شعار الموقع

شرح كتاب أحاديث الأنبياء من صحيح البخاري (60-2)

00:00
00:00
تحميل
53

  الأَْرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ

}3336{ قَالَ: قَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الأَْرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بِهَذَا.

 

}3336{ ترجم المؤلف بلفظ الحديث فقال: «بَاب الأَْرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» و المعنى: أنها أقسام مقسمة منها الخبيث ومنها الطيب، فأرواح أهل الخير تألف أرواح أهل الخير، وأرواح أهل الشر تألف أرواح أهل الشر، فالأرواح أجناس مجنسة، وجموع مجمّعة كل نظير يألف نظيره وهذا واقع ملموس.

قال الخطابي رحمه الله: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر، والصلاح والفساد، وأن الخيِّر من الناس يحن إلى شكله، والشرير يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر، فإذا اتفقت تعارفت وإذا اختلفت تناكرت، ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام، وكانت تلتقي فتتشاءم فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم.

وهذا ضعيف والصواب الأول.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين، ومعنى تقابلها أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت على حسب ما خلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف. قلت: ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا؛ لأنه محمول على مبدأ التلاقي» .

قال ابن الجوزي رحمه الله: ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه.

وقال القرطبي رحمه الله: الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحًا لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها، فتتشاكل أشخاص النوع الواحد وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة، ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها.

والمقصود أن حديث: «الأَْرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» عام، وهذا واقع مشاهد.

  قَوْلِ اللَّهِ عز وجل:

[هُود: 25]{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بَادِئَ الرَّأْيِ} مَا ظَهَرَ لَنَا [هُود: 44]{أَقْلِعِي} أَمْسِكِي [هُود: 40]{وَفَارَ التَّنُّورُ} نَبَعَ الْمَاءُ.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَجْهُ الأَْرْضِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْجُودِيُّ جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ دَأْبٌ مِثْلُ حَالٌ.

 

بدأ المؤلف رحمه الله بنبي الله نوح عليه السلام؛ لأنه أول الرسل وإن كان قبله آدم عليه السلام وشيث عليه السلام لكن نوحا هو أول رسول بعثه الله إلى الأرض بعد وقوع الشرك، وأما خلق آدم وما حصل مع ذريته فذكره قبل ذلك.

ثم ذكر هنا الآيات المتعلقة بنوح عليه السلام، قال تعالى: [هُود: 25]{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} وأن قومه قالوا: [هُود: 27]{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}، ففسر بادي الرأي: بأنه: «مَا ظَهَرَ لَنَا» .

وقوله تعالى: « [هُود: 44]{وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي}» ، أي: لما أغرق الله أهل الأرض قال للسماء: أقلعي يعني: «أَمْسِكِي» .

قوله: « نَبَعَ الْمَاءُ» ، يعني: أن الله تعالى أهلكهم بالماء، والتنور: الذي يُخبز به ويجعل فيه النار، وهو أبعد شيء عن الماء، والمعنى أنه حتى التنور الذي فيه النار أخرج ماءً، وانشقت السماء عيونًا، والتقى ماء السماء وماء الأرض حتى علا الماء رءوس الجبال، فأهلك الله أهل الأرض إلا من ركب السفينة.

وقال عكرمة: {التَّنُّورُ}: «وَجْهُ الأَْرْضِ .

{وَاسْتَوَتْ} يعني: سفينة نوح.

قوله: «الْجُودِيُّ جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ» .

[غَافر: 31]{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ} يعني: مثل حالهم.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن نوح عليه السلام: «أما كونه أول الرسل استشكل بأن آدم كان نبيًّا، وبالضرورة نعلم أنه كان على شريعة... وأن أولاده أخذوا ذلك عنه... ويحتمل أن يكون المراد أنه رسول أرسل إلى بنيه وغيرهم من الأمم الذين أرسل إليهم مع تفرقهم... وآدم... أرسل إلى بنيه فقط وكانوا مجتمعين في بلدة واحدة، واستشكله بعضهم بإدريس، ولا يرد؛ لأنه اختلف في كونه جد نوح» اهـ.

والصواب في الجواب عن الإشكال شيئان:

أحدهما: أن نوحًا أول رسول بعد حدوث الشرك، وآدم لم يكن في زمنه شرك، بل المعاصي حصلت بعده كقتل قابيل لأخيه هابيل.

الثاني: أن نوحًا أول رسول إلى أهل الأرض بقطع النظر عن بنيه، وآدم رسول إلى بنيه خاصة، وعلى هذا يزول الإشكال.

  قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ

[يُونس: 72]{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ *}.

}3337{ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَالِمٌ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: «إِنِّي لَأُنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ».

}3338{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا عَنْ الدَّجَّالِ مَا حَدَّثَ بِهِ نَبِيٌّ قَوْمَهُ إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّهُ يَجِيءُ مَعَهُ بِمِثَالِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَالَّتِي يَقُولُ إِنَّهَا الْجَنَّةُ هِيَ النَّارُ وَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ».

}3339{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ فَيَقُولُ لأُِمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لاَ مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتُهُ فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ [البَقَرَة: 143]{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ».

}3340{ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دَعْوَةٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً وَقَالَ: «أَنَا سَيِّدُ الْقَوْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ تَدْرُونَ بِمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الأَْوَّلِينَ وَالآْخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُبْصِرُهُمْ النَّاظِرُ وَيُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وَتَدْنُو مِنْهُمْ الشَّمْسُ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ إِلَى مَا بَلَغَكُمْ أَلاَ تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أَبُوكُمْ آدَمُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ أَلاَ تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا فَيَقُولُ: رَبِّي غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَنَهَانِي عَنْ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَْرْضِ وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا أَمَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا بَلَغَنَا أَلاَ تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ: رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ نَفْسِي نَفْسِي ائْتُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَأْتُونِي فَأَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ».

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ: لاَ أَحْفَظُ سَائِرَهُ.

}3341{ حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَْسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ [القَمَر: 15]{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *} مِثْلَ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ.

 

}3337{ قوله: «لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ» . هذا هو الشاهد من الحديث فالمؤلف يذكر ما فيه ذكر نوح عليه السلام.

وفي الحديث أن نوحا عليه الصلاة والسلام أنذر قومه الدجال، وذلك ـ والله أعلم ـ أنهم ظنوا أنه سيخرج في زمانهم وأمتهم، ثم أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه يخرج في أمته؛ ولذلك قال فيه قولا لم يقله نبي لقومه، وبين فيه ما لم يبينه نبي قبله؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ» .

والدجال صيغة مبالغة من الدجل، والدجل: كثرة الكذب.

وفيه: أن الدجال أعور العين اليمنى، وهو أول ما يخرج يدعي الصلاح ـ كما جاء في الحديث الآخر ـ: «الدجال ليس به خفاء، يجيء من قبل المشرق فيدعو إلى الدين فيتبع، وينصب للناس فيقاتلهم، ويظهر عليهم فلا يزال على ذلك حتى يقدم الكوفة، فيظهر دين الله ويعمل به فيتبع ويحب على ذلك، ثم يقول بعد ذلك: إني نبي فيفزع من ذلك كل ذي لب ويفارقه، فيمكث بعد ذلك حتى يقول: أنا الله فتغشى عينه وتقطع أذنه ويكتب بين عينيه كافر فلا تخفى على كل مسلم، فيفارقه كل أحد من الخلق في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ويكون أصحابه وجنوده: المجوس، واليهود، والنصارى، وهذه الأعاجم من المشركين، ثم يدعو برجل فيما يرون فيأمر بقتله فيقتل، ثم تقطع أعضاؤه كل عضو على حدة، ويفرق بينها حتى يراه الناس، ثم يجمع بينها، ويضرب بعصاه فإذا هو قائم، ثم يقول: أنا الله الذي أحيي وأميت، وذلك كله سحر يسحر به أعين الناس ليس يعمل من ذلك شيئًا» [(725)] فبين هذا الحديث أن أول دعوته إلى الصلاح، ثم ينتقل في المرحلة الثانية فيدعي النبوة، ثم ينتقل في المرحلة الثالثة ويدعي الربوبية، ويقول للناس: أنا ربكم، والله تعالى ابتلى العباد به، ومن الابتلاء أن معه صورة الجنة وصورة النار، ولكنه معكوس فالذي يراه الناس الجنة هي النار، والذي يراه الناس النار هي الجنة، ومن الابتلاء والامتحان أنه يأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت ـ وكل هذا ثابت في الأحاديث الصحيحة ـ وأنه يقطع الرجل نصفين ثم يقول له: «قم فيستوي قائمًا، ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، ثم يقول: يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس، فيأخذه الدجال ليذبحه؛ فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسًا فلا يستطيع إليه سبيلاً، فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار وإنما ألقي في الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين» [(726)] وجاء في صحيح مسلم: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال» [(727)] أي: أمره عظيم؛ ولهذا جاء في الحديث: «من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات» [(728)].

فهذه فتنة عظيمة نسأل الله السلامة والعافية، ولهذا شرع للمسلم أن يستعيذ بالله من فتنة المسيح الدجال في آخر كل صلاة.

 

}3338{ هذا الحديث فيه: صفة الدجال وأنه أعور.

ومن الابتلاء أنه معه صورة الجنة وصورة النار، ولكنها صورة معكوسة فالذي يراه الناس الجنة هي النار، والذي يراه الناس النار هي الجنة.

والشاهد من الحديث قوله: «كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ» .

 

}3339{ قوله: « [البَقَرَة: 143]{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ» ، يعني: جعلناكم عدولاً وخيارًا، وهذا فيه فضل هذه الأمة وأنها تشهد على الأمم السابقة.

وفي الحديث: أن الله تعالى يسأل نوحًا عليه عليه السلام: «هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ فَيَقُولُ لأُِمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟» فينكرون؛ لأن أكثرهم كفرة والمؤمنون قلة، فتشهد أمة محمد صلى الله عليه وسلم لنوح عليه السلام أنه بلغ، وأدى الرسالة ونصح أمته، ومكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله تعالى، كما قال الله تعالى عنه: [نُوح: 5-9]{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا *فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا *وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا *ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا *ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا *} فما قصر عليه السلام، ولكن ما سبق لأهل الشقاوة لا حيلة فيه؛ إذ استمروا على كفرهم وعنادهم حتى صار الأجداد يوصون الأحفاد بالكفر بنوح عليه السلام، نعوذ بالله من الشرك.

 

}3340{ قوله: «هَلْ تَدْرُونَ بِمَ؟» هذا استفهام، وفي رواية: «هل تدرون بمن؟» فتكون مَن هاهنا نائبة عن ما.

قوله: «وَيُسْمِعُهُمْ» بضم الياء والعين.

والحديث اختصره محمد بن عبيد، ثم اعتذر بأنه لا يحفظ سائر الحديث.

وفي الحديث من الفوائد:

1- أن نوحًا عليه السلام يرشد الناس إلى إبراهيم عليه السلام، ثم إبراهيم عليه السلام يرشدهم إلى موسى عليه السلام، ثم موسى عليه السلام يرشدهم إلى عيسى عليه السلام، ثم عيسى عليه السلام يرشدهم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

2- أن نبينا صلى الله عليه وسلم سيد الناس أجمعين؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أَنَا سَيِّدُ الْقَوْمِ» ، وأل للجنس، أي: لعموم الناس، فهو سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، وهو أفضلهم ومقدمهم وشيخ الأنبياء وإمامهم صلى الله عليه وسلم.

3- أن الناس يجمعون بعضهم إلى بعض ويأتون آدم ويذكرون فضائله فيقولون: «يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ» وكل هذه فضائل لآدم عليه السلام لكنه يعتذر، ثم يرشدهم إلى نوح عليه السلام فيعتذر، وكل نبي يقول: «نَفْسِي نَفْسِي» يعني: لا أسأل إلا نجاة نفسي من شدة الهول والكرب.

4- إثبات غضب الله عز وجل خلافًا لمن أنكره من الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم، فالجهمية والمعتزلة ينكرون الصفات، والأشاعرة يثبتون سبع صفات، وينكرون الغضب والرضا ويقولون: هذه يلزم منها حلول الحوادث في ذات الرب، وهذا من جهلهم؛ فإن صفات الخالق لا تشابه صفات المخلوق.

5- أن الغضب يتفاوت والصفات تتفاوت ولهذا قال: «رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ» .

6- فضل نبينا صلى الله عليه وسلم وأنه الشافع، وأنه له الشفاعة العظمى، وهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون.

7- أن نبينا صلى الله عليه وسلم مع فضله لا يبدأ بالشفاعة حتى يأتيه الإذن من الله عز وجل، قال تعالى: [البَقَرَة: 255]{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}؛ لعظمته سبحانه، حتى محمد صلى الله عليه وسلم أوجه الخلق وأفضلهم لا يشفع إلا بإذن، فيأتي ويسجد تحت العرش، ويفتح الله عليه بمحامد لا يحسنها في دار الدنيا، ثم يأتي الإذن من الرب فيقول الله: «يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ» فيشفع صلى الله عليه وسلم.

فالشفاعة لابد فيها من شرطين: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له.

 

}3341{ قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ [القَمَر: 15]{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *} مِثْلَ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ» ، يعني: مثل قراءة عامة القراء. ُ ! ء «ـ! ! ِ بالإدغام، وفي قراءة شاذة بفك الإدغام وإبدال الدال الثانية تاء: (مدتكر)، وفي قراءة أخرى شاذة بالذال المعجمة: (مذتكر).

والشاهد فيه: قوله: « ُ / " ! ء «ـ! ! ِ » ؛ لأن هذه الآية جاءت في قصة نوح عليه السلام.

 

[الصَّافات: 123-129]{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ *أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ *اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ *فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ *إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ *وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ *}

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُذْكَرُ بِخَيْرٍ [الصَّافات: 130-132]{سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ *إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ *}

يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ.

 

هذا إلياس عليه السلام ما وجد فيه المؤلف شيئًا على شرطه في الأحاديث فاكتفى بذكر الآيات، وهي قوله تعالى: ُ ئ إ ب ا ء للهفـ! ! ِ إلى آخر الآيات.

وفي تفسير قوله تعالى: [الشُّعَرَاء: 84]{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ *}.

وقوله: «يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ» ؛ هذا فيه نظر، والصواب: أن إلياس غير إدريس _ث.

  ذِكْرِ إِدْرِيسَ عليه السلام

وَهُوَ جَدُّ أَبِي نُوحٍ وَيُقَالُ جَدُّ نُوحٍ _ث.

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [مَريَم: 57]{وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا *}.

}3342{ قَالَ عَبْدَانُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح.

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ، قَالَ: مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: مَعِي مُحَمَّدٌ، قَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَافْتَحْ فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا إِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ وَهَذِهِ الأَْسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالأَْسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، ثُمَّ عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا: مِثْلَ مَا قَالَ الأَْوَّلُ فَفَتَحَ»، قَالَ أَنَسٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَوَاتِ إِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يُثْبِتْ لِي كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَقَالَ أَنَسٌ: «فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِإِدْرِيسَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَْخِ الصَّالِحِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَْخِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَْخِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عِيسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ».

قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَيَّةَ الأَْنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولاَنِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ صَرِيفَ الأَْقْلاَمِ».

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنهما: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاَةً فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى أَمُرَّ بِمُوسَى فَقَالَ مُوسَى: مَا الَّذِي فَرَضَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلاَةً قَالَ: فَرَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ فَرَجَعْتُ فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَوَضَعَ شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ فَرَجَعْتُ فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: قَدْ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى بِي السِّدْرَةَ الْمُنْتَهَى فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ؟ ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ».

 

هذه الترجمة «بَاب ذِكْرِ إِدْرِيسَ عليه السلام» قال المؤلف رحمه الله في بعض النسخ: «وإدريس جد أبي نوح، ويقال: جد نوح» ، وهذا فيه نظر، والصواب: أن إدريس ليس جدًّا لنوح عليه السلام ولا لأبيه؛ لأنه لم يذكر في السلسلة الأبوية، بل قال إدريس لما مر به النبي صلى الله عليه وسلم في السماء الرابعة: «مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ» ولو كان أبًا له لقال: «مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ» مثلما قال إبراهيم وآدم _ث، والصواب أن إدريس نبي من أنبياء بني إسرائيل.

}3342{ قوله: «وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ» الصواب: أن إبراهيم عليه السلام في السماء السابعة، كما في الروايات الأخرى[(729)]، فلعل هذه الرواية وهم من بعض الرواة.

والحديث فيه: بيان فضل نبينا صلى الله عليه وسلم.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم التقى بالأنبياء ليلة المعراج، وهذه أرواحهم أخذت شكل الأجساد، وإلا فهم دفنوا وماتوا إلا عيسى فإنه رفع ولا يزال حيًّا، وسينزل في آخر الزمان.

قوله: «وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ» ، هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري.

قوله: «وَأَبَا حَيَّةَ» هذا هو الصواب حبة بالباء، قال العيني: «ضبطه القابسي حية بالياء المثناة وغلطوه في ذلك» اهـ.

في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كلمه الله عز وجل بدون واسطة لكن من وراء حجاب، وفرض عليه خمسين صلاة.

قوله: «فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَوَضَعَ شَطْرَهَا» ؛ وفي بعض الروايات: «فوضع عني عشرًا» [(730)] والصواب: أنه وضع خمسًا، فصارت خمسًا وأربعين، فهذا هو الثابت في الروايات الصحيحة المعروفة كما في الحديث: «فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحط عني خمسًا خمسًا حتى قال: يا محمد هي خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة» [(731)].

وفيه: أن الله تعالى خفف على هذه الأمة فجعل الصلوات خمسًا في العدد.

وفيه: فضل الله تعالى وكرمه أنها خمسون في الأجر ولهذا قال: «لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» .

وفيه: دليل على أن الجنة مخلوقة، والرد على من أنكر خلقها من المعتزلة الذين يقولون: تخلق يوم القيامة.

قوله: «فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ» يعني: قباب اللؤلؤ.

  قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}

وَقَوْلِهِ: [الأحقاف: 21- 25]{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ *} فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

 

هذا الباب في أحاديث الأنبياء فيما يتعلق بهود عليه الصلاة والسلام وما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم وما جاء في السنة المطهرة عنه.

قال المؤلف: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}» ، يعني: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا، فهذه الآية معطوفة على قوله تعالى: [الأعرَاف: 59]{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، وكذلك قوله تعالى: [الأعرَاف: 73]{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}، يعني: أرسلناه إلى ثمود، وقوله تعالى: [الأعرَاف: 85]{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} يعني: أرسلناه إلى مدين.

وسماه أخًا لهم؛ لكونه من قبيلتهم لا من جهة الأخوة في الدين، وإلا فلا أخوة في الدين بينه وبين الكفرة، لكن الأخوة بينه وبين من آمن به.

وفي الآية أن هودًا عليه السلام دعا قومه إلى عبادة الله وإلى التوحيد وإخلاص الدين لله، وأن هذه هي دعوة الأنبياء كلهم من أولهم إلى آخرهم، فكلهم يدعون أممهم بادئ ذي بدء إلى التوحيد وإلى الإخلاص في العبادة لله عز وجل وحده، كما قال تعالى: [الأنبيَاء: 25]{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *}. فهذه الآية عامة لكل رسول يبعثه الله، وقال سبحانه في الآية الأخرى: [النّحل: 36]{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، أي: لإثبات العبادة لله ونفيها عما دونه، فهذا هو الإيمان بالله، والتوحيد هو أول واجب يطالب به العبد خلافًا لأهل البدع من الأشاعرة الذين يقولون: أول واجب أن تشك فيما حولك، ثم تنتقل من الشك إلى اليقين.

وبعضهم يقول: أول واجب النظر.

والبعض الآخر يقول: أول واجب القصد إلى النظر، وهذه كلها أقوال باطلة، ويدل على بطلانها أن الله تعالى بعث الرسل إلى أممهم ودعاهم إلى التوحيد ولم يدعهم إلى النظر ولا إلى الشك ولا إلى القصد إلى النظر، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن قال: «إنك تأتي قومًا أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» [(732)].

فهذا أول واجب وآخر واجب، فهو أول ما يدخل به الإنسان في التوحيد، وآخر ما يخرج به من الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» [(733)] ولهذا كل رسول بعثه الله دعا قومه إلى التوحيد وهو إثبات ونفي: إثبات الإيمان بالله ونفيه عما سواه، أما الإثبات وحده فلا يكفي، فلو قال الإنسان: أنا أعبد الله فهذا لا يكفي في التوحيد؛ لأنه قد يعبد الله ويعبد معه غيره، فلابد أن يعبد الله وينفي العبادة عن غيره حتى يكون موحدا؛ ولهذا دعا هود عليه السلام قومه كما دعا نوح عليه السلام، وكما دعا صالح عليه السلام، وكما دعا شعيب عليه السلام، وكما دعا لوط عليه السلام، وكما دعا إبراهيم عليه السلام، وكما دعا موسى وهارون _ث، وكما دعا نبينا صلى الله عليه وسلم: [الأعرَاف: 59]{يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

وقوله: « [الأحقاف: 21]{إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ}» ، يعني: حذرهم عاقبة البقاء على الشرك والاستمرار عليه؛ والأحقاف: مكان جهة اليمن.

قوله: «إِلَى قَوْلِهِ: [الأحقاف: 25]{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ *}» يعني: قوله تعالى: [الأحقاف: 21-25]{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ *فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ *تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ *}.

فبين الله تعالى أنهم لما عتوا واستكبروا ولم يمتثلوا أمر نبيهم أهلكهم الله بالريح.

وقوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أي: كما جزينا الكفار من قوم هود نجزي القوم المجرمين بالعقوبة جزاء كفرهم.

قوله: «فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» أي: فيه حديث.

  قَوْلِ اللَّهِ عز وجل:

{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} شَدِيدَةٍ

[الحَاقَّة: 6]{عَاتِيَةٍ *} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَتَتْ عَلَى الْخُزَّانِ.

{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} مُتَتَابِعَةً.

[الحَاقَّة: 7]{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ *} أُصُولُهَا.

[الحَاقَّة: 8]{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ *} بَقِيَّةٍ.

}3343{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ».

}3344{ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذُهَيْبَةٍ فَقَسَمَهَا بَيْنَ الأَْرْبَعَةِ الأَْقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ، ثُمَّ الْمُجَاشِعِيِّ وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ وَزَيْدٍ الطَّائِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلاَثَةَ الْعَامِرِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلاَبٍ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالأَْنْصَارُ، قَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا، قَالَ: «إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ» فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ: «مَنْ يُطِعْ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُ أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الأَْرْضِ فَلاَ تَأْمَنُونِي» فَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ أَحْسِبُهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَمَنَعَهُ فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ: «إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِْسْلاَمِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَْوْثَانِ لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ».

}3345{ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَْسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ [القَمَر: 15]{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *}.

 

وقوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} شَدِيدَةٍ» . أي: فسر قوله تعالى: {صَرْصَرٍ} بأنها شديدة.

قوله: « قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَتَتْ عَلَى الْخُزَّانِ» ، يعني: هذه الريح التي أهلكهم الله بها ـ عقوبة لهم على كفرهم ـ ريح صرصر باردة شديدة حتى إنها عتت على خزنتها؛ ذلك أن الله تعالى لم ينزل شيئًا من الريح إلا بقدر على يدي ملك إلا يوم عاد فإنه أذن لها دون الخُزان فعتت على الخُزان.

قوله: « {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا}: مُتَتَابِعَةً» ، يعني: أن الله تعالى قدر عليهم هذه الريح.

قوله: «{فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} أُصُولُهَا» يعني: فسر الأعجاز بأنها أصول النخل، والمعنى: أهلكهم الله بهذه الريح الصرصر العاتية ـ وكانوا أقوياء ويفتخرون بقوتهم وقالوا: من أشد منا قوة؟ ـ فكانت هذه الريح ترفعهم إلى السماء، ثم تنكسهم على رءوسهم فتكون الرِجلان جهة السماء، والرأس جهة الأرض، فإذا سقطوا على الأرض انفصل الرأس عن الجسد، وسقط الجسد كأنه أصل نخلة خاوية، وشبههم بأعجاز النخل؛ لأنهم طوال الأجسام ، كما سبق ذكره.

قوله: « {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ *}: بَقِيَّةٍ» يعني: لم يبق لهم بقية.

 

}3343{، }3344{ قوله: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» الصبا: ريح شرقية لينة، والدبور: ريح غربية؛ وريح الصبا نُصر بها النبي صلى الله عليه وسلم فهي رحمة، والدبور ريح عذاب أهلك الله بها عادًا؛ لأن الريح منها ما هو عذاب ومنها ما هو رحمة.

هذا الحديث فيه: أن عليًّا رضي الله عنه لما كان باليمن كانت عنده قطعة من الذهب كبيرة، فأرسل بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أقسام، ووزعها على أربعة من رؤساء القبائل في نجد وهم: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن حصن الفزاري، وزيد الطائي، وعلقمة بن علاثة؛ ليتألفهم على الإسلام ـ لأنهم أسلموا حديثًا حتى يقوى الإسلام في قلوبهم، ولو لم يعطوا ربما ارتدوا ـ أما الأنصار والمهاجرون فلم يعطهم شيئًا؛ لأنه وكلهم إلى إسلامهم؛ فإنهم أسلموا قديمًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعطي ليتألف على الإسلام لكي يبقي لهؤلاء الرؤساء إيمانهم وإسلامهم، وتبقى هذه القبائل يطوعها رؤساؤها فهو صلى الله عليه وسلم يعطي لله، لا يعطي من أجل الهوى؛ ولهذا قسم الغنائم في يوم حنين وأعطى كل واحد من رؤساء القبائل مائة من الإبل،، ولما نقص أحدهم عن المائة صار في نفسه شيء وقال أبياتا:

وما كنت دون امرئ منهما

ومن تخفضِ اليوم لا يرفع

فكمل له النبي صلى الله عليه وسلم المائة[(734)].

قوله: «فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالأَْنْصَارُ، قَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا» ، أي: غضب بعض الشباب من الأنصار؛ لأنهم ما عرفوا وجه إعطائهم، وقالوا: نحن أسلمنا قديمًا، وهؤلاء أسلموا حديثًا، وسيوفنا تقطر من دمائهم ، يعطيهم ويدعنا؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم بين لهم ذلك فقال: «إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ» حتى يقوى إسلامهم ولكن وكلتكم إلى إيمانكم وإسلامكم، وفي رواية أنه جمع الأنصار وبين لهم فقال: «أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم» [(735)] فقالوا: الله ورسوله أَمَنْ، وأخضلوا لحاهم بالبكاء، ورضوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: «فَأَقْبَلَ رَجُلٌ» ، أي: جاء رجل موصوف بالأوصاف التالية: «غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ» يعني: عيناه داخلتان ، «مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ» ، يعني: مرتفع الوجنتين «نَاتِئُ الْجَبِينِ» ، يعني: جبهته بارزة «كَثُّ اللِّحْيَةِ» ، أي: لحيته كثيفة «مَحْلُوقٌ» ، يعني: محلوق الرأس؛ وهذا من سمات الخوارج، فهم يشددون في حلق الرأس ويتعبدون بذلك، وورد في الحديث الآخر: «سيماهم التحليق» [(736)] وحلق الرأس مباح، وإطالته بقصد السنة على وجه لا تشبه فيه بالكفار أفضل، قال الإمام أحمد[(737)]: «هو سنة ـ يعني: إطالة الشعر ـ لو نقوى عليه لاتخذناه» ، لكن له كلفة ومشقة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من كان له شعر فليكرمه» [(738)] يعني: بالغسل والتنظيف والادهان. فمن استطاع أن يقوم بهذا وأراد الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان أفضل.

فالمقصود: أن إطالة الشعر بقصد الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لا على وجه التشبه بأهل البدع وأهل الكفر سنة إذا اعتنى بشعره، وليس لطوله حد، فمن شاء جعله إلى كتفه أو إلى أذنه ويقص ما زاد، أو يطيله ويجعله ضفائر فلا بأس.

قوله: «فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ» ، جاء في لفظ: «اعدل» [(739)] وفي لفظ آخر: «قال: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله» [(740)] والمعنى: اتق الله يا محمد ، فكيف تقسم الذهب بين هؤلاء ولا تعطينا شيئًا؟! فإنك ما عدلت في القسمة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق الذي ينزل عليه الوحي صباح مساء، والله تعالى هو الذي يأمره وينهاه، ومع هذا لم يسلم من أذى الناس فكيف بغيره أن يريد السلامة؟! بل إن الله سبحانه وتعالى قال في الحديث القدسي: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر» [(741)] وفي الحديث الآخر: «يشتمني ابن آدم، وما ينبغي له أن يشتمني، أما شتمه إيأي: فقوله: إني اتخذت ولدًا وإني أنا الله الذي لم أتخذ ولدًا» [(742)].

قوله: «إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا» يعني: من جنسه وشكله «أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا» ، يعني: من سلالته «قَوْمًا» ، يعني: قوم يخرجون «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» ؛ هم الخوارج، فهذا الرجل هو أصل ومنشأ الخوارج، وهم قوم عندهم قوة ونشاط في العبادة؛ فهم يصلون الليل كله ويصومون النهار، وعندهم شجاعة وقوة في الحرب والقتال، ويقرءون القرآن ويتأوهون لكن عندهم عقيدة خبيثة، وهي تكفير المسلمين بالمعاصي يقولون: الزاني كافر، والسارق كافر، فيستحلون دمه وماله في الدنيا، ويخلدونه في النار في الآخرة؛ وسبب ذلك عدم بصيرتهم وعدم معرفتهم بالسنة، فيأخذون بعض النصوص ويتركون بعضها الآخر، فلم يوفقوا للعمل بالنصوص، فاحتجوا بقوله تعالى: [النِّسَاء: 10]{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} فقالوا: آكل مال اليتيم مخلد في النار، وحديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» [(743)] فقالوا: الزاني كافر؛ لأنه نفى عنه أصل الإيمان، ولم يضموا إليه الأحاديث الأخرى: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة» ، فقال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» ، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال : «وإن زنى وإن سرق» ، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال : «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر» ، وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر[(744)] فهم يغمضون أعينهم عن النصوص الأخرى بسبب جهلهم وضلالهم؛ فلهذا وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» ، يعني: لا يقبل منهم، «يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ» ، يعني: خروجهم من الدين خروج سريع، كما أن الرامي إذا رمى خرج السهم من الرمية بسرعة، وفي اللفظ الآخر: «سبق الفرث والدم» [(745)] يعني: أن السهم يدخل بقوة، ويخرج بسرعة ولم يصب شيئاً من الدم ولا من الفرث، يعني: أن هؤلاء خروجهم من الدين سريع كخروج السهم من الرمية.

قوله: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِْسْلاَمِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَْوْثَانِ» . هذا وصفهم يقاتلون المسلمين، ولا يقاتلون اليهود ، ولا يقاتلون النصارى ، ولا يقاتلون الوثنيين.

قوله: «لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» ؛ هذا هو الشاهد من الحديث، يعني: قتلاً يستأصلهم لا يبقي منهم أحدًا، كما أن الريح استأصلت عادًا ولم تبق منهم أحدًا.

وقد استدل بهذا الحديث بعض العلماء على كفر الخوارج وقالوا: إن هذا دليل على كفرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِْسْلاَمِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَْوْثَانِ» ، وقال: «يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ» ، وشبههم بعاد وهم قوم كفار ، فقال: «لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» ، وفي الحديث الآخر: «يخرج ناس من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فُوقه» [(746)] فقوله: «ثم لا يعودون فيه» دليل على كفرهم وهو رواية عن الإمام أحمد[(747)].

وذهب الجمهور من العلماء إلى أنهم عصاة لا يكفرون وقالوا: إنهم متأولون، والمتأول يدرأ عنه التكفير، واستدلوا بقول علي رضي الله عنه لما سئل عنهم أكفار هم؟ قال: «من الكفر فروا» . والصحابة عاملوهم معاملة المبتدعة لا الكفار.

والخوارج خرجوا في زمن علي رضي الله عنه وحصل بينه وبينهم مقتلة عظيمة، وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إليهم ليناظرهم ويجادلهم ويبين لهم فهمهم الخاطئ في النصوص، فرجع منهم اثنا عشر ألفًا إلى الحق وتابوا؛ ولهذا ينبغي مناظرتهم وبيان الحق لهم.

والآن يوجد بعض الشباب ـ كما بلغنا ـ من صغار السن يُكَفّرون الناس، بل إنهم قد يكفرون العلماء ويكفرون الولاة، ويكفرون من حولهم، وهذا جهل عظيم وضلال مبين.

فالواجب نصيحة هؤلاء وأخذهم إلى أهل العلم، وبيان الحق لهم حتى لا يضلوا وحتى لا تزل بهم القدم، فالخوارج كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: «قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام» [(748)] يعني: أسنانهم حديثة وعقولهم ضعيفة، فالواجب إبعاد هؤلاء الصغار عن قرناء السوء الذين يضلونهم، وأن يبين لهم فضل العلماء ، وأن العلم والمعتقد لا يؤخذ إلا من العلماء الكبار، أهل العلم الأخيار.

 

}3345{ قوله: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ [القَمَر: 15]{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *}» ، سبق في الباب السابق أن هذه قراءة الجمهور {مُدَّكِرٍ} بتشديد الدال، وفي قراءة شاذة (مدتكر) بفك الإدغام وإبدال الدال الثانية تاءً، وفي قراءة أخرى شاذة (مذتكر) بالذال المعجمة.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد