شعار الموقع

شرح كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري (56-4)

00:00
00:00
تحميل
51

قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَْرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا فَبَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا وَثَنَّى بِالأُْخْرَى»» ، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم يخشى عليهم أن تفتح عليهم الدنيا وتبسط لهم فيتنافسوها، ويجمعون المال ويمسكونه، فيحبسونه ولا ينفقونه في وجوه الخير، ويمنعون الواجب فيهلكون، والإنسان إنما يستفيد من هذا المال إذا أنفقه، فإذا أنفقه في سبيل الله وفي اليتامى والمساكين فإنه يذهب عنه شره، أما إذا أمسكه ولم ينفق منه في وجوه الخير صار فيه هلاكه.

وذلك مثل الدابة التي تأكل من الربيع الأخضر، فإذا أكلت تأكل كثيراً، فتصيبها التخمة وينتفخ بطنها وتكاد تموت، أما إذا أكلت واستقبلت الشمس وثلطت وبالت وأفرغت ما في بطنها سلمت من الهلاك، ثم تأكل مرة أخرى، فإذا أفرغت ما في بطنها سلمت من الهلاك، بعكس ما إذا أكلت واجتمع الطعام في بطنها فانتفخت ثم هلكت، فكذلك الإنسان إذا جمع المال وأخذه؛ إن أنفقه سلم من شره، وإن أمسكه أهلكه، هذا هو المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّهُ كُلَّمَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ» ، يعني: تهلك بانتفاخ البطن أو تكاد تهلك، واستثنى من ذلك التي «أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ، فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، هذا هو الشاهد من الحديث، وهو النفقة في سبيل الله واليتامى والمساكين وابن السبيل، «وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ بِحَقِّهِ فَهُوَ كَالآْكِلِ الَّذِي لاَ يَشْبَعُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

فالشاهد قوله: «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، يعني: في الجهاد، أو ما هو أعم منه من طرق الخير وسبله، والأول هو ظاهر صنيع البخاري، وهو اختياره المراد؛ ففي سبيل الله عنده، يعني: في الجهاد، وقال بعض العلماء: المراد به: في طرق الخير وسبله.

  فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ

}2843{ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثنِي يَحْيَى قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثنِي بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثنِي زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا».

}2844{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِ، فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: «إِنِّي أَرْحَمُهَا؛ قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي».

 

}2843{ في الحديث: بيان فضل الله تعالى وإحسانه على من جهّز غازيًا؛ فإن له مثل أجر الغازي، وكذلك من خلف غازيًا في سبيل الله في أهله بخير فقد غزا، وهذا من فضل الله وإحسانه، فيكون الغازي المجاهد له أجر الجهاد، والذي يجهزه له أجر الجهاد؛ لأنه جاهد بماله، ويجهزه يعني: يعطيه ما يكفيه ليشتري السلاح والمركوب، أو يعطيه نفقة تكفيه، والذي يخلفه في أهله بخير له أجر الغازي أيضًا؛ لأن الغازي يحتاج إلى من يخلفه في أهله وأولاده وينفق عليهم ويرعى شئونهم؛ فالذي يخلفه بخير ـ يعني: يقوم مقامه ـ له أجر الغازي.

 

}2844{ قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِ» ، أم سليم بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم محرمية من جهة الرضاع، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم كغيره؛ لا يخلو بامرأة ليس محرمًا لها، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان ينام عندها القيلولة فعرق، فأخذت عَرَقه وجعلته في قارورة لها وقالت: إنه لأطيب الطيب[(72)].

وكان صلى الله عليه وسلم يرحمها ويصلها ـ بالإضافة إلى كونه بينه وبينها محرمية ـ وقد ذكر سبب ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: «قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي».

  التَّحَنُّطِ عِنْدَ الْقِتَالِ

}2845{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَالَ: وَذَكَرَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ قَالَ: أَتَى أَنَسٌ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْهِ وَهُوَ يَتَحَنَّطُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ مَا يَحْبِسُكَ أَنْ لاَ تَجِيءَ، قَالَ: الآْنَ يَا ابْنَ أَخِي وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ يَعْنِي مِنْ الْحَنُوطِ ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ انْكِشَافًا مِنْ النَّاسِ، فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حَتَّى نُضَارِبَ الْقَوْمَ مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَقْرَانَكُمْ.

رَوَاهُ حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ.

 

قوله: «بَاب التَّحَنُّطِ عِنْدَ الْقِتَالِ» ، البخاري رحمه الله لم يذكر الحكم فيه؛ هل هو مستحب أو غير مستحب؟ فهذا مسكوت عنه، والسنة أن الميت يحنط، ويحنطه غيره، أما أن يحنط نفسه فهذا فَعَله ثابت بن قيس كما في حديث الباب؛ اجتهاداً منه، وهو مسكوت عنه.

}2845{ ذكر في الحديث التحنط، وهو ما يُطَّيب به الميت، والمعنى: أن ثابت ابن قيس رضي الله عنه لبس أكفانه وجعل يتحنط، وحسر عن فخذيه أثناء ذلك.

قوله: «وَهُوَ يَتَحَنَّطُ» ، يعني: يتطيب استعدادًا للموت؛ لأنه يمكن أن يقتل شهيدًا، فهو يستعد للموت بالتطيب والتحنط، وهذا اجتهاد منه، فهو يرى جواز فعل ذلك.

قال له أنس: «يَا عَمِّ مَا يَحْبِسُكَ أَنْ لاَ تَجِيءَ» قال أنس له: يا عم؛ لأنه صغير السن، فرد عليه ثابت فقال: «الآْنَ يَا ابْنَ أَخِي وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ يَعْنِي مِنْ الْحَنُوطِ ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ انْكِشَافًا مِنْ النَّاسِ» ؛ أي: انهزامًا من بعض الجيش، «فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حَتَّى نُضَارِبَ الْقَوْمَ مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، يعني: ما ننكشف ، بل نتقدم.

قوله: «بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَقْرَانَكُمْ» ، الأقران جمع قرن، وهو المقارن والمقارب للشخص في السن، يقال: فلان قرن فلان؛ يعني: مماثل له في القوة أو في الشباب أو في السن.

قال العيني: «أراد ثابت رضي الله عنه بهذا الكلام توبيخ المنهزمين؛ أي: عودتم نظراءكم في القوة من عدوكم الفرار منهم حتى طمعوا فيكم» .

وقُتل ثابت بن قيس رضي الله عنه يوم اليمامة شهيدًا؛ فجاء في رواية ـ ذكر الشارح أنها رواية ابن سعد والطبراني والحاكم ـ أنه لبس ثوبين أبيضين وتحنط يكفن فيهما، وقد انهزم القوم، فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ـ يعني: المشركون ـ وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني: أصحابه ـ ثم قال: بئسما عودتم أقرانكم منذ اليوم، خلوا بيننا وبينهم ساعة» [(73)]، فحمل عليهم فقاتل حتى قُتل، وكانت درعه قد سرقت، فرآه رجل فيما يرى النائم، فقال: إنها في قِدْر تحت إكاف بمكان كذا، وأوصاه بوصايا ـ في النوم ـ فجاء فوجد الدرع على حسب الوصية، ونفذت وصيته؛ ولهذا قال: ما نفذت وصية ميت، غير وصية ثابت بن قيس.

وقد نفذت وصيته؛ لأنه أخبر أن الدرع في مكان كذا، فوجدوها كما ذكر، فقالوا: هذا دليل على أنها حق، ولا يمكن أن يكون بعضها حقًّا وبعضها باطلاً، فنفذوها كلها.

وأخرج الحاكم قصة الدرع والوصية مطولة، وفيها أنه أوصى بعتق بعض رقيقه؛ قال: أعتقوا بعض عبيدي، وذكر في رواية الواقدي أن الذي رآه في المنام هو بلال.

 

وفي الحديث من الفوائد:

1- جواز استهلاك النفس في الجهاد وترك الأخذ بالرخصة.

2- التهيئة للموت بالتحنط والتكفين.

3- قوة ثابت بن قيس وصحة يقينه.

4- التداعي إلى حرب المشركين والتحريض عليها وتوبيخ من يفر منها.

5- الإشارة إلى ما كان الصحابة رضي الله عنهم عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الشجاعة والثبات في الحرب.

  فَضْلِ الطَّلِيعَةِ

}2846{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَوْمَ الأَْحْزَابِ؟» قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟» قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ».

 

قوله: «بَاب فَضْلِ الطَّلِيعَةِ» ، الطليعة هو الشخص الذي يبعثه الإمام أو القائد إلى العدو ليطلع على أحوالهم وأسرارهم ويأتيه بخبرهم، يعني: يرسل الإمام فارسًا أو فارسين أو ثلاثة يدورون حول جيش الكفار خفية، ويأتون بأخبارهم ويتجسسون عليهم، فالتجسس على الكفار المحاربين والإتيان بأخبارهم مطلوب

وفيه: فضيلة.

}2846{ قوله: ««مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَوْمَ الأَْحْزَابِ؟» قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟» قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ»» ، الحواري: الناصر والمعين المخلص، ومنه الحواريون أصحاب عيسى رضي الله عنهم الذين قال الله عز وجل فيهم: [آل عِمرَان: 52]{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}.

وهذا الحديث فيه: شجاعة الزبير وفضله رضي الله عنه وإقدامه؛ لأن في هذا خطورة كبيرة عليه؛ فقد يَقبِض عليه القوم، أو يأتيه سهم فيقتله، فهو يُعرِّض نفسه للخطر الشديد، والنبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس فلم يجب إلا الزبير؛ فدل على شجاعته ورباطة جأشه وقوة إيمانه رضي الله عنه، وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت عبدالمطلب، وأحد العشرة المبشرين بالجنة.

  هَلْ يُبْعَثُ الطَّلِيعَةُ وَحْدَهُ

}2847{ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: نَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ قَالَ صَدَقَةُ: أَظُنُّهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ».

 

}2847{ أعاد البخاري رحمه الله الحديث السابق؛ ليبين أن الطليعة تكون من واحد، وممكن أن تكون الطليعة اثنين أو ثلاثة، وهذا فيه منقبة للزبير، وقوة قلبه وصحة إيمانه ويقينه.

وفيه: مشروعية التجسس على الكفار المحاربين.

  سَفَرِ الاِثْنَيْنِ

}2848{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: انْصَرَفْتُ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَنَا أَنَا وَصَاحِبٍ لِي: «أَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا».

 

قوله: «بَاب سَفَرِ الاِثْنَيْنِ» ، يعني: سفر الشخصين الاثنين، وليس المراد السفر يوم الإثنين، وهل يجوز للشخصين أن يسافرا أو لا يجوز؟

فالبخاري رحمه الله يشير إلى الحديث الآخر: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب» [(74)]؛ فما الجمع بينه وبين حديث الباب؟

_خ الجواب: أن حديث الباب أصح؛ حيث رواه البخاري في الصحيح.

}2848{ فيه: أن مالك بن الحويرث هو وصاحبه سافرا الاثنان، فوافقهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهما، وقال لهما: «أَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وكأنه لمّح بضعف الحديث الوارد في الزجر عن سفر الواحد والاثنين» .

لكن يقال: إن كان البخاري لمّح بهذا الحديث على ضعف الحديث الوارد في الزجر عن سفر الواحد والاثنين؛ فلا إشكال، وإن كان حسن الإسناد ـ كما قال الحافظ ابن حجر ـ فيجاب عنه بأنه لا يدل على التحريم، بل هو في الأدب والإرشاد.

فإذا سافر اثنان فقد تركا أمرًا مستحبًّا، ولا بأس بسفرهما، فحديث الباب يدل على الجواز، وحديث: «الراكب شيطان والراكبان شيطانان» ، يدل على أن الأفضل ترك سفر الاثنين، وأن يكون معهما ثالث، ويجمع بينهما بأنه يجوز سفر الاثنين إذا دعت الحاجة، أو يقال: حديث الباب أرجح؛ لأنه في الصحيح، لكن الجمع مقدم؛ فيقال: سفر الاثنين لا بأس به فهو جائز، ولكن الأفضل والأكمل أن يكونوا ثلاثة، أما الواحد فلم يأت ما يدل على الجواز؛ بل جاء فيه: «الراكب شيطان» . فالراكب الواحد لا ينبغي أن يسافر وحده.

وفيه: مشروعية سفر الاثنين، وأنه لا بأس به.

  الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

}2849{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

}2850{ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُصَيْنٍ وَابْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

قَالَ سُلَيْمَانُ: عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ.

تَابَعَهُ مُسَدَّدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ.

}2851{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ».

 

قوله: «بَاب الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، ترجم على لفظ الحديث، وهذا الحديث وأخبار الدجال في آخر الزمان يدلان على أن الناس يعودون إلى الخيل في الجهاد، وأن هذه الآلات الجديدة والمخترعات الحديثة قد ينتهي أمرها، وجاء في الحديث أن الحروب في آخر الزمان تكون على الخيل، وأنه يحصل حروب طاحنة بين المسلمين والنصارى، وأنه سيخرج جيش من المدينة فيخرج إليهم أناس أو أفراد؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف أسماءهم وألوان خيولهم» . وهذا في «صحيح مسلم» [(75)].

}2849{ قوله: «الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، المراد بالخيل: ما يتخذ للغزو ويُقاتَل عليه؛ فهي تُربط لأجل ذلك، فمن ربطها عِدة في سبيل الله وأنفق عليها احتسابًا كان شبعها وريها وظمؤها وروثها وأبوالها حسنات له يوم القيامة كما سيأتي قريبًا.

والخيل لا يستغنى عنها في الحروب أبدًا في أي: زمن من الأزمان، حتى في هذا الزمان، زمن المخترعات الحديثة؛ فالخيل يستفاد منها في حمل السلاح في أمكنة لا تصل إليها السيارات في الجبال وفي الكهوف وفي الشعاب وفي الأودية وفي الظلام حيث لا سبيل إلى النور وفي السكون بعيدًا عن الضوضاء والجلبة، فإلى الآن الخيل تستعمل في الحروب ولا يستغنى عنها، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، مع أنه سيعود الجهاد عليها في آخر الزمان، وأن هذا الآلآت الحديثة ينتهي أمرها.

 

}2850{ قوله: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، من دلائل أنها معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة أنه لا يستغنى عنها في عصر من العصور أبدًا.

 

}2851{ قوله: «الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ» ، قيل: خص الناصية؛ لرفعة قدرها، وكأنه شبهه لظهوره بشيء محسوس معقود على مكان مرتفع، والمراد بالناصية الشعر المسترسل على الجبهة، وكنّى بالناصية عن جميع الفرس، والمعنى: أن الخيل فيها بركة، كما أنه معقود في نواصيها، يعني: في جميعها، وهذا من التعبير بالشيء وإيراد الجميع به؛ مثل قول: أعتق رقبة، وهو قد أعتق العبد كاملاً، ولكن عبر عنه بالرقبة، وهنا عَبّر بالناصية، والمراد جميع بدن الخيل؛ فالخيل بدنه كله فيه بركة

وفيه: خير؛ فخير الأموال خيول الجهاد.

  الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ

لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

}2852{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ حَدَّثَنَا عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الأَْجْرُ وَالْمَغْنَمُ».

 

قوله: «بَاب الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ» ، هذا أيضًا دل عليه الحديث الآخر: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برًّا كان أو فاجرًا» [(76)]، والمراد بالإمام ولي أمر المسلمين وإمامهم سواء كان برًّا أو فاجرًا، فعلى الناس أن يجاهدوا معه، فالإمام يقيم الجهاد ويقيم الحج ولو كان فاجرًا وعاصيًا، إلا إذا فعل كفرًا بواحًا فيجب خلعه كما مر بنا في الحديث الصحيح: «إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم من الله فيه برهان» [(77)]، فإذا كفر كفرًا موصوفًا بثلاثة أوصاف: كفرًا، بواحًا، عندكم من الله فيه برهان؛ في هذه الحالة يجب خلعه بشرطين:

الشرط الأول: القدرة على ذلك.

الشرط الثاني: وجود البديل المسلم، فيزال الإمام الكافر ويعين إمام مسلم، وإذا لم يوجد فيصبر الناس ويطيعونه في غير معصية الله.

والأحاديث التي وردت في أنه يُجَاهد مع الأئمة بررة كانوا أو فجارًا فيها الرد على الخوارج والمعتزلة والرافضة؛ فالخوارج يرون أن الإمام إذا عصى أو فجر أو جار وجب خلعه وقتله؛ لأنه كفر ويخلد في النار، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، والروافض يقولون: لا يجوز أن يتولى إلا إمام معصوم، والأئمة عندهم اثنا عشر فقط، والباقون كلهم ولايتهم باطلة؛ لأنهم ليسوا معصومين، وأما أهل السنة والجماعة فهم يعملون بالأحاديث ويمضون الجهاد والحج مع أئمة المسلمين وولاتهم بررة كانوا أو فجارًا، ولو كانوا عصاة، أو ظلمة، أو جائرين، فعصيانهم وظلمهم وجورهم على أنفسهم، والمسلمون لهم مصلحة الجهاد والحج، والنصيحة مبذولة لهم من قبل أهل الحل والعقد ممن يصل إليهم من المؤمنين ومن العلماء، فإن استجابوا فالحمد لله، وإن لم يستجيبوا فقد أدى الناصح ما عليه.

}2852{ قوله: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الأَْجْرُ وَالْمَغْنَمُ» ، هذا تفسير للخير؛ فالخير هو الأجر والمغنم، فهذا هو الخير والبركة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفيه: أيضًا بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة؛ لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين، وهم المسلمون، وهو مثل الحديث الآخر: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق» [(78)]» .

وفي بعض الأحاديث: «والجهاد ماض إلى قيام الساعة، حتى يقاتل آخر أمتي الدجال» [(79)]، يعني: الجهاد باق حتى بعد نزول عيسى بن مريم عليه السلام، فيُجاهد المسلمون مع عيسى عليه السلام ويسلطون على اليهود ويقتلونهم، ويقتل عيسى عليه السلام الدجال، والدجال هو رئيس اليهود وملكهم في ذلك الوقت، ويتبعه سبعون ألفًا من اليهود على رءوسهم الطيالسة من يهود أصبهان كما جاء في الحديث[(80)]، فيقتل المسلمون اليهود قتلاً ذريعًا، حتى يختبئ اليهود وراء الشجر والحجر فيتكلم الشجر والحجر ويقول: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد[(81)] فإنه يخون ولا يتكلم؛ لأنه من شجر اليهود.

  مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [الأنفَال: 60]{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}.

}2853{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا الْمَقْبُرِيَّ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

 

}2853{ قوله: «مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، يستفاد منه بيان فضل من وَقّف فرسًا في سبيل الله، فالفرس يوقف.

وفيه: دليل على جواز وقف المنقول، فبعض العلماء يرى أن الوقف لا يكون إلا للثابت، مثل الأرض والدور، وهنا قال: «مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، والفرس متحرك فما هو بثابت؛ ففيه دليل على جواز وقف المنقول، وحبس الفرس في سبيل الله يجعله وقفًا؛ فقد قال تعالى: « ُ ـ لله  ِ » ، ومن وقف فرسًا واحتبسه في سبيل الله فشبعه وريه وروثه وبوله حسنات في ميزان صاحبه كما في حديث الباب؛ لكن بهذين الشرطين:

الأول: الإيمان بالله، بأن يؤمن بالله ورسوله.

الثاني: أن يكون مصدقًا بوعد الله.

فإذا وجد هذان الشرطان صار هذا الفرس شبعه وريه وروثه وبوله في ميزان حسنات صاحبه يوم القيامة، وإذا اختل أي: واحد منهما فلا يحصل له الأجر الموعود به في الحديث.

  اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ

}2854{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَخَلَّفَ أَبُو قَتَادَةَ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ فَرَأَوْا حِمَارًا وَحْشِيًّا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ فَلَمَّا رَأَوْهُ تَرَكُوهُ حَتَّى رَآهُ أَبُو قَتَادَةَ فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ يُقَالُ لَهُ الْجَرَادَةُ فَسَأَلَهُمْ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا فَتَنَاوَلَهُ فَحَمَلَ فَعَقَرَهُ ثُمَّ أَكَلَ فَأَكَلُوا فَنَدِمُوا فَلَمَّا أَدْرَكُوهُ قَالَ: «هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ»؟ قَالَ: مَعَنَا رِجْلُهُ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَهَا.

}2855{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطِنَا فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ اللُّحَيْفُ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ: بَعْضُهُمُ اللُّخَيْفُ.

}2856{ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ يَحْيَى بْنَ آدَمَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَْحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ: «لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا».

}2857{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لَنَا يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ فَقَالَ: مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا.

 

}2854{ هذه القصة حصلت في صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة؛ حيث ذهب الصحابة وأحرموا بالعمرة في الحديبية، ومعهم أبو قتادة غير مُحرِم، والمُحرِم معلوم أنه ممنوع من الصيد، فرأوا حمار وحش، ولم يره أبو قتادة ولم يقدروا أن يتكلموا؛ لأنهم لو تكلموا أو ساعدوه لما جاز لهم هذا، وفي لفظ معناه: «جعل بعضهم يضحك إلى بعض، ففطن لضحكهم فنظر إليه، فركب الفرس وقال: ناولوني السوط، قالوا: والله لا نناولك شيئًا» ؛ لأنه سيصيد الحمار، قال: أعطوني السوط، قالوا: لا نساعدك بشيء نحن محرمون، فنزل وأخذ سوطه ثم عقر الحمار الوحشي فأكل منه، وأكلوا فندموا، وفي اللفظ الآخر ما معناه: أنهم قالوا: «كيف نأكل ولم نسأل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه، فقال: «هل منكم أحد أعان؟» ؛ أي: أعانه أو ساعده، قالوا: لا، قال: «كلوا» [(82)]، وفي هذا الحديث قال: «هل معكم منه شيء؟» قال: معنا رِجله، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فأكلها» ؛ تطييبًا لنفوسهم.

ففي الحديث: دليل على جواز أكل المحرم من صيد البر الذي صاده الحلال بثلاثة شروط:

الشرط الأول: أن لا يكون من المُحرِم إعانة ولا إشارة ولا دلالة، فإن كان المحرم أعان أو أشار أو دل أو ساعد فلا.

الشرط الثاني: أن لا يكون الحلال صاده للمُحرِم، بل صاده لنفسه، ويدل على ذلك حديث جابر: «صيد البر لكم حلال ما لم تَصيدوه أو يُصد لكم» [(83)].

الشرط الثالث: أن لا يكون الصيد حيًّا، بل يكون مذبوحًا.

والشاهد من الحديث لما ترجم به قوله: «فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ يُقَالُ لَهُ الْجَرَادَةُ» ، فلا بأس أن تسمى الدواب، فتسمى الفرس باسم ويسمى الحمار باسم؛ فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم حمار يسمى عفيرًا[(84)]، كما سيأتي.

 

}2855{ قوله: «اللُّحَيْفُ» هو اسم الفرس، وهو شاهد الترجمة.

وفيه: أنه لا بأس بتسمية الفرس.

 

}2856{ هذا الحديث أصل عظيم في بيان حق الله على العباد؛ وهو التوحيد، وهو حق إلزام وإيجاب.

وفيه: بشارة أن من مات على التوحيد فهو من أهل الجنة، عاجلاً أو آجلاً، ويقصد بالتوحيد الذي يكون سالمًا من البدع والكبائر، فصاحبه في الجنة من أول وهلة فضلاً من الله وإحسانًا، وإن مات على توحيد ملطخ بالكبائر والبدع والمعاصي فهو على خطر من العذاب في القبر، وعلى خطر من الأهوال التي تصيبه يوم القيامة، وعلى خطر من دخول النار، فقد يُعفى عنه وقد يُعذب، فهو تحت مشيئة الله، كما قال تعالى: [النِّسَاء: 48]{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وإذا دخل النار دخل على قدر المعاصي، فيعذب على قدر معصيته، ثم في النهاية يخرج إلى الجنة.

ثم يترتب على حق الله حق آخر، وهو حق تفضل وإكرام من الله؛ هو أنه سبحانه لا يعذب من لا يشرك به شيئًا؛ فالحق الأول حق إلزام وإيجاب، فالعباد ملزمون بأن يوحدوا الله؛ فهذا حق الله على العباد، أما حق العباد على الله إذا وحدوه أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا؛ فهذا حق تفضل وتكرم.

والشاهد قوله: «عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ» ، يعني: أن الحمار الذي كان يركبه النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عفير؛ فدل على أنه لا بأس بتسمية الحمار، وتسمية الفرس.

 

}2857{ قوله: «فَرَسًا لَنَا يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ» . هذا هوالشاهد للترجمة؛ حيث استدل به المؤلف على جواز تسمية الفرس.

وفي هذا الحديث: بيان شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي اللفظ الآخر: «أنه فرس عُرْي ما عليه شيء» ، ثم قفل راجعًا يقول للناس: «لن تراعوا، لن تراعوا» [(85)].

  مَا يُذْكَرُ مِنْ شُؤْمِ الْفَرَسِ

}2858{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثَةٍ فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ».

}2859{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ».

 

}2858{ قوله: «إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثَةٍ فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ» ، والمراد بالشؤم النحاسة وعدم ترتب الخير عليها، وليس هذا من التطير، وإنما أراد أن بعض الأعيان يجعل الله فيها شؤمًا ونحاسة، وعدم ترتب الخير عليها، مثل الدار؛ كأن تكون ضيقة أو يكون جيرانها جيرانًا سيئين، أو يصاب بالأمراض في الدار، ويكثر الموت فيها، وكذلك المرأة؛ تكون سيئة الخلق، أو تكون المرأة من يتزوجها يموت، وكذلك الدابة التي تطرح من يركبها، وقلة البركة في المرأة والفرس والدار ليس من التطير، وإنما هو شؤم ونحاسة تكون في هذه الأعيان الثلاثة.

 

}2859{ في الحديث: الشك في الشؤم؛ حيث يقول: «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ» ، وهذا الشك يزيله الحديث الأول؛ لأن فيه الجزم حيث قال: «إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار» ، والمراد بالشؤم: النحاسة وعدم ترتب الخير عليها.

  الْخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: [النّحل: 8]{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *}.

}2860{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ؛ فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ أَرْوَاثُهَا وَآثَارُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً وَنِوَاءً لأَِهْلِ الإِْسْلاَمِ فَهِيَ وِزْرٌ عَلَى ذَلِكَ» وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحُمُرِ؟ فَقَالَ: «مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الآْيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ: [الزّلزَلة: 7-8]{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *}».

 

}2860{ قوله: «الْخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ» ، ذكر هنا ثلاثة، ولكن عند التفصيل في الحديث هنا لا نجد إلا اثنين، وذكر الثلاثة تفصيلاً في رواية أخرى[(86)].

قوله: «فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ؛ هذا هو الشاهد في أبواب الجهاد: رجل ربطها في سبيل الله، يعني: أوقفها في سبيل الله، وهو الجهاد.

قوله: «فَأَطَالَ فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ» ، الروض: موضع الكلأ والعشب، والروضة الموضع المرتفع.

قوله: «فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ» ، الطيل: الحبل الذي تربط به الفرس، ويُطَول لها لترعى، ويقال له: طِوَل، فهذا الرجل الذي ربط الفرس في سبيل الله وربطها في مرج في مكان فيه عشب، فما أصابت في طيلها وهي مربوطة، تأكل وتشرب وتتحرك يكتب له بذلك حسنات.

قوله: «وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا» ، يعني: لو انقطع الحبل، وقوله: «فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ» ، يعني: مشت وذهبت، وقوله: «كَانَتْ أَرْوَاثُهَا وَآثَارُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ» ، فجميع تصرفاتها تكتب له حسنات؛ سواء أراد أو لم يرد، فإن أكلت فحسنات، وإن شربت فحسنات، وإن بالت فحسنات، وإن راثت فحسنات، وإن ربطها وتحركت فحسنات، وإن انقطع الحبل وتحركت فحسنات، كلها حسنات له.

وأما الثاني التي هي له ستر؛ فهذا سقط تفصيله من الحديث هنا، والحديث الآخر ذكره تفصيلاً، وفيه: «وأما الذي له ستر فرجل ربطها تغنيًا وتعففًا، ولم ينس حق الله في رقابها وظهورها» [(87)]، ومعنى تغنيًا وتعففًا أي: استغناء عن الناس، وتعففًا عن السؤال، والمعنى: أنه يطلب بنتاجها، أو بما يحصل من أجرتها ممن يركبها الغناء عن الناس والتعفف عن مسألتهم، يكد عليها ويؤجرها ويحمل عليها؛ ليستفيد ويستغني عن الناس؛ فهذه له ستر، لا أجر ولا وزر.

وأما الثالث الذي عليه وزر؛ فهو رجل ربطها فخرًا ورياء ونواء لأهل الإسلام، فهذا عليه وزر.

قوله: «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحُمُرِ؟» ، جمع حمار؛ هل فيها أجر أو فيها وزر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الآْيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ:» ، الجامعة يعني: التي يدخل تحتها كل شيء من أنواع الخير وأنواع الشر، والفاذة أي: المتفردة في معناها، والمعنى: أن الحمير إذا استعملها العبد في الخير كتب له أجر، وإذا استعملها في الشر كتب عليه وزر؛ فإذا كان يحمل على الحمار ويستعمله في طاعة الله وفي نفع المسلمين؛ بأن يحمل الأمتعة، والصدقات للفقراء، ويعين المحتاجين به؛ كان له أجر، وإن كان يستعمل الحمار في معاصي الله؛ بأن يعين الفساق، ويُركبه لمعاداة أهل الإسلام ولإيذاء المؤمنين كان عليه وزر؛ فالآية شاملة: [الزّلزَلة: 7-8]{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *}» .

  مَنْ ضَرَبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الْغَزْوِ

}2861{ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَْنْصَارِيَّ فَقُلْتُ: لَهُ حَدِّثْنِي بِمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَافَرْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَالَ أَبُو عَقِيلٍ: لاَ أَدْرِي غَزْوَةً أَوْ عُمْرَةً فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلْنَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ إِلَى أَهْلِهِ فَلْيُعَجِّلْ» قَالَ جَابِرٌ: فَأَقْبَلْنَا وَأَنَا عَلَى جَمَلٍ لِي أَرْمَكَ لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ وَالنَّاسُ خَلْفِي فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قَامَ عَلَيَّ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا جَابِرُ اسْتَمْسِكْ» فَضَرَبَهُ بِسَوْطِهِ ضَرْبَةً فَوَثَبَ الْبَعِيرُ مَكَانَهُ فَقَالَ: «أَتَبِيعُ الْجَمَلَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ فِي طَوَائِفِ أَصْحَابِهِ فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِي نَاحِيَةِ الْبَلاَطِ فَقُلْتُ: لَهُ هَذَا جَمَلُكَ فَخَرَجَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْجَمَلِ وَيَقُولُ: «الْجَمَلُ جَمَلُنَا» فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَاقٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: «أَعْطُوهَا جَابِرًا ثُمَّ قَالَ: اسْتَوْفَيْتَ الثَّمَنَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: الثَّمَنُ وَالْجَمَلُ لَكَ».

 

}2861{ يستفاد من هذا الحديث فوائد عدة:

منها: معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وعلامة من علامات نبوته؛ حيث إن هذا البعير الذي ركبه جابر كان متأخرًا، وكان عييًّا ما يمشي، فلما ضربه النبي صلى الله عليه وسلم سار سيرًا قويًا؛ فقال: «يَا جَابِرُ اسْتَمْسِكْ» ؛ أي: تمسك، فلما ضربه صار يسرع ويعدو عدوًا شديدًا حتى تقدم الجيش، وكان فيما سبق قد أتعب جابرًا حتى إنه مل منه؛ فهذا فيه معجزة وعَلَم من أعلام النبوة؛ وهي ضربه البعير، وعدوه بعد إعيائه.

ومنها: مشروعية معاونة الرئيس والإمام والعالم لأصحابه.

ومنها: جواز المماكسة إذا كان بسعر الناس، فإذا قال: تبيع بستة، قال: لا بثمانية، بتسعة، فلا بأس إذا كان من سعر الناس.

ومنها: جواز معاملة الرئيس والإمام والعالم والداعية، فلا بأس أن يبيع ويشتري ويماكس، ولا يعتبر هذا عيبًا ولا نقصًا.

ومنها: جواز البيع والشرط؛ لأن جابرًا باعه البعير واشترط حمله إلى المدينة، وهذا أصح من حديث النهي عن بيع وشرط؛ فهذا الحديث أصح منه.

ومنها: جواز زيادة الثمن عند سداد القرض بدون شرط؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه بأواق، فأمر بلالاً فأعطاه القيمة وأرجح له في الميزان زيادة، فإذا اشتريت من شخص شيئًا أو اقترضت قرضًا من شخص ثم رددت عليه زيادة فلا بأس، إذا لم يكن بينكما شرط، أما أن تشرط عليه الزيادة فهذا ربًا، لكن إذا أعطيته الثمن وأعطيته زيادة فلا بأس؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وزن لجابر وأرجح.

ومنها: جواز إعطاء البائع الثمن والسلعة معًا، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم جابرًا الذهب والجمل.

ومنها: كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده، وأن الدنيا لا تساوي عنده شيئا؛ ولهذا أعطى يوم حنين رؤساء القبائل كل واحد من البعير مائة مائة، فلما تعلقت به الأعراب واضطروه إلى سمرة خطفت رداءه؛ قال: «أعطوني ردائي، فوالله لو كان لي عدد هذه العضاه نعمًا لقسمته بينكم» ، أي: لو كان لي عدد هذه الأشجار من الإبل لقسمته بينكم، «ثم لا تجدوني بخيلاً، ولا كذوبًا، ولا جبانًا» [(88)].

والشاهد من الحديث: ضرب الدابة في الغزو؛ فلا بأس بضربها في الغزو من باب الإعانة والرفق، فإذا كان أحد أفراد الجيش عنده دابة تتعبه فلا بأس بضربها؛ إعانة له حتى تتحرك وتمشي.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد