه ﷺ يشرع للناس، ونزول الوحي وإن كان ممكنًا في حقه ﷺ إلا أنه لا يمكن في حق غيره؛ كما قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النِّسَاء: 105] فإذا جاء الخصم يدعي على خصمه، يقال له هات البينة، فإن لم يكن له بينة قيل للمدعى عليه: احلف؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الآخر: البينة على المدعي واليمين على من أنكر [(504)] فهذا تشريع للأمة.

وقوله: فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكْهَا فيه: دليل على أن حكم الحاكم لا يحل الحرام ولا يحرم الحلال، وإن كان يدفع الخصومة في الدنيا، فإذا كان أحد الخصمين مبطلاً وكان قويًّا في الحجة قضى له الحاكم ـ فالحاكم الشرعي بشر يجتهد فيطلب البينات فإذا لم يكن للمدعي بينة وجه اليمين على المدعى عليه ـ وحينئذ تنتهي الخصومة في الدنيا، لكن هذا الذي أخذ مال أخيه ظلمًا سوف تكون الخصومة بينه وبين أخيه عند رب العالمين، فيقطع للظالم من حق المظلوم قطعة من النار بسبب بينته وحجته التي زورها.

المتن:

باب إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ

2459 حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ.

الشرح:

قوله: «بَاب إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» هذه الترجمة معقودة لبيان أن الفجور في الخصومة من الظلم، وهذه هي مناسبته لكتاب المظالم؛ فالفاجر في الخصومة ظالم متعد على غيره.

2459 قوله: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ وفي اللفظ الآخر عند مسلم: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا [(505)].

فالخصلة الأولى: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ. فيكون ديدنه الكذب في الحديث.

والخصلة الثانية: وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، أي: عادته الخلف في الوعد ولا يبالي.

والخصلة الثالثة: وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، أي: يغدر بالعهد ولا يفي به، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المَائدة: 1]، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ [النّحل: 91] فالواجب الوفاء بالعهد والوعد، فإذا لم يف بالعهد سمي غادرًا.

والخصلة الرابعة: وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، أي: في الخصومة.

وزاد في اللفظ الآخر: وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ [(506)] أي: الخيانة في الأمانة.

فكل خصلة من هذه الخصال الأربع من النفاق العملي ومعصية من المعاصي لا تخرج من الملة، لكنَّها إذا استحكمت وكملت في الشخص جرته إلى النفاق الاعتقادي ـ وهو التكذيب بالباطل ـ الذي صاحبه مخلد في النار ـ نعوذ بالله ـ.

فالواجب على المسلم الحذر من هذه الصفات؛ لأنها من صفات المنافقين.

ومن خصال المنافقين العملية التي ذكرها الله في كتابه:

منها: الغفلة والإعراض عن ذكر الله.

ومنها: التكاسل عن الصلوات، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى [النِّسَاء: 142].

ومنها: مراءاة الناس، كما قال الله تعالى: يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النِّسَاء: 142].

ومنها: التذبذب بين المؤمنين والكفار مرة إلى هؤلاء ومرة إلى هؤلاء، كما قال الله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ [النِّسَاء: 143] أي: لا إلى المؤمنين ولا إلى الكفار، فيجعلون يدًا مع المنافقين ويدًا مع المؤمنين: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المَائدة: 52].

ومن صفات المنافقين أيضا: الخداع، كما قال الله تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النِّسَاء: 142].

ومنها: النفقة مع الكره، كما قال الله تعالى: وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ [التّوبَة: 54].

ومنها: الإعراض عن الجهاد، فلا يغزو بنفسه، ولا يحدث نفسه بالغزو.

وفي الحديث: من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق رواه مسلم في «صحيحه» [(507)].

المتن:

باب قِصَاصِ الْمَظْلُومِ إِذَا وَجَدَ مَالَ ظَالِمِهِ

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: يُقَاصُّهُ، وَقَرَأَ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النّحل: 126].

2460 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ فَقَالَ: لا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ.

2461 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثنِي يَزِيدُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْنَا لِلنَّبِيِّ ﷺ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لاَ يَقْرُونَا فَمَا تَرَى فِيهِ فَقَالَ لَنَا: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ.

الشرح:

قوله: «بَاب قِصَاصِ الْمَظْلُومِ إِذَا وَجَدَ مَالَ ظَالِمِهِ» . هذه الترجمة معقودة للمظلوم إذا وجد مال ظالمه هل يأخذ منه حقه؟

وهذه المسألة تسمى عند أهل العلم بمسألة الظفر بالحق.

وقوله: «وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: يُقَاصُّهُ وَقَرَأَ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النّحل: 126]» وهذا يؤيد الترجمة، والمعنى: يأخذ حقه مقاصة ولا يزيد، فإذا كان شخص له على شخص ألف ريال فظلمه وجحده، ثم استطاع بعد ذلك أن يأخذ هذا المال من خزانته، فابن سيرين يقول: يقاصه بأن يأخذ الألف ولا يزيد.

2460 قوله: «جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ» ، وهي امرأة أبي سفيان قائد الجيوش قبل إسلامه .

قوله: «فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ» ، يعني: يمسك المال، وفي لفظ: «رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وبنيه» [(508)].

قوله: «فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ فَقَالَ: لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ. فيه: دليل على جواز ذكر الإنسان بما فيه عند الخصومة وعند الاستفتاء، وأنه ليس من الغيبة المحرمة؛ فهند اغتابت زوجها أبا سفيان فقالت: «ِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ» ، وهي مضطرة في ذلك، فهي تريد أن تستفتي وهو ظالم حينما منعهم من حقهم.

وهذا الحديث: استُدِل به على جواز الحكم على الغائب؛ فإن النبي ﷺ حكم على أبي سفيان وهو غائب فقال لزوجته: لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ، وكذلك أيضًا استدل به من قال إن القاضي يحكم بعلمه.

2461 قوله: «قُلْنَا لِلنَّبِيِّ ﷺ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لاَ يَقْرُونَا» ، يعني: لا يعطونا حق الضيف.

قوله: «فَمَا تَرَى فِيهِ فَقَالَ لَنَا: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ. فيه: دليل على أن الضيافة واجبة، وهو الصواب خلافًا للجمهور، والضيافة يوم وليلة وجوبًا، أما تمام ثلاثة أيام فهو سنة، ويؤيد هذا الحديث الآخر: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ [(509)].

وذهب الإمام أحمد[(510)] وجماعة إلى أن الضيافة واجبة، لكنه خصص ذلك بأهل البوادي، وقال الليث: إنه ليس خاصًّا بأهل البوادي، بل يكون لأهل البوادي والمدن وغيرها، وهذا هو الأقرب، وأما الجمهور فقالوا: الضيافة سنة وهذا قول ضعيف؛ لأن الضيافة من التعاون بين المسلمين؛ ولأن مدة الضيافة لا تطول فالضيافة واجبة للبوادي والمدن والقرى كما قال الليث.

والجمهور تأولوا هذا الحديث حيث إن الحديث ظاهره الوجوب، وأجابوا على ذلك بعدة أجوبة:

الجواب الأول: حمل هذا الحديث على المضطرين.

الجواب الثاني: بأن هذا كان في أول الإسلام.

الجواب الثالث: أنه مخصوص بالعمال المبعوثين لقبض الصدقات من جهة الإمام.

الجواب الرابع: أنه خاص بأهل الذمة.

الجواب الخامس: أن المراد بقوله: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ: خذوه من أعراضهم بأن تذكروا للناس عيوبهم.

فهذه كلها إجابات للجمهور عن الحديث، لكن هذه التأويلات كلها ضعيفة، والصواب أن الضيافة واجبة.

وهذان الحديثان استدل بهما المؤلف رحمه الله على مسألة الظفر بالحق.

ففي الحديث الأول في قصة هند أمرها النبي ﷺ أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها من النفقة، والحديث الثاني في الضيف إذا نزل بقوم ولم يعطوه حق القرى فله أن يأخذ منهم حق الضيافة، ومسألة الظفر بالحق مسألة خلافية.

وفيها ثلاثة أقوال لأهل العلم:

القول الأول: يجوز أن يأخذ من مال الظالم مقدار حقه، وهو ظاهر اختيار البخاري؛ لأنه ذكر قول ابن سيرين: «يُقَاصُّهُ، وَقَرَأَ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النّحل: 126]» ومعنى المقاصة أن يأخذ مقدار حقه.

القول الثاني: أنه لا يجوز أن يأخذ وإنما يصبر حتى ييسر الله له قضاء حقه؛ لأنه قد يتهم وقد تقطع يده.

القول الثالث: أنه يأخذ إذا كان سبب الحق ظاهرًا، ولا يأخذ إذا لم يكن سبب الحق ظاهرًا، ولعل هذا هو الصواب، بشرط ألا يترتب على ذلك مفسدة، وهذا يكاد يفهم من نصوص الشريعة العامة وقواعدها، وهي ارتكاب أدنى المفسدتين بدفع أعلاهما، والعمل بأعلى المصلحتين في تفويت أدناهما، فهذه قواعد شرعية معروفة فإذا وجدت مفسدتان لا نستطيع أن نتركهما نرتكب المفسدة الدنيا بدفع المفسدة الكبرى، وإذا وجدت مصلحتان لا نستطيع أن نفعلهما نفعل المصلحة الكبرى.

المتن:

باب مَا جَاءَ فِي السَّقَائِفِ

وَجَلَسَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ.

2462 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثنِي مَالِكٌ وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ عَنْ عُمَرَ قَالَ حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ: إِنَّ الأَْنْصَارَ اجْتَمَعُوا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ؛ فَقُلْتُ لأَِبِي بَكْرٍ: انْطَلِقْ بِنَا، فَجِئْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ.

الشرح:

قوله: «بَاب مَا جَاءَ فِي السَّقَائِفِ» . هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان ما جاء في السقائف، وأن الجلوس فيها ليس من الظلم، والسقائف جمع سقيفة، وهي الأمكنة العامة التي تظلل بجانب الدار ـ مثل الحانوت والساباط وما أشبه ذلك ـ فدلت النصوص على أنه يجوز الجلوس في السقائف، ولا يكون ذلك من الظلم، وهذه هي المناسبة لكتاب المظالم ولكن بشرط إعطاء الطريق حقه، فهذا مقيد بالحديث الآخر وهو قول النبي ﷺ: إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ، قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها؛ قال: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قالوا: وما حقه؟ قال: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ [(511)] فيجوز للإنسان أن يجلس في السقائف بهذه الشروط، أما إذا كان يجلس في الطرقات وفي الأماكن العامة، ولكنه لا يغض بصره عن الحرام، ولا يرد السلام، ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، فلا يجوز له الجلوس.

2462 قوله: «إِنَّ الأَْنْصَارَ اجْتَمَعُوا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ» يعني: حين توفى الله نبيه ﷺ.

وقوله: «فَقُلْتُ لأَِبِي بَكْرٍ: انْطَلِقْ بِنَا، فَجِئْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ» ، أي: وهم يتشاورون فيمن يكون الخليفة بعد وفاة النبي ﷺ، ثم بعد ذلك أجمعوا على اختيار أبي بكر للخلافة.

فهذه السقائف والأمكنة العامة المظللة والأفنية التي تكون بجوار البيت أو بجوار الدكان لا بأس بالجلوس فيها، بشرط إعطاء الطريق حقه كما جاء في الحديث الآخر [(512)].

المتن:

باب لاَ يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ

2463 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لاَ يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ! وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ.

الشرح:

قوله: «بَاب لاَ يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ» هذه الترجمة معقودة لبيان جواز وضع الجار خشبه على جدار جاره إذا كان الجدار يتحمل، وأنه ليس من الظلم بل هذا من التعاون الذي يكون بين الجيران؛ لأن المؤمنين كالجسد الواحد وكالبنيان يشد بعضه بعضًا، أما إذا قال أهل الخبرة: إن الجدار لا يحتمل ذلك فلصاحب الجدار المنع، ويكون حينئذ معذورًا، ويعذره في ذلك جاره.

2463 استدل المؤلف رحمه الله بهذا الحديث على أن الجار لا يمنع جاره أن يضع الخشبة على جداره؛ قال بعض العلماء: فإن امتنع أجبر، وقيل: إن امتنع لا يجبر، وحملوا الأمر في الحديث على الندب، وحملوا النهي على التنزيه، جمعًا بينه وبين الأحاديث التي تدل على تحريم مال المسلم إلا برضاه.

والأقرب أن الأمر للوجوب والنهي للتحريم، فإذا كان الجدار يتحمل فيجب عليه أن يمكن جاره من وضع الخشبة عليه ولا يمنعه، وإلا يكون آثما؛ ويكون هذا من الظلم، وهذا هو مناسبة الترجمة والحديث لكتاب المظالم.

وقول أبي هريرة : مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ!، يعني: عن هذه السنة، أو عن هذه المقالة، وجاء في لفظ أنه لما قال ذلك: «نكسوا» [(513)]، أي: رءوسهم، وجاء ذلك صريحًا في رواية حيث قال: «طأطؤوا رؤوسهم» [(514)]، فقال: «مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ! وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» يعني: لألقينها وأشيعن هذه المقالة فيكم، ولأقرعنكم بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه ليستيقظ من غفلته.

وروي: «بين أكنافكم» جمع كنف وهو الجانب.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال الخطابي: معناه: إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلنها أي: الخشبة على رقابكم كارهين، قال: وأراد بذلك المبالغة» .

المتن:

باب صَبِّ الْخَمْرِ فِي الطَّرِيقِ

2464 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيَى أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ ابْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ : كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ؛ قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [المَائدة: 93] الآية.

الشرح:

قوله: «بَاب صَبِّ الْخَمْرِ فِي الطَّرِيقِ» هذه الترجمة عقدها البخاري لبيان أن صب الخمر في الطريق وإن كان مفسدة وظلمًا لكن شربها ظلم ومفسدة أكبر، فيرتكب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما؛ فلا بأس بصب الخمر في الطريق، ولا يكون ذلك من الظلم إذا تعين ذلك طريقًا لإزالة مفسدة شربها.

2464 قوله: «كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ» . أبو طلحة هو زوج أم سليم أم أنس.

قوله: «وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ» . هو عصير التمر ويسمى المريس، والخمر تكون من التمر وتكون من العنب وتكون من الشعير.

قوله: «فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ» ؛ جاء في اللفظ الآخر أنهم سمعوا صوتا فقال أبو طلحة لأنس: اخرج فانظر: ما هذا الصوت؟ قال: فخرجت فقلت: هذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت[(515)]، قال أنس: «فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا» ، أي: صبها، قال: «فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ» . فيه: فضل الصحابة ؛ حيث أسرعوا في مبادرة الإجابة لمنادي رسول الله ﷺ لما نادى: «أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ» ، فأمسكوا عنها في الحال، وأهرقوها ولم يتأخروا؛ عملاً بقول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزَاب: 36] فالصحابة لا يتلكئون في فعل الأوامر، بخلاف من بعدهم يتلكأ ويتأخر ويتأول، أما الصحابة فبمجرد ما سمعوا المنادي قالوا: سمعنا وأطعنا، ولما سمع عمر تحريم الخمر في سورة المائدة: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المَائدة: 91] قال: «انتهينا انتهينا انتهينا» [(516)].

قوله: «فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ» يعني: قتلوا شهداء في غزوة أحد قبل أن تحرم، وما حرمت الخمر إلا في السنة السابعة من الهجرة تقريبًا، «فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [المَائدة: 93]» بهذا الشرط إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المَائدة: 93]، أي: ليس عليهم جناح ما داموا شربوا الخمر في الحالة التي لم تحرم فيها.

واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على طهارة الخمر وقال: وجه الدلالة أنها جرت في سكك المدينة وفي الطرقات فلابد أن تصيب أرجل المارين وثيابهم، لاسيما أن أغلبهم ليس عليه نعال، ولم ينقل أن النبي ﷺ أمرهم بغسل أرجلهم وثيابهم؛ ولم ينكر عليهم صبها في السكك؛ فدل على طهارتها، وكونه حرمها لا يدل على أنها نجسة.

وذهب جمهور العلماء إلى أن الخمر نجسة، واستدلوا بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المَائدة: 90] ويلزم من الرجس النجاسة، وأجابوا عن الحديث: بأنها جرت في سكك المدينة في غير الطرق المسلوكة أو في أطراف السكك، والنبي ﷺ إنما سمح لهم بإهراقها دفعًا للمفسدة الكبرى.

المتن:

باب أَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا وَالْجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَاتِ

وَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَابْتَنَى أَبُو بَكْرٍ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ.

2465 حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ؛ فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا؛ قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَْذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ.

الشرح:

قوله: «بَاب أَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا وَالْجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَاتِ» هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الجلوس في أفنية الدور ـ وهي المتسعات التي تكون أمام الدور والتي لم تظلل ـ وكذلك الصعدات ـ وهي الأمكنة العامة والمرتفعة ـ وأنه لا بأس بالجلوس في مثل هذه الأماكن والأفنية والساباط، وهذه الترجمة مثل ترجمة الجلوس في السقائف السابقة

والسقائف والصعودات والأفنية كلها يجوز الجلوس فيها، بشرط إعطاء الطريق حقه، وألا يكون في ذلك إضرار بأحد، وأن هذا ليس من الظلم وهذا هو مناسبة الترجمة لكتاب المظالم.

وقوله: «وَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَابْتَنَى أَبُو بَكْرٍ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ» وهذا كان في مكة قبل الهجرة.

2465 قوله: إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ يشمل الجلوس في أفنية الدور والصعودات والسقائف.

قوله: «فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا؛ قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ يعني: عدم النظر إلى النساء الأجنبيات، وَكَفُّ الأَْذَى أي: لا يؤذي أحدًا لا بقول ولا بفعل، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ. فهذه حق الطريق، فإن أعطى هذا الحق جاز له الجلوس، وإن لم يعط هذا الحق حرم عليه الجلوس.

المتن:

باب الآْبَارِ عَلَى الطُّرُقِ إِذَا لَمْ يُتَأَذَّ بِهَا

2466 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا، فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَىمِنْ الْعَطَشِ؛ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي؛ فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلاَ خُفَّهُ مَاءً، فَسَقَى الْكَلْبَ؛ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ؛ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ.

الشرح:

قوله: «بَاب الآْبَارِ عَلَى الطُّرُقِ إِذَا لَمْ يُتَأَذَّ بِهَا» . هذه الترجمة معقودة لحفر الآبار التي على الطريق وفي الأسفار، وأنها جائزة إذا لم يُضَر بها أحدٌ وليست من الظلم في شيء؛ لما فيها من الفائدة والمصلحة حتى يستقي الناس منها ويسقون دوابهم ويُصلّون.

2466 قوله: بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا، فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَىمِنْ الْعَطَشِ؛ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي؛ فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلاَ خُفَّهُ مَاءً، فَسَقَى الْكَلْبَ؛ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ؛ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ.

في الحديث: دليل على أن سقي البهائم والإحسان إليها يؤجر عليه المسلم، وأنه من أسباب المغفرة ولو كان كلبًا، فالكلاب والقطط وغيرها ذات كبد رطب، وإذا كان هذا في سقي البهائم والإحسان إليها فسقي الآدميين ـ ولاسيما المسلم والإحسان إليه ـ أعظم أجرًا.

وفي الحديث: القدسي الذي رواه مسلم يقول النبي ﷺ فيما بلغ عن ربه : يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي [(517)].

فسقي المسلم والإحسان إليه من أسباب المغفرة، وحتى الكافر غير الحربي في سقيه والإحسان إليه أجر، أما الحربي فليس بيننا وبينه إلا السيف فلا يسقى ولا يعطى بل يترك حتى يموت بل يقتل، أما المعاهد فلا؛ لحديث: مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ [(518)] وفي سقيه وإطعامه أجر قال الله تعالى: لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۝ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَولَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المُمتَحنَة: 8-9]، وقد ثبت في «الصحيح» أن أسماء رضي الله عنها جاءتها أمها وهي مشركة، وذلك في الهدنة التي كانت بين النبي ﷺ وبين قريش، فاستأذنت النبي ﷺ فقالت: قدمت علي أمي وهي راغبة أفاصل أمي؟ قال النبي ﷺ: صِلِي أُمَّكِ [(519)].

المتن:

باب إِمَاطَةِ الأَْذَى

وَقَالَ هَمَّامٌ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: يُمِيطُ الأَْذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.

الشرح:

قوله: «بَاب إِمَاطَةِ الأَْذَى» هذه الترجمة في بيان أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، واستدل المؤلف رحمه الله على ذلك بحديث أبي هريرة عن النبي ﷺ: يُمِيطُ الأَْذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وهي من الإيمان كما في الحديث الآخر: الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق [(520)].

ومناسبته لكتاب المظالم أن إماطة الأذى من الإحسان الذي هو ضد الظلم المنهي عنه.

المتن:

باب الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ الْمُشْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا

2467 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى إِنِّي أَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ.

2468 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ المَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ لَهُمَا: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التّحْريم: 4].

فَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالإِْدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ حَتَّى جَاءَ، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الإِْدَاوَةِ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَنِ المَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ لَهُمَا: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا فَقَالَ: وَاعَجَبِي لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الحَدِيثَ يَسُوقُهُ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَهُ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ ليُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ، فَأَفْزَعَنِي، فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ.

ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ.

فَقُلْتُ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ ﷺ، فَتَهْلِكِينَ لاَ تَسْتَكْثِرِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ـ يُرِيدُ عَائِشَةَ ـ وَكُنَّا تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ النِّعَالَ لِغَزْوِنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَرَجَعَ عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَنَائِمٌ هُوَ، فَفَزِعْتُ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ قَالَ: لاَ، بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَطْوَلُ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نِسَاءَهُ.

قَالَ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ، فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَدَخَلَ مَشْرُبَةً لَهُ، فَاعْتَزَلَ فِيهَا.

فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، قُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ أَوَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ، أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَتْ: لاَ أَدْرِي هُوَ ذَا فِي المَشْرُبَةِ.

فَخَرَجْتُ، فَجِئْتُ المِنْبَرَ، فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ المَشْرُبَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَقُلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ، فَكَلَّمَ النَّبِيَّ ﷺ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ، فَصَمَتَ، فَانْصَرَفْتُ، حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ المِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ المِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ الغُلاَمَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا، فَإِذَا الغُلاَمُ يَدْعُونِي قَالَ: أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.

فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: لاَ.

ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَذَكَرَهُ فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ ﷺ، ثُمَّ قُلْتُ: لَوْ رَأَيْتَنِي، وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ ـ يُرِيدُ عَائِشَةَ ـ، فَتَبَسَّمَ أُخْرَى.

فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ، ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ البَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ.

فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ، وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا.

فَقَالَ: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي.

فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ، حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ.

فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَبَدَأَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: عَائِشَةُ إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّا أَصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ.

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأُنْزِلَتْ: آيَةُ التَّخْيِيرِ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ، فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، وَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ.

قَالَتْ: قَدْ أَعْلَمُ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ... إِلَى قَوْلِهِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزَاب: 29]».

قُلْتُ: أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ.

ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ، فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ.

2469 حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا وَكَانَتْ انْفَكَّتْ قَدَمُهُ فَجَلَسَ فِي عُلِّيَّةٍ لَهُ فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: لا وَلَكِنِّي آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ نَزَلَ فَدَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ.

الشرح:

قوله: «بَاب الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ الْمُشْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا» هذه الترجمة معقودة لبيان جواز الجلوس في الغرفة والعِلِّيَّة المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها.

2467 قوله: «أَشْرَفَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ» أي: مرتفع من مرتفعاتها.

وفيه: دليل على جواز اتخاذ الغرف العالية، وغير العالية، وكذلك المشرفة وغير المشرفة من باب أولى، وذلك إذا لم يؤذ غيره ولم يطلع على عورات الناس، فإن اطلع على عوراتهم فهذا ممنوع، ويكون هذا من الظلم، ولو اطلع على أحد جاز لمن اطلع عليه أن يدفعه بالضرب وأن يرميه ولو فقأ عينه، كما جاء في الحديث: لو أن أحدًا اطلع عليك ففقأت عينه ما كان عليك من جناح [(521)] وجاء في الحديث الآخر أن رجلاً اطلع من جحر في دار النبي ﷺ والنبي ﷺ يحك رأسه بالمدرى فقال: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ بِهَا فِي عَيْنِكَ [(522)] وتكون عينه هدرًا في هذه الحالة؛ لأنه معتدٍ ظالم يطلع على عورات الناس من خلال الباب أو من خلال الشباك أو من السطح.

قوله: «ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى إِنِّي أَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ ، القطر: المطر، يعني: تنزل عليكم الفتن كما ينزل المطر على البيوت، وهذا يشمل فتن الحروب وفتن الشبهات وفتن الشهوات وفتن الأموال والنساء والبنين وفتنة المحيا، وإذا كان النبي ﷺ في الصدر الأول وفي زمنه يقول: مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ فكيف في زماننا الآن؟! ولاسيما في هذا العصر؟! فقد فتحت فيه أبواب الشبهات والشهوات بعد الانفتاح على العالم الخارجي وعلى بلاد الكفار وصار العالم كأنه قرية واحدة، فما يعرض في بلاد الكفرة يراه المسلم في قعر بيته، من خلال أجهزة الاستقبال مثل التلفاز والدش وجهاز الجوال والشبكة المعلوماتية المسماة بالإنترنت، فكل هذه فتن تُنشر على البيوت كمواقع القطر، ومن الفتن ما يُلَبِّسون به على الناس في دينهم ويشككونهم في دين الإسلام وفي أصوله، فتنشر برامج تشكك في الله وفي ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته وتشكك في الملائكة، وتشكك في الكتب المنزلة، وتشكك في الرسل، وتشكك في البعث، وتشكك في القدر، وتشكك في الجنة والنار، حتى إن هناك قصة نشرت في هذه الأجهزة ذكرت أن أشخاصًا يسخرون من الجنة والنار، وأنهم دخلوا النار وأنهم خرجوا من دون اختيار مالك خازن النار، فغافلوه وخرجوا، فهذه سخرية بالجنة وبالنار وبملائكة الله ـ نعوذ بالله من ذلك ـ فهذه كلها فتن تشكك في دين الإسلام وفي أصوله الثابتة، اللهم سلم سلم.

وهناك فتن التفسخ والعري التي تنشر على الناس، والمغريات التي تدعو إلى الفواحش والرذيلة والقضاء على الأخلاق الإسلامية فلا تبقي ولا تذر، فتنشر صورة المرأة كما ولدتها أمها ـ والعياذ بالله ـ فكل هذا من الفتن، نسأل الله السلامة والعافية.

وكذلك فتن الحروب المنتشرة الآن في كثير من البلدان، وفي بعضهما لا يدري القاتل فيم قتَل، ولا يدري المقتول فيم قُتل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ومن الفتن الطعن في الأئمة والعلماء من أهل السنة، وتنفير الناس عنهم، للصد عن سبيل الله وعن دين الله حتى لا يكون للناس أحد يرجعون إليه ويسألونه عن دينهم، والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد