شعار الموقع

شرح كتاب الوصايا من صحيح البخاري (55-1)

00:00
00:00
تحميل
61

(56)كِتَاب الْوَصَايَا;

الْوَصَايَا

وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ».

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [البَقَرَة: 180-182]{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ *فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} {جَنَفًا} مَيْلاً مُتَجَانِفٌ مَائِلٌ.

}2738{حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ».

تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

}2739{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخِي جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلاَ دِينَارًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ أَمَةً وَلاَ شَيْئًا إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً.

}2740{ حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مَالِكٌ هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى؟ فَقَالَ: لاَ، فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ أَوْ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ؟ قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ.

}2741{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَْسْوَدِ قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنهما كَانَ وَصِيًّا؛ فَقَالَتْ: مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ؟ وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِي أَوْ قَالَتْ: حَجْرِي فَدَعَا بِالطَّسْتِ فَلَقَدْ انْخَنَثَ فِي حَجْرِي فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ.

 

قوله: «بَاب الْوَصَايَا، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»» . الوصايا جمع وصية ـ كالهدايا جمع هدية ـ والوصية تطلق على فعل الموصي فتكون مصدرًا بمعنى الإيصاء، وتطلق على ما يوصَى به من مال أو عهد ونحوه فتكون بمعنى اسم المفعول.

وذكر الشارح في قوله: «وَصِيَّةُ الرَّجُلِ» أنه لا فرق بين الرجل والمرأة، فوصية الرجل في الترجمة تدخل فيها المرأة، ولا يشترط فيها الإسلام، فالكافر قد يوصي، وكذلك لا يشترط الرشد، ولا يشترط أن تكون المرأة ثيبًّا، فالبكر لها أن توصي، والزوجة لا يشترط أن تستأذن زوجها عندما توصي بشيء من مالها، لأنها تتصرف في مالها؛ ولكن يشترط في صحة الوصية العقل والحرية.

والصبي المميز فيه خلاف، فمنع منه الأحناف[(839)]، وذهب مالك[(840)] والشافعي[(841)] وأحمد[(842)] إلى أنه إذا كان صبيًّا مميزًا وله مال فلا حرج أن يوصي.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله قول الله عز وجل: [البَقَرَة: 180-182]{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ *فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *}. وفسر الجنف بالميل، ومتجانف أي: مائل، وهذه الآية فيها وجوب الوصية؛ لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ}. فكتب يعني: فرض ووجب لكن هذه الآية منسوخة بآية الفرائض كما سيأتي في ترجمة المؤلف الثالثة: «بَاب لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فكان في أول الإسلام يجب على الإنسان أن يوصي للوالدين والأقربين ثم لما نزلت آية المواريث نسخ الوجوب وصار الأبوان والأولاد لهم الميراث والوصية تكون لغير الوارث استحبابًا لمن ترك خيرًا ـ والخير المال الكثير ـ أما إن ترك مالاً قليلاً وله ورثة فالأفضل عدم الوصية، وهذا مفهوم من قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}، ثم توعد الله سبحانه وتعالى من بدل الوصية فقال: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *}، فهذا فيه تهديد؛ لأن الله عليم بحال المبدل وسميع لأقواله، ثم قال سبحانه: [البَقَرَة: 182]{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ}، أي: إذا خاف من الموصي الميل والعدول عن الشرع فإن كان حيًّا فإنه ينصحه، وإن كان ميتًّا وأوصى بوصية تخالف الشرع فهي تغير إلى ما يوافق الشرع لحديث ابن عمر.

 

}2738{ قوله: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» ، فيه: مشروعية الوصية واستحبابها وهذا إذا لم يكن عليه حقوق للناس، فإن كان عليه حقوق للناس وليس عنده وثائق تثبتها فإنه يجب عليه أن يوصي؛ لئلا تضيع الحقوق.

وفي لفظ آخر أن ابن عمر قال: «ما مرت علي ليلتين بعد ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم إلا ووصيتي عند رأسي» [(843)].

وفيه: فضل ابن عمر ومبادرته إلى امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

 

}2739{ قوله: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلاَ دِينَارًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ أَمَةً وَلاَ شَيْئًا إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً» . روى هذا الحديث عمرو بن الحارث ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: صهره وأخو زوجته جويرية بنت الحارث.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك لا درهمًا، ولا دينارًا، ولا عبدًا، ولا أمة، ولا شيئًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينفقها في سبيل الله ولا يبقي شيئًا، ولذلك لما طلبت فاطمة إرثها من أبي بكر حدثها أبو بكر حديثًا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا فهو صدقة» [(844)] والحديث رواه عشرة من الصحابة، لكن فاطمة رضي الله عنها لم تقتنع، وصار في نفسها شيء وهجرت أبا بكر حتى توفيت ـ وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر ـ وكانت مخطئة في ذلك وهي سيدة نساء أهل الجنة.

وفيه: دليل على أن الإنسان وإن كان عظيمًا قد يخطئ وقد يغلط، ولا يعصم أحد عن الخطأ إلا النبي صلى الله عليه وسلم، أما غيره من الصحابة وغيرهم فقد يقع منهم الخطأ.

والشيعة يزعمون أن أبا بكر رضي الله عنه منع فاطمة من الإرث، والشيعة قوم بهت وهذا من اعتقاداتهم السيئة.

فالأنبياء ما بعثوا ليجمعوا الدنيا ولكن ليبلغوا شرع الله ودينه وينشروا دعوة الله؛ فلهذا لا يورِّثون شيئًا من الدنيا.

 

}2740{ قوله: «أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ» ، وفي الحديث الآخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي» [(845)]. وما أوصى به صلى الله عليه وسلم في آخر حياته فهو كتاب الله؛ وكان في آخر حياته أوصى بالصلاة، وأوصى بملك اليمين ـ وهم العبيد ـ أن يحسن إليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم» [(846)].

وأوصى كذلك بالنساء، وأوصى بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فكل هذا داخل في الوصية بكتاب الله؛ لأن كتاب الله أمر باتباع السنة والعمل بها قال تعالى: [المَائدة: 92]{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}.

والرسول صلى الله عليه وسلم إنما يوحى إليه بما أوصى به؛ فهو من كتاب الله، وكل واحد من الصحابة أخبر بما سمع.

 

}2741{ قوله: «ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنهما كَانَ وَصِيًّا» ، أي: ذكروا عند السيدة عائشة رضي الله عنها أن بعض الناس ـ وهم أصل الشيعة في ذلك الوقت ـ يقولون: إن عليًّا وصي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إليه بالخلافة، فالبلاء قديم.

قوله: «فَقَالَتْ: مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ؟» ؛ أنكرت عائشة عليهم ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة، وكانت ملازمة له.

قوله: «وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِي أَوْ قَالَتْ: حَجْرِي» عند وفاته صلى الله عليه وسلم.

قوله: «فَدَعَا بِالطَّسْتِ ،فَلَقَدْ انْخَنَثَ فِي حَجْرِي» ، يعني: انثنى أو مال.

قوله: «فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ» ؛ فتبين من هذا كذب ما يدعيه بعض الناس أنه أوصى إلى علي رضي الله عنه.

  أَنْ يَتْرُكَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَكَفَّفُوا النَّاسَ

}2742{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأَْرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: «لاَ»، قُلْتُ: فَالشَّطْرُ: قَالَ: «لاَ»، قُلْتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: «فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ ابْنَةٌ».

 

}2742{ قوله: «جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأَْرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ»» . هذا كان في حجة الوداع، وقيل: في فتح مكة، والصواب أنه في حجة الوداع، وذلك أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ـ وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ـ مرض مرضًا أشفى فيه على الموت فخشي أن يموت في مكة؛ لأنه هاجر منها وتركها لله، والشيء الذي تركه الإنسان لله لا يبقى فيه؛ ولهذا نُهي المهاجر أن يبقى بعد النسك أكثر من ثلاثة أيام إن حج أو اعتمر.

وفيه: رثاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عفراء ـ وهو سعد بن خولة ـ لما مات بمكة، فخشي على سعد بن أبي وقاص أن يكون مثله.

قوله: «أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: «لاَ»، قُلْتُ: فَالشَّطْرُ: قَالَ: «لاَ»، قُلْتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . فيه: مشروعية الوصية، ولكن ينبغي لمن كان له ورثة أن يترك المال إليهم، وأن يقلل من الوصية؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: «لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ـ يعني: في الوصية ـ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» ، فلا يلزم الإيصاء بالثلث، والعامة من الناس ما يعرفون إلا الثلث مع أن هناك الربع والسدس.

ولا يكون الثلث لوارث لحديث: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» [(847)].

والوارثون قد أعطاهم الله الميراث، فالثلث ينفق في أعمال البر والخير على الفقراء والمساكين وطلبة العلم والمساجد وطبع المصاحف والكتب، ومن افتقر من الورثة يدخل في الوصية لتحقق وصف الفقر فيه.

قوله: «إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ» . هذا هو الشاهد للترجمة، وأشار المؤلف في الترجمة إلى أن من كان ماله قليل فلا تندب له الوصية ولا تستحب في حقه، كما سبق وبينا أن ذلك يفهم من قوله تعالى: [البَقَرَة: 180]{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} والخير هو المال الكثير.

قوله: «وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ» . فيه: أن الإنسان يؤجر على النفقة التي ينفقها حتى على أهله وأولاده.

قوله: «وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ ابْنَةٌ» فعاش بعد ذلك مدة طويلة إلى سنة خمس وخمسين ورزق أولادًا منهم عامر ـ راوي الحديث ـ ومنهم إبراهيم، وتحقق فيه رجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من دلائل النبوة فإن الله أبقاه ولما كان أميرًا فتح الله به الفتوح وأسلم من أسلم وَضُرّ به آخرون ممن مات على الكفر.

  الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ

وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ وَصِيَّةٌ إِلاَّ الثُّلُثَ.

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: [المَائدة: 49]{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}.

}2743{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبْعِ لأَِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ».

}2744{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: مَرِضْتُ فَعَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ لاَ يَرُدَّنِي عَلَى عَقِبِي، قَالَ: «لَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ، وَيَنْفَعُ بِكَ نَاسًا»، قُلْتُ: أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ، وَإِنَّمَا لِي ابْنَةٌ، قُلْتُ: أُوصِي بِالنِّصْفِ قَالَ: «النِّصْفُ كَثِيرٌ»، قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ» قَالَ: فَأَوْصَى النَّاسُ بِالثُّلُثِ وَجَازَ ذَلِكَ لَهُمْ.

 

قوله: «بَاب الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ» ، وهو الحد الفاصل الذي لا يجوز أكثر منه.

قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ وَصِيَّةٌ إِلاَّ الثُّلُثَ» ، فاليهود والنصارى إذا تحاكموا إلينا نحكم عليهم بشرعنا. قال الله عز وجل: ُ عع =  } صلى الله عليه وسلم ِ ، فإذا ترافع إلينا ذمي عند موته وأراد أن يوصي قلنا له: أوص بالثلث ولا تزيد، فنحكم عليه بشرع الله.

 

}2743{ قوله: «لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبْعِ» ، هذا قول ابن عباس رضي الله عنه، وهو اجتهاد منه يعني: لو نقصوا من الثلث إلى الربع في الوصية كان أولى.

قوله: «لأَِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ»» ، استنبط ابن عباس من إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى كثرة الثلث أن الأفضل أن تكون الوصية أقل من الثلث كالربع أو كالخمس أو السدس.

والوصية بالثلث لا تكون لوارث لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث» [(848)]، فمثلاً لو أن رجلاً قام على تربية طفل ما، وأراد أن يوصي له، فله أن يوصي من الثلث فأقل، بشرط أن يكون الطفل غير وارث، أما الوارث فلا وصية له إلا بإذن الورثة.

 

}2744{ قوله: «مَرِضْتُ فَعَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» . هذا حديث سعد بن أبي وقاص السابق.

وفيه: أنه لما مرض جاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، وكان ذلك في حجة الوداع.

قوله: «ادْعُ اللَّهَ أَنْ لاَ يَرُدَّنِي عَلَى عَقِبِي» ، يعني: أن لا أموت في مكة التي تركتها لله وهاجرت، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم وبشره.

قوله: «لَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ» يعني: يشفيك وتحيا، وينتفع بك أناس ويضر بك آخرون.

قوله: «قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ» . فيه: أنه لا يجوز الوصية بأكثر من الثلث.

قوله: «قَالَ: فَأَوْصَى النَّاسُ بِالثُّلُثِ وَجَازَ ذَلِكَ لَهُمْ» . واستقر الإجماع على منع الوصية بما زاد على الثلث.

فلا تجوز الوصية بأزيد من الثلث إلا إذا أجاز الورثة ذلك، فإذا أجاز الورثة ما زاد على الثلث فلا بأس، وذلك إذا لم يكن فيهم قُصَّر، فإن كان فيهم قُصَّر فإنه يُخْرَج حقهم، والكبار بعد ذلك لهم الخيار إن أجازوا وإلا فلا ينفذ.

والصدقة بجميع المال ستأتي بعد ذلك وفيها تفصيل، والأصل المنع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك: «أمسك عليك بعض مالك» [(849)]، إلا لمن كان له قدرة على الكسب اليومي كحال أبي بكر فإنه كان يكسب يوميًّا ويكفي أولاده وعنده قوة توكل.

والنفقة ـ وهي ما ينفقه الإنسان على أهله وولده ـ يؤجر الله تعالى الشخص عليها إذا ابتغى بها وجهه واحتسبها، وإذا أنفق نفقه وغفل عن الاحتساب فهو مأجور على هذه النفقة؛ لأنه أدى الواجب ولكن إذا احتسب كان أجره أكثر؛ فله أجر الاحتساب وأجر النفقة.

  قَوْلِ الْمُوصِي لِوَصِيِّهِ تَعَاهَدْ وَلَدِي

وَمَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ مِنْ الدَّعْوَى

}2745{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ فَقَالَ: ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ أَمَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ؛ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: «احْتَجِبِي مِنْهُ»؛ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ؛ فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ.

 

}2745{ هذه القصة كررها المؤلف رحمه الله لاستنباط الأحكام، وهي أن زمعة ـ والد سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ـ كانت له أمة يطؤها، وعتبة بن أبي وقاص ادعى أنه فعل بها الفاحشة في الجاهلية وأنها حملت منه وأتت بولد، ثم توفي عتبة بن أبي وقاص، وأوصى إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أنها إذا ولدت أن يقبض الولد؛ لأنه منه ـ وهذا على عادة أهل الجاهلية ـ فلما ولدت جاء سعد بن أبي وقاص ليأخذ الولد قال: أخي عهد إلي أنه فعل الفاحشة في الجاهلية وأن هذا ولده ولكن عبد بن زمعة ـ أخا أم المؤمنين سودة ـ أبى عليه وقال: هذا أخي وُلد على فراش أبي، فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك يوم الفتح فقال سعد: يا رسول الله: إن هذا ولد أخي عهد إلي أن آخذه، وأيد كلامه بالشبه الذي بينه وبين أخيه، وقال عبد: يا رسول الله هذا أخي ولد على فراش أبي فقضى النبي صلى الله عليه وسلم به للفراش، والقاعدة الشرعية أن المرأة إذا كانت في الفراش سواء كانت زوجة أو أمة ثم ولدت فالولد لصاحب الفراش ولا ينظر إلى الزنا الطارئ، وصاحب الفراش إذا أراد نفي الولد فإنه ينفيه باللعان، والزاني له الخيبة وإقامة الحد ولا يعطى ولدا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قضى به لعبد بن زمعة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الولد يشبه عتبة أمر أم المؤمنين سودة أن تحتجب عنه من باب الاحتياط فلم يرها حتى لقي الله عز وجل.

قوله: «كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ» هذا هو الشاهد من الحديث: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على سعد عهد أخيه إليه فدل على جواز عهد الموصي بتعهد أولاده، والمؤلف رحمه الله استدل بالحديث من جهات متعددة، من جهة أن الولد للفراش، ومن جهة مشروعية الوصية بتعهد الأولاد وغير ذلك.

  إِذَا أَوْمَأَ الْمَرِيضُ بِرَأْسِهِ إِشَارَةً بَيِّنَةً جَازَتْ

}2746{ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ؛ فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ أَفُلاَنٌ أَوْ فُلاَنٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِيءَ بِهِ فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اعْتَرَفَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ.

 

}2746{ هذا الحديث متعلق بالقصاص.

وفيه: دليل على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به؛ فإذا قَتل بالغرق غُرّق وإذا قَتل بالسيف قُتل بالسيف وإذا قَتل بالخنق خُنق وإذا قَتل بالسم سُمَّ وإذا قتل بالإلقاء من شاهق فإنه يلقى من شاهق، [البَقَرَة: 179]{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الأَلْبَابِ}؛ ولهذا فإن العرنيين الذين جاءوا وسرقوا الإبل وسمروا أعين الرعاة أمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فسُمرت أعينهم كما فعلوا بالرعاة قصاصًا[(850)]، إلا إذا قتل بمحرم فلا يقتل به كما لو حَرق بالنار لأن هذا منهي عنه، وكما لو قَتَل باللواط.

والأحناف[(851)] قالوا: إن القاتل يقتل بالسيف واحتجوا بحديث: «لا قود إلا بالسيف» [(852)] لكنه حديث ضعيف لا يثبت، وإذا ثبت فلا مانع من الأخذ به.

والحديث له دخل في الدعاوى والبينة، وله دخل أيضًا في الوصايا وإقرار المريض.

قوله: «فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا» . هذا هو الشاهد من الحديث ووجه الدلالة فيه أن الموصي في مرض الموت تقبل وصيته بالإشارة البينة؛ لأن هذه الجارية التي رض اليهودي رأسها بين حجرين سئلت وهي في الرمق الأخير من فعل بك هذا؟ حتى مر اسم اليهودي فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بين حجرين.

  لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ

}2747{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ؛ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلأَْبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ.

 

قوله: «بَاب لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ؛ هذا جزء من حديث مرفوع لكنه ليس على شرط البخاري فترجم به، والحديث: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» [(853)]. والحديث له شواهد يشد بعضها بعضًا.

}2747{ قال ابن عباس: «كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ» ، يعني: في أول الإسلام كان المال يعطى للأولاد الذكور والإناث، والوالدان لهم الوصية، فنسخ الله ذلك بآية المواريث.

قوله: «فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلأَْبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ» ، إشارة إلى آيتي المواريث: [النِّسَاء: 11-12]{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ *}. فهاتان الآيتان ومعهما آخر آية في سورة النساء هي آيات المواريث وقوله تعالى: [البَقَرَة: 180]{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} منسوخ بآيات المواريث.

  الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ

}2748{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلاَنٍ: كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ».

 

قوله: «بَاب الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ» ، أي: جوازها عند الموت، وإن كانت في حال الصحة فهي أفضل؛ فكون الإنسان يتصدق وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى ويرجو أن يعيش ثم ينفق ويجاهد نفسه هذا أفضل.

}2748{ قوله: «قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ» ، وفي لفظ: «شحيح» [(854)].

قوله: «تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ» ، أي: أفضل الصدقة بالنسبة لحال الشخص إذا كان يخاف أن يحتاج المال، ثم يجاهد نفسه وينفق ويتصدق.

قوله: «وَلاَ تُمْهِلْ» ، يعني: لا تؤخر الصدقة حتى يأتيك الموت.

قوله: «حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ» ، يعني: بلغت الروح الحلقوم.

قوله: «قُلْتَ لِفُلاَنٍ: كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ» ، يعني: توصي لفلان بكذا ولفلان بكذا؛ لأن المال يرخص إذا قرب الإنسان من الموت، بخلاف حال الصحة، فإن المال فيه ليس رخيصًا، بل تتعلق به نفس الإنسان، ولذلك قال الله عز وجل: [العَاديَات: 8]{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ *}، فأفضل الصدقة بالنسبة لحال الشخص هو أن يتصدق في حال الصحة.

وبالنسبة للمتصدق عليه فالأفضل أن يتصدق على الفقير المتعفف الذي لا يسأل ولا يفطن له، لحديث: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» [(855)]. وكذلك الصدقة على الفقير القريب.

وبالنسبة للزمان، فأفضل الصدقة في رمضان وفي عشر ذي الحجة، وبالنسبة للمكان في الحرم المكي وفي الحرم المدني.

  قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

[النِّسَاء: 11]{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}

وَيُذْكَرُ أَنَّ شُرَيْحًا وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَطَاوُسًا وَعَطَاءً وَابْنَ أُذَيْنَةَ أَجَازُوا إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحَقُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ الآْخِرَةِ.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَكَمُ: إِذَا أَبْرَأَ الْوَارِثَ مِنْ الدَّيْنِ بَرِئَ.

وَأَوْصَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنْ لاَ تُكْشَفَ امْرَأَتُهُ الْفَزَارِيَّةُ عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا.

وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ جَازَ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ مَوْتِهَا: إِنَّ زَوْجِي قَضَانِي وَقَبَضْتُ مِنْهُ جَازَ.

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لاَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ لِلْوَرَثَةِ ثُمَّ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْوَدِيعَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ».

وَلاَ يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «آيَةُ الْمُنَافِقِ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ».

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: [النِّسَاء: 58]{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثًا وَلاَ غَيْرَهُ.

فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

}2749{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ».

 

قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [النِّسَاء: 11]{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}» ، أراد المصنف بهذه الترجمة الاحتجاج لجواز إقرار المريض بالدين، وأنه إذا أقر بالدين فإن إقراره صحيح، سواء كان المُقَرُّ له وارثًا أو أجنبيًا، فالأصل أنه يقبل قوله؛ لأن الأصل في المسلم السلامة وعدم التهمة، ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى سوى بين الوصية والدين في تقديمهما على الميراث ولم يفصل، فخرجت الوصية للوارث بدليل، وبقي الإقرار بالدين على حاله، فدل على أنه إذا أقر المريض بالدين فإنه يقبل وينفذ ويقضى الدين قبل الميراث.

ثم ذكر الآثار التي يؤيد بها ما ذهب إليه فقال: «وَيُذْكَرُ أَنَّ شُرَيْحًا وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَطَاوُسًا وَعَطَاءً وَابْنَ أُذَيْنَةَ أَجَازُوا إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ» ؛ لأن الأصل في المسلم السلامة وعدم التهمة.

فلو أقر المريض مرض الموت أن لشخص أكثر من الثلث يقبل إقراره؛ لأنه دين سابق، وهذا شيء غير الوصية.

قوله: «أَحَقُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ الآْخِرَةِ» ، هو قول الحسن البصري، وقد عاش مائة وعشرين سنة، وقوله هذا ليس بشيء؛ لأنه معارض للحديث السابق: «إن أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح» [(856)] فالرسول يقول أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح، والحسن يقول: «أَحَقُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ الدُّنْيَا» ، يعني: عند الموت، فهذا يحمل على أنه ما بلغه الحديث، ولا يمكن أن تكون الصدقة للمريض أفضل من الصدقة في حال الصحة.

قوله: «وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَكَمُ:» يعني: إبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة.

قوله: «إِذَا أَبْرَأَ الْوَارِثَ مِنْ الدَّيْنِ بَرِئَ» ووجه قولهما: أن الأصل في المسلم السلامة وعدم التهمة، فإذا كان في مرض الموت، وله على أحد الورثة دين فقال: أبرأتك من الدين الذي عليك، فإنه يبرأ ولا يتهم بأنه حاباه.

وقوله: «وَأَوْصَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنْ لاَ تُكْشَفَ امْرَأَتُهُ الْفَزَارِيَّةُ عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا» رافع بن خديج صحابي جليل، وهو غير متهم، فلولا أنه يعلم أن ما عندها حق لها لما أوصى بأنه لا يكشف عن امرأته ما عندها، فما أغلقت عليها بابها فهو لها، ولا يقال: إنه مريض وإنه حاباها؛ لأن الأصل في المسلم عدم التهمة، وهذا في غير الصحابة، والصحابة من باب أولى.

وقوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ جَازَ» ؛ لأن الحسن يرى تنفيذ إقرار المريض مطلقًا، فإذا قال لمملوكه: كنت أعتقتك ـ يعني: قبل مدة ـ ينفذ إقراره.

وقوله: «وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ مَوْتِهَا: إِنَّ زَوْجِي قَضَانِي وَقَبَضْتُ مِنْهُ جَازَ» أي: إذا قالت: قضاني الدين وقبضت منه يقبل قولها ولا تتهم بأنها أرادت محاباته.

قوله: «وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لاَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ لِلْوَرَثَةِ ثُمَّ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْوَدِيعَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ» ، يعني: يقول بعض الناس: لا يجوز إقرار المريض للورثة؛ لسوء الظن به، لأنه يظن أنه متهم[(857)]، ثم استحسن فقال: يجوز إقرار المريض بالوديعة والبضاعة والمضاربة[(858)]، فكيف يقول أولا: لا يجوز إقراره، ثم يقول: يجوز بالوديعة والبضاعة والمضاربة؟! فهذا تناقض، ولعل هذا منسوبًا إلى بعض الأحناف؛ ولهذا قال ابن التين: «إن أراد هذا القائل ما إذا أقر بالمضاربة مثلاً للوارث لزمه التناقض وإلا فلا، وفرق بعض الحنفية بأن ربح المال في المضاربة مشترك بين العامل والمالك، فلم يكن كالدين المحض» اهـ.

قوله: «وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»» ، رد من المؤلف على من أساء الظن بالمريض فمنع إقراره؛ لأن المؤلف يرى جواز إقرار المريض وإسقاطه للدين، يعني: فلا ينبغي أن يظن بالمريض أنه يحابي؛ لأن الظن بغير دليل أكذب الحديث؛ فقول بعض الناس: لا يجوز إقراره لسوء الظن لا يؤخذ به؛ للحديث المذكور.

قوله: «وَلاَ يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «آيَةُ الْمُنَافِقِ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: [النِّسَاء: 58]{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}» . ووجه الدلالة من الآية: أن إقرار المريض بما عليه من حق لغيره أمانة، فلابد من أدائها حتى تبرأ ذمته، فلم يخص وارثا ولا غيره.

 

}2749{ قوله: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ:» يعني: علامة المنافق.

قوله: «إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» يعني: الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة وإخلاف الوعد من صفات المنافقين العملية، وهي تجر إلى النفاق الاعتقادي، وفي اللفظ الآخر جاءت صفات أخرى للمنافقين: «وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر» [(859)].

ووجه الدلالة: أن الحديث دل على ذم الخيانة؛ فلو كتم المريض ما عليه من الحق لغيره ولم يقر به لكان خائنا.

  تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

[النِّسَاء: 11]{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}

وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ.

وَقَوْلِهِ عز وجل: [النِّسَاء: 58]{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فَأَدَاءُ الأَْمَانَةِ أَحَقُّ مِنْ تَطَوُّعِ الْوَصِيَّةِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى».

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ يُوصِي الْعَبْدُ إِلاَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ».

}2750{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَْوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى»، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا! فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ؛ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

}2751{ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّخْتِيَانِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: وَالإِْمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ».

 

المراد بقوله: «وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ» بيان المراد بتقديم الوصية في الذكر على الدين في قوله تعالى: « [النِّسَاء: 11]{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}» ، مع أن الدين هو المقدم في الأداء، وبهذا يظهر السر في تكرار هذه الترجمة.

وقوله: «وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ» . هذا الحديث ضعيف، وذكره المؤلف بصيغة التمريض، لكنه وإن كان ضعيفاً إلا أن العمل عليه؛ للاتفاق على مقتضاه الذي دلت عليه النصوص الأخرى، فإذا مات الميت يقضى الدين ثم الوصية.

وقول الله عز وجل: « [النِّسَاء: 58]{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}» فمن أداء الأمانة قضاء الديون؛ فقضاء الدين أحق من تطوع الوصية.

وجه الاستدلال بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» ، أن الوصية صدقة، والدين لابد من أدائه، فإذا أداه صار الإنسان غنيًا، ثم يوصي بعد ذلك، أما أن يكون عليه دين ثم يوصي فلا.

قوله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ يُوصِي الْعَبْدُ إِلاَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِ» يعني: سيده.

قوله: «وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ»» . قال فيه الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وأراد البخاري بذلك توجيه كلام ابن عباس المذكور، قال ابن المنير: لما تعارض في مال العبد حقه وحق سيده قدم الأقوى، وهو حق السيد، وجعل العبد مسئولاً عنه، وهو أحد الحفظة فيه، فكذلك حق الدين لما عارضه حق الوصية والدين واجب والوصية تطوع وجب تقديم الدين، فهذا وجه مناسبة هذا الأثر والحديث للترجمة» اهـ.

 

}2750{ قوله: «أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه» ، وحكيم بن حزام رضي الله عنه عمَّر وعاش مائة وعشرين سنة، ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام.

قوله: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي» وفي اللفظ الآخر: «ثلاث مرات» [(860)]، ثم نصحه النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك نصيحة أثرت فيه فقال: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى» . اليد العليا أي: اليد المعطية المنفقة، والسفلى: هي الآخذة.

قوله: «قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا!» . لا أرزأ يعني: لا أنقص، والمعنى: لا آخذ شيئًا من المال؛ لأنه إذا أخذ المال من صاحبه أنقصه.

فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه حقه من بيت المال فيأبى أن يقبل منه شيئاً، ولما توفي أبو بكر وتولى عمر دعاه عمر ليعطيه حقه من بيت المال فأبى أن يقبله، فأشهد عمر عليه الناس فقال: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ» .

فحكيم اختار الأفضل وهو عدم سؤال السلطان شيئا من المال، وإلا فسؤال السلطان جائز كما جاء في «سنن أبي داود» : «إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بدًّا» [(861)] يعني: في شيء لابد من السؤال فيه، كصاحب الفقر الشديد، وصاحب الجائحة والحمالة ـ كما في حديث قبيصة ـ وإلا فالأصل أن الإنسان لا يسأل.

قال الراوي: «فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ» . ولو أخذ حقه من بيت المال الذي أعطاه له أبو بكر أو عمر ما كان عليه من حرج، لكنه انتفع بنصيحة النبي صلى الله عليه وسلم حتى حققها، فلم يأخذ من أحد شيئًا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.

 

}2751{ قوله: «عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: وَالإِْمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»» . ثم قال ابن عمر: «وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ»» . فهذا الحديث فيه دليل على أن المسئولية متعددة وأن كل أحد مسئول، ولكن هذه المسئولية تختلف، فالإمام الأعظم مسئوليته أعظم، فهو مسئول عن الرعية كلها، والأمير والوزير والمدير والرئيس والإمام والمؤذن كلهم مسئولون عن رعيتهم، والرجل في بيته مسئول، والمرأة مسئولة في بيت زوجها عن ماله وعن أولاده، والخادم مسئول عن مال سيده؛ فكل واحد مسئول.

ووجه الدلالة: أن حق السيد في ماله مقدم على حق العبد؛ فكذا حق الدين مقدم على حق الوصية، وهذا من دقة استنباط البخاري رحمه الله إذ أتى بهذا الحديث للوصية.

  إِذَا وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لأَِقَارِبِهِ وَمَنْ الأَْقَارِبُ؟

وَقَالَ ثَابِتٌ: عَنْ أَنَسٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَِبِي طَلْحَةَ: «اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ أَقَارِبِكَ»؛ فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.

وَقَالَ الأَْنْصَارِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَ حَدِيثِ ثَابِتٍ قَالَ: اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ قَرَابَتِكَ.

قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَكَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي وَكَانَ قَرَابَةُ حَسَّانٍ وَأُبَيٍّ مِنْ أَبِي طَلْحَةَ وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الأَْسْوَدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ المُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ فَيَجْتَمِعَانِ إِلَى حَرَامٍ وَهُوَ الأَْبُ الثَّالِثُ وَحَرَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَهُوَ يُجَامِعُ حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا إِلَى سِتَّةِ آبَاءٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ يَجْمَعُ حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ فَهُوَ إِلَى آبَائِهِ فِي الإِْسْلاَمِ.

}2752{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَِبِي طَلْحَةَ: «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَْقْرَبِينَ»، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: ُ ح خ د ء »ـپ! ! ِ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي: «يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ».

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ: [الشُّعَرَاء: 214]{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ».

 

هذه الترجمة أدخل فيها المؤلف الوقف في الوصية فقال: «بَاب إِذَا وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لأَِقَارِبِهِ وَمَنْ الأَْقَارِبُ؟» ، ويصح الوقف عليهم والوصية لهم إذا كانوا غير وارثين، والأقارب هم رحم الإنسان من جهة أبيه ومن جهة أمه، فأبناء العم الذين يجتمعون في الأب الثالث أو الأب السادس أو نحو ذلك من الأقارب، أما الذين يجتمعون في الأب الثاني فهؤلاء أبناء العم الأقربون، وأما الذين يجتمعون في الأب القريب فهؤلاء الإخوة.

وذكر المؤلف رحمه الله قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: «اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ أَقَارِبِكَ» فجعله لحسان وأُبي من أقاربه، فأبو طلحة يجتمع وحسان وأُبي في الأب السادس وهو عمرو بن مالك، ويجتمع مع حسان في الأب الثالث وهو حرام.

ذكر المؤلف رحمه الله قرابة حسان وأُبي من أبي طلحة فقال: «وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الأَْسْوَدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ المُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ فَيَجْتَمِعَانِ إِلَى حَرَامٍ وَهُوَ الأَْبُ الثَّالِثُ وَحَرَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ» ، فمالك بن النجار جد حسان وأبي طلحة وأبي إلى ستة أباء؛ لأن أبيًّا اسمه: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك.

وفي حديث أبي طلحة فضل صلة الرحم، وبنو العم هم الأقربون والصدقة فيهم إذا كانوا محتاجين أولى من غيرهم، وكذا صلتهم بغير الصدقة من السلام والزيارة والمكالمة والمهاتفة والسؤال.

قوله: «وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ فَهُوَ إِلَى آبَائِهِ فِي الإِْسْلاَمِ» ، يعني: إلى آبائه في الإسلام من غير تحديد.

 

}2752{ ذكر حديث أبي طلحة لما أراد أن يتصدق ببستانه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَْقْرَبِينَ» قال: «فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ» فهؤلاء هم الأقربون.

قوله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: [الشُّعَرَاء: 214]{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي: «يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ» ، وفهر هو قريش وهو الجد العاشر، وفي اللفظ الآخر أنه خص وعم ودعا الأقربين فقال: «يا بني عبدمناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا» [(862)]، ثم نادى من هو أبعد منهم فقال: «يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ» فدل على دخولهم في الأقربين.

قوله: «وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ: [الشُّعَرَاء: 214]{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ»» ، وقريش هو فهر، وهو الجد العاشر للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل: هو النضر بن مالك، وهو حفيد فهر، وهذا يدل على أن الجد العاشر من الأقربين.

  هَلْ يَدْخُلُ النِّسَاءُ وَالْوَلَدُ فِي الأَْقَارِبِ؟

}2753{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل [الشُّعَرَاء: 214]{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ؛ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا.»

تَابَعَهُ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ.

 

في هذه الترجمة أتى بصيغة الاستفهام فقال: «هَلْ يَدْخُلُ النِّسَاءُ وَالْوَلَدُ فِي الأَْقَارِبِ؟»

}2753{ ذكر في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه: [الشُّعَرَاء: 214]{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} خص وعم فقال: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ» ، وقريش الجد العاشر فجعلهم من الأقربين.

قوله: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ؛ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ» ، هذا جد قريب، وهو الجد الثالث.

وقوله: «يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» ، هذا عم النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الأقربين.

وقوله: «وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّه-» ، وهي امرأة فدل على دخول النساء في الأقارب.

وقوله: «وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ» ، وهي ولد فدل على دخول الولد في الأقارب، والولد يشمل الذكر والأنثى.

فقوله في الترجمة: «هَلْ يَدْخُلُ النِّسَاءُ وَالْوَلَدُ فِي الأَْقَارِبِ؟» جوابه: نعم يدخل؛ ولهذا نادى النبي صلى الله عليه وسلم صفية وهي من النساء؛ تنفيذا لقوله تعالى: [الشُّعَرَاء: 214]{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} ودعا أيضا فاطمة وهي من أولاده.

فالشاهد من الحديث قوله: «وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ» ، وقوله: «وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ» فدل على دخول النساء والولد في الأقارب إذا وقف عليهم.

ويحتمل أن يكون لفظ {الأَقْرَبِينَ *} صفة لازمة للعشيرة، والمراد بالعشيرة القوم، فيكون قد أمر بإنذار قومه فلا يختص بالأقرب منهم دون الأبعد، فلا حجة فيه في مسألة الوقف؛ فلهذا لم يجزم المؤلف في الترجمة وأوردها مورد الاستفهام.

  هَلْ يَنْتَفِعُ الْوَاقِفُ بِوَقْفِهِ؟

وَقَدْ اشْتَرَطَ عُمَرُ رضي الله عنه لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَقَدْ يَلِي الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ.

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ؟

}2754{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ لَهُ: «ارْكَبْهَا»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ! قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ: «ارْكَبْهَا وَيْلَكَ أَوْ وَيْحَكَ».

}2755{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: «ارْكَبْهَا»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ! قَالَ: «ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ» فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ.

 

هذه الترجمة فيها مسألة انتفاع الواقف بوقفه، والصواب الذي تدل عليه النصوص أنه ينتفع بوقفه، فإذا وقف مسجدا فإنه يصلي مع الناس في المسجد، وإذا وقف بئرا فإنه يشرب منها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: «من يشتري بئر رومة، ويكون دلوه كدلاء المسلمين وله الجنة» [(863)] فاشتراها عثمان فصار دلوه معهم.

قوله: «وَقَدْ اشْتَرَطَ عُمَرُ رضي الله عنه لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا» ، أي: منه، وقد يلي الواقف وغيره، فإذا وليه الواقف أكل من الوقف، وكذلك «كُلُّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ؟» .

}2754{ قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً» . وهذه البدنة أهداها لله عز وجل.

قوله: «فَقَالَ لَهُ: «ارْكَبْهَا»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ!» يعني: إنها بدنة أهديتها لله فكيف أركبها؟!

قوله: «قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ: «ارْكَبْهَا وَيْلَكَ أَوْ وَيْحَكَ»» يعني: اركبها ولو كانت أُهديت لله، فأمره أن ينتفع بها بالركوب وقد جعلها لله، فدل على أنه لا بأس أن ينتفع الواقف بوقفه.

 

}2755{ قوله: «ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ» فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ» يعني: اركبها ولو كنت وقفتها لله، فدل على أنه لا بأس أن ينتفع الواقف بوقفه.

  إِذَا وَقَفَ شَيْئًا فَلَمَ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ

لأَِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَوْقَفَ وَقَالَ: لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَلَمْ يَخُصَّ إِنْ وَلِيَهُ عُمَرُ أَوْ غَيْرُهُ.

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَِبِي طَلْحَةَ: «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَْقْرَبِينَ»؛ فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَقَسَمَهَا فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.

 

هذه الترجمة معقودة لبيان أنه إذا وقف شيئًا قبل أن يدفعه صح الوقف، ولو لم يخرجه من يده، ولا يشترط أن يقبضه غيره.

واستدل المؤلف رحمه الله بقول عمر: «لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَلَمْ يَخُصَّ إِنْ وَلِيَهُ عُمَرُ أَوْ غَيْرُهُ» ، فقد يليه الواقف ويكون بيده، ولا يشترط أن يخرجه عن يده.

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في وجه استدلال المؤلف رحمه الله بقول النبي لأبي طلحة: «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَْقْرَبِينَ» على الترجمة: «قال ابن المنير: أن أبا طلحة أطلق صدقة أرضه وفوض إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصرفها، فلما قال له: «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَْقْرَبِينَ» ، ففوض له قسمتها بينهم، صار كأنه أقرها في يده بعد أن مضت الصدقة» .

  إِذَا قَالَ دَارِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ

فَهُوَ جَائِزٌ وَيَضَعُهَا فِي الأَْقْرَبِينَ أَوْ حَيْثُ أَرَادَ

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَِبِي طَلْحَةَ حِينَ قَالَ: أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ فَأَجَازَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ لِمَنْ وَالأَْوَّلُ أَصَحُّ.

 

المؤلف رحمه الله من فقهه ينوع التراجم، ويكون الدليل واحدًا كقصة أبي طلحة.

قوله: «إِذَا قَالَ دَارِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَضَعُهَا فِي الأَْقْرَبِينَ أَوْ حَيْثُ أَرَادَ» ، يعني: إذا تصدق ولم يبين من هم أهل صدقته هل هم الفقراء أو غيرهم؟ فهذا جائز، وله أن يعطيها للأقربين أو الأبعدين، وينفقه في المصرف الذي يريد من مصارف الصدقات.

واستدل المؤلف رحمه الله بحديث أبي طلحة حين قال: «أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ» ، ولم يبين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أرى أن تجعلها في الأقربين» [(864)].

قوله: «وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ لِمَنْ» ، أي: لمن تكون الصدقة للفقراء أم لغيرهم؟

قوله: «وَالأَْوَّلُ أَصَحُّ» أي: ولو لم يبين، وستأتي الترجمة التي بعدها أخص منها.

  إِذَا قَالَ: أَرْضِي أَوْ بُسْتَانِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ عَنْ أُمِّي

فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لِمَنْ ذَلِكَ

}2756{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنه تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا.

 

قوله: «إِذَا قَالَ: أَرْضِي أَوْ بُسْتَانِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ عَنْ أُمِّي فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لِمَنْ ذَلِكَ» أي: فله أن يتصدق ولو لم يبين المصرف.

}2756{ واستدل بقصة سعد بن عبادة لما توفيت أمه وهو غائب «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ»» فجعل الحائط صدقة عن أمه ولم يبين أين توضع الصدقة، فقال: «فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا» . و المخراف: الذي قرب قطاف ثماره، والشاهد أنه تصدق به عن أمه، ولم يبين هل هي في الفقراء أو في الأيتام أو في المساكين أو في غيرها؟ فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه: دليل على أن الميت تنفعه الصدقة.

  إِذَا تَصَدَّقَ أَوْ أَوْقَفَ بَعْضَ مَالِهِ

أَوْ بَعْضَ رَقِيقِهِ أَوْ دَوَابِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ

}2757{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ.

 

قوله: «بَاب إِذَا تَصَدَّقَ أَوْ أَوْقَفَ بَعْضَ مَالِهِ، أَوْ بَعْضَ رَقِيقِهِ أَوْ دَوَابِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ» . هذه الترجمة معقودة لبيان جواز وقف المنقول من المال والدواب، وخالف في ذلك أبو حنيفة[(865)].

وكذلك معقودة لبيان جواز وقف المشاع وخالف في ذلك محمد بن الحسن.

}2757{ لما تاب الله على كعب بن مالك قال: «إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم» ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ» ، فدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يتصدق بجميع ماله، ويبقى يتكفف الناس فيشحذ هو وأولاده.

وأما ما جاء عن أبي بكر أنه تصدق بجميع ماله فهذا مخصوص بما إذا كان الإنسان عنده قوة في التوكل، وله كسب يومي يكفيه هو وأولاده؛ فأقارب الشخص ونفسه أولى أن يبقي لهم شيئًا.

  مَنْ تَصَدَّقَ إِلَى وَكِيلِهِ ثُمَّ رَدَّ الْوَكِيلُ إِلَيْهِ

}2758{ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ [آل عِمرَان: 92]{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ قَالَ: وَكَانَتْ حَدِيقَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَسْتَظِلُّ بِهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا فَهِيَ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَرْجُو بِرَّهُ وَذُخْرَهُ فَضَعْهَا أَيْ رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بَخْ يَا أَبَا طَلْحَةَ! ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، قَبِلْنَاهُ مِنْكَ، وَرَدَدْنَاهُ عَلَيْكَ، فَاجْعَلْهُ فِي الأَْقْرَبِينَ»، فَتَصَدَّقَ بِهِ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى ذَوِي رَحِمِهِ، قَالَ: وَكَانَ مِنْهُمْ أُبَيٌّ وَحَسَّانُ، قَالَ: وَبَاعَ حَسَّانُ حِصَّتَهُ مِنْهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ، فَقِيلَ لَهُ: تَبِيعُ صَدَقَةَ أَبِي طَلْحَةَ؟ فَقَالَ: أَلاَ أَبِيعُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ بِصَاعٍ مِنْ دَرَاهِمَ! قَالَ: وَكَانَتْ تِلْكَ الْحَدِيقَةُ فِي مَوْضِعِ قَصْرِ بَنِي حُدَيْلَةَ الَّذِي بَنَاهُ مُعَاوِيَةُ.

 

}2758{ هذه الترجمة معقودة فيما إذا تصدق إلى وكيله ثم رد الوكيل إليه، كما حدث في قصة أبي طلحة، فأبو طلحة تصدق ببستانه المسمى بيرحاء وقال: «فَضَعْهَا أَيْ رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَخْ» ـ كلمة تعظيم ـ: «ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ» ، ـ من الربح ـ، وفي لفظ: «ذاك مال رايح» [(866)] يعني: رايح أجره وثوابه «قَبِلْنَاهُ مِنْكَ، وَرَدَدْنَاهُ عَلَيْكَ» . وهو الشاهد للترجمة، فأبو طلحة تصدق بالبستان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي رده عليه وأمره أن يتصدق هو بها؛ فقسمها أبو طلحة بين أقاربه وبني عمه.

وفيه: فضل الصدقة على الأقارب وبني العم.

وفيه: أن أبا طلحة تصدق بحديقته بيرحاء على ذوي رحمه وأقاربه فوزعها بينهم، ولم يوقفها عليهم، ولذلك باع حسان حصته منها من معاوية.

  قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

[النِّسَاء: 8]{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}

}2759{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الآْيَةَ نُسِخَتْ، وَلاَ وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ، هُمَا وَالِيَانِ: وَالٍ يَرِثُ وَذَاكَ الَّذِي يَرْزُقُ، وَوَالٍ لاَ يَرِثُ فَذَاكَ الَّذِي يَقُولُ بِالْمَعْرُوفِ، يَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ.

 

}2759{ فسر ابن عباس رضي الله عنهما قول الله عز وجل: ُ إ ب ا آ ء ؤ أ ء ] ِ فقال: «إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الآْيَةَ نُسِخَتْ، وَلاَ وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ، هُمَا وَالِيَانِ: وَالٍ يَرِثُ وَذَاكَ الَّذِي يَرْزُقُ، وَوَالٍ لاَ يَرِثُ فَذَاكَ الَّذِي يَقُولُ بِالْمَعْرُوفِ» ، فالذي يرث هو الذي يَرزِق والذي لا يرث هو الذي يُرَزق ويعطى استحبابًا لا وجوبًا، وتسمية الثاني وال فيه نظر.

  مَا يُسْتَحَبُّ لمن يَتُوُفِّيَ فُجَاءَةً

أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَنْهُ وَقَضَاءِ النُّذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ

}2760{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ تَصَدَّقْ عَنْهَا».

}2761{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنه اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ؟ فَقَالَ: «اقْضِهِ عَنْهَا».

 

هذه الترجمة فيها حكمان شرعيان:

الحكم الأول: أن من توفي فجأة يستحب الصدقة عنه؛ أخذًا من حديث عائشة رضي الله عنها.

الحكم الثاني: قضاء النذر عن الميت؛ أخذًا من حديث سعد رضي الله عنه.

}2760{ قوله: «أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا» ، يعني: ماتت فجأة «وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟» . فيستحب لمن مات فجأة أن يتصدق عنه.

 

}2761{ قوله: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنه اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ؟» يعني: أفأقضيه عنها؟ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بقضائه.

 

وفيه: دليل على أن النذر يقضى عن الميت، فإذا نذر أن يصوم يصام عنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» [(867)]، وإذا نذر أن يتصدق بشيء فإنه يُقضى نذره.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد