شعار الموقع

شرح كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري (56-13)

00:00
00:00
تحميل
57

 

  فَكَاكِ الأَْسِيرِ

فِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

}3046{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فُكُّوا الْعَانِيَ يَعْنِي الأَْسِيرَ، وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ».

}3047{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ أَنَّ عَامِرًا حَدَّثَهُمْ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: لِعَلِيٍّ رضي الله عنه هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ إِلاَّ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: لاَ وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَْسِيرِ، وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.

 

قوله: «بَاب فَكَاكِ الأَْسِيرِ» ، يقال: فَكاك وفِكاك ـ بفتح الفاء وكسرها ـ يعني: أن المأسور عند المشركين يشرع فكه وإطلاقه؛ إما بشيء من المال، أو يُفادَى بأسير مثله إذا كان المسلمون عندهم أسير من الكفار.

}3046{ في الحديث: عِظَمُ هذه الأمور الثلاثة: فك العاني ـ وهو الأسير ـ وإطعام الجائع، وعيادة المريض.

الأمر الأول: قوله: «فُكُّوا الْعَانِيَ يَعْنِي الأَْسِيرَ» العاني من العناء والتعب، فالأسارى الذين عند الكفار من المسلمين يفادون؛ إما بأسير أو بمال.

1- دفع المال للمكاتَب ليخلِّص نفسه من الرق.

2- شراء الرقاب وإعتاقها.

3- فك السجناء المدينين؛ بدفع ديونهم، وكل ذلك ـ على الصحيح ـ داخل في قوله تعالى: [البَلَد: 11-13]{فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ *فَكُّ رَقَبَةٍ *}، فالعقبة: الأمر العظيم، ويقتحمها المؤمن بفك الرقاب، وكذلك المكاتَب الذي اشترى نفسه يُدفع الدين عنه حتى يُخلَّص.

الأمر الثاني: في قوله: «وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ» فيه: فضل عظيم لإطعام الطعام.

الأمر الثالث: في قوله: «وَعُودُوا الْمَرِيضَ» ، وعيادة المريض فضلها عظيم؛ فقد جاء في الحديث أن: «من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع» [(280)] وكذا «من عاد مريضًا في الصباح صلى عليه كذا وكذا من الملائكة، ومن عاده في المساء صلى عليه كذا وكذا من الملائكة» [(281)].

وفيه: إدخال السرور على المريض، وتنشيط نفسه بما يكون سببًا في دفع المرض وإزالته ومقاومته؛ فالمريض إذا زاره إخوانه قويت نفسه، وصار عنده همة ونشاط، وبسبب ذلك يقوى على المرض، أو قد يحتاج المريض إلى حاجة يقضيها له الزائر، أو يوصيه على أولاده، أو يطلب منه أن يأتي لهم بحاجة، وفي هذا مصالح عظيمة.

 

}3047{ قوله: «قُلْتُ: لِعَلِيٍّ رضي الله عنه هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ إِلاَّ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ» ، يعني: يا أهل البيت، هل عندكم شيء خصكم به النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال علي رضي الله عنه: «لاَ وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَعْلَمُهُ» وهو قسم.

وفيه: الحلف لتأكيد الكلام، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ـ يعني: النفس والروح ـ هو الله عز وجل، ثم قال رضي الله عنه: ما عندنا شيء خصنا به النبي صلى الله عليه وسلم، «إِلاَّ فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ» فنشر علي رضي الله عنه الصحيفة فإذا فيها: «الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَْسِيرِ وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» ، والعقل يعني: أنه حينما يقتل شخص قتيلاً خطأ تكون الدية على العاقلة، والعاقلة هي: عصبته، وفكاك الأسير ـ وهذا هو الشاهد من الحديث ـ وألا يقتل مسلم بكافر.

وهذا الحديث فيه الرد على الشيعة القائلين بأن أهل البيت خُصوا بشيء دون غيرهم؛ فهذا علي رضي الله عنه أفضل أهل البيت؛ أفضل من حمزة رضي الله عنه وأفضل من العباس رضي الله عنه، يقول ذلك، وأما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فليسا من أهل البيت؛ لأنهما ليسا من بني هاشم، ومع ذلك فهما رضي الله عنهما أفضل من علي رضي الله عنه.

ويستدل من قول علي رضي الله عنه أن الشريعة عامة لجميع الناس؛ لأنه لما سأله أبو جحيفة رضي الله عنه قائلاً: هل عندكم شيء خصكم به النبي صلى الله عليه وسلم دون الناس؟ قال رضي الله عنه له: لا، وأقسم أنه ليس عندهم شيء خاص، إلا فهم يعطيه الله عز وجل رجلاً في القرآن، والناس يختلفون في فهم القرآن؛ فيقرأ بعض العلماء حديثًا أو آية فيستنبط منها حكمًا من الأحكام، ويقرؤها عالم آخر فيستنبط منها حكمين، ويقرؤها عالم ثالث فيستنبط منها ثلاثة أحكام، ويقرؤها عالم آخر فيستنبط عشرة أحكام، ويقرؤها عالم خامس فيستنبط خمسة عشر حكمًا وهكذا، وهي آية واحدة، أو حديث واحد.

وفيه: الرد أيضًا على الشيعة القائلين بأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لآل البيت أن يبايعوا علياً بالخلافة بعده؛ وهذا من أبطل الباطل.

والشيعة اسم عام يشمل جميع طبقات الشيعة، وهم أربع وعشرون فرقة، كلهم يسمون شيعة، منهم الكافر ومنهم المسلم، فأضلهم فرقة النصيرية، وهم الذين يزعمون أن الله عز وجل حل في علي رضي الله عنه! وهؤلاء من أكفر الناس، ثم المخطِّئة الذين خطَّؤوا جبريل عليه السلام وقالوا: إنه أخطأ في الرسالة! أُرسل إلى علي رضي الله عنه فنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم! ومنهم الرافضة، ومنهم الزيدية الذين يفضلون عليًّا رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه؛ ولا يكفرون بذلك، بل هذا علي رضي الله عنه طلب المفضِّلة الذين فضَّلوه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ ليجازيهم حد المفتري ثمانين جلدة، وطلب طائفة السابِّين الذين سَبُّوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؛ ليقتلهم؛ ولهذا قال العلماء: فروا من سيفه البتار، وهم يدَّعون أنهم يوالونه؛ ولذلك ففيهم الكافر، وفيهم المسلم على حسب اعتقادهم.

ومن هنا يظهر أن الدعوة إلى التقريب بين السنة والشيعة دعوة فاسدة؛ فلا يمكن التقريب بين الشيعة وأهل السنة، ومن الناس من يجهل حالهم ـ حتى بعض من ينتسب لمذهب أهل السنة ـ فيقول: أبدًا ما هناك فرق بيننا وبين الشيعة؛ إلا في مسائل طفيفة في العبادات، وفي أشياء يسيرة، ويدعو إلى التقريب بسبب جهله، والإنسان عدو ما يجهل.

ومثل الشيعة فرقة الخوارج ـ كذلك ـ فهم طوائف أيضا؛ حيث ذكر أهل الفرق أنهم أربع وعشرون فرقة.

وكلمة (شيعة) صارت علمًا على الطائفة الشيعية، رغم أن معناها أوسع من ذلك بكثير؛ فقد قال تعالى: [الصَّافات: 83]{وَإِنَّ مِنْ شِيْعَتِهِ لإَِبْرَاهِيمَ *}، يعني: فإبراهيم عليه السلام من شيعة نوح عليه السلام؛ لأنه على دينه وعلى ملته، وشيعة المرء من كان على ملته، وهناك من يرى أن الشيعة يحبون أهل البيت فيقال له: وأهل السنة ـ أيضًا ـ يحبون أهل البيت، لكن محبتهم لأهل البيت ليس فيها غلو؛ أي: بالعدل والإنصاف، أما الشيعة ـ بزعمهم ـ فيحبون أهل البيت حبًّا فيه غلو وشطط؛ حتى كادوا يعبدونهم من دون الله عز وجل.

  فِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ

}3048{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رِجَالاً مِنْ الأَْنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ فَلْنَتْرُكْ لاِبْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ، فَقَالَ: «لاَ تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهَمًا».

}3049{ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ: عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَجَاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلاً فَقَالَ: «خُذْ» فَأَعْطَاهُ فِي ثَوْبِهِ.

}3050{ حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ جَاءَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ.

 

هذه الترجمة معقودة لفداء المشركين؛ فالمسلمون إذا قاتلوا المشركين وأسروا منهم أسارى ربطوهم، وسبق قريبًا أن الإمام مخير فيهم بين أربعة أحكام:

الحكم الأول: أن يقتل الأسير إذا رأى المصلحة في قتله؛ بأن اشتد أذاه للمسلمين، كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث في بدر؛ لشدة عداوته للمسلمين.

الحكم الثاني: أن يمن عليه ويطلقه بدون سبب.

الحكم الثالث: أن يفاديه بمال؛ يعني: يشتري الأسير نفسه بالمال.

الحكم الرابع: أن يفاديه بأسير، أو بأسرى من أسارى المسلمين لدى المشركين؛ لكونه رقيقًا.

}3048{ قوله: «أَنَّ رِجَالاً مِنْ الأَْنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ فَلْنَتْرُكْ لاِبْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ» ، وذلك أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم أُسر مع المشركين يوم بدر، والأسارى الذين أُسروا يوم بدر بعضهم فاداهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكل واحد كان يدفع مالاً حتى يطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم كانوا فقراء ليس عندهم مال؛ فكان الواحد منهم يعلِّم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة، وعم النبي صلى الله عليه وسلم لما أسر وطلب منه أن يدفع مالاً لنفسه استأذن الأنصارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتركوا لابن أختهم عباس رضي الله عنه فداءه فلا يدفع شيئًا من المال؛ لأن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم تزوج من بني زهرة من المدينة؛ فالعباس رضي الله عنه أخواله الأنصار، وكان هذا مراعاة وتقديرًا ومحبة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو عم النبي صلى الله عليه وسلم، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لاَ تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهَمًا» ، يعني: لا تسامحوه ولا بدرهم، وعليه أن يدفع فداءه كاملاً، مثله مثل غيره.

 

}3049{ قوله: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَجَاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلاً فَقَالَ: «خُذْ» فَأَعْطَاهُ فِي ثَوْبِهِ» ، يعني: لما جاء مال من البحرين من الجزية والخراج قسمه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طلب العباس رضي الله عنه أن يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؛ لكونه غرم بفداء نفسه وفداء أخيه عقيل، أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، والشاهد أن المشرك يُفادَى.

 

}3050{ قوله: «وَكَانَ جَاءَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ» ، فيه: أن أسارى بدر منهم من فادى نفسه، ومنهم من لم يفادِها.

قوله: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ» ، وذلك لما جاء جبير بن مطعم رضي الله عنه ودخل المدينة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بسورة الطور، وهذا قبل أن يسلم، ولما دبت الحياة في نفسه فأيقظت قلبه جاء فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: [الطُّور: 35-36]{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ *أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ *}، قال: فكاد قلبي أن يطير[(282)]؛ وذلك عندما دبت فيه الحياة قبل أن يسلم، ثم أسلم رضي الله عنه؛ انظر حدث له هذا قبل أن يسلم! ونحن الآن نقرأ ونسمع، وقلوبنا غافلة! فتأمل، وقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ *}، يعني: هؤلاء الذين لم يؤمنوا هل هم خلقوا أنفسهم؟ لا يمكن أن يكونوا خلقوا أنفسهم؛ لأن الإنسان كان عدمًا قبل أن يخلق، ثم أوجده الله تعالى، ومن كان عدمًا لا يوجد شيئًا؛ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ}؟! ولا يمكن أن يكونوا خلقوا من غير شيء؛ فثبت أن الخالق وحده هو الله عز وجل.

وفيه: دليل على مشروعية القراءة في المغرب بالطوال في بعض الأحيان؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قرأ في بعض الأحيان بالطوال؛ فقرأ مرة بالطور، وقرأ مرة بالمرسلات[(283)]، وقرأ مرة بالأنفال[(284)]، وقرأ مرة بالأعراف[(285)]، ولكن كان هذا مرة واحدة، ولم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم المداومة على قراءة قصار السور في المغرب، وبعض أئمة المساجد لا يقرءون إلا بالقصار، وهذا خلاف السنة؛ فالسنة أن يقرأ تارة بالطوال وتارة بالقصار، وقيل: إن أول من داوم على قراءة القصار في المغرب هو مروان بن الحكم، وكان أميرًا على المدينة؛ فيقال: إن المداومة على قراءة القصار في المغرب سنة مروان بن الحكم، أما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان أحيانًا يقرأ بالطوال، وأحيانًا يقرأ بالقصار.

  الْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِغَيْرِ أَمَانٍ

}3051{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اطْلُبُوهُ، وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلَهُ فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ».

 

قوله: «بَاب الْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِغَيْرِ أَمَانٍ» ، يعني: هل يقتل أم لا؟ فيه خلاف؛ فمالك رحمه الله[(286)] يقول: يتخير فيه الإمام وحكمه حكم أهل الحرب، والشافعي رحمه الله[(287)] يقول: إن ادعى أنه رسول قُبل منه، وأبو حنيفة[(288)] وأحمد[(289)] رحمهما الله يقولان: لا يقبل منه، وهو فَيءٌ للمسلمين، لكن الحديث الآتي أخص من الترجمة؛ ففي الترجمة: «الْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِغَيْرِ أَمَانٍ» ، أما الحديث ففيه: الجاسوس وحكم الجاسوس؛ فالحربي الجاسوس يقتل بكل حال، أما الحربي إذا دخل دار المسلمين بغير أمان وليس له عهد والحرب مُعلنة؛ فالأصل أن دمه هدر، لكن البخاري رحمه الله لم يجزم بذلك، حيث لم يقل: باب قتل الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان؛ لأن المسألة فيها خلاف كما أسلفنا، والأقرب ـ والله أعلم ـ أنه إذا دخل بغير أمان فإن دمه هدر؛ لأنه ليس له عهد ولا ذمة ولا أمان، والحرب مُعلنة بينه وبين المسلمين؛ فليس له أن يدخل إلا بأمان؛ ولهذا لما أجارت أم هانئ رضي الله عنها أخت علي رضي الله عنه رجلاً من المشركين، وأخبرها علي رضي الله عنه أنه سيقتله، قالت: يا رسول الله، زعم ابن أمي أنه سيقتل رجلاً أجرته ـ يعني: أمنته ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» [(290)]؛ فإذا دخل بعهد أمان بأن أجاره أو أمَّنه أحد من المسلمين فلا يقتل، وإلا فحكمه محل خلاف بين العلماء.

}3051{ قوله: «أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ» ، والعين: الجاسوس، «وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ» ، وقد جاء وصف ذلك: أنه جاء وأناخ ناقته، وأخذ يتغدى مع المسلمين، وكان ينظر إليهم ويلتفت إلى اليمين وإلى الشمال، فرأى ضعفهم[(291)].

قوله: «ثُمَّ انْفَتَلَ» ، أي: أسرع وركب ناقته، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا عين للمشركين، وسيذهب ليخبر عن المسلمين أنهم ضعفاء؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اطْلُبُوهُ، وَاقْتُلُوهُ» ، وفي الرواية الأخرى أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: فخرجت أعدو، وتبعه رجل من أسلم على ناقة ورقاء يريد أن يقتله، فسبقه سلمة رضي الله عنه حتى أخذ بخطام ناقة الجاسوس، قال: فأنخته، فلما وضع ركبته بالأرض اخترطت سيفي فضربت رأسه فندر ـ أي: سقط ـ وأتيت بالجمل أقوده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتله؟» ، قالوا: سلمة، قال: «له سلبه أجمع» [(292)]، فَنفّله سلبه، والسلب: ما يوجد مع القتيل من سلاح وثياب وأثاث ودابة، وهذا يُعطى تشجيعًا للفوارس والشجعان، وكان سلمة بن الأكوع رضي الله عنه من الشجعان والفرسان؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطاه بعيره وسلاحه وثيابه تشجيعًا له؛ ولهذا قال: «فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ» ، والتنفيل يعني: الزيادة على الغنيمة، والإمام أو قائد الجيش له أن ينفل بعض أفراد الجيش ـ إذا كان لهم تأثير في الحرب ـ زيادة على السهم الذي يعطيه للغانمين؛ ولهذا قال سلمة رضي الله عنه: فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من قتل الرجل؟» ، قالوا: ابن الأكوع، قال: «له سلبه أجمع» ، وترجم عليه النسائي رحمه الله: قتل عيون المشركين[(293)].

وفي هذا الحديث: مشروعية قتل الجاسوس الكافر الداخل بغير أمان؛ فهذا الجاسوس تجسس وجعل ينظر في حال المسلمين، فرأى فيهم ضعفًا، فأراد أن يخبر عنهم المشركين؛ حتى يأتوهم على غرة؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله.

أما المسلم إذا تجسس على المسلمين فهذه ردة يقتل بها، إلا إذا كان له عذر كحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، لكن الغالب أن المسلم الذي يتجسس على المسلمين ويوصل أخبارهم إلى الكفار يكون مرتدًّا، إلا إذا كان له عذر مقبول أو له شبهة، وإلا فالأصل أن هذا ردة.

  يُقَاتَلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلاَ يُسْتَرَقُّونَ

}3052{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ: وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلاَ يُكَلَّفُوا إِلاَّ طَاقَتَهُمْ.

 

هذه الترجمة في أهل الذمة، وأهل الذمة هم اليهود والنصارى الذين لهم عهد وأمان، يدفعون الجزية تحت الدولة الإسلامية، ويكون حكمهم حكم المسلمين؛ فلا يجوز قتلهم ولا الاعتداء على أموالهم؛ لأن اليهود والنصارى يُخَيّرون بين الإسلام أو دفع الجزية أو القتل، فإذا اختار اليهود والنصارى أن يدفعوا الجزية صاروا من رعايا المسلمين، يُدافَع عنهم ولا يقتلون، وفي الحديث: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة» [(294)]، ولا تؤخذ أموالهم؛ لأنهم يدفعون الجزية.

}3052{ هذه وصية عمر رضي الله عنه، فقد أوصى لما طعن وحضرته الوفاة وصية طويلة، لكن المؤلف رحمه الله ذكر جزءًا منها؛ فقال: «وَأُوصِيهِ» ، يعني: الخليفة الذي يأتي بعده رضي الله عنه، يوصيه «بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم» ، يعني: أهل الذمة، «أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ» يعني: أن يوفى لهم العهد، «وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ» ، يعني: إذا جاء أحد من المشركين الوثنيين يقاتلهم نمنعهم؛ لأنهم يدفعون الجزية، «وَلاَ يُكَلَّفُوا إِلاَّ طَاقَتَهُمْ» ، يعني: لا يكلفون من الأعمال إلا ما يطيقون.

والجزية تختلف باختلاف الأشخاص؛ فالغني يدفع شيئًا، والفقير يدفع شيئًا آخر، وقد يكون غنيًّا أو فقيرًا ولا يستطيع أن يدفع الجزية؛ فيفرض عليه ما يناسبه؛ الفقير له ما يناسبه، والغني له ما يناسبه، إذن فدفع الجزية فرض؛ لأنهم من رعايا المسلمين.

والحاصل: أن أهل الذمة لهم الأمان والدفاع عنهم؛ يعني: إذا اعتدى عليهم أحد نقاتل من ورائهم، فهم يعتبرون رعية من رعايا المسلمين؛ لأنهم تحت ولاية المسلمين، ولكن لهم أحكام خاصة.

وقد يكون من القتال من ورائهم أنهم إذا أسروا نفاديهم إذا التزموا أولاً بدفع الجزية، والتزموا ـ أيضًا ـ بأمور؛ وهي: أنهم لا يعلنون دينهم، ولا يؤذون أحدًا من المسلمين.

وإذا اعتدى واحد من أهل الذمة على بعض المسلمين وقتل أحدهم؛ فهذا يكون قد نقض عهده؛ فيقتل، وكذا إذا اعتدى على امرأة من نساء المسلمين ـ بالقتل أو غيره ـ يكون هذا ـ أيضًا ـ نقضًا لعهده؛ فيقتل.

وإذا قتل المسلم الذمي لايقتل به؛ لأنه «لا يقتل مسلم بكافر» [(295)]، ولكن يدفع الدية، وعليه الوعيد الشديد.

وإذا غلبهم المسلمون في بلد، وصاروا من رعايا المسلمين، وكان لهم كنائس في وسط أحيائهم تترك، لكن قال العلماء: لا تستحدث كنيسة جديدة، وإذا انهدمت كنيسة لا تبنى ولا ترمم، وتبقى كنائسهم القديمة فيما بينهم لا يزاد عليها، وإذا انهدم شيء منها فلا يبنى، وكذا لا يجدد شيء منها ولا يرمم؛ أي: وتبقى على حالها حتى تنمحي.

ولابن القيم رحمه الله كتاب خاص بهذا؛ يسمى: «أحكام أهل الذمة» .

$ر مسألة: المعروف أن من نقض العهد يُقتل، لكن هل يسري هذا على جميع أهل الذمة

_خ الجواب: لا؛ فهذا لمن نقض العهد وحده، يعني: إذا نقض العهد واحد منهم؛ فهذا قد انتقض عهده، أما إذا نقضوا العهد كلهم؛ ففي هذه الحالة يكون للإمام نظر فيهم؛ فينظر في حالهم، ويحدد ما هو الأنفع: هل يسترقهم أو يقتلهم؟ والأصل أن من قتل، أو نقض العهد زالت عنه الأحكام التي بينه وبين المسلمين.

  جَوَائِزِ الْوَفْدِ

 

حديث هذا الباب هو المذكور تحت الترجمة التالية، وقد ذكر المؤلف رحمه الله عليه ترجمتين: هذه الترجمة: «بَاب جَوَائِزِ الْوَفْدِ» ، والترجمة التالية: «بَاب هَلْ يُسْتَشْفَعُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُعَامَلَتِهِمْ» ؛ كذا هو في جميع نسخ البخاري رحمه الله من طريق الفربري، إلا أن في رواية أبي علي بن شبويه عن الفربري تأخير ترجمة: «بَاب جَوَائِزِ الْوَفْدِ» ، وتقديم ترجمة: «بَاب هَلْ يُسْتَشْفَعُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُعَامَلَتِهِمْ» ، وكذا هو عند الإسماعيلي؛ وبه يرتفع الإشكال، فإن حديث الباب مطابق لترجمة: «بَاب جَوَائِزِ الْوَفْدِ» ، ووقع للنسفي رحمه الله حذف ترجمة: «باب جوائز الوفد» أصلاً، واقتُصر فيه على الترجمة الأخرى.

  هَلْ يُسْتَشْفَعُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُعَامَلَتِهِمْ

}3053{ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَْحْوَلِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الْحَصْبَاءَ، فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَقَالَ: «ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا» فَتَنَازَعُوا، وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ، وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ، أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ» وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ.

وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَأَلْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَقَالَ: مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ.

وَقَالَ يَعْقُوبُ: وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ.

 

}3053{ قوله: «يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ» هو اليوم الذي اشتد فيه على النبي صلى الله عليه وسلم المرض الذي توفي فيه.

قوله: «فَقَالَ: «ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»» ، يعني: يملي عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما يكتبونه، «فَتَنَازَعُوا» ، يعني: أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قالوا: نأتي بكتاب حتى يكتب لنا، وقال البعض الآخر رضي الله عنهم: لا، نبي الله صلى الله عليه وسلم اشتد به المرض، ولا نريد أن نؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم، وعندنا كتاب الله عز وجل يكفينا؛ كما قال عمر رضي الله عنه: كتاب الله عز وجل حسبنا[(296)].

أي: أنهم تنازعوا؛ فقال بعضهم: نأتي بكتاب، وقال بعضهم: لا نأتي بكتاب، «وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» يعني: هذى واختلط بسبب شدة المرض؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ» ؛ ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أحب أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فلم تغير ولم تبدل؛ فليقرأ قول الله تعالى: [الأنعَام: 151- 153]{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}، والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أوصى لكانت وصيته هي وصية الله عز وجل؛ وقد وصى الله عز وجل بهذه الوصايا العشر: [الأنعَام: 151]{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *}، و هذه أربع وصايا، [الأنعَام: 152]{وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *}، و هذه أربع وصايا أخرى، [الأنعَام: 153]{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}، وهذه هي الوصية العاشرة.

والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم لو أوصى لأوصى بما أوصى الله عز وجل به؛ ولهذا قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: عندنا كتاب الله عز وجل يكفينا ـ كما قال عمر رضي الله عنه ـ فلا تؤذوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مريض متعب، وقال بعض الصحابة رضي الله عنهم: سبحان الله! الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ائْتُونِي بِكِتَابٍ» ، فلا تأتونه بكتاب؟! ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في حديث آخر: إن الرزية كل الرزية ما منع رسول الله عز وجل من كتابة الوصية.

ولما تنازعوا ـ ولا يجوز التنازع عند نبي ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ» ، وأوصى صلى الله عليه وسلم عند موته بثلاث وصايا:

الوصية الأولى: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» ، وهذه الوصية أنفذها عمر رضي الله عنه؛ فأجلى يهود خيبر.

قوله: «وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَأَلْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَقَالَ: مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ» ، واليمامة أي: نجد.

وقال الأصمعي رحمه الله: جزيرة العرب ما بين أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولاً، ومن جدة وما والاها إلى أطراف الشام عرضًا.

وسميت جزيرة العرب؛ لإحاطة البحار بها، وأضيفت إلى العرب؛ لأنها كانت بأيديهم قبل الإسلام، وفيها أوطانهم.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لكن الذي يُمنع المشركون من سكناه، الحجاز خاصة وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب؛ لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها مع أنها من جملة جزيرة العرب» يعني: الذي يُمنع منه المشركون ليست كل الجزيرة؛ وهذا مذهب الجمهور، ولكن ظاهر الحديث منعهم من جزيرة العرب كلها فلا يُقَرُّون، ويدل على هذا الحديث الآخر: «لا يبقى في جزيرة العرب دينان» [(297)]، ولأن جزيرة العرب هي منبع الإسلام، وعلى أكتاف المسلمين قام الإسلام بها؛ فينبغي أن تكون سالمة؛ لا يبقى فيها دين إلا الإسلام، فلا يُقَر غير المسلمين عليها، ومعنى يُقَر أي: يجلس مدة طويلة؛ لكن لو جاء يومًا أو يومين أو ثلاثة ـ مثلما كانوا يأتون المدينة يبيعون سلعة ثم يغادرون ـ فلا بأس، أما أن يستأجر بيتًا ويسكن ستة أشهر أو سنة؛ فهذا لا يجوز، أو يستقدم عاملاً أو خادمًا أو خادمة من غير المسلمين؛ فهذا أيضًا لا يجوز.

أما بقاء اليهود في غير جزيرة العرب سواء كان في الشام أو في مصر أو في اليمن؛ فلا بأس أن يبقوا مع الحذر من شرهم؛ يعني: يبقون فيها، ويعاملون كغيرهم؛ لهم عهد وذمة، مع الحذر من شرهم.

الوصية الثانية: «وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ» ، فقوله: «وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ» ، هذا هو الشاهد للترجمة السابقة: «بَاب جَوَائِزِ الْوَفْدِ» .

أما الوصية الثالثة: وقال الراوي: «وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ» .

أما الترجمة الثانية؛ فالأقرب أن مكانها قبل جوائز الوفد وليس فيها حديث.

قوله: «وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ» ، هو بسكون الراء، وهو موضع بين مكة والمدينة.

  التَّجَمُّلِ لِلْوُفُودِ

}3054{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةَ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَلِلْوُفُودِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ» أَوْ «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ» فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ حَتَّى أَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ» أَوْ «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ، ثُمَّ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ فَقَالَ: «تَبِيعُهَا أَوْ تُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِكَ».

 

قوله: «بَاب التَّجَمُّلِ لِلْوُفُودِ» ، هذه الترجمة ذكر فيها حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والشاهد هو قول عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: «ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَلِلْوُفُودِ» ، وقد أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم شراء الحلة الحرير، ولكن لم ينكر عليه أن يتجمل للعيد والوفد؛ فدل على مشروعية التجمل للعيد والوفد وفي الاجتماعات، وأنه ينبغي أن يلبس الإنسان ثيابًا جميلة يوم العيد، وكذلك إذا كان سيستقبل وفودًا؛ فعليه أن يلبس الثياب الجميلة؛ لقول عمر رضي الله عنه السابق.

}3054{ في الحديث: أنه لا يجوز للرجل أن يلبس الحرير؛ ولهذا لما وجد عمر رضي الله عنه حلة إستبرق ـ والإستبرق هو: الحرير الغليظ، والديباج هو: الحرير الرقيق ـ تباع في السوق، أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ» ، يعني: إن الحرير يلبسه من لا خلاق له؛ وهو: من لا نصيب له في الآخرة.

وفيه: أن من يلبس الحرير من الرجال عليه الوعيد الشديد، ولكن يجوز للنساء لبس الحرير.

ثم لبث عمر رضي الله عنه ما شاء الله عز وجل، ثم جاء للنبي صلى الله عليه وسلم حلل حرير؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم بجبة ديباج إلى عمر رضي الله عنه، فأقبل بها عمر رضي الله عنه حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قلت لي فيما سبق: ««إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ» أَوْ «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ»» ثم أرسلت إلي بحلة حرير؟! كيف يستقيم هذا يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تَبِيعُهَا أَوْ تُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِكَ» ، يعني: ما بعثت بها إليك لتلبسها.

وفيه: دليل على أن العالم إذا أهدى لغيره ما لا يجوز له أن يلبسه أو يستعمله ـ كخواتم الذهب أو ثياب الحرير ـ فليس ذلك إذنًا منه له لاستعماله فيما حرم الله عز وجل عليه؛ بل ينتفع به بالبيع، أو يقضي به حاجته، أو غير ذلك؛ وعليه فيجوز أن تهدي خاتم ذهب أو ثوب حرير لرجل، فإذا قال لك: أنا لا ألبس الحرير ولا خاتم الذهب، تقول له: أنا ما أعطيتك هذا لتلبسه؛ ولكن لتبيعه وتأخذ قيمته، أو لتنتفع به بأن تعطيه زوجتك مثلاً؛ ولهذا فإن عمر رضي الله عنه أرسل بهذه الجبة إلى أخ له مشرك في مكة[(298)]، والمشركون لا يلتزمون بالأمر والنهي؛ لأن الشرك أعظم الذنب.

وفيه: دليل على أنه لا بأس بالإحسان إلى المشرك القريب غير الحربي، فيُحسن إليه ويبره وينفق عليه؛ حتى إن بعض أهل العلم قال: يُوقف عليه، ولعل هذا يكون دعوة له، والله تعالى يقول: [المُمتَحنَة: 8]{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}، أما الكافر الحربي فلا.

  كَيْفَ يُعْرَضُ الإِْسْلاَمُ عَلَى الصَّبِيِّ

}3055{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ صَيَّادٍ يَحْتَلِمُ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءٍ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُْمِّيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ»، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَاذَا تَرَى؟» قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ؛ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خُلِطَ عَلَيْكَ الأَْمْرُ» قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا»، قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اخْسَأْ فَلَنْتَعْدُوَ قَدْرَكَ»، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ».

}3056{ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَأْتِيَانِ النَّخْلَ الَّذِي فِيهِ ابْنُ صَيَّادٍ حَتَّى إِذَا دَخَلَ النَّخْلَ طَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ وَهُوَ يَخْتِلُ ابْنَ صَيَّادٍ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لاِبْنِ صَيَّادٍ: أَيْ صَافِ وَهُوَ اسْمُهُ، فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ».

}3057{ وَقَالَ سَالِمٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: «إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنْ سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ».

 

هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان باب كيف يُعرض الإسلام على الصبي، ذكر فيها قصة ابن صياد، وكان ابن صياد صبيًّا قارب الاحتلام، يعني: قارب البلوغ، والنبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه الإسلام؛ فدل على كيفية عرض الإسلام على الصبي، وهو أن يعرض عليه الإقرار بالشهادة، وهي الشهادة لله تعالى بالوحدانية؛ ولهذا قال: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» .

}3055{ فيه: قصة ابن صياد، وابن صياد صبي من اليهود، وهو كاهن من الكهان ودجال من الدجاجلة، وفي أول الأمر أشكل أمره حتى ظن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الدجال، ثم بعد ذلك بين الله عز وجل له وأوحى إليه أن الدجال يخرج في آخر الزمان، وبعض الصحابة رضي الله عنهم كذلك ظنوا أنه هو، حتى إن جابرًا رضي الله عنه كان يحلف أنه الدجال.

والصواب: أنه دجال من الدجاجلة، لكنه دجال صغير، أما الدجال الأكبر فيأتي في آخر الزمان، ويقتله عيسى بن مريم بعد نزوله؛ ولهذا خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس وقال: «إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنْ سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» .

ولما ظن صلى الله عليه وسلم في أول الأمر أنه الدجال ـ قبل أن يتبين له ـ استأذنه عمر رضي الله عنه أن يقتله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ» إذ لابد أن يظهر، ويجري الله عز وجل على يديه الخوارق التي قدرها في آخر الزمان.

قوله: «وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ» قيل: لأنه كان صبيًّا ما بلغ الحلم يلعب مع الغلمان، وقيل: لم يقتله؛ لأنه من اليهود، واليهود لهم عهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» فيه: عرض الإسلام على الصبي؛ لأن ابن صياد كان صبيًّا قارب الاحتلام.

وفيه: أنه لو أقر الصبي بذلك قُبل منه، وإلا لما كان للعرض فائدة، «فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُْمِّيِّينَ» يعني: أشهد أنك رسول العرب خاصة فقط، أما غير العرب فلست رسولاً إليهم، ثم قال ابن الصياد للنبي صلى الله عليه وسلم: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» ادعى النبوة؛ لأنه دجال من الدجاجلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» ، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «مَاذَا تَرَى؟» يعني: ما الذي يأتيك كل يوم؟ «قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ» يعني: الشياطين يأتون له؛ فهو كاهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خُلِطَ عَلَيْكَ الأَْمْرُ» .

ثم أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يختبره؛ ليتبين له حاله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يظن أنه الدجال الأكبر؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا» يعني: أضمرت لك في نفسي شيئًا، ما هو هذا الشيء الذي أضمرته في نفسي؟ فقال ابن صياد: «هُوَ الدُّخُّ» والدخ: اختصار للدخان؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اخْسَأْ فَلَنْتَعْدُوَ قَدْرَكَ» ؛ لأنه هكذا يقول الكهان، فقال عمر رضي الله عنه: «يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنْ يَكُنْهُ» يعني: الدجال «فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ» ؛ لأنه لابد أن يخرج وتجري على يديه الخوارق، «وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ» يعني: وإن كان غير الدجال «فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ» ، وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه، وقبل أن يعلم أنه ليس الدجال.

 

}3056{ قوله: «انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَأْتِيَانِ النَّخْلَ الَّذِي فِيهِ ابْنُ صَيَّادٍ حَتَّى إِذَا دَخَلَ النَّخْلَ طَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ وَهُوَ يَخْتِلُ ابْنَ صَيَّادٍ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ» وهذا من الحيلة؛ يتقي بالنخل حتى يسمع ويعلم حاله.

قوله: «وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ» ، وفي رواية: «فيها رمرمة أو زمزمة» [(299)].

قوله: «أَيْ صَافِ» أي: حرف نداء؛ يعني: يا صاف، وصاف اسمه؛ فهو: صاف بن صياد.

قوله: «لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ» يعني: لو تركته أمه بَيّن حاله، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم زمن خروج الدجال؛ ولذلك خشي أن يكون هو ابن صياد، فكان يتقي بجذوع النخل يختل ابن صياد؛ ليسمع منه ويعرف أهو الدجال أم لا.

وكان ابن صياد يأتي بعجائب؛ كان ينتفخ حتى تمتلئ به السكة، ومرة ضربه ابن عمر رضي الله عنهما بعصًا فنخر وخرجت عينه، وهذا من شعوذته؛ فهو كاهن ودجال من الدجاجلة مع كونه صبيًّا.

وفيه: دليل على أن الدجال غير معلوم المكان والزمان، وأن كل نبي أنذره قومه، من نوح عليه السلام حتى نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر لا يعلم متى خروجه؛ ولذلك خشي أن يكون هو ابن صياد، فكان يختل حتى يسمع منه ليتبين أمره، ثم أعلمه الله عز وجل أن خروج الدجال في آخر الزمان، وأن عيسى عليه السلام هو الذي سيقتله[(300)]، فأعلم صلى الله عليه وسلم أمته بهذا كما دلت على ذلك الأحاديث.

وفي الحديث: حكم الترجمة، وهو كيفية عرض الإسلام على الصبي، وهو أن يعرض عليه الإقرار بالشهادة لله عز وجل بالوحدانية، وللنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة.

وفيه: دليل على أن الصبي لو أقر بذلك لقبل منه، وإلا لما كان في العرض فائدة.

 

}3057{ قوله: «سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» احتج العلماء بهذا على إثبات العينين لله عز وجل، وأن لله عز وجل عينين سليمتين، وأن الدجال أعور العين اليمنى؛ كأن عينه عنبة طافية، والدجال رجل من بني آدم يخرج في آخر الزمان يَدّعي الصلاح أولاً، ثم يتطور به الحال فَيَدّعي النبوة، ثم يتطور به الحال فيدعي الربوبية؛ يعني: أنه يمر بثلاث مراحل: أول ما يخرج يقول إنه رجل صالح، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية؛ فيقول ـ لعنه الله ـ للناس: أنا ربكم، وتكون معه الخوارق، معه صورة الجنة والنار، وهي معكوسة؛ فناره جنة وجنته نار، وجاء في صحيح مسلم أحاديث صحيحة فيه[(301)]، وأنه يمكث في الأرض أربعين يومًا، وأن اليوم الأول طوله سنة، واليوم الثاني طوله شهر، واليوم الثالث طوله جمعة؛ يعني: اليوم الأول تطلع الشمس فيه ولا تغرب إلا بعد سنة، واليوم الثاني تطلع الشمس فيه ولا تغرب إلا بعد شهر، واليوم الثالث تطلع الشمس فيه ولا تغرب إلا بعد أسبوع، ثم يأتي سبعة وثلاثون يومًا كأيامنا هذه، ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الأيام الأولى قال: «اقدروا له قدره» [(302)]، يعني: صلوا كل أربع وعشرين ساعة خمس صلوات، والشمس طالعة، حتى تنتهي المدة.

وثبت أنه يسلط على رجل، وأنه يقتله، وأنه يمشي بين قطعتيه، ثم يقول له: قم، فيستوي قائمًا، ولا يسلط على أحد غيره[(303)]، مع وصف الجنة والنار، وأن أتباعه اليهود؛ يتبعه سبعمائة من اليهود وعليهم الطيالسة، وهو رئيس اليهود الذي ينتظرونه، وأما المسلمون فإمامهم في زمان الدجال هو المهدي، ثم ينزل عيسى بن مريم ويكون فردًا من أفراد الأمة المحمدية، ويحكم بشريعة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقال: إن أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم عيسى عليه السلام؛ لأنه نبي ومن هذه الأمة، ثم يليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

  قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا

قَالَهُ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

 

هذه الترجمة طرف من حديث سيأتي في كتاب الجزية[(304)]، ومعناه: تسلموا من عذاب الآخرة، وتسلموا من القتال في الدنيا، وتسلموا من الجزية، وتسلموا من الخزي والعار، فإن أبوا يخيرون بين الجزية وبين القتال؛ فإن دفعوا الجزية تركوا، وإن أبوا قوتلوا.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد