شعار الموقع

شرح كتاب الوصايا من صحيح البخاري (55-3)

00:00
00:00
تحميل
65

  الْوَقْفِ كَيْفَ يُكْتَبُ

}2772{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا»؛ فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ.

 

}2772{ في الحديث: أن عمر تبرع بأنفس ماله فهو داخل في قوله تعالى: [آل عِمرَان: 92]{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. فكما فعل أبو طلحة حيث أنفق أفضل ما يحب، فكذلك أوقف عمر أنفس ما يجد، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى كيفية التصدق بها فقال: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» ، يعني: تحبس الأصل وتتصدق بالثمرة، «فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ» ، وجعل مصارف الوقف ستة: «فِي الْفُقَرَاءِ» ، والفقير هو الذي لا يجد أقل من نصف الكفاية، «وَالْقُرْبَى» ، أي: قرابة عمر، «وَالرِّقَابِ» ، يعني: يعتق بها الرقاب، «وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، أي: في الجهاد في سبيل الله «وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ» .

وفي كتابة الوقف قال: «لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ» ، أي: الذي يلي ويعمل في الوقف يأكل بالمعروف، ويطعم الصديق والضيف، لكن لا يتملك شيئًا.

والترجمة: «بَاب الْوَقْفِ كَيْفَ يُكْتَبُ» . وقد شرح الحافظ ابن حجر رحمه الله كيفية كتابة وقف سيدنا عمر، فقال: «هذه نسخة صدقة عمر أخذتها من كتابه الذي عند آل عمر فنسختها حرفًا حرفًا: هذا ما كتب عبدالله عمر وأمير المؤمنين في ثمغ أنه إلى حفصة ما عاشت» يعني: تليه حفصة ما عاشت بعده «تنفق ثمره حيث أراها الله، فإن توفيت فإلى ذوي الرأي: من أهلها، قلت: فذكر الشرط كله نحو الذي تقدم في الحديث المرفوع، ثم قال: والمائة وسق الذي أطعمني النبي صلى الله عليه وسلم فإنها مع ثمغ على سننه الذي أمرت به، وإن شاء ولي ثمغ أن يشتري من ثمره رقيقًا يعملون فيه فعل، وكتب معيقيب وشهد عبدالله بن الأرقم، وكذا أخرج أبو داود في روايته نحو هذا[(870)]. وذكرا جميعًا كتابًا آخر نحو هذا الكتاب.

وفيه: من الزيادة: وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه صدقة كذلك، وهذا يقتضي أن عمر إنما كتب كتاب وقفه في خلافته؛ لأن معيقيبًا كان كاتبه في زمن خلافته، وقد وصفه فيه بأنه أمير المؤمنين» اهـ.

وهذه كيفية كتابة الوقف: هذا ما أوقفه عبدالله فلان بن فلان، ويليه فلان، ثم يليه فلان، وينفق ريعه في كذا وكذا، ومن وليه يأكل بالمعروف ويطعم الصديق.

  الْوَقْفِ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالضَّيْفِ

}2773{ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه وَجَدَ مَالاً بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهَا»، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَذِي الْقُرْبَى وَالضَّيْفِ.

 

أعاد المؤلف حديث عمر مرات عديدة في أبواب متعددة؛ لاستنباط الأحكام، وهذا يدل على دقة استنباط البخاري وفقهه وفهمه العظيم.

قوله: «بَاب الْوَقْفِ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالضَّيْفِ» ، يعني: يكون الوقف للغني والفقير، فإذا قال: لذي القربى فقرابته يدخل فيهم الغني والفقير، فيأكلون من هذا الوقف، وكذلك الضيف.

}2773{ قوله: «فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَذِي الْقُرْبَى وَالضَّيْفِ» ، فيه: أن الوقف يكون للغني والفقير، حيث إن القرابة يدخل فيهم الغني والفقير، فيأكلون من هذا الوقف، وكذلك الضيف.

  وَقْفِ الأَْرْضِ لِلْمَسْجِدِ

}2774{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ قَالَ: حَدَّثنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: «يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا؟»؛ قَالُوا: لاَ وَاللَّهِ، لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ.

 

قوله: «بَاب وَقْفِ الأَْرْضِ لِلْمَسْجِدِ» لا خلاف في مشروعية جواز وقف الأرض للمسجد، حتى الذين أنكروا الوقف يقولون: لا بأس أن يقف الأرض للمسجد، إلا أن الخلاف في وقف المشاع، أما إذا كانت الأرض ليست مشاعة فلا بأس.

وقال ابن المنير: «لعل البخاري أراد الرد على من خص جواز الوقف بالمسجد وكأنه قال قد نفذ وقف الأرض المذكورة قبل أن تكون مسجدًا» يعني: أنهم وقفوا الأرض أولاً ثم جعلت مسجدًا، فصار الوقف سابقًا على كونها مسجدًا، ثم قال ابن المنير: «فدل على أن صحة الوقف لا تختص بالمسجد، ووجه أخذه من حديث الباب: أن الذين قالوا: «لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ» ، كأنهم تصدقوا بالأرض المذكورة، فتم انعقاد الوقف قبل البناء، فيؤخذ منه أن من وقف أرضًا على أن يبنيها مسجدًا انعقد الوقف قبل البناء» اهـ.

}2774{ قوله: «يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا؟»؛ قَالُوا: لاَ وَاللَّهِ، لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ» ، فأوقفوا هذه الأرض للمسجد فصارت مسجدًا، فدل على أنه لا إشكال في وقف الأرض للمسجد.

والوقف لا يجوز استخدامه لغير مراد الواقف، فمثلاً إذا أوقف الإنسان مُبَرِّدًا أو سبيلاً للشرب فلا يجوز الوضوء منه؛ لأنه خلاف مراد الواقف.

  وَقْفِ الدَّوَابِّ وَالْكُرَاعِ وَالْعُرُوضِ وَالصَّامِتِ

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِيمَنْ جَعَلَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدَفَعَهَا إِلَى غُلاَمٍ لَهُ تَاجِرٍ يَتْجِرُ بِهَا، وَجَعَلَ رِبْحَهُ صَدَقَةً لِلْمَسَاكِينِ وَالأَْقْرَبِينَ، هَلْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ رِبْحِ ذَلِكَ الأَْلْفِ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَ رِبْحَهَا صَدَقَةً فِي الْمَسَاكِينِ؟ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا.

}2775{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْطَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا رَجُلاً فَأُخْبِرَ عُمَرُ أَنَّهُ قَدْ وَقَفَهَا يَبِيعُهَا فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبْتَاعَهَا؛ فَقَالَ: «لاَ تَبْتَعْهَا، وَلاَ تَرْجِعَنَّ فِي صَدَقَتِكَ».

 

قوله: «بَاب وَقْفِ الدَّوَابِّ وَالْكُرَاعِ وَالْعُرُوضِ وَالصَّامِتِ» . هذه الترجمة معقودة لبيان وقف المنقولات غير الثابتة، فالدواب جمع دابة، وهي كل ما يدب على الأرض سواء كان جملاً أو بقرة أو شاة أو غير ذلك، والكراع: الخيل خاصة، فهو من عطف الخاص على العام، والعروض جمع عرض وهو ما عدا النقدين من الثياب أو آلة نجارة أو آلة حدادة وغير ذلك، والصامت هو النقد من الذهب والفضة.

وقوله: «وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِيمَنْ جَعَلَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدَفَعَهَا إِلَى غُلاَمٍ لَهُ تَاجِرٍ يَتْجِرُ بِهَا، وَجَعَلَ رِبْحَهُ صَدَقَةً لِلْمَسَاكِينِ وَالأَْقْرَبِينَ» . هذا مثال لوقف الصامت.

وقوله: «لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا» ، فيه: أن صاحب المال الموقوف لا يأكل من ريعه، إلا إذا ولي التجارة فيه فيأكل إذا احتاج بالمعروف كالوصي في مال اليتيم، وإذا استعفف فهو خير له، والأولى أن يفرض الحاكم جعلا لمن يتجر بالوقف سواء رب المال أو غيره.

 

}2775{ قوله: «أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْطَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا رَجُلاً» ، يعني: أعطاها إياه صدقة، وهذا الشخص الذي تُصُدِّق بها عليه أضاعها، فأراد أن يبيعها، فأراد عمر أن يشتريها، قال: «فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبْتَاعَهَا» ، يعني: يشتريها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَبْتَعْهَا، وَلاَ تَرْجِعَنَّ فِي صَدَقَتِكَ» ، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وبين أن هذا رجوع منه في صدقته، ووجه ذلك من ناحيتين:

الأولى: أن المتصدَّق عليه قد لا يساومه في البيع، بل يتسامح معه في بيعها برخص، فيكون قد رجع ببعض صدقته؛ لأنه هو الذي أعطاها إياه.

الثانية: أنه أخرجها لله فلا ينبغي له الرجوع فيها.

  نَفَقَةِ الْقَيِّمِ لِلْوَقْفِ

}2776{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ».

}2777{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍحَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ اشْتَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنْ يَأْكُلَ مَنْ وَلِيَهُ وَيُؤْكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالاً.

 

هذه الترجمة لنفقة القيم للوقف ـ والقيم هو الناظر أو العامل ونحوهما ـ فالقيم للوقف والناظر له نفقة مثلما ذكر عمر: «لا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف» ، وكذلك ولي اليتيم إذا كان يعمل في ماله، فله بمقدار عمالته أو حاجته، وإن كان غنيًا فعليه أن يستعفف.

}2776{ قوله: «لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ» . الشاهد فيه قوله: «وَمَئُونَةِ عَامِلِي» ، فهو دال على مشروعية أجرة العامل على الوقف، فكما أن العامل ينفق عليه فكذلك تجوز أجرة العامل على الوقف.

 

}2777{ قوله: «أَنَّ عُمَرَ اشْتَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنْ يَأْكُلَ مَنْ وَلِيَهُ وَيُؤْكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالاً» ، والشاهد: أن عمر اشترط في وقفه أن يأكل منه من وَلِيَه بالمعروف بمقدار نَظَرِه وعمالته، وكذلك ولي اليتيم إذا كان يشتغل في ماله يأكل بالمعروف.

  إِذَا وَقَفَ أَرْضًا أَوْ بِئْرًا وَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ

مِثْلَ دِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ

وَأَوْقَفَ أَنَسٌ دَارًا فَكَانَ إِذَا قَدِمَهَا نَزَلَهَا.

وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ بِدُورِهِ وَقَالَ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ: أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلاَ مُضَرٍّ بِهَا فَإِنْ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلَيْسَ لَهَا حَقٌّ.

وَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارِ عُمَرَ سُكْنَى لِذَوِي الْحَاجَةِ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ.

}2778{ وَقَالَ عَبْدَانُ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه حِينَ حُوصِرَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ وَلاَ أَنْشُدُ إِلاَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ» فَحَفَرْتُهَا؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ» فَجَهَّزْتُهُمْ؟ قَالَ: فَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ.

وَقَالَ عُمَرُ فِي وَقْفِهِ: لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَقَدْ يَلِيهِ الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ فَهُوَ وَاسِعٌ لِكُلٍّ.

 

قوله: «بَاب إِذَا وَقَفَ أَرْضًا أَوْ بِئْرًا» أي: إذا وقف شيئًا لله فلا حرج عليه أن ينتفع منه بما ينتفع به الناس، فإذا كانت مقبرة يقبر فيها كغيره، وإذا كانت مسجدًا يصلي فيه كغيره، وإذا وقف بئرًا يشرب منها كغيره.

قوله: «وَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ دِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ» ، يعني: من يوقف بئرًا على المسلمين ويشترط لنفسه أن يكون مثله مثل المسلمين، فيأخذ وينزع منها بالدلاء حاجته.

قوله: «وَأَوْقَفَ أَنَسٌ دَارًا فَكَانَ إِذَا قَدِمَهَا نَزَلَهَا» وإذا لم يقدم انتفع بها غيره من المساكين.

قوله: «وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ بِدُورِهِ وَقَالَ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ: أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلاَ مُضَرٍّ بِهَا» يعني: تصدق الزبير بدوره وجعلها للفقراء والمساكين وللمردودة من بناته: أن تسكن غير مضرة ولا مضار بها «فَإِنْ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلَيْسَ لَهَا حَقٌّ» وإن طلقت سكنت.

قوله: «وَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارِ عُمَرَ سُكْنَى لِذَوِي الْحَاجَةِ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ» وهم قرابته، فجعل نصيبه لسكن المحتاج منهم.

 

}2778{ ثم ذكر قصة عثمان رضي الله عنه لما حوصر، وأحاط به الثوار وأرادوا قتله، فأشرف عليهم ثم قال: «أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ وَلاَ أَنْشُدُ إِلاَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ» فَحَفَرْتُهَا؟» ورومة هذه بئر كانت ليهودي اشتراها، أما قوله: «فَحَفَرْتُهَا؟» فيحتمل أنه وسعها، وإلا فهي محفورة من الأول.

والشاهد من هذا: أنه أوقفها للمسلمين، وكان يشرب منها ودلوه مثل دلاء المسلمين، فدل على أن الإنسان إذا وقف أرضًا ينتفع بها كما ينتفع بها غيره، وإذا وقف بئرًا ينتفع بها كما ينتفع بها غيره.

قوله: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ» فَجَهَّزْتُهُمْ؟ قَالَ: فَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ» فيه من الفوائد: جواز تحدث الرجل بمناقبه عند الاحتياج إلى ذلك؛ لدفع مضرة أو تحصيل منفعة، وإنما يكره عند المفاخرة والمكاثرة والعجب، وعثمان ما قصد المكاثرة ولا المفاخرة ولا العجب، لكن قصد الدفاع عن نفسه؛ لأن هؤلاء الثوار أرادوا قتله، وغمطوه حقه، وألصقوا به تهمًا، وانتقدوه، فقالوا: إنه خفض صوته في التكبير وأتم الصلاة في السفر، وأخذ الزكاة على الخيل، وقرب أقرباءه، فأراد الدفاع عن نفسه ليبين لهم أنه مظلوم وأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة، لعلهم يندفعون عنه، ولكنهم قتلوه.

فهذه الترجمة معقودة لمن يشترط لنفسه من وقفه منفعة، كأن يقف أرضًا ويشترط أنه ينتفع بهذه الأرض كغيره فلا حرج، وقيد بعض العلماء الجواز بما إذا كانت المنفعة عامة لجميع المسلمين مثل مقبرة أو ماء، أما إذا كانت خاصة لأناس معينين فلا.

  إِذَا قَالَ الْوَاقِفُ: لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ

إِلاَّ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ جَائِزٌ

}2779{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ»؛ قَالُوا: لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ.

 

قوله في الترجمة: «لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ» على لفظ الحديث، فما مراد البخاري بهذه الترجمة؟ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال الإسماعيلي: المعنى أنهم لم يبيعوه ثم جعلوه مسجدًا، إلا أن قول المالك: لا أطلب ثمنه إلا إلى الله لا يصيره وقفًا» .

وقال أيضا: «وقال ابن المنير: مراد البخاري أن الوقف يصح بأي: لفظ دل عليه، إما بمجرده وإما بقرينة» اهـ.

}2779{ قوله: «لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ» ، يعني: مقصودهم أنهم تبرعوا به وقفًا لله عز وجل، وإن لم يصرحوا بلفظ الوقف، فلا يشترط أن يقولوا: أوقفناه.

  قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [المَائدة: 106-108]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ *فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ *ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ *}

{الأَوْلَيَانِ} وَاحِدُهُمَا أَوْلَى وَمِنْهُ أَوْلَى بِهِ.

{عُثِرَ} أُظْهِرَ {أَعْثَرْنَا} أَظْهَرْنَا.

}2780{ وقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلاَنِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَحَلَفَا {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}.

 

هذه الترجمة في وصية المسلم بماله إذا حضره الموت في السفر وليس عنده مسلم فيوصي بماله إلى غير المسلمين ولو كانوا مشركين أو يهودًا أو نصارى.

وهذه الآية ـ آية المائدة ـ ذكروا أنها من أصعب ما في القرآن إعرابا ومعنى، وأشكل على كثير من العلماء معناها وإعرابها يقول الله تعالى مخاطبا المؤمنين: [المَائدة: 106]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ}. هذه الآية فيها تقديم وتأخير فيكون تقديرها: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم، يعني: أمر الله المؤمن إذا حضره الموت وهو في السفر وعنده وصية يريد أن يشهد عليها، أن يشهد عليها عدلين من المسلمين، فإن لم يجد أشهد عليها اثنين من غير المسلمين ثم قال تعالى: [المَائدة: 106]{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ *} يعني: وإذا حصل ريب أو شك في الشاهدين فإنهما يحبسان بعد الصلاة ويقسمان بالله: {...لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ} يعني: ظهر، {عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} من أولياء الميت، [المَائدة: 107]{مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} الأوليان واحدهما الأولى، ومنه: أولى به، [المَائدة: 107]{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ *} والمعنى: إذا أشهد الميت اثنين من غير المسلمين، ثم كشف أو عُثر على أنهما خانا فيقوم اثنان من أولياء الميت مقام الاثنين، ويقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، {ذَلِكَ} يعني: العمل {أَدْنَى} أي: أقرب [المَائدة: 108]{أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ}.

 

}2780{ هذا الحديث يبين معنى الآية، فالآية نزلت في قصة السهمي الذي خرج مع تميم الداري ـ قبل أن يسلم ـ وعدي بن بداء.

قوله: «فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ» ، وذلك بعد أن دفع تركته إلى تميم وعدي.

قوله: «فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا» أي: إناء «مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ» ، وكان السهمي كتب كتابًا وجعله في ماله: إن مالي كذا وكذا، فلما أخذ تميم وصاحبه التركة أخذوا الجام المخوص فباعوه، وأعطوا التركة أهل الميت، فوجدوا الكتاب فيه جام من فضة، فقالوا لهما: أين الجام؟ فأنكرا، ثم وُجد الجام بمكة يباع، فسئلوا فقالوا: اشتريناه من تميم وعدي.

قوله: «فَقَامَ رَجُلاَنِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ» ، يعني: من أولياء السهمي، «فَحَلَفَا {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: [المَائدة: 106]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}» .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: {الأَوْلَيَانِ} واحدهما أولى، ومنه: أولى به، أي: أحق به، ووقع هذا في رواية الكشميهني لأبي ذر وحده وكذا الذي بعده، والمعنى: وآخران: أي: شاهدان آخران يقومان مقام الشاهدين الأولين، {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أي: من الذين حق عليهم وهم أهل الميت وعشيرته، و{الأَوْلَيَانِ}، أي: الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما، وارتفع الأوليان بتقدير: هما كأنه قيل: من الشاهدان؟ فأجيب: الأوليان، أو هما بدل من الضمير في يقومان أو من آخران، ويجوز أن يرتفعا باستحق أي: من الذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال؛ ولهذا قال أبو إسحاق الزجاج: هذا الموضع من أصعب ما في القرآن إعرابا، قال الشهاب السمين: ولقد صدق والله فيما قال. ثم بسط القول في ذلك وختمه بأن قال: وقد جمع الزمخشري ما قلته بأوجز عبارة فقال ـ فذكر ما تقدم ـ فلذلك اقتصرت عليه» .

ثم قال الحافظ رحمه الله: «قوله: «خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ» ، اسمه بُزيلُ بموحدة وزأي: مصغر، وكذا ضبطه ابن ماكولا، ووقع في رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن تميم نفسه عند الترمذي والطبري: بديل» [(871)].

ثم قال الحافظ رحمه الله: «قوله: «مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ» ، أي: الصحابي المشهور، وذلك قبل أن يسلم تميم كما سيأتي، وعلى هذا فهو من مرسل الصحابي؛ لأن ابن عباس لم يحضر هذه القصة، وقد جاء في بعض الطرق أنه رواها عن تميم نفسه، بين ذلك الكلبي في روايته المذكورة فقال: عن ابن عباس عن تميم الداري قال: «برئ الناس من هذه الآية غيري وغير عدي بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام في تجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم» [(872)]. ويحتمل أن تكون القصة وقعت قبل الإسلام ثم تأخرت المحاكمة حتى أسلموا كلهم، فإن في القصة ما يشعر بأن الجميع تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلعلها كانت بمكة سنة الفتح» .

ثم قال الحافظ رحمه الله: «قوله: «فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ» . في رواية الكلبي: فمرض السهمي فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله، قال تميم: فلما مات أخذنا من تركته جاما وهو أعظم تجارته فبعناه بألف درهم فاقتسمتها أنا وعدي. قوله: «فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا» ، في رواية ابن جريج عن عكرمة أن السهمي المذكور مرض فكتب وصيته بيده ثم دسها في متاعه ثم أوصى إليهما، فلما مات فتحا متاعه ثم قدما على أهله فدفعا إليهم ما أرادا، ففتح أهله متاعه فوجدوا الوصية وفقدوا أشياء فسألوهما عنها فجحدا، فرفعوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية إلى قوله: [المَائدة: 106]{لَمِنَ الآثِمِينَ *}، فأمرهم أن يستحلفوهما» اهـ.

ثم قال الحافظ رحمه الله: «قوله: «فَقَامَ رَجُلاَنِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ» أي: الميت، ووقع في رواية الكلبي فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم وسمى مقاتل بن سليمان في تفسيره الآخر: المطلب بن أبي وداعة وهو سهمي أيضًا، لكنه سمى الأول عبدالله بن عمرو بن العاص، وكذا جزم به يحيى بن سلام في تفسيره، وقول من قال عمرو بن العاص أظهر، والله أعلم، واستدل بهذا الحديث لجواز رد اليمين على المدعي فيحلف ويستحق، وسيأتي البحث فيه، واستدل به ابن سريج الشافعي المشهور للحكم بالشاهد واليمين، وتكلف في انتزاعه فقال: إن قوله تعالى: [المَائدة: 107]{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} لا يخلو إما أن يقرّا أو يشهد عليهما شاهدان أو شاهد وامرأتان أو شاهد واحد، قال: وقد أجمعوا على أن الإقرار بعد الإنكار لا يوجب يمينا على الطالب، وكذلك مع الشاهدين ومع الشاهد والمرأتين فلم يبق إلا شاهد واحد فلذلك استحق الطالبان يمينهما مع الشاهد الواحد. وهذا الذي قاله متعقب بأن القصة وردت من طرق متعددة» اهـ.

ثم قال الحافظ رحمه الله: « [المَائدة: 106]{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: من غير أهل دينكم، وبذلك قال أبو حنيفة ومن تبعه، وتعقب بأنه لا يقول بظاهرها فلا يجيز شهادة الكفار على المسلمين، وإنما يجيز شهادة بعض الكفار على بعض، وأجيب بأن الآية دلت بمنطوقها على قبول شهادة الكافر على المسلم، وبإيمائها على قبول شهادة الكافر على الكافر بطريق الأولى، ثم دل الدليل على أن شهادة الكافر على المسلم غير مقبولة فبقيت شهادة الكافر على الكافر على حالها، وخص جماعة القبول بأهل الكتاب وبالوصية وبفقد المسلم حينئذ» اهـ.

نعم هذا هو الصواب كما دلت الآية أنه تقبل شهادة الكافر على المسلم في الوصية في السفر إذا لم يوجد مسلم.

ثم قال الحافظ رحمه الله: «وصح عن أبي موسى الأشعري أنه عمل بذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فروى أبو داود[(873)] بإسناد رجاله ثقات عن الشعبي قال: حضرت رجلاً من المسلمين الوفاة بدقوقا ولم يجد أحدًا من المسلمين فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة بتركته ووصيته فأخبر الأشعري فقال: هذا لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا كتما ولا بدلا وأمضى شهادتهما، ورجح الفخر الرازي وسبقه الطبري لذلك أن قوله تعالى: [المَائدة: 106]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ} خطاب للمؤمنين، فلما قال: {أَوْ آخَرَانِ} وضح أنه أراد غير المخاطبين فتعين أنهما من غير المؤمنين، وأيضا فجواز استشهاد المسلم ليس مشروطًا بالسفر، وأن أبا موسى حكم بذلك فلم ينكره أحد من الصحابة فكان حجة، وذهب الكرابيسي ثم الطبري وآخرون إلى أن المراد بالشهادة في الآية اليمين، قال: وقد سمى الله اليمين شهادة في آية اللعان» اهـ.

  قَضَاءِ الْوَصِيِّ دُيُونَ الْمَيِّتِ

بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْوَرَثَةِ

}2781{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ أَوْ الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْهُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ فِرَاسٍ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَْنْصَارِيُّ رضي الله عنهما أَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا فَلَمَّا حَضَرَ جِدَادُ النَّخْلِ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِي اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا كَثِيرًا وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ، قَالَ: «اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَتِهِ» فَفَعَلْتُ، ثُمَّ دَعَوْتُهُ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «ادْعُ أَصْحَابَكَ»، فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي، وَأَنَا وَاللَّهِ رَاضٍ أَنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي وَلاَ أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ، فَسَلِمَ وَاللَّهِ الْبَيَادِرُ كُلُّهَا حَتَّى أَنِّي أَنْظُرُ: إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّه لَمْ يَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَةً.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: أُغْرُوا بِي يَعْنِي هِيجُوا بِي [المَائدة: 14]{فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}.

 

}2781{ قوله: «وَأَنَا وَاللَّهِ رَاضٍ أَنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي وَلاَ أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ» يعني: ولا أرجع ولو بتمرة، فالمهم أن أقضي الدين، ولكن أنزل الله فيه البركة فحصل له ثلاثة عشر وسقًا ـ والوسق: ستون صاعًا ـ.

وهذه القصة سبق ذكرها مرات لكن استدل بها المؤلف رحمه الله لهذه الترجمة: «بَاب قَضَاءِ الْوَصِيِّ دُيُونَ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْوَرَثَةِ» ، فجابر قضى ديون أبيه من اليهود وحده والورثة غير حاضرين فلا بأس بذلك.

وفيه: علامة من علامات النبوة وهو أن الله كثر التمر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن جابرًا قال لليهود: خذوا التمر واعفوا والدي، فقالوا: إنه قليل، وشفع له النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلوا الشفاعة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال لجابر: «اذْهَبْ فَبَيْدِرْ» ، أي: اجعل كل نوع من التمر في بيدر وجاء النبي صلى الله عليه وسلم وطاف عليها فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم أغروا بجابر تلك الساعة ـ وفسرها المؤلف بقوله: «أُغْرُوا بِي يَعْنِي هِيجُوا بِي» ثم ذكر الآية: « [المَائدة: 14]{فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}» .

ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم وبرك فيها قال: «ادْعُ أَصْحَابَكَ» ، فجعل يكيل لهم حتى أوفى الله ما عليه وبقي ثلاثة عشر وسقًا، وهذا فيه دليل على قدرة الله وأن الله على كل شيء قدير: [يس: 82]{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}.

وهو دليل من دلائل النبوة، وأنه رسول الله حقًا حيث جعل الله البركة في التمر لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم وبرك فيه.

وفيه: دليل على خبث اليهود ولؤمهم وعدم قبولهم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشدتهم في قضاء الدين؛ لأنهم أعداء.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد