شعار الموقع

شرح كتاب مناقب الأنصار من صحيح البخاري (63-1)

00:00
00:00
تحميل
54

المتن

[29/54] مناقب الأنصار
(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الحشر: 9] الآية

 ●         [3537] حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا مهدي، قال: حدثنا غيلان بن جرير قال: قلت لأنس: أرأيتم اسم الأنصار كنتم تسمون به أم سماكم الله؟ قال: بل سمانا الله عز وجل. كنا ندخل على أنس فيحدثنا بمناقب الأنصار ومشاهدهم، ويقبل علي - أو على رجل من الأزد - فيقول: فعل قومك يوم كذا وكذا كذا وكذا.

 ●         [3538 ] حدثنا عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان يوم بُعاثَ يوما قدَّمه الله لرسوله، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق مَلؤهم، وقُتلت سَرَواتُهم، وجُرحُوا، فقدمه الله لرسوله في دُخولهم في الإسلام.

 ●         [3539] حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، عن أبي التياح، قال: سمعت أنساً يقول: قالت الأنصار يوم فتح مكة وأعطى قريشاً: والله إن هذا لهو العجب! إن سيوفنا تقطر من دماء قريش وغنائمُنا تُرد عليهم! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدعا الأنصار قال: فقال: «ما الذي بلغني عنكم؟» - وكانوا لا يكذبون - فقالوا: هو الذي بلغك، قال: «أولا ترضون أن يرجع الناس بالغنائم إلى بيوتهم، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟! لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم».

الشرح

هذا الكتاب في «مناقب الأنصار» ي، ومن مناقبهم قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)[الحشر: 9]. فهذه الآية منقبة عظيمة للأنصار، فقد آمنوا وسبقوا إلى الإسلام، وهم الذين يحبون المهاجرين، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون، ويؤثرون على أنفسهم.

والأنصار هو اسم إسلامي سمى به النبي صلى الله عليه وسلم الأوس والخزرج وحلفاءهم، والأوس: ينسبون إلى أوس بن حارثة، والخزرج: ينسبون إلى خزرج بن حارثة، فهما أخوان أبوهما حارثة، وأمهما قيلة؛ ولذا قال أبو هريرة: «تلك أمكم يا بني ماء السماء»، يعني: أن هاجر أم العرب، لكن بعد ذلك صار الأوس قبيلة عظيمة مستقلة، والخزرج كذلك، وقامت بينهما حروب طاحنة في الجاهلية، وقبيل الهجرة، فقبل الهجرة بخمس سنوات قامت بينهم حرب عظيمة عرفت بيوم بعاث، قالت عائشة: جعله الله تقدمة لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ حيث قتل أشرافهم فصار سببا في إسلامهم، كما سيأتي في حديث بعد هذا.

 ●         [3537 ] قوله: «أرأيتم اسم الأنصار كنتم تسمون به أم سماكم الله؟ قال: بل سمانا الله عز وجل» هذه منقبة عظيمة للأنصار حيث سماهم الله بهذا الاسم. والآيات القرآنية التي توضح أن الله سماهم الأنصار كثيرة، فمنها قوله عز وجل: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) [التوبة: 117]، وكذلك قوله عز وجل: (وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)الأنفال: 72]. وقال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ)[التوبة: 100] وقال عز وجل: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) [الحشر: 9].

ويقول الكرماني: «إن كتاب مناقب الأنصار هو نصف «صحيح البخاري» وهذا فيه نظر.

 ●         [3538 ] قوله: «كان يوم بعاث»، هو يوم حصلت فيه معركة شديدة بين الأوس والخزرج، وكانوا قبل ذلك إخوانًا، فقتل الكثير منهم «يوم بعاث»، وكان رئيس الأوس حضيرًا والد أسيد بن حضير، ورئيس الخزرج يومئذ عمرو بن النعمان البياضي، وكان النصر أولا للخزرج ثم ثبتهم حضير فرجعوا وانتصرت الأوس، وذلك قبل الهجرة بخمس سنين وقيل: بأربع.

وبعاث يجوز فيه الصرف على أنه يوم من أيام العرب، ويجوز فيه المنع من الصرف على أنه اسم للبقعة التي وقع القتال عليها، والمانع له من الصرف العلمية والتأنيث.

قوله: «قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم» يعني: أن أشرافهم وخيارهم قتلوا؛ فانكسرت شوكتهم وضعفت قوتهم؛ فكان ذلك توطئة لدخولهم في الإسلام.

 ●         [3539] قوله: «والله إن هذا لهو العجب! إن سيوفنا تقطر من دماء قريش وغنائمُنا تُرد عليهم!» لقد جاء في حديث آخر أن الذي قال ذلك بعض الشباب صغار السن، فقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا من الخمس ينفلهم يوم فتح مكة؛ وذلك تأليفاً لقلوبهم وتقوية لإيمانهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يعطي المال لا للهوى، وإنما يعطيه يتألف به على الإسلام، ولم يعط النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار يومها؛ لأن إيمانهم قوي، فقد تمكن الإيمان من قلوبهم، مما جعل بعض الشباب من الأنصار يقول: «إن هذا لهو العجب»، فنحن نقاتل والغنائم «ترد عليهم».

قوله: «إن سيوفنا تقطر من دماء قريش»، قيل: إن هذا مقلوب والأصل: «إن دماء قريش تقطر من سيوفنا»، يعني: الذي تقطر الدماء وليست السيوف.

قوله: «ما الذي بلغني عنكم؟» فقد جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدما علم ما قالوه، وفي حديث آخر جمعهم في قبة وقال: «أفيكم أحد من غيركم؟»، ثم قال: «ما الذي بلغني عنكم؟» فقالوا: يا رسول الله أما شيوخنا وكبارنا فلم يقولوا شيئًا، والذي قال ذلك شباب منا، حديثو السن قالوا: كذا وكذا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجِدَة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟»، قالوا: بل الله ورسوله أمنّ وأفضل. قال: «ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟» قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله ولله ولرسوله المن والفضل؟. قال: «أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصُدِّقتم أتيتنا مكذبًا فصدقناك ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فأغنيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم...»([1]). فكان كلما قال مقالة قالوا:الله ورسوله أَمَنُّ، وبكوا حتى أخضب الدمع لحاهم ي.

والخمس ينفل منه الإمام ما يراه حسب المصلحة، وأما الأربعة أخماس فللغانمين، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار حقهم منها، والتنفيل كان أكثره لقريش، فقد نفل النبي صلى الله عليه وسلم رؤساء القبائل، فنفل عيينة بن الحصن مائة، وفزارة سيد بني تميم مائة يتألفهم على الإسلام، فقد دخلوا في الإسلام حديثًا، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يطوعوا قبائلهم، وأما الأنصار الذين تقدم إسلامهم ما أعطاهم شيئا؛ فقد وكلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى إيمانهم ي.

و هذا الحديث منقبة للأنصار ي، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم يكون معهم حيث قال: «أو لا ترضون أن يرجع الناس بالغنائم إلى بيوتهم، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟!»، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم ».

والحديث فيه: تسمية النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالأنصار، فسماهم الله بالأنصار وكذلك سماهم النبي صلى الله عليه وسلم.

* * *

المتن

[30/54] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار»

قاله عبدالله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 ●         [3540] حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم - أو قال: أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «لو أن الأنصار سلكوا وادياً وشعباً لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار» فقال أبو هريرة: ما ظلم بأبي وأمي، آوَوْهُ ونصروه. وكلمةً أخرى.

الشرح

هذه الترجمة منقبة للأنصار، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار»، يعني: لولا الهجرة وفضلها لانتسبت إلى الأنصار، لكني مهاجر والمهاجر أفضل من الأنصاري، فالمهاجر ترك ماله وأولاده وأهله نصرة لله ولرسوله، فاجتمع في حقه أنه نصر الله ورسوله، وترك أهله وماله، أما الأنصار فهم يأتون في المرتبة الثانية؛ فالأنصار نصروا الله ورسوله، لكنهم لم يتركوا ديارهم وأولادهم وأموالهم، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فضل الهجرة لا أفرط فيه ففضلها عظيم، ولولا هذا الفضل لانتسبت إلى الأنصار.


وفيه: تسمية النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار، كما سماهم الله عز وجل.

 ●         [3540] يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «لو أن الأنصار سلكوا وادياً وشعباً لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرًءا من الأنصار»، يعني: الهجرة هي التي منعتني من أن أنتسب إلى الأنصار.

وقوله: «لسلكت في وادي الأنصار»، يعني: لما حصل لهم من موافقتهم له، ولما شاهده من حسن الجوار والوفاء بالعهد، وليس المراد أنه يصير تابعاً لهم، بل هو المتبوع المطاع عليه السلام الذي افترض الله طاعته على كل مؤمن.

قوله: «فقال أبو هريرة: ما ظلم بأبي وأمي»، يعني: أفديه بأبي وأمي.

قوله: «آووه ونصروه»، يعني: الأنصار آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه، ولذلك ما ظلم صلى الله عليه وسلم حينما قال: «لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار».

قوله: «وكلمة أخرى» المراد: أن الأنصار واسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وواسوا أصحابه ي بأموالهم.

* * *

المتن

[31/54] آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار

 ●         [3541 ] حدثنا إسماعيل بن عبدالله، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده قال: لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبدالرحمن وسعد بن الربيع، فقال لعبدالرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك! أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوما وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهيم؟» قال: تزوجت، قال: «كم سقت إليها؟» قال: نواة من ذهب - أو وزن نواة - شك إبراهيم.

 ●         [3542] حدثنا قتيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن حُميد، عن أنس أنه قال: قدم علينا عبدالرحمن بن عوف، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع - وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا، سأقسم مالي بينك وبيني شطرين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها، فقال عبدالرحمن: بارك الله لك في أهلك! فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئاً من سمن وأقط، فلم يلبث إلا يسيراً حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه وضر من صفرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهيم؟» قال: تزوجت امرأة من الأنصار، فقال: «ما سقت فيها؟» قال: وزن نواة من ذهب - أو نواة من ذهب- فقال: «أولم ولو بشاة».

 ●         [3543] حدثنا الصلت بن محمد أبو همام، قال: سمعت المغيرة بن عبدالرحمن، قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار: اقسِمْ بيننا وبينهم النخل، قال: لا، قال: «يكفونا المؤنة، ويَشْرَكُونا في الأمر»، قالوا: سمعنا وأطعنا.

الشرح

هذا الباب في إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فلما هاجر المهاجرون وتركوا بلادهم وأموالهم، وأولادهم وأهليهم، وقدموا على الأنصار وليس معهم شيء، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الأنصار.

وقوله: «آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار»، يعني: آخى بين كل رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، وقال: هذا أخوك.

وهذه أخوة خاصة، فصار الأنصاري يشاطر أخاه من المهاجرين ماله، وكانوا يتوارثون - أيضًا - بهذه الأخوة في أول الإسلام حتى نزل قول الله تعالى: (وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [الأنفال: 75].

 ●         [3541 ] قوله: «آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبدالرحمن وسعد بن الربيع» فعبدالرحمن هو عبدالرحمن بن عوف، وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وقال: هذا أخوك.

قوله: «إني أكثر الأنصار مالًا فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها»، أي: كان سعد بن الربيع رضي الله عنه كثير المال، فقال لعبدالرحمن رضي الله عنه: أقسم مالي معك نصفين، ولي زوجتان فانظر أيهما تروق لك فأطلقها، فإن انتهت عدتها تتزوجها.

وقد أتى هذا الحديث من طريقين، جاء من طريق أنس، ومن طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده، فقال في الرواية الأخرى: «قد علمت الأنصار أني أكثرهم مالاً سأقسم مالي بيني وبينك شطرين»، أي: نصفين «ولي امرأتان انظر أعجبهما إليك»، فقال له عبدالرحمن رضي الله عنه: «بارك الله لك في أهلك ومالك! أين سوقكم؟» أي: لم يرض بأن يكلف أخاه بقسمة ماله، فطلب منه أن يدله على السوق؛ لأنه أتى المدينة حديثًا، فلم يتعرف الأماكن بعد، فدلوه على السوق، فذهب إلى السوق وصار يبيع ويشتري، حتى صار عنده فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو كل يوم يبيع ويشتري، حتى صار من كبار الأغنياء، ثم تزوج امرأة من الأنصار، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم بزواجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في انشغالاته.

قوله: «ثم جاء يوما وبه أثر صفرة» الصفرة: الطيب، فاستنكرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «مهيم؟» يعني: ما حالك؟، فقال له عبدالرحمن رضي الله عنه: «تزوجت»، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كم سقت إليها؟ قال: نواة من ذهب».

وهذا فيه: دليل على أنه ينبغي على الإنسان التخفيف وعدم التكلف في المهور والولائم؛ حتى يقبل الشباب على الزواج، وفي ذلك مصالح عديدة من إعفاف للرجال والنساء وتكثير للأمة وغير ذلك من المصالح، فإن الأنصاري زوج عبدالرحمن بن عوف بوزن «نواة من ذهب»، وهذا شيء قليل.

 ●         [3542] قوله في هذا الحديث: «أولم ولو بشاة» فيه: مشروعية الوليمة للمتزوج، والأمر هنا للاستحباب، ولو كان للوجوب لكان متجهًا.


وفيه: أن أقل الوليمة شاة لمن أيسر الله عليه، وإن أولم بأقل منها أو بطعام ليس فيه لحم فلا حرج، فالنبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بالحيس([2])، وهو الأقط والسمن والتمر، وفي زواجه من زينب أشبع الناس خبزًا ولحمًا([3]).

 ●         [3543] هذا الحديث فيه منقبة للأنصار ي، فلما قدم المهاجرون عليهم وليس معهم شيء، كان للأنصار نخيل، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: «اقسم بيننا وبينهم النخل»، يعني: اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين النخيل، لنا النصف ولهم النصف؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا»، يعني: لا نأخذ نصف ثماركم، والمهاجرون لا يرضون أن يأخذوا مالكم، وهذا فيه أن المهاجرين نفوسهم عزيزة.

قوله: «قال: يكفونا المؤنة، ويشركونا في الأمر»؛ هذا قاله الأنصار، والمعنى: اهتموا أنتم بالأرض حرثًا وزرعًا وما إلى ذلك ونعطيكم مقابل هذا العمل، فتُقسم الثمرة بيننا وبينكم نصفين، فقال المهاجرون: «سمعنا وأطعنا»، فصار المهاجرون يزرعون الأرض ولهم نصف الثمرة.

وقوله: «يشركونا» من أشرك يُشرك بضم المثناة ويجوز يشركوننا بفتح الياء من شرك يَشرك إذا كان القائل الأنصار -والأقرب أن القائل هم الأنصار- والمعنى: أنه ما دام المهاجرون يرفضون أخذ نصف النخل، إذن يكفونا العمل في الأرض، ومقابل عملهم يشركوننا في الثمر، فلهم النصف ولنا النصف، فأجابهم المهاجرون: «سمعنا وأطعنا».

* * *

المتن

[32/54] حب الأنصار

 ●         [3544 ] حدثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثني عدي بن ثابت، قال: سمعت البراء قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - أو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله».

 ●         [3545] حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا شعبة، عن عبدالله بن عبدالله بن جبر، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار».

الشرح

هذه الترجمة في بيان أن حب الأنصار، من الإيمان.

وقوله: «حب الأنصار» هذا الحب يخص الدين، فالذي يحب الأنصار جميعاً لوجه الله فهو مؤمن، والذي يبغض الأنصار جميعا فهو منافق، أما من أبغض بعضهم لأمور تتعلق بغير الدين فلا يعد هذا نفاقًا، فلو حدث - مثلاً - بين أحد المهاجرين وبعض الأنصار أمر من أمور الدنيا ولا يتعلق بأمور الدين فأدى إلى شحناء أو بغضاء بينهم، فهذا لا يدل على النفاق، أما من يبغض الأنصار كلهم جميعاً فهذا منافق.

وكذلك من أحب أحد الأنصار لأمور دنيوية لا يكون مؤمنًا، وإنما الحب أن يحبهم جميعًا لإيمانهم وفضلهم؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «آية الإيمان حب الأنصار»، يعني: علامة الإيمان حب الأنصار جميعًا، وعلامة النفاق بغض الأنصار جميعًا.

 ●         [3544 ] قوله: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حب الأنصار ي دلالة على الإيمان؛ لأنهم نصروا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكذلك كل من نصر الله ورسوله ودينه بعد الأنصار سواء كان من العلماء أو الأخيار أو الدعاة أو من أهل الصلاح فإن حبهم دلالة على الإيمان، وبغضهم دلالة على النفاق.

 ●         [3545 ] قوله: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار»، يعني: علامة الإيمان حب الأنصار جميعًا، وعلامة النفاق بغض الأنصار جميعًا.

المتن

[33/54] قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: «أنتم أحب الناس إلي»

 ●         [3546 ] حدثنا أبو معمر، قال: حدثنا عبدالوارث، قال: حدثنا عبدالعزيز، عن أنس قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين - قال: حسبت أنه قال: من عُرْس؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم مُمَثَّلًا فقال: «اللهم أنتم من أحب الناس إليَّ»، قالها ثلاث مرارٍ.

مُمْثِلًا: مَثَلَ الرجلُ: قام.

 ●         [3547] حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير، قال: حدثنا بهز بن أسد، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني هشام بن زيد، قال: سمعت أنس بن مالك قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها صبي لها، فكلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إليَّ» - مرتين.

الشرح

قوله: «أنتم أحب الناس إلي» هذا الحب على طريق الإجمال، يعني: مجموعكم أحب إلي من مجموع غيركم، وهذا الحب لا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر عند جوابه سؤال من سأله: أي: الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» فقلت: من الرجال؟ قال: «أبوها»([4])؛ فهذا على طريق الإفراد والتفصيل.

وظاهر الترجمة يفيد أن مجموع الأنصار أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مجموع المهاجرين، ولا يلزم منها أن يكون الأنصار أفضل من المهاجرين؛ لأنه لا تلازم بين المحبة والفضل، فالمهاجرون أفضل؛ لأنهم فارقوا أهلهم وأموالهم وأولادهم وتركوها نصرة لله ولرسوله، فهم حاذوا الخصلتين الهجرة والنصرة، أما الأنصار فنصروا الله ورسوله، وصبروا على مقاطعة العرب، وجالدوهم بسيوفهم، لكنهم فعلوا كل ذلك وهم في بلادهم وبين أهلهم، فالمشقة عليهم أخف من مشقة المهاجرين، إذن المهاجرون من حيث الأفضلية هم الأفضل، وإن كان الحديث يفيد أن مجموع الأنصار أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مجموع المهاجرين.

 ●         [3546 ] قوله: «ممثّلاً»، بين الحافظ ابن حجر /: أنها بتشديد المثلثة بمعنى: مكلِّفًا نفسه، ووقع في النكاح بلفظ: «مُمْتَنًّا»، بضم أوله وسكون ثانيه، من المنة عليهم؛ وقيل: «مُمْثِلاً» بضم أوله وسكون ثانيه وكسر المثلثة، يعني: انتصب قائمًا.

 ●         [3547 ] قوله: «والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إليَّ - مرتين»، يدل على منقبة للأنصار، وأن مجموعهم أحب إليه من مجموع غيرهم.

 

([1]) أحمد (3/76)، وأصله في «الصحيحين».

([2]) أحمد (3/110) بمعناه، والبخاري (5169).

([3]) أحمد (3/200)، والبخاري (4794)، ومسلم (1428).

([4]) أحمد (4/203)، والبخاري (3662)، ومسلم (2384).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد