شعار الموقع

شرح كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من صحيح البخاري (62-3)

00:00
00:00
تحميل
62

● [3445] في هذا الحديث قصة تطوع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فصار بوابًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في اللفظ الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمره بحفظ باب الحائط»([1]). وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أبا موسى املك عليّ الباب»([2])، ولا بأس أن يتطوع الإنسان فيكون بوابًا للرئيس أو الكبير أو المعلم أو الأمير العادل إذا دعت الحاجة؛ فلا يدخل أحدًا حتى يستأذن له.

فأبو موسى لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجده توضأ وجلس على بئر أريس؛ «وتوسط قفها وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر»، فيه: دليل على أن الساقين والركبتين ليستا من العورة، ثم جاء أبو موسى ولزم الباب، «فجاء أبو بكر» رضي الله عنه وحرك الباب، فقال أبو موسى: «من هذا؟ فقال: أبو بكر فقلت: على رسلك»، أي: انتظر حتى أستأذن لك، فاستأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ائذن له وبشره بالجنة»؛ ثم قال: «فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلان - يريد أخاه - خيراً يأت به»، يعني: إذا أراد الله به خيرًا يأتي حتى أستأذن له ويبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.

وجاء عمر رضي الله عنه فحرك الباب فاستأذن له النبي صلى الله عليه وسلم وبشره بالجنة، وجلس عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم في القف، ثم حرك الباب إنسان ثالث فإذا هو عثمان، فقال: «على رسلك» واستأذن له، «فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فجئته فقلت له: ادخل، وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبك» وفي اللفظ الآخر أن عثمان رضي الله عنه قال: الله المستعان، «فدخل فوجد القف قد ملئ»، أي: انتهت سعته في ثلاثة ولم يسع أكثر من ثلاثة، «فجلس وجاهه من الشق الآخر» أي: فجلس أمامهم من الجهة الأخرى.

قوله: «قال شريك: قال سعيد بن المسيَّب: فأوَّلتها قبورَهم»، يعني: أن الثلاثة - الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر - دفنوا جميعاً في حجرة عائشة، وعثمان دفن وسط البقيع، في الشق الآخر.

وهذه القصة وغيرها كلها مبشرات تكشف المستقبل عن خلافتهم وترتيبهم في الخلافة وفضلهم فوقع الأمر كما كان.

 ●         [3446] هذا الحديث فيه أنه لما رجف جبل أُحُد ضربه النبي صلى الله عليه وسلم برجله وقال: «اُثبت أُحُد، فإنما عليك نبي وصديق» وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، «وشهيدان»، وهما: عمررضي الله عنه وعثمان رضي الله عنه. وهذه علامة من علامات النبوة حيث وقعت كما أخبر.

وفيه: أن الصديق في الدرجة الأولى بعد الأنبياء ثم بعد ذلك الشهداء.

وفيه: أنه لما رجف عامله النبي صلى الله عليه وسلم معاملة العاقل، فضربه برجله وقال: «اثبت أحد».

كما أن موسى عليه السلام لما فر الحجر بثوبه جعل يضربه بعصاه، فعامله معاملة العاقل حتى أثر الضرب فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا»([3]).

 ●         [3447] هذا الحديث فيه تفضيل الشيخين على غيرهما،
وفيه: كشف المستقبل، وبيان خلافة الشيخين وما يحصل لهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما أنا على بئر»، يعني: في النوم، ورؤيا الأنبياء وحي، قال الله تعالى عن الخليل إبراهيم: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) [الصافات: 102].

قوله: «جاءني أبو بكر وعمر، فأخذ أبو بكر الدلو فنزع ذنوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له» ولا يضره هذا الضعف، قال العلماء: سبب ذلك قصر المدة، وكثرة القلاقل والفتن، وانشغاله بحروب الردة، «ثم أخذها ابن الخطاب من يدي أبي بكر فاستحالت في يده غرباً»، أي: تحولت من دلو صغير إلى دلو كبير، فالغرب: الدلو الكبير، «فلم أر عبقريًّا» - العبقري: السيد النشيط - «من الناس يفري فريه»، أي: جعل ينزع بقوة «حتى ضرب الناس بعطن» يعني: نزع حتى رضي الناس؛ ولهذا «قال وهب: العطن: مبرك الإبل، يقول: حتى رويت الإبل فأناخت»، أي: جعل ينزع من الدلاء ماءً كثيرًا حتى سقيت الإبل ورويت وأناخت من كثرة الماء، والمعنى: حتى روي الناس، وهذا كناية عن انتشار الإسلام، واتساع الفتوح في زمن عمر رضي الله عنه، وما أعطي من القوة والنشاط، بخلاف أبي بكر فإن مدته قصيرة، وأمضاها في حروب الردة، أما خلافة عمر فكانت عشر سنين ونصفًا، فتحت فيها الفتوح ومصرت الأمصار وانتشر الإسلام.

 ●         [3448] هذا الحديث فيه منقبة لعمر رضي الله عنه، وشهادة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه لفضل عمر؛ لأن عليًّا يتمنى أن يكون له من العمل مثل ما لعمر،
وفيه: الرد على الشيعة الرافضة الذين يتنقصون عمر رضي الله عنه ويسبونه وأبا بكر، ويقدمون عليًّا ويرون أن عليًّا هو الخليفة الأول، وأن الصحابة اغتصبوا الخلافة وارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من كفرهم وضلالهم.


وفيه: أيضًا فائدة نحوية، وهي العطف على الضمير المتصل، بدون فصل بالضمير المنفصل كما في قوله: «كنت وأبو بكر وعمر»، وهذا قليل، والأكثر أن يقول: كنت أنا وأبو بكر وعمر...، فعلت أنا وأبو بكر وعمر...، وانطلقت أنا....، وإذا لم يفصل نصب ما بعد الواو على المعية تقول مثلًا: كنت وأبا بكر.

 ●         [3449] هذا الحديث فيه: بيان ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من أذى قريش، وصبره صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق، فقد جاء هذا الكافر الخبيث عقبة بن أبي معيط «فوضع رداءه في عنقه فخنقه بها خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)[غافر: 28]».

وهذا القول قاله الرجل المؤمن من آل فرعون لما قال فرعون: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ)[غافر: 26] فقال الرجل المؤمن: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) [غافر: 28]

فأبو بكر استشهد بهذه الآية -إن كانت نزلت، وإن كانت لم تنزل يكون وافق لفظها.


وفيه: منقبة للصديق رضي الله عنه، وهذا هو الشاهد للترجمة؛ حيث خلص النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل الكافر، وخلصه من الأذى.

* * *

المتن

[5/54] مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه

 ●         [3450 ] حدثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا عبدالعزيز بن الماجشون، قال: حدثنا محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خَشَفَة فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصرا بفنائه جارية فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك»، فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟!

 ●         [3451] حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا الليث، قال: حدثني عُقَيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيرته؛ فوليت مدبراً»؛ فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟!

 ●         [3452] حدثنا محمد بن الصلت أبو جعفر الكوفي، قال: حدثنا ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري قال: أخبرني حمزة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم شربت - يعني: اللبن - حتى أنظُرَ إلى الري يجري في ظفْري - أو في أظفاري - ثم ناولت عمر»، قالوا: فما أولت؟ قال: «العلمَ».

 ●         [3453] حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا عبيدالله، قال: حدثني أبو بكر بن سالم، عن سالم، عن عبدالله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أريت في المنام أني أنزع بدلوِ بكرةٍ على قليب، فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً - أو ذنوبين - نزعاً ضعيفاً، والله يغفر له! ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربًا، فلم أر عبقريًّا يفري فريه حتى روي الناس، وضربوا بعطن».

قال ابن جُبَيْر: العبقري: عتاق الزرابي.

وقال يحيى: الزرابي: الطنافس لها خَمْل رقيق مبثوثة كثيرة.

 ●         [3454] حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبدالحميد بن عبدالرحمن بن زيد، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب»، قال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله، ثم قال عمر: يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقلن: نعم؛ أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِيهٍ يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط إلا سلك فجاً غير فجك».

 ●         [3455] حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن إسماعيل، قال: حدثنا قيس، قال: قال عبدالله: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.

 ●         [3456] حدثنا عبدان، قال: أنا عبدالله، قال: أنا عمر بن سعيد، عن ابن أبي مليكة، أنه سمع ابن عباس يقول: وضع عمر على سريره، فتكنفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع وأنا فيهم، فلم يرعني إلا رجل أخَذ منكبي فإذا عليٌّ، فترحم على عمر، وقال: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايْمُ الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أنِّي كنت كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ذهبت أنا وأبو بكر وعمر... ودخلت أنا وأبو بكر وعمر... وخرجت أنا وأبو بكر وعمر».

 ●         [3457] حدثنا مسدد، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم؛ فضربه برجله، قال: «اثبت؛ فما عليك إلا نبي وصديق أو شهيد».

 ●         [3458] حدثنا يحيى بن سليمان، قال: حدثني ابن وهب، قال: حدثني عمر، هو: ابن محمد، أن زيد بن أسلم حدثه عن أبيه قال: سألني ابن عمر عن بعض شأنه، يعني: عمر، فأخبرته، فقال: ما رأيت أحداً قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حينَ قُبض كان أجَدَّ وأجوَدَ حتى انتهى - من عمر بن الخطاب.

 ●         [3459] حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: «وماذا أعددت لها؟» قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، قال: «أنت مع من أحببت» قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببت» قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.

 ●         [3460] حدثنا يحيى بن قَزْعةَ، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر».

زاد زكرياء بن أبي زائدة، عن سعد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر».

 ●         [3461] حدثنا عبدالله بن يوسف، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا عقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيَّب وأبي سلمة بن عبدالرحمن قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما راع في غنمه عدا الذئب فأخذ منها شاة فطلبها حتى استنقذها، فالتفت إليه الذئب فقال له: من لهذا يوم السبع ليس لها راع غيري؟!» فقال الناس: سبحان الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإني أومن به وأبو بكر وعمر» وما ثم أبو بكر وعمر.

 ●         [3462] حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثُّدِيَّ، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص اجتره»، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: «الدين».

 ●         [3463] حدثنا الصلت بن محمد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة قال: لما طعن عمر جعل يألم، فقال له ابن عباس - وكأنه يُجَزِّعُه: يا أمير المؤمنين، ولا كان ذلك، لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقتَ وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقت وهو عنك راض، ثم صحبت صَحَبَتَهُم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك مَنٌّ مِن الله مَنَّ به عليَّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك مَنٌّ مِن الله مَنَّ به عليَّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك ومن أجل أُصَيْحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه.

قال حماد بن زيد: حدثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس: دخلت على عمر... بهذا.

 ●         [3464] حدثنا يوسف بن موسى، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثني عثمان بن غِياث، قال: حدثني أبو عثمان النهدي، عن أبي موسى قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «افتح له وبشره بالجنة»، ففتحت له فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «افتح له وبشره بالجنة»، ففتحت له فإذا عمر، فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: «افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه»، فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم قال: الله المستعان.

 ●         [3465 ] حدثنا يحيى بن سليمان، قال: حدثني ابن وهب، قال: أخبرني حيْوَةُ، قال: حدثني أبو عَقيل زُهرة بن مَعْبَد، أنه سمع جده عبدالله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

الشرح 

قال المؤلف /: «مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه»، فبعد أن ذكر مناقب أبي بكر الصديق ذكر مناقب بقية الخلفاء الراشدين عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقية الصحابة ي.

والمناقب: هي الفضائل والمزايا.

 ●         [3450 ] قوله: «رأيتني دخلت الجنة» هذا في الرؤيا، ورؤيا الأنبياء وحي «فإذا أنا بالرميصاء»، الرميصاء: أم سليم امرأة أبي طلحة، وهي أم أنس بن مالك، سميت الرميصاء لرمص في عينها، واسمها سهلة وقيل: رميلة.

قوله: «وسمعت خَشَفَة»، يعني: حركة وزنًا ومعنى، «فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصرًا بفنائه جارية فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك، فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار؟».

في هذا الحديث الشهادة لثلاثة بالجنة: عمر لأن له قصرًا في الجنة، وبلال لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع خشفته، وأم سليم وهي الرميصاء، والحديث وإن كان في الرؤيا، فرؤيا الأنبياء وحي، قال الله تعالى عن الخليل: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)[الصافات: 102].

 ●         [3451] قوله: «بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: بينا أنا نائم رأيتني في الجنة»، أي: في الرؤيا، «فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيرته؛ فوليت مدبراً» أي: لما ذكرت غيرتك يا عمر وليت مدبرا، «فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله!» ، أي: بكى بكاء فرح واستبشار؛ لأن البكاء أنواع: منه ما يكون للحزن، ومنه ما يكون للفرح، ومنه ما يكون للموافقة كبكاء البكر إذا استؤذنت، فإذا استؤذنت البكر وقيل لها: نزوجك فلانًا، فبكت، فهذا دليل على قبولها، وكذلك إذا ضحكت أو سكتت يعتبر ذلك موافقة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن»، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟، قال: «أن تسكت»([4])، لكن إذا رفضت وقالت: لا، فهذا هو المنع.

ومن بكاء الاستبشار والفرح بكاء أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة (لَمْ يَكُنْ) [البينة: 1]» ، فقال أُبي: «وسماني لك يا رسول الله؟» قال: «نعم»([5])، فبكى أُبي.

وقوله: «أعليك أغار يا رسول الله؟!» أصلها: أعليها أغار منك؟ فهنا قلب؛ والسبب في ذلك وضوح المعنى، فإذا وضح المعنى فلا يضر.

 ●         [3452] هذا الحديث فيه رؤيا أيضًا، ورؤيا الأنبياء وحي، فعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم شربت - يعني: اللبن - حتى أنظُرَ إلى الري يجري في ظفْري - أو في أظفاري - ثم ناولت عمر» فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ناول عمر بعده، وهي منقبة لعمر رضي الله عنه «قالوا: فما أولت؟» يعني: ما عبرت اللبن؟ «قال: العلم» فيه: تأويل اللبن بالعلم، واللباس والقُمُص تؤول بالدين - كما سيأتي - فإذا رأى الإنسان لباسًا سابغًا فالدين سابغ، وإذا كان لباسًا ناقصًا فالدين ناقص، واللبن يؤول بالعلم، والنبي صلى الله عليه وسلم شرب حتى خرج الري من أظفاره، يعني: بلغ من العلم مبلغًا عظيمًا كما قال الله: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) [النساء: 113].

 ●         [3453] هذا الحديث ساقه المؤلف لبيان منقبة عمر رضي الله عنه، وفيه: منقبة للشيخين، وفيه: كشف المستقبل، وبيان أن الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ثم عمر.

قوله: « فجاء أبو بكر فنزع ذنوبًا - أو ذنوبين - نزعًا ضعيفًا والله يغفر له» سبق ذكر أن هذا كناية عن قصر مدة خلافته، وما حصل فيها من القلاقل والفتن وحروب المرتدين كمانعي الزكاة والمارقين عن الإسلام.

قوله: «ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربًا»، يعني: تحولت من دلو صغير إلى غرب، أي: دلو كبير، «فلم أر عبقريًّا يفري فريه، حتى روي الناس، وضربوا بعطن».

قوله: «قال ابن جبير: العبقري: عتاق الزرابي»، والزرابي: البساط العريض الفاخر، ثم اتسع حتى سُمي به السيد والقيم والكبير، والمراد هنا السيد والقيم والكبير.

قوله: «وقال يحيى: الزرابي: الطنافس»، أي: البُسُط «لها خمل رقيق»، يعني: أهداب رقيقة غير غليظة «مبثوثة»، يعني: «كثيرة»، قال تعالى: (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) [الغاشية: 16].

 ●         [3454] في هذا الحديث أن عمر رضي الله عنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وحوله نسوة «يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب» أي: قمن ودخلن داخل البيت وبادرن الحجاب، قال: «فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب»، أي: خفن من عمر، «قال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله»، أي: فأنت أحق بالهيبة، ثم جعل عمر يخاطب النساء، ويقول: «يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: نعم؛ أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا»، يعني: طريقًا، «إلا سلك فجًّا غير فجك»، كأن فيه إشارة إلى أن النساء يكون معهن الشيطان؛ ولهذا ابتدرن الحجاب وهربن؛ لأن الشيطان ما رأى عمر سالكًا طريقًا إلا سلك طريقًا آخر،
وفيه: منقبة لعمر للهيبة والقوة في الحق، وهروب الشيطان من الطريق الذي يمر منه عمر.

 ●         [3455] في هذا الأثر منقبة لعمر رضي الله عنه وتنويه على قوته في الحق؛ ولهذا لما أسلم عمر قوي الصحابة وعزوا.

 ●         [3456 ] قوله: «وضع عمر على سريره»، يعني: طعن تحت سرته ست طعنات فمات ثم وضع على سريره للتغسيل، «فتكنفه الناس»، يعني: أحاطوا به من جميع الجوانب، والأكناف: النواحي، «يدعون ويصلون»، أي: يقولون: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فالمراد بالصلاة: الدعاء، «وأنا فيهم»، يقوله ابن عباس رضي الله عنه: «فلم يرعني إلا رجل أخذ منكبي فإذا علي، فترحم على عمر وقال: » - يخاطب عمر رضي الله عنه- «ما خلفت أحدًا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك» فهذه شهادة من علي بفضل عمر، وتمنى علي أن يلقى الله بمثل عمل عمر، وهذه منقبة لعمر،
وفيه: الرد على الرافضة الذين يطعنون في الشيخين، ويطعنون في عمر ويكفرونه، وإن كانوا يزعمون محبة علي فهذه مقالة علي يتمنى أن يكون له من العمل مثل ما لعمر.

قوله: «وايم الله» - قسم - « إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك»، يعني: يخاطب عليٌّ عمر، وصاحباه هما الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، «وحسبت أني كنت كثيرًا أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر.. ودخلت أنا وأبو بكر وعمر.. وخرجت أنا وأبو بكر وعمر» وهذا فيه منقبة للشيخين م.

 ●         [3457 ] قوله: «صعد النبي صلى الله عليه وسلم أُحُدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم؛ فضربه برجله، قال: اثبت؛ فما عليك إلا نبي وصديق أو شهيد» الشهيد: المقصود به عمر وعثمان م.

وهذا فيه علم من أعلام النبوة حيث وقع كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

 ●         [3458 ] قوله: «ما رأيت أحدا قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حينَ قُبض كان أجَدَّ وأجوَدَ حتى انتهى من عمر بن الخطاب».

يعني: لم يكن أحد أجد في الأمور ولا أجود بالأموال من عمر وهذه شهادة، وهذا محمول على وقت مخصوص، وهو وقت خلافته؛ ليخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر أفضل من عمر.

 ●         [3459] ثم أورد حديث أنس رضي الله عنه: «أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله قال: أنت مع من أحببت. قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت. قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم» هذا فيه بشارة لكل مؤمن أن من أحب أحدًا ألحق به، لكن صادق المحبة يبذل جهده في العمل حتى يَلحق بالمحبوب، فإذا قصر في العمل مع بذل جهده كان مع المحبوب، وكانت المحبة تجبر نقص العمل، أما من يدعي المحبة ولا يعمل فهذا كاذب في دعواه، ولهذا لما ادعى قوم محبة الله أنزل الله هذه الآية: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ) [آل عمران: 31]. وهذه الآية تسمى آية المحنة، فهناك دليل للمحب، فإن كان صادقًا في محبة الله اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان كاذبًا فإنه يدعي ولا يعمل.

 ●         [3460 ] قوله: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر» وفي الطريق الثاني قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر».

والمحدَّث هو الملهم، وهو الرجل الصادق الظن، وذلك بأن يلقى في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى، أو تكلمه الملائكة بغير نبوة، أو يجري الصواب على لسانه من غير قصد، بأن تتكلم الملائكة على لسانه أو بعض المؤمنين، فيؤيد الله أولياءه بما يشاء، فهذه منقبة لعمر رضي الله عنه بأنه من المحدثين.

وقرأ ابن عباس رضي الله عنه: (ما من نبي ولا محدَّث)، يعني: أنه قرأ آية الحج في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)[الحج: 52] بزيادة: (ولا محدَّث)؛ وهذه تحمل على أنها تفسير إذا لم تصح على القراءات السبع.

 ●         [3461 ] قوله: «بينما راع في غنمه عدا الذئب فأخذ منها شاة فطلبها» - يعني: الراعي - «حتى استنقذها» من الذئب «فالتفت إليه الذئب فقال له: من لهذا يوم السبع ليس لها راع غيري؟» أي: أنت الآن استنقذتها مني، لكن سيأتي يوم ليس لها راع غيري.

قوله: «فقال الناس: سبحان الله» ذئب يتكلم؟! «فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أومن به وأبو بكر وعمر» أي: أنا أؤمن به، وأبو بكر وعمر يؤمنان به، «وما ثم أبو بكر وعمر»، أي: وليسا موجودين في المجلس، يعني: لقوة تصديقهما وإيمانهما؛ لأنهما لا يترددان في تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشكان في مقالته، فلما تعجب الناس وقالوا: «سبحان الله»، كيف يتكلم ذئب؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أؤمن بهذا وأبو بكر يؤمن بهذا وعمر يؤمن بهذا،فالله قادر على أن يجعل الذئب يتكلم، وكذلك البقرة التي تكلمت لما ركبها الإنسان فالتفتت إليه وقالت: «إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث»، قال الناس: بقرة تكلَّم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر»([6]).

وهذه منقبة للشيخين؛ حيث إنهما يصدقان ولا يترددان، وجاء في سبب تسمية أبي بكر رضي الله عنه بالصديق: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرض الإسلام على أحد إلا كان له تلكؤ وكبوة، إلا أبا بكر فإنه لما عرض عليه الإسلام آمن في الحال من غير تردد ولا تأخر ولهذا سمي الصديق، قال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ)[الزمر: 33] .الذي جاء بالصدق هو النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به هو أبو بكر رضي الله عنه.

وقوله: «وما ثم أبو بكر وعمر»، من كلام أبي هريرة، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: ليسا موجودين في المكان، «و ثم» ظرف مكان.

 ●         [3462] هذا الحديث فيه منقبة لعمر رضي الله عنه، حيث رآه النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قميص سابغ يجره؛ فدل على قوة ديانته ومكانته.

وفيه: أن القميص يؤول في الرؤيا بالدين، فما كان من نقص فيه فهو نقص في الدين، وما كان فيه من زيادة فهو زيادة في الدين، واللبن في الرؤيا يؤول بالعلم - كما سبقذكره- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الرِّي يخرج في أظفاري»، ثم أعطاه عمر، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: «العلم»([7]).

قال صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم» - ورؤيا الأنبياء وحي - «رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص» جمع قميص «فمنها ما يبلغ الثُّدِيَّ»، أي: بعض الناس عليه قميص يصل إلى ثديه والباقي عار؛ وهذا يدل على ضعف دينه ونقصه، «ومنها ما يبلغ دون ذلك»، أي: منها ما يبلغ إلى الركبة أو نحو هذا، «وعرض علي عمر وعليه قميص اجتره»، أي: عليه قميص يجره، «قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين» وهذا فيه منقبة لعمر رضي الله عنه حيث إن دينه سابغ ودينه متين؛ حيث إن ثوبه سابغ يجره.

 ●         [3463] هذا الحديث فيه منقبة لعمر رضي الله عنه وخوفه من الله عز وجل وعدم اغتراره بالثناء عليه.

فالمسور بن مخرمة يقول: «لما طعن عمر»، أي: تحت سرته ست طعنات، وهي التي مات منها، «جعل يألم»، يعني: يحس بالألم، «فقال له ابن عباس وكأنه يجزعه»، يعني: يزيل عنه الجزع، أو ينسبه إليه ويلومه عليه، «يا أمير المؤمنين، ولا كان ذلك»، يعني: لِمَ الجزع؟ وإنما جزع عمر ليس خوفًا من الموت، بل خوفًا عليهم من الفتنة بعده، والتفرق وعدم اجتماعهم على من يخلفهم بدليل قوله في آخر الحديث: «وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك ومن أجل أصيحابك».

وهذا من نصحه رضي الله عنه خشي أن تتفرق الأمة، وألا تجتمع، وأن يحصل عندهم خلل ونقص في دينهم.

قوله: «لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقت وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقت وهو عنك راض، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون»، فلَمْ يغتر عمر بهذا، بل «قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك مَنٌّ مِن الله مَنَّ به عليَّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك مَنٌّ مِن الله مَنَّ به عليَّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصيحابك»، يعني: الخوف عليهم من الفتنة وألا يجتمعوا على أحد.

قوله: «والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه» طلاع الأرض: يعني: مِلء الأرض، فأصل الطلاع: ما طلعت عليه الشمس. يعني: لو أن لي ملء الأرض ذهبًا لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، وهكذا الأخيار والأكياس يحسنون العمل ويتقنون ويجتهدون ثم يخافون أن ترد عليهم أعمالهم، ولا تقبل لكمال معرفتهم بالله وخوفهم منه، كما قال الله تعالى في وصف المؤمنين: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61))[المؤمنون:57 - 61] وسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقالت: يا رسول الله، من هم الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة خائفة؟ هل هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: «لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم»([8]).

وهذا بخلاف العاصي يسيء العمل ويأمن من العقوبة، أما المؤمن المستقيم فيحسن العمل ويخاف أن يرد عليه، كما قال الحسن البصري رضي الله عنه: «إن المؤمن جمع إحسانًا وخوفًا، والمنافق جمع إساءة وأمنًا».

 ●         [3464] حديث أبي موسى هذا سبق ذكره مطولًا، وجاء فيه: «لما كان في حائط من حيطان المدينة، وقال: لأكونن بوابًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر فاستأذن فقال: على رسلك، ثم استأذن له، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم وبشره بالجنة ثم جاء عمر، وقال: على رسلك واستأذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان وفتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه»([9]). وفي هذا الحديث قال عثمان رضي الله عنه: «الله المستعان»، أي: على ما يصيبه من البلوى.

والشاهد من الحديث أن فيه منقبة لعمر رضي الله عنه، وأنه مبشر بالجنة، وأن الثلاثة كلهم مبشرون بالجنة: أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم .

 ●         [3465] هذا الحديث فيه منقبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده فدل على قربه من النبي صلى الله عليه وسلم وعناية النبي صلى الله عليه وسلم به.

* * *

المتن

[6/54] مناقب عثمان بن عفان أبي عمرو القرشي رضي الله عنه

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن يَحْفِر بئر رومة فله الجنة»، فحفرها عثمان، وقال: «من جهز جيش العسرة فله الجنة»، فجهزه عثمان.

 ●         [3466] حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن أبي عثمان، عن أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا، وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن فقال: «ائذن له وبشره بالجنة»، فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: «ائذن له وبشره بالجنة»، فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة، ثم قال: «ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تُصيبُه»، فإذا عثمان بن عفان.

قال حماد: ونا عاصم الأحول وعلي بن الحكم، سمعا أبا عثمان يحدث عن أبي موسى... بنحوه، وزاد فيه عاصم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعداً في مكان فيه ماء قد انكشف عن ركبتيه - أو ركبته - فلما دخل عثمان غطاها.

 ●         [3467] حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، قال: حدثنا أبي، عن يونس، قال ابن شهاب: أخبرني عروة، أن عبيدالله بن عدي بن الخيار أخبره، أن المسور بن مخرمة وعبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قالا: ما يمنعك أن تكلم عثمان لأخيه الوليد، فقد أكثر الناس فيه؟ فقصدت لعثمان حتى خرج إلى الصلاة، قلت: إن لي إليك حاجة، وهي نصيحة لك، قال: يا أيها المرءُ منك - قال معمر: أعوذ بالله منك، فانصرفت فرجعت إليهم إذ جاء رسول عثمان فأتيته، فقال: ما نصيحتك؟ فقلت: إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكنت ممن استجاب لله ولرسوله، فهاجرت الهجرتين، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت هديه، وقد أكثر الناس في شأن الوليد، قال: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا، ولكن خلَص إلي من علمه ما يخلص إلى العذراء في سترها، قال: أما بعد، فإن الله بعث محمدا بالحق فكنت ممن استجاب لله ولرسوله، وآمنت بما بعث به، وهاجرت الهجرتين كما قلت، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم أبو بكر مثلُه، ثم عمر مثلُه، ثم استخلفت، أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟ قلت: بلى، قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟! أما ما ذكرت من شأن الوليد، فسنأخذ فيه بالحق إن شاء الله، ثم دعا عليا فأمره أن يجلِد، فجلده ثمانين.

 ●         [3468] حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن سعيد، عن قتادة، أن أنسا حدثهم قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم أُحُدَ ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجفت، فقال: «اسكن أُحُدُ - أظنه ضربه برجله، فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان».

 ●         [3469] حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع، قال: حدثنا شاذان، قال: حدثنا عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر، كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أَحَدًا، ثم عمرَ، ثم عثمانَ، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم.

تابعه عبدالله بن صالح، عن عبدالعزيز.

 ●         [3470] حدثنا موسى، قال: حدثنا أبو عوانة، قال: حدثنا عثمان، هو: ابن مَوْهَب، قال: جاء رجل من أهل مصر وحج البيت، فرأى قوما جلوسا، فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبدالله بن عمر، قال: يا ابن عمر، إني سائلك عن شيء فحدثني: هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم، فقال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال: تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: الله أكبر! قال ابن عمر: تعال أبين لك: أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه»، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد ببطن مكة أعز من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هذه يد عثمان»، فضرب بها على يده، فقال: «هذه لعثمان» فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك.

الشرح 

هذه الترجمة في مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان القرشي رضي الله عنه، والخلفاء الأربعة كلهم من قريش.

والمناقب هي الفضائل والمحاسن.

قوله: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يحفر بئر رومة فله الجنة، فحفرها عثمان»، هذا مختصر معلق، وقد وصله في موضع آخر، وذلك أن المسلمين شق عليهم أنه ليس عندهم بئر يستعذبونها فيشربون منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يحفر بئر رومة فله الجنة، فحفرها عثمان»، وفي اللفظ الآخر: «من يشتري بئر رومة ويكون دلوه فيها كدِلاء المسلمين»([10]) يعني: يشرب منها مثلهم فاشتراها عثمان.

قوله: «فله الجنة» هذه منقبة لعثمان رضي الله عنه.

قوله: «من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان»؛ هذا معلق ووصله المؤلف في موضع آخر مطولًا، وذلك أن عثمان رضي الله عنه أسهم في تجهيز جيش غزوة تبوك، وسمي جيش العسرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل سفرًا بعيدًا، فالمسافة بعيدة بين المدينة وتبوك تقرب من شهر أو أكثر وفي وقت شدة الحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من جهز جيش العسرة فله الجنة»، فجهزها عثمان ثلاثمائة بعير بأقتابها محملة مكلفة.

 ●         [3466] هذا الحديث سبق في مناقب الصديق رضي الله عنه، وفي مناقب عمر رضي الله عنه، وكرره المؤلف هنا؛ لأن فيه منقبة لعثمان رضي الله عنه، ففيه: أن عثمان مبشر بالجنة على بلوى تصيبه إشارة لما حصل له في آخر حياته من إحاطة الثوار ببيته وقتله رضي الله عنه.

وقوله: «فسكت هنيهة»، أي: أوحي إليه صلى الله عليه وسلم - والسنة وحي بلا شك - فبشره بالجنة عن طريق الوحي.

قوله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعدًا في مكان فيه ماء قد انكشف عن ركبتيه - أو ركبته - فلما دخل عثمان غطاها».

وجاء في الحديث الآخر أطول من هذا، فعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيته جالسًا قد كشف عن ركبتيه، فاستأذن أبو بكر ودخل وهو على حاله، ثم استأذن عمر ودخل وهو على حاله، ثم استأذن عثمان، فجلس وغطى ركبتيه فلما خرجوا، قالت عائشة: يا رسول الله دخل عليك أبو بكر وأنت على حالك فلم تهتش له ولم تباله، وركبتاك مكشوفتان، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فسويت ثيابك؟!. فقال: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!»([11]).

ولا يدل هذا على أنه أفضل من الشيخين؛ لأن هذه منقبة خاصة، والقاعدة أن المنقبة الخاصة لا تقضي على الفضائل العامة، فأبو بكر له فضائل أخرى وكذلك عمر له فضائل أخرى، وكل واحد من الصحابة له مناقب.

والشاهد قوله: «قد انكشف عن ركبتيه - أو ركبته - فلما دخل عثمان غطاها» فهذه منقبة لعثمان رضي الله عنه،
وفيه: دليل على أن الركبة ليست من العورة، فالعورة من السرة إلى الركبة، والركبة ليست داخلة فيها.

والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف عن ركبتيه متعمدًا، وليس المراد انكشف بدون اختياره.

 ●         [3467] هذا الحديث ذكر فيه المؤلف مناقب عثمان رضي الله عنه، وهذه القصة فيها «أن المسور بن مخرمة وعبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قالا» لعبيد الله بن عدي بن الخيار: «ما يمنعك أن تكلم عثمان لأخيه الوليد؟» والوليد هذا هو أخو عثمان لأمه، وهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان عثمان رضي الله عنه ولاه الكوفة بعد عزل سعد ابن أبي وقاص، وكان فاسقًاً يشرب الخمر.

قوله: «فقد أكثر الناس فيه؟» أي: أكثر الناس فيه لكونه يشرب الخمر، فما يمنعك أن تكلم عثمان في إقامة الحد عليه وفي عزله وإبعاده. قال عبيد الله بن عدي: «فقصدت لعثمان حتى خرج إلى الصلاة، قلت: إن لي إليك حاجة، وهي نصيحة لك. قال: يا أيها المرء منك - قال معمر: أعوذ بالله منك، فانصرفت فرجعت إليهم إذ جاء رسول عثمان فأتيته، فقال: ما نصيحتك؟» فذكر أولًا مناقب عثمان رضي الله عنه فقال: «إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكنت ممن استجاب لله ولرسوله، فهاجرت الهجرتين، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت هديه، وقد أكثر الناس في شأن الوليد»، أي: أكثر الناس لكونه يشرب الخمر، فلماذا لا تقيم عليه الحد؟ ولماذا لم تعزله؟ فقال عثمان: «أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» يخاطب عبيد الله بن عدي؛ لأنه ما أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، «قلت: لا، ولكن خلَص إلي من علمه ما يخلص إلى العذراء في سترها»، يعني: سنة الرسول انتشرت وبلغت حتى أن الجارية البكر المخفرة في سترها وصل إليها علم الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف لا يصل إلي أنا، فقال عثمان رضي الله عنه: «أما بعد، فإن الله بعث محمداً بالحق فكنت ممن استجاب لله ولرسوله، وآمنت بما بعث به، وهاجرت الهجرتين كما قلت، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم أبو بكر مثلُه، ثم عمر مثلُه»، فعثمان رضي الله عنه أثنى على نفسه؛ لأنه في مقام الدفاع عن النفس؛ لأن الناس تكلموا فيه، وذكروا مثالبه، وجاء الثوار وأحاطوا ببيته، وقالوا: إن عثمان خالف ما عليه الشيخان أبو بكر وعمر، وذكروا أشياء فقالوا: إنه خفض صوته بالتكبير، وأخذ الزكاة على الخيل، وقرب أقرباءه، وأتم الصلاة في منى، وجعلوا يذكرون معايب وينشرونها بين الناس حتى تجمع السفهاء من كل مكان: من الكوفة، ومن البصرة ومن مصر ومن غيرها، وأحاطوا ببيته وقتلوه، وكان الذي أشاع ذلك ابن السوداء – عبدالله بن سبأ-، وهو رافضي خبيث، كان يهوديًّا من يهود اليمن ودخل في الإسلام نفاقًا ليفسد.

فدل هذا على أن نشر معايب الولاة من أسباب الخروج عليهم، فلا ينبغي للإنسان أن ينشر معايب الولاة والحكام المسلمين الذين يحكمون بما أنزل الله، ويقيمون شرع الله في الأرض وإنما هم يناصحون؛ ولهذا فإن عبيدالله بن عدي بن الخيار ناصح عثمان ولم يتكلم على المنابر، وكذلك أيضًا أسامة بن زيد رضي الله عنه؛ لما قيل له: لم لا تنصح؟ قال: أترون أني لا أنصح إلا وأنتم تسمعون؟ يعني: لا يريد أن يفتح بابًا من شر يكون أول فاتحه، لكن ينصحه في السر، فالنصيحة لولاة الأمور تكون سرًّا، أما أن تنشر معايب الولاة أمام الناس فهذا لا يفيد، بل يؤلب الناس عليهم ويؤججهم ويثيرهم عليهم، ولا يغير من الأمر شيئًا، ولكن الذي ينبغي أن يناصحوا سرًّا، ويكتب لهم خطابات فإن قبلوا وإلا فالناس أدوا ما عليهم.

فعثمان رضي الله عنه مضطر أن يدافع عن نفسه، ولهذا لما جاء الثوار وأحاطوا ببيته، طلع عليهم وقال للناس: ولا أكلم إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يشتري بئر رومة ويكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله الجنة» فاشتريته من مالي؟، قالوا: نعم. قال: تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جهز جيش العسرة فله الجنة?» فجهزتها بأقتابها؟ قالوا: نعم([12]). فجعل يذكر مناقبه؛ لأنه مضطر للدفاع عن نفسه، فكذلك هنا عثمان رضي الله عنه أثنى على نفسه؛ لأنه مضطر للدفاع عن نفسه ضد الثوار الذين تألبوا عليه، فقال: «إن الله بعث محمداً بالحق فكنت ممن استجاب لله ولرسوله، وآمنت بما بعث به، وهاجرت الهجرتين كما قلت، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله»، يعني: صحبت أبا بكر فما عصيته ولا غششته، ثم صحبت عمر فما عصيته ولا غششته، «ثم استخلفت: أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟» يعني: أفليس لي من الحق مثل من سبقني: أبي بكر وعمر - أن تسمعوا وتطيعوا، «قلت: بلى»، يعني: يقولها عبيد الله بن عدي بن الخيار، «قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟!» يعني: قولهم: قرب أولياءه وفعل وفعل، «أما ما ذكرت من شأن الوليد، فسنأخذ فيه بالحق إن شاء الله، ثم دعا عليًّا فأمره أن يجلد» أي: يجلد الوليد بن عقبة؛ لأنه شرب الخمر، «فجلده ثمانين».

وكان الوليد بن عقبة بن أبي معيط اشتهر بشرب الخمر، حتى إنه صلى بهم - وهو أمير الكوفة - مرة الفجر وهو سكران، وخلفه الصحابة فلما صلى بهم الركعتين التفت إليهم وقال: أتريدون أن أزيدكم؟ فقال بعض الصحابة: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة، ثم أعادوا الصلاة، وروي أنه صلى بهم الفجر أربعًا وهو سكران، فلما بلغ عثمان أمر عليًّا «فجلده ثمانين» وعزله.

وهذه منقبة لعثمان رضي الله عنه أنه أقام عليه الحد ولو كان أخاه لأمه، ثم عزله.

 ●         [3468 ] قوله: «صعد النبي صلى الله عليه وسلم أُحُدَ ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجفت» الله تعالى هو الذي حرك الجبل حتى يقول النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقالة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان،» فالصديق أبو بكر، والشهيدان عمر وعثمان، وهذا منقبة لعثمان رضي الله عنه حيث إنه قتل شهيدًا،
وفيه: علم من أعلام النبوة؛ حيث وقع كما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فعمر قتل شهيدًا وعثمان قتل شهيدًا م.

 ●         [3469] وهذا الحديث فيه منقبة لعثمان رضي الله عنه، فعن عبد الله بن عمر م، قال: «كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان» يعني: لا نعدل بهم أحدًا في الفضيلة، وهذا مما أجمع عليه العلماء أن أفضل الناس بعد الأنبياء: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي ي.

وحصل خلاف في عثمان وعلي في الفضيلة أيهما أفضل؟ فالجمهور على أن عثمان أفضل، وروي عن الإمام أبي حنيفة أن عليًّا أفضل، وروي أنه رجع إلى ما عليه الجمهور، وهذا الخلاف إنما هو في الفضيلة لا في الخلافة، أما في الخلافة فأجمعوا على أن عثمان مقدم على علي في الخلافة؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «العقيدة الواسطية»: «لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي وإن كانت هذه المسألة - مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله»([13]).

وقال العلماء: من قدم عليًّا على عثمان في الخلافة فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، يعني: احتقر رأيهم، لأنهم أجمعوا كلهم على تقديم عثمان في الخلافة، إنما الخلاف في الفضيلة لا في الخلافة.

ولم يخالف في ذلك إلا الرافضة، وهم محجوجون بالإجماع ولا عبرة بهم؛ لأنهم مارقون عن الملة يطعنون في خلافة الخلفاء الثلاثة كلهم.

 ●         [3470 ] قوله: «ابن مَوْهَب» فيها وجهان: مَوْهَب ومَوْهِب.

قوله: «جاء رجل من أهل مصر وحج البيت»، أي: جاء رجل من أهل مصر من الذين ينقمون على عثمان من الثوار يبحث عن معايب عثمان رضي الله عنه، «فرأى قومًا جلوسًا فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش. قال: فمن الشيخ فيهم» أي: الذي تصدر المجلس؟ «قالوا: عبدالله بن عمر، قال: يا ابن عمر، إني سائلك عن شيء فحدثني هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم، فقال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال: تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: الله أكبر»، يعني: وافق ذلك هوى في نفسه، «قال ابن عمر: تعال أبين لك: أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له»؛ لأن الله تعالى قال: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)) [آل عمران: 155]. فالله تعالى عفا عنهم؛ لأن هذا الانصراف عارض، فكلهم فروا بسبب ما أصابهم من الشدة ولاختلاط الكفار بالمسلمين، ثم عفا الله عنهم.

قوله: «وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه» فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره أن يجلس، وهو يريد أن يخرج، ولذلك قسم له، وأعطاه سهمًا، فكان حكمه حكم من حضر.

قوله: «وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد ببطن مكة أعز من عثمان لبعثه مكانه»؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عثمان يبلغ المشركين أنهم ما جاءوا لقتال، وإنما جاءوا للعمرة، فعند ذلك احتبست قريش عثمان، وشاع بين المسلمين أن عثمان قد قتل، فلما شاع بين المسلمين أن عثمان قد قتل، بايع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة كلهم على قتال الكفار حتى الموت، فكانت البيعة من أجل عثمان، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه على نفسه وقال: «هذه يد عثمان، فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان»، وهذه منقبة عظيمة لعثمان رضي الله عنه، فلما سمع المشركون بذلك خافوا وأطلقوه.

فقال ابن عمر رضي الله عنه لهذا السائل: «اذهب بها الآن معك»، يعني: اقرن هذا العذر بالجواب الذي أجبتك؛ حتى لا يبقى لك فيما أجبتك حجة فيما كنت تعتقده من الطعن في عثمان.

 

([1]) البخاري (3695).

([2]) أحمد (3/408)، والترمذي (3710).

([3]) أحمد (2/514)، والبخاري (3404)، وبنحوه مسلم (339).

([4]) أحمد (2/425)، والبخاري (5136)، ومسلم (1419).

([5]) أحمد (3/130)، والبخاري (3809)، ومسلم (799).

([6]) أحمد (2/245)، والبخاري (3471)، ومسلم (2388).

([7]) أحمد (2/147)، والبخاري (82)، ومسلم (2391).

([8]) أحمد (6/205)، والترمذي (3175) واللفظ له، وابن ماجه (4198).

([9]) أحمد (4/393)، والبخاري (3674)، ومسلم (2403).

([10]) أحمد (1/74)، والترمذي (3703)، والنسائي (3608).

([11]) أحمد (6/155)، ومسلم (2401).

([12]) أحمد (1/70)، والدارقطني في «السنن» (4/199).

([13]) «العقيدة الواسطية» (ص26).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد