شعار الموقع

شرح كتاب مناقب الأنصار من صحيح البخاري (63-2)

00:00
00:00
تحميل
52

المتن

[34/54] أتباع الأنصار

 ●         [3548] حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو، قال: سمعت أبا حمزة، عن زيد بن أرقم: قالت الأنصار: يا رسول الله، لكل نبي أتباع، وإنا قد اتبعناك، فادع الله أن يجعل أتباعنا منا؛ فدعا به.

فنَمَيْتُ ذلك إلى ابن أبي ليلى فقال: قد زعم ذلك زيد.

 ●         [3549] حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا حمزة - رجلًا من الأنصار: قالت الأنصار: إن لكل قوم أتباعًا، وإنا قد اتبعناك، فادع الله أن يجعل أتباعنا منا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل أتباعهم منهم!».

قال عمرو: فذكرته لابن أبي ليلى قال: قد زعم ذلك زيد. قال شعبة: أظنه زيد بن أرقم.

الشرح

هذه الترجمة في أتباع الأنصار من الحلفاء والموالي.

 ●         [3548 ] قوله: «فادع الله أن يجعل أتباعنا منا»، يعني: من أولادنا وغيرهم.

قوله: «فنميت ذلك»، يعني: نقلت ذلك الكلام.

قوله: «قد زعم ذلك زيد»، يعني: زيد بن أرقم.

 ●         [3549] هذه طريق ثانية للحديث.

قوله: «قد زعم ذلك زيد»، يعني: قال؛ فالزعم يأتي بمعنى القول مثلما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال له: «... وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا،... وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان...»([1]).

وقد يأتي الزعم بمعنى الادعاء والكذب، كما في قول الله عز وجل: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) [التغابن: 7].

المتن

[35/54] فضل دور الأنصار

 ●         [3550] حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت قتادة، عن أنس بن مالك، عن أبي أُسَيْد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحارث بن الخزرج ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير»، فقال سعد: ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا، فقيل: قد فضلكم على كثير.

وقال عبدالصمد: حدثنا شعبة، قال: حدثنا قتادة، قال: سمعت أنساً، قال أبو أُسَيْد عن النبي صلى الله عليه وسلم... بهذا، وقال: سعد بن عبادة.

 ●         [3551] حدثنا سعد بن حفص، قال: حدثنا شيبان، عن يحيى، قال أبو سلمة: أخبرني أبو أَسِيد، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خير الأنصار - أو قال: خير دور الأنصار - بنو النجار وبنو عبد الأشهل وبنو الحارث وبنو ساعدة».

 ●         [3552] حدثنا خالد بن مخلد، قال: حدثنا سليمان، قال: حدثني عمرو بن يحيى، عن عباس بن سهل، عن أبي حميد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن خير دور الأنصار دار بني النجار ثم عبد الأشهل ثم دار بني الحارث ثم بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير»، فلَحِقَنا سعد بن عبادة فقال: أبو أُسَيْد ألم تر أن الله خيَّر الأنصار فجَعَلَنا آخِرًا؟! فأدرك سعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، خُيِّر دور الأنصار فجُعلنا آخِرًا، فقال: «أوليس بحسْبكم أن تكونوا من الخيار؟!».

الشرح

قوله: «فضل دور الأنصار» يعني: حاراتهم ومحلاتهم وقبائلهم، أي: الدور بمعناها الأعم، أما الدار التي يسكنها الإنسان فليست هي المرادة هنا.

 ●         [3550 ] قوله: «خير دور الأنصار بنو النجار»، يعني: خير قبائل الأنصار بنو النجار، وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أخوال جده عبد المطلب، وهم من الخزرج، والنجار هو تيم الله، وسمي بذلك لأنه ضرب رجلًا فنجره، فقيل له: النجار، وهو ابن ثعلبة بن عمرو.

قوله: «ثم بنو عبد الأشهل» يعني: هذه القبيلة الثانية التي تلي بني النجار في الفضل، وهم من الأوس، وعبد الأشهل هو: عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصغر بن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة.

قوله: «ثم بنو الحارث بن الخزرج» جاءوا في المرتبة الثالثة بالنسبة للأفضلية.

قوله: «ثم بنو ساعدة» في المرتبة الرابعة من الأفضلية.

قوله: «وفي كل دور الأنصار خير»، يعني: أن الخير في كل قبائل الأنصار، التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي سكت عنها.

قوله: «فقال سعد: ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا»، قال ذلك - لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بني ساعدة - وهي قبيلة سعد - القبيلة الرابعة في الأفضلية؛ فغار سعد وقال: «ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا».

قوله: «فقيل: قد فضلكم على كثير»، يعني: أنتم أفضل من غيركم من بقية قبائل الأنصار التي لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم اسمها.

 ●         [3551 ] قوله: «خير الأنصار - أو قال: خير دور الأنصار: بنو النجار وبنو عبد الأشهل وبنو الحارث وبنو ساعدة» فيه: تفضيل القبائل الأربع إلا أنه هنا عطف بعضهم على بعض بحرف «الواو» وفي الرواية السابقة عطف بعضهم على بعض بالحرف «ثم»، وهي تفيد الترتيب والتراخي، أما «الواو»، فلا تفيد الترتيب.

 ●         [3552 ] قوله: «إن خير دور الأنصار دار بني النجار ثم عبد الأشهل ثم دار بني الحارث ثم بني ساعدة» «ثم» تفيد الترتيب، وبنو النجار هم أخوال جد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن والدة عبد المطلب منهم؛ ولذلك نزل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، فلهم بذلك مزية على غيرهم، وكان أنس رضي الله عنه منهم فله عناية بحفظ فضائلهم، ولما فضل النبي صلى الله عليه وسلم أربع قبائل من قبائل الأنصار، وسكت عن بقية القبائل قال: «وفي كل دور الأنصار خير».

قوله: «فلحقنا سعد بن عبادة فقال: أبو أسيد»، هنا يقدر حرف نداء، فالمقصود: يا أبا أسيد.

قوله: «ألم تر أن الله خير الأنصار فجَعَلنَا آخِرًا» وخير يعني: فضَّل، أي: فضل بعض قبائل الأنصار على بعض فجعلنا آخر القبائل المفضلة، مما جعل الغيرة تصيب سعد بن عبادة رضي الله عنه وهو سيد الخزرج.

قوله: «أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟!» أي: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطيب خاطر سعد بن عبادة رضي الله عنه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ألا يكفيك أنكم من الخيار، فهناك الكثير من قبائل الأنصار سكتُّ عنها، فأنتم أفضل من هذه القبائل الكثيرة المسكوت عنها، فطابت نفسه رضي الله عنه.

* * *

المتن

[36/54] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:
«اصبروا حتى تلقوني على الحوض»

قاله عبدالله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 ●         [3553] حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت قتادة، عن أنس بن مالك، عن أسيد بن حضير، أن رجلا من الأنصار قال: يا رسول الله، ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟ قال: «ستلقون بعدي أَثَرةً، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض».

 ●         [3554] حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن هشام، قال: سمعت أنسًا يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: «إنكم ستلقون بعدي أَثَرةً، فاصبروا حتى تلقوني، وموعدكم الحوض».

 ●         [3555] حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، قال: «إما لا، فاصبروا حتى تلقوني؛ فإنه ستصيبكم أثرة بعدي».

الشرح

قوله: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض» جاء هذا في ثلاثة أحاديث ساقها المؤلف من ثلاث طرق:

الطريق الأولى عن أسيد بن حضير، والثانية والثالثة عن أنس.

 ●         [3553 ] قوله: «ألا تستعملني كما استعملت فلانًا؟» يعني: ألا تجعل لي وظيفة، فقد وظَّفت فلانًا ولم توظفني.

قوله: «ستلقون بعدي أَثَرةً، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»، أي: أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في المستقبل سيرون من ولاة الأمور من يمنعهم حقهم، ويفضل غيرهم عليهم في الأعطيات والوظائف.

وأمرهم صلى الله عليه وسلم بقوله: «فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»، تسلية لهم وتوطينًا لهم على الصبر.

 ●         [3554 ] قوله: «إنكم ستلقون بعدي أَثَرةً»، يعني: تفضيل غيركم وإيثاره عليكم في الوظائف والأعطيات.

قوله: «فاصبروا حتى تلقوني، وموعدكم الحوض»، هذه منقبة لهم،
وفيه: توطين لهم على الصبر.

 ●         [3555 ] قوله: «سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد»، يعني: سافر معه إلى الوليد بن عبدالملك بن مروان، وذلك حينما آذى الحجاج بن يوسف أنسًا رضي الله عنه، فسافر أنس رضي الله عنه من العراق إلى دمشق يشكو الحجاج إلى الوليد بن عبدالملك خليفة المسلمين آنذاك، فأنصفه الخليفة وأرسل إلى الحجاج كتابًا شديد اللهجة ساقه الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية»، ومما قال في هذا الكتاب: «فلعنك الله من عبد أخفش العينين، تهددت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وصلك كتابي هذا فأنصفه»([2])، فلما وصله الكتاب أخذه على العين والرأس، وكف الأذى عن أنس رضي الله عنه.

قوله: «إلى أن يقطع لهم البحرين» الإقطاع: المنحة، والمعنى: ليعطيهم أرض البحرين منحة.

قوله: «لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها» هذا من فضل الأنصار وإيثارهم ي، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منحة قالوا: لا يا رسول الله، إلا أن تعطي إخواننا المهاجرين مثلنا، وإلا فلا تعطنا.

قوله: «فاصبروا حتى تلقوني»، يعني: على الحوض.

قوله: «فإنه ستصيبكم أثرة بعدي»، يعني: بعض الأمراء والولاة والناس سوف يفضلون غيركم عليكم في الأعطيات وفي الوظائف فاصبروا.

* * *

المتن

[37/54] دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «أصلح الأنصار والمهاجرة»

 ●         [3556 ] حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا أبو إياسٍ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عيش إلا عيش الآخره، فأصلح الأنصار والمهاجرة».

وعن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم... مثله، وقال: «فاغفر للأنصار...».

 ●         [3557 ] حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن حميد الطويل، سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت الأنصار يوم الخندق تقول:

نحــن الذيـن بايعـوا محمــداً على الجهـاد مـا حيينا أبداً

فأجابهم: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخره، فأكرم الأنصار والمهاجرة».

 ●         [3558] حدثني محمد بن عبيدالله، قال: حدثنا ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نحفر الخندق وننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار».

الشرح

هذه الترجمة في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصلح الله عز وجل الأنصار والمهاجرين.

 ●         [3556 ] قوله: «فأصلح الأنصار والمهاجرة»، فيه: مشروعية الدعاء للمؤمنين، وولاة الأمور بالصلاح والمعافاة، وقد أثنى الله على المؤمنين في دعائهم لمن سبقهم من إخوانهم، فقال: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا)[الحشر: 10].

 ●         [3557] حفر المسلمون خندقًا حول المدينة، وذلك عندما تحزب الأحزاب؛ للقضاء على الإسلام والمسلمين، حيث تجمع الكفرة، وأحاطوا بالمدينة وحاصروها.

وحَفْر الخندق جاء بناء عن مشورة أشار بها سلمان الفارسي رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم رأي: سلمان رضي الله عنه؛ حتى يمنع خيل الأحزاب من المرور إلى داخل المدينة، فكلما كانت المسافة بين حافتي الخندق كبيرة جعلت خيل الكفار تسقط فيه إذا حاولت المرور، وجعل المسلمون للمدينة أبوابًا، وجعلوا على الأبواب حراسًا فمنعوا الكفار من دخول المدينة.

وجاءت الأحزاب، ودارت حول المدينة فرأوا الخندق، فقالوا: هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها؛ وقد أخذ الحفر مدة طويلة، وكانت أيامه أيام برد، وقابلتهم عقبات كثيرة، فأحيانًا تظهر لهم صخرة تعوقهم عن إكمال الحفر، فيكسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقدرة الله عز وجل، وكانوا وهم يحفرون الخندقيرتجزون:

«نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما حيينا أبداً»

فهي كلمات طيبة فيها التشجيع على العمل.

فيجيبهم النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فأكرم الأنصار والمهاجرة».

 ●         [3558 ] قوله: «أكتادنا» جمع كتد، وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، أي: يجعلونه على أكتافهم.

* * *

المتن

[38/54] (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9]

 ●         [3559 ] حدثنا مسدد، قال: حدثنا عبدالله بن داود، عن فضيل بن غزوان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يضم - أو يضيف - هذا؟» فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبيان، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونومت صبيانها، ثم قامت كأنَّما تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ضحك الله الليلة - أو عجب - من فعالكما»؛ فأنزل الله عز وجل: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9].

الشرح

 ●         [3559] هذا الحديث فيه إيثار الأنصار على أنفسهم كما قال الله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)  [الحشر: 9]. فإن كان بهم حاجة ومجاعة وشدة يقدمون غيرهم على أنفسهم كما في هذه القصة.

قوله: «من يضم - أو يضيف - هذا؟» أي: من يؤوي هذا الرجل فيضيفه، وفي رواية أبي أسامة: «ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله»([3]).

قوله: «فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبيان» يعني: ما عندنا إلا طعام الصبيان فآثروا الضيف وأعطوه طعام الصبيان.

قوله: «هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء» يعني: اصنعي الطعام وأوقدي المصباح وألهي الصبيان - إذا أرادوا العشاء - حتى يناموا.

قوله: «كأنما تصلح سراجها فأطفأته»، يعني: أطفأته متعمدة.

قوله: «فجعلا يريانه أنهما يأكلان»؛ أي: يضعان يديهما فيظن الضيف أنهما يأكلان فيأكل حتى يشبع، ويحتمل أن يكون هذا قبل تشريع الحجاب، أو أن الظلام بعد إطفاء السراج أصبح حجابًا.

قوله: «ضحك الله الليلة - أو عجب» فيه: إثبات الضحك لله، وإثبات العجب وهو من الصفات الفعلية التي تليق بالله في جلاله وعظمته، ومن ذلك ما في الحديث الآخر: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة»([4])، وضحك الله عز وجل لا يشبه ضحك المخلوقين، وعجبه عز وجل لا يشبه عجب المخلوقين، وجاءت صفة عجب الله عز وجل في أحاديث أخرى، منها حديث: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل»([5]). وكذلك في قراءة: «بل عجبتُ ويسخرون»، فهي قراءة مشهورة لقول الله تعالى: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) [الصافات: 12] ، تفيد إثبات صفة العجب لله عز وجل.

قوله: «من فعالكما»: «فَعال» بفتح الفاء تأتي في الخير مثل الجود والكرم، والفِعال بالكسر إذا كان الفعل بين اثنين، وقد تستعمل في الشر، وجاء في رواية: «من فعلكما»، وفي رواية أخرى: «من صنيعكما»([6])، وفي تفاسير الآية: «من فلان وفلانة»([7]).

قوله: «فأنزل الله عز وجل: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9]» فهذه منقبة عظيمة للأنصار.

قال الحافظ ابن حجر /: «ونسبة الضحك والتعجب إلى الله مجازية، والمراد بهما الرضا بصنيعهما»؛ هذا من تأويله على طريقة الأشاعرة، والصواب إثبات الضحك والعجب لله عز وجل، وعلى هذا الكلام تعليق لمحب الدين الخطيب قال فيه: «ليت المصنف نزه كتابه عن بيان غير بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، واكتفى بأن قال: ضحك وعجب يليق بجلاله عز وجل، والكلام في الصفات كالكلام في الذات: إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 11]، وهذا هو مذهب الصحابة والتابعين، وتابعيهم إلى يوم الدين»([8]).

يقول الحافظ ابن حجر /: «في الحديث دليل على نفوذ فعل الأب في الابن الصغير وإن كان مطويًّا على ضرر خفيف إذا كان في ذلك مصلحة دينية أو دنيوية».

فالأب أعطى الضيف طعام الصبيان، ذلك بما له من حق في أن يتصرف في الأمور الخاصة بصغاره وإن كان في تصرفه ضرر خفيف عليهم، ذلك إذا كان من وراء هذا الضرر مصلحة دينية أو دنيوية.

ويقول الحافظ ابن حجر /: «وهو محمول على ما إذا عرف بالعادة من الصغير الصبر على مثل ذلك».

* * *

المتن

[39/54] قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم»

 ●         [3560] حدثني محمد بن يحيى أبو علي، قال: حدثنا شاذان أخو عبدان، قال: حدثنا أبي، قال: أنا شعبة بن الحجاج، عن هشام بن زيد قال: سمعت أنس بن مالك يقول: مر أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس للنبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم - وقد عصب على رأسه حاشية بُرْدِهِ، قال: فصعد المنبر - ولم يصعده بعد ذلك اليوم - فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم».

 ●         [3561] حدثنا أحمد بن يعقوب، قال: حدثنا ابن الغسيل، قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت ابن عباس يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ملحفة متعطفًا بها على منكبيه وعليه عصابة دسْمَاء، حتى جلس على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، أيها الناس فإن الناس يكثرون، ويقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرًا يضر فيه أحدًا أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم».

 ●         [3562] حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأنصار كرشي وعيبتي، والناس سيكثرون ويقلون، واقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم».

الشرح

قوله: «اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم»، يعني: الأنصار؛ فهذه الترجمة في فضائلهم ومناقبهم.

 ●         [3560 ] قوله: «مر أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون» وهذا من فضلهم ورقة قلوبهم ي، حيث تذكروا مجالس النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يبكون.

قوله: «فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس للنبيِّ صلى الله عليه وسلم منا، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم - وقد عصب على رأسه حاشية بُرْدِهِ، قال: فصعد المنبر - ولم يصعده بعد ذلك اليوم»، أي: أن هذا كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا عصب رأسه من وجع يحس به.

قوله: «فحمد الله وأثنى عليه»، فيه: مشروعية حمد الله والثناء عليه بين يدي الخطبة، سواء كانت خطبة الجمعة أو خطبة الوعظ، فيشرع للإنسان أن يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدخل في الموضوع.

قوله: «أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي»، يعني: هم بطانتي وخاصتي؛ قال الحافظ ابن حجر /: «قال القزاز ضرب المثل بالكرش؛ لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه، ويقال: لفلان كرش منثورة، أي: عيال كثيرة، والعيبة - بفتح المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة: ما يحرز فيه الرجل نفيس ما عنده، يريد أنهم موضع سره وأمانته، وقال غيره: الكرش بمنزلة المعدة للإنسان، والعيبة مستودع الثياب، والأول أمر باطن والثاني أمر ظاهر، فكأنه ضرب المثل بهما في إرادة اختصاصهم بأموره الباطنة والظاهرة».

وقوله صلى الله عليه وسلم هذا منقبة عظيمة للأنصار ي.

قوله: «وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم» يشير إلى ما وقع لهم ليلة العقبة من المبايعة،؛ فإنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يؤوه وينصروه على أن لهم الجنة، فوفوا بذلك ي، والذي بقي لهم هو الإحسان إليهم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم»، وهذا القبول والتجاوز فيما أمكن، أما ما لا يمكن فلا قبول ولا تجاوز، كالحدود فلابد من أدائها.

ومن الفوائد التي في الحديث: أنه ينبغي على الإمام أن يوصي أصحابه أو رعيته بأهل النجدة والجود والكرم والإحسان، فيعرف لهم فضائلهم وسابقتهم؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم»([9])؛ فالإنسان الكريم أو الجواد ليس كغيره، فيجب علينا أن ننزله منزلته، ونقيل عثرته، ونتجاوز عن زلته التي صدرت منه على غير عادته.

 ●         [3561 ] قوله: «نا ابن الغسيل»، هو: عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة الأنصاري، وحنظلة هو غسيل الملائكة؛ لأنه سمع داعي الجهاد وكان جنبًا فقام ودخل المعركة فقتل وهو على جنابته، فغسلته الملائكة بين السماء والأرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن صاحبكم حنظلة تغسله الملائكة»([10]).

قوله: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ملحفة متعطفًا بها على منكبيه» يعني: متوشحًا ومرتديًا بها، والعطاف الرداء سمي بذلك لوضعه على العطفين وهما ناحيتا العنق، ويطلق على الأردية معاطف.

قوله: «وعليه عصابة دسماء»، أي: لونها كلون الدسم وهو الدهن، وقيل: المراد أنها سوداء لكن ليست خالصة السواد،
وفيه: دليل على أنه لا بأس بلبس السواد، ما لم يكن من خصائص النساء، والرجل يشرع له أن يلبس الأبيض والملون ولكن الأبيض أفضل.

أما لبس العمامة فهو عادة من عادات العرب، وقد تكون العمامة حمراء أو سوداء وقد تكون بيضاء، والأقرب - والله أعلم - أنها ليست من السنة وإنما هي عادة من العادات.

ومن عادة العرب - أيضًا - أن يلبس الإنسان إزارًا ورداءً، فالعربي يلبس قطعة يشد بها نصفه الأسفل وتسمى إزارًا، وقطعة يجعلها على كتفيه وتسمى رداءً، ولو كان في غير الحج والعمرة، ولبس النبي صلى الله عليه وسلم الإزار والرداء، فروي أنه لما كسفت الشمس قام النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى دخل المسجد([11])، وأحيانًا كانوا يلبسون القُمُص، والأقرب في كل هذا أنه عادة من عادات الناس، والله وأعلم.

قوله: «حتى جلس على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد» فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على قول: «أما بعد»، وتقال عند بدء الكلام عن موضوع معين.

قوله: «فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام» وهذا فيه عَلَم من أعلام النبوة؛ حيث أخبر أن الناس يكثرون وأن الأنصار يقلون فوقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

 ●         [3562 ] قوله: «واقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم»، يعني: فيما أمكن الإحسان فيه، أو التجاوز عنه.

* * *

المتن

[40/54] مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه

 ●         [3563 ] حدثنا محمد بن بشار، قال: أنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، وقال: «أتعجبون من لين هذه؟! لمناديل سعد بن معاذ خير منها أو ألين».

رواه قتادة والزهري، سمعا أنسًا، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 ●         [3564] حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا فضل بن مساور - خَتَنُ أبي عوانة- قال: حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ».

وعن الأعمش، قال: حدثنا أبو صالح، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم... مثله، فقال رجل لجابر: فإن البراء يقول: اهتز السرير، فقال: إنه كان بين هذين الحيين ضغائن، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ».

 ●         [3565] حدثنا محمد بن عرعرة، قال: أنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبي سعيد الخدري، أن ناسًا نزلوا على حكم سعد بن معاذ؛ فأرسل إليه، فجاء على حمار، فلما بلغ قريبًا من المسجد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى خيرِكم - أو سيدِكم»، قال: «يا سعد، إن هؤلاء نزلوا على حكمك»، قال: فإني أحكم فيهم أن يقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، قال: «حكمت بحكم الله - أو بحكم الملك».

الشرح

 سعد بن معاذ هو ابن النعمان بن امرئ القيس بن عبد الأشهل، وهو كبير الأوس وسيدهم، كما أن سعد بن عبادة كبير الخزرج؛ ولهذا يقول الشاعر:

وإن يسلم السَّعدان يصبح محمد بمكة لا يخشى خلاف المخالف

فالسعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.

 ●         [3563] هذا الحديث فيه منقبة لسعد بن معاذ،
وفيه: الشهادة له بالجنة.

وقوله: «لمناديل سعد بن معاذ خير منها» يعني: مناديل سعد رضي الله عنه في الجنة خير من حلة الحرير الناعمة اللينة التي عجب الصحابة ي من لينها،
وفيه: دليل على أن الدنيا لا تساوي شيئًا إذا قورنت بما في الجنة.


وفي الحديث: الآخر: «موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها»([12]).

 ●         [3564 ] قوله: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ» فيه: منقبة عظيمة لسعد بن معاذ؛ فقد اهتز لموته عرش الرحمن، وهذه المنقبة الثانية لسعد بن معاذ رضي الله عنه؛ فالمنقبة الأولى تبشيره بالجنة وأن مناديله في الجنة ألين من الحلة الحرير التي أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم، والمنقبة الثانية اهتزاز العرش.

قوله: «إنه كان بين هذين الحيين ضغائن» الضغائن جمع ضغينة، وهي الحقد.

قال الحافظ ابن حجر /: «قال الخطابي: إنما قال جابر رضي الله عنه ذلك؛ لأن سعدًا رضي الله عنه كان من الأوس، والبراء رضي الله عنه كان من الخزرج، والخزرج لا تقر للأوس بفضل»؛ ولهذا قال: اهتز السرير.

وقد تعقبه الحافظ ابن حجر فقال: «كذا قال وهو خطأ فاحش؛ فإن البراء رضي الله عنه أيضًا أوسيٌّ؛ لأنه ابن عازب بن الحارث بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج ابن عمرو بن مالك بن الأوس، يجتمع مع سعد بن معاذ رضي الله عنه في الحارث بن الخزرج».

وقال الحافظ أيضًا: «وإنما قال جابر رضي الله عنه ذلك إظهارًا للحق واعترافًا بالفضل لأهله، فكأنه تعجب من البراء رضي الله عنه كيف قال ذلك؟ مع أنه أوسي، ثم قال: أنا وإن كنت خزرجيًّا - وكان بين الأوس والخزرج ما كان - لا يمنعني ذلك أن أقول الحق فذكر الحديث، والعذر للبراء رضي الله عنه أنه لم يقصد تغطية فضل سعد بن معاذ، وإنما فهم ذلك فجزم به، هذا الذي يليق أن يظن به، وهو دال على عدم تعصبه».

ونقول: لا منافاة بين السرير والعرش في قوله: «اهتز السرير»؛ فالعرش هو السرير.

قال الحافظ ابن حجر /: «وأما تأويل البراء على أنه أراد بالعرش السرير الذي حمل عليه فلا يستلزم ذلك فضلًا له؛ لأنه يشركه في ذلك كل ميت، إلا أن يريد اهتز حملة السرير»، لكن هذا بعيد.

وقال الحافظ ابن حجر /: «وقد أنكر ابن عمر رضي الله عنه ما أنكره البراء رضي الله عنه فقال: إن العرش لا يهتز لأحد، ثم رجع عن ذلك وجزم بأنه اهتز له عرش الرحمن... والمراد باهتزاز العرش استبشاره وسروره بقدوم روحه».

ففسر الحافظ المراد باهتزاز العرش وقال: هو استبشاره وسروره بقدوم روحه، فيقال لكل من فرح بقدوم قادم عليه: اهتز له، ومنه اهتزت الأرض بالنبات إذا اخضرت وحسنت.

وهذا تأويل لا حاجة إليه، بل الواجب الأخذ بظاهر النصوص، ما لم يأت نص ثابت يقتضي صرف النص عن ظاهره.

ونقل الحافظ ابن حجر قول الإمام مالك عن اهتزاز العرش: «إن معتقد سلف الأئمة وعلماء السنة من الخلف أن الله منزه عن الحركة والتحول والحلول، ليس كمثله شيء».

والحركة والتحول أمور مسكوت عنها عند السلف الصالح، ومن السلف من أثبتها، ومنهم من نفاها، فمعتقد السلف الصالح في هذه الأمور السكوت عما سكت الله ورسوله عنه، وإثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، فلا يقال: إنه يتحرك أو لا يتحرك، مثل الجسم والحيز، فتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

 ●         [3565 ] قوله: «أن ناسًا نزلوا على حكم سعد بن معاذ»، أي: من اليهود، وكان في المدينة ثلاث قبائل من اليهود صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم، هم بنو القينقاع، وبنو النضير وبنو قريظة؛ فبنو النضير أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة، وبنو قريظة لما نقضوا العهد قالوا: ننزل «على حكم سعد بن معاذ»، وكان سعد رضي الله عنه قد أصابه سهم في أكحله يوم الأحزاب فحمل على بعير متأثرًا بجراحه.

قوله: «قوموا إلى خيرِكم - أو سيدِكم»؛ فيه: دليل على أنه لا بأس أن يقال: سيد بني فلان أو سيدكم بالإضافة، وهذا لا يعارض حديث: «السيد الله تبارك وتعالى»([13]) فلفظة السيد بالإطلاق تطلق على الله عز وجل، أما بالإضافة فالأمر أوسع.

ومما يفعله بعض الناس أنهم يكتبون في الخطابات وغيرها: السيد فلان ولا يفرقون في ذلك بين العدل والفاسق، فهذا خطأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «قوموا إلى سيدكم»؛ لأنه رئيسهم وخيرهم.

قوله: «إن هؤلاء نزلوا على حكمك»، يعني: إن بني قريظة حكَّموا سعد بن معاذ رضي الله عنه فيهم، بعد أن نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، واختاروا سعدًا رضي الله عنه؛ لأنهم كانوا في الجاهلية حلفاء للأوس، فظنوا أنه سيراعيهم في الحكم، وما علموا أن الإسلام يجب ما قبله.

قوله: «أن يقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم» يعني: يقتل الرجال، وتؤخذ النساء والذرية غنيمة للمسلمين؛ وذلك بسبب نقضهم العهد، فقتل الرجال وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة، ومن شكوا في بلوغه كشفوا عن مئزره، فإن وجدوا الشعر الخشن يقتل، وإن لم ينبت اعتبروه من الذرية، ومن ذلك كعب القرظي رضي الله عنه كان ممن لم ينبت، فترك واعتبر من الذرية، ثم أسلم رضي الله عنه.

قوله: «حكمت بحكم الله - أو بحكم الملك»، وفي اللفظ الآخر: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة»([14]) يعني: من فوق سبع سموات، وهذه منقبة لسعد رضي الله عنه أنه حكم فيهم بحكم الله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صوب حكمه.

* * *

المتن

[41/54] مَنقَبَةُ أسيد بن حضير وعباد بن بشر م

 ●         [3566 ] حدثنا علي بن مسلم، قال: حدثنا حَبَّان، قال: حدثنا همام، قال: أنا قتادة، عن أنس، أن رجلين خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فإذا نور بين أيديهما حتى تفرَّقا، فتفرَّق النور معهما.

وقال معمر، عن ثابت، عن أنس: إن أسيد بن حضير ورجلاً من الأنصار.

وقال حماد: أنا ثابت، عن أنس: كان أسيد وعباد بن بشر عند النبي صلى الله عليه وسلم.

الشرح

 ●         [3566] هذه الترجمة منقبة عظيمة وكرامة لهذين الصحابيين: أسيد بن حضير وعباد بن بشر م، فقد خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة؛ فإذا نور بين أيديهما حتى تفرَّقا، فلما تفرقا صار لكل واحد منهما نور.

قوله: «فتفرق النور معهما»، وفي لفظ آخر: «أضاءت عصا هذا وعصا هذا»([15]) يعني: عندما تفرقا أضاءت لكل واحد منهما عصاه التي معه حتى وصل إلى بيته.

* * *

المتن

[42/54] مناقب معاذ بن جبل رضي الله عنه

 ●         [3567 ] حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو، عن إبراهيم، عن مسروق، عن عبدالله بن عمرو، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: «استقرئوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي، ومعاذ بن جبل».

الشرح

 ●         [3567 ] قوله: «استقرئوا القرآن من أربعة»، فيه: أمر من النبي صلى الله عليه وسلم، فالهمزة والسين والتاء للطلب، يعنى: اطلبوا قراءة القرآن من هؤلاء واقرؤوا عليهم، وهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الصحابة ي بحفظ القرآن.

* * *

المتن

[43/54] مَنقبَةُ سعد بن عبادة رضي الله عنه

وقالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا.

 ●         [3568] حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبدالصمد، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا قتادة، قال: سمعت أنس بن مالك، قال أبو أسيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبدالأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير»، فقال سعد بن عبادة - وكان ذا قَدم في الإسلام: أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فضل علينا، فقيل له: قد فضلكم على ناس كثير.

الشرح

قوله: «وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً» هذا طرف من حديث الإفك الطويل
وفيه: ذِكْر ما دار بين سعد بن عبادة وأسيد بن حضير م لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يعذرني في رجل بلغ آذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا»([16])، ويقصد عبد الله بن أبي الذي آذى النبي صلى الله عليه وسلم ورمى عائشة ل بالإفك والبهتان، فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وقال: أنا أعذر يا رسول الله إن كان منا - من الأوس - ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك، فقال له سعد بن عبادة رضي الله عنه: لا تستطيع قتله، قالت عائشة ل: فاحتملته الحمية، وكان قبل ذلك - يعني: قبل هذه المقالة - رجلًا صالحًا، فثار بينهما الكلام إلى أن أسكتهم النبي صلى الله عليه وسلم.

ولا يلزم من قول عائشة أن يكون خرج عن صفة الصلاح، فلا يزال رجلًا صالحًا؛ إذ ليس في الخبر تعرض لما بعد تلك المقالة، والذي يظهر استمرار ثبوت هذه الصفة له، فهو معذور في تلك المقالة؛ لأنه كان متأولًا، فتخيل أن أسيد بن حضير - وهو من الأوس - أراد الغض من قبيلة الخزرج - لما كان بين الطائفتين - فرد عليه.

قال الحافظ ابن حجر /: « لم يقع من سعد بعد ذلك شيء يعاب به إلا أنه امتنع من بيعة أبي بكر فيما يقال، وتوجه إلى الشام فمات بها، والعذر في ذلك أنه تأول أن للأنصار في الخلافة استحقاقًا فبنى على ذلك، وهو معذور وإن كان ما اعتقده من ذلك خطأ».

 ●         [3568 ] قوله: «دور الأنصار»، يعني: القبائل والأحياء والحارات والمحلات، وليس المراد الدور العادية.

قوله: «بنو النجار»، هم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلهم صلى الله عليه وسلم: أفضل قبائل الأنصار، «ثم بنو عبد الأشهل»، وهذه القبيلة الثانية في الأفضلية، «ثم بنو الحارث بن الخزرج»، وهذه القبيلة الثالثة في الأفضلية.

قوله: «ثم بنو ساعدة»، هي قبيلة سعد بن عبادة رضي الله عنه، وجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في المرتبة الرابعة من الأفضلية.

قوله: «وفي كل دور الأنصار خير» فضل النبي صلى الله عليه وسلم دور الأنصار لسبقهم إلى الإسلام، وليست الأفضلية هنا لأمور دنيوية، وإنما جاءت الأفضلية لأمور دينية.

قوله: «وكان ذا قدم في الإسلام» يصح أن تكون «قَدم أو قِدم».

قوله: «أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فضل علينا»، أي: جعلنا في المرتبة الرابعة.

قوله: «قد فضلكم على ناس كثير»، يعني: هناك الكثير من القبائل التي لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وقد فضلكم عليهم جميعًا.

ويذكر بعض الناس أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قتلته الجن حينما بال في جحر، وقالت الجن في ذلك شعرًا:

قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده رميناه بسهمين فلم نخط فؤاده

والله أعلم بصحة ذلك أو عدم صحته.

* * *

المتن

[44/54] مناقب أبي بن كعب رضي الله عنه

 ●         [3569] حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم، عن مسروق قال: ذُكر عبدالله بن مسعود عند عبدالله بن عمرو فقال: ذاك رجل لا أزال أحبه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خذوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود - فبدأ به، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب».

 ●         [3570] حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: سمعت شعبة، قال: سمعت قتادة، عن أنس بن مالك، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا) [البينة: 1]»، قال: وسماني؟! قال: «نعم»؛ فبكى.

الشرح

 ●         [3569 ] قوله: «خذوا القرآن من أربعة»، منقبة لهؤلاء الأربعة ومنهم أبي بن كعب،
وفيه: شهادة لهم من النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم قد حفظوا القرآن الكريم.

 ●         [3570 ] قوله: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا) [البينة: 1]» هذه منقبة عظيمة لأبي رضي الله عنه.

قوله: «وسماني؟!» يعني: هل نص على اسمي؟ أم قال: اقرأ على واحد من أصحابك فاخترتني، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: بل سماك.

قوله: «فبكى»، يعني: فرحًا وسرورًا، أو خشوعًا وخوفًا من التقصير في شكر النعمة، وهو الأقرب.

قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «سماني؟»، أي: هل نص عليَّ باسمي؟ أو قال: اقرأ على واحد من أصحابك فاخترتني أنت؟ فلما قال له: «نعم»، بكى، إما فرحًا وسرورًا بذلك، وإما خشوعًا وخوفًا من التقصير في شكر تلك النعمة».

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وفي رواية للطبراني من وجه آخر عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: «نعم باسمك ونسبك في الملأ الأعلى»([17]). قال القرطبي: تعجب أبي رضي الله عنه من ذلك؛ لأن تسمية الله له ونصه عليه ليقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم تشريف عظيم، فلذلك بكى، إما فرحًا وإما خشوعًا؛ قال أبو عبيد: المراد بالعرض على أبي رضي الله عنه ليتعلم أبي رضي الله عنه منه صلى الله عليه وسلم القراءة ويتثبت فيها، وليكون عرض القرآن سنة، وللتنبيه على فضيلة أبي ابن كعب رضي الله عنه وتقدمه في حفظ القرآن، وليس المراد أن يستذكر منه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا بذلك العرض، ويؤخذ من هذا الحديث مشروعية التواضع في أخذ الإنسان العلم من أهله وإن كان دونهم. وقال القرطبي: خص هذه السورة بالذكر؛ لما اشتملت عليه من التوحيد والرسالة، والإخلاص، والصحف، والكتب المنزلة على الأنبياء، وذكر الصلاة، والزكاة، والمعاد، وبيان أهل الجنة والنار، مع وجازتها» يعني: سورة (لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا) [البينة: 2].

وذكر بعضهم أن الله عز وجل خص هذه السورة بقراءتها على أبي رضي الله عنه تثبيتًا له، بسبب ما حصل له من الشك عند اختلافه في القراءة مع أحد أصحابه؛ وذلك أنه اختلف مع أحد الصحابة في قراءة، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصوب كلًّا منهما، وقال صلى الله عليه وسلم: «هكذا أنزل»، قال أبي رضي الله عنه: فحصل لي شيء من الشك لم يحصل لي مثله منذ أسلمت، قال: «فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده بين ثديي حتى علت الرحضاء وارفضّ عرقًا، حتى ذهب منه جميع ما يجده»([18]).

* * *

المتن

[45/54] مناقب زيد بن ثابت رضي الله عنه

 ●         [3571] حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس: جَمَعَ القرآنَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعةٌ كلُّهم من الأنصار: أُبَيٌّ، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد. قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي.

الشرح

 ●         [3571 ] قوله: «جمع القرآن» يعني: حفظه، والذين حفظوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار وهم «أُبَيٌّ» وهو ابن كعب، «ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد» وهو ابن ثابت ي، وأبو زيد هذا أحد عمومة أنس رضي الله عنه.

* * *

المتن

[46/54] مناقب أبي طلحة رضي الله عنه

 ●         [3572 ] حدثنا أبو معمر، قال: حدثنا عبدالوارث، قال: حدثنا عبدالعزيز، عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مُجَوِّبٌ عليه بحَجَفة له، وكان أبو طلحة رجلًا راميًا شديدًا، لقَد تكسَّر يومئذٍ قوسين أو ثلاثةً، وكان الرجل يمر ومعه الجَعبة من النبل فيقول: «انشُرها لأبي طلحة»، فأشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم؛ فيقول أبو طلحة: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، لا تُشْرِفْ يُصِيبُك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم - وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما - تنقُزَان القربَ على متونهما تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يَدَيْ أبي طلحة إما مرتين وإما ثلاثًا.

الشرح

 ●         [3572] قد انتصر المسلمون في يوم أحد في أول الأمر، وكان النصر باهرًا، ثم بعد ذلك لما أخلى الرماة المكان فوق الجبل كر عليهم المشركون بقيادة خالد بن الوليد - ولم يكن أسلم بعد - وحدثت في ذلك الوقت خسائر كبيرة لدى المسلمين.

قوله: «وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم» أي: أمامه.

قوله: «مجوب عليه بحجفة له» أي: مترس عليه يقيه بها، ويقال للترس: جوبة وكذلك حجفة، فجعل الترس أمامه يحمي النبي صلى الله عليه وسلم ويتقي بها وقْع النبال، فإذا جاءت النبال وقعت على الترس وعلى أبي طلحة رضي الله عنه، ولا تأتي النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه منقبة عظيمة لأبي طلحة رضي الله عنه.

قوله: «فأشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم»، يعني: أراد أن يتطلع.

قوله: «يا نبي الله، بأبي أنت وأمي»، يعني: أفديك بأبي وأمي.

قوله: «لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم»، يعني: لا تتطلع؛ لأنك إذا تطلعت ربما يصيبك المشركون بسهم من سهامهم.

قوله: «نحري دون نحرك»، أي: أنه يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنحره.

قوله: «ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما»، يعني: أن أنسًا رضي الله عنه رأى خدم ساق عائشة وأم سليم م، وكان أنس رضي الله عنه - في ذلك الوقت - حديث السن دون البلوغ، وكان ذلك قبل تشريع الحجاب.

قوله: «تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم» فهذا هو جهاد النساء، فإنه إذا جاهدت النساء مع الرجال يكون جهادهن بسقي ومداواة المرضى والجرحى، وصنع الطعام، وليس جهاد النساء بالمشاركة مع الرجال في القتال، ولكن إذا جاءهن أحد من الأعداء أراد بهن سوءًا فليدافعن عن أنفسهن.

قوله: «ولقد وقع السيف من يَدَيْ أبي طلحة إما مرتين وإما ثلاثا» يعني: أن أبا طلحة من قوة إيمانه أذهب الله عنه الخوف والفزع، فتغشاه النعاس وهو في القتال، مما جعل السيف يسقط من يديه أكثر من مرة، فقد قال الله عز وجل: (إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) [الأنفال: 11].

فالنعاس في القتال يدل على الإيمان، فقد قال الله سبحانه وتعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ)[آل عمران: 154]، وأما المنافق فلا يأتيه النعاس عند القتال أبدًا بسبب ما في قلبه من الهلع والخوف؛ فقد قال الله عز وجل: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ).

* * *

المتن

[47/54] مناقب عبدالله بن سلام رضي الله عنه

 ●         [3573 ] حدثنا عبدالله بن يوسف، قال: سمعت مالكًا يحدث عن أبي النضر مولى عمر بن عبيدالله، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة - إلا لعبدالله بن سلام، قال:
وفيه: نزلت هذه الآية (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) [الأحقاف: 10] الآية.

قال: لا أدري قال مالك: الآية أو في الحديث.

 ●         [3574] حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثنا أزهر السمان، عن ابن عون، عن محمد، عن قيس بن عُبَاد، قال: كنت جالسًا في مسجد المدينة، فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم خرج وتبعته، فقلت: إنك حين دخلت المسجد قالوا: هذا رجل من أهل الجنة، قال: والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، فسأحدثك لم ذاك؟ رأيت رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه، ورأيت كأني في روضة - ذكر من سعتها وخضرتها - وسطها عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة، فقيل لي: ارْقَ، فقلت: لا أستطيع، فأتاني مِنصَفٌ فرفع ثيابي من خلفي؛ فرقيت حتى كنت في أعلاها، فأخذت بالعروة، فقيل لي: استمسك، فاستيقظت وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموت» وذلك الرجل عبدالله بن سلام.

و قال لي خليفة: حدثنا معاذ، قال: حدثنا ابن عون، عن محمد، قال: حدثنا قيس بن عباد، عن ابن سلام قال: وصيف مكان: منصف.

 ●         [3575] حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه: أتيت المدينة فلقيت عبدالله بن سلام، فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا وتدخل في بيت؟ ثم قال: إنك بأرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه؛ فإنه ربا.

ولم يذكر النضر وأبو داود ووهب، عن شعبة: البيت.

الشرح

 ●         [3573 ] قوله: «ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبدالله بن سلام» هذه شهادة من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه - وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة - أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لعبد الله بن سلام رضي الله عنه بالجنة، وهو عبدالله بن سلام ابن الحارث من بني قينقاع، ويقال: إنه من ذرية يوسف الصديق عليه السلام، وكان اسمه في الجاهلية الحصين، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، وكان من حلفاء الخزرج من الأنصار، أسلم أول ما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة -ولم يسلم من بني إسرائيل إلا قليل- فقد جاء في الحديث: «لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود»([19])، ولكن اليهود قوم بهت وخبث وحقد وضغينة، بخلاف النصارى الذين أسلم منهم عدد كبير، وما زال إسلام النصارى مستمرًّا وبكثرة حتى الآن.

قوله: «وفيه: نزلت هذه الآية: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) [الأحقاف: 10] الآية»، أي: أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه من القلة الذين أسلموا قديمًا وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة،
وفيه: نزلت هذه الآية: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فقول الله عز وجل: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) المراد: عبدالله بن سلام.

 ●         [3574 ] قوله: «فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع» الرجل هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه، حيث دخل المسجد وعلى وجهه أثر الخشوع والطاعة.

قوله: «فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة» قالوا ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بما قالوا؛ ولهذا قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في الحديث السابق: «ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبدالله بن سلام».

قوله: «والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم» فهذا تواضع من عبدالله بن سلام رضي الله عنه.

قوله: «فسأحدثك لم ذاك؟» أي: سأقول لك سبب قولهم، والسبب هو أن عبدالله رضي الله عنه قد رأى رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقصها عليه، وذلك في قوله: «كأني في روضة - ذكر من سعتها وخضرتها - وسطها عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: ارق» يعني: اصعد فوق العمود «فقلت: لا أستطيع، فأتاني مِنصَفٌ»، وفي اللفظ الثاني: «وصيف»، أي: خادم فرفعه بالقوة، وهو لا يستطيع أن يراه.

قوله: «فرقيت حتى كنت في أعلاها، فأخذت بالعروة، فقيل لي: استمسك» يعني: فصعد العمود حتى كان في أعلاه وجد عروة، فأخذها فقيل له: تمسك بها، فاستيقظ وهو على هذه الحالة، فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فعبرها له، فهذه منقبة لعبد الله بن سلام رضي الله عنه وشهادة له بالجنة.

 ●         [3575 ] قوله: «ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا وتدخل في بيت؟» أي: قدم أبو بردة على المدينة ولا أهل له فيها، فلقيه عبد الله بن سلام رضي الله عنه فعرض عليه أن يسكنه في البيت، وأن يطعمه السويق والتمر، وهذا يدل على كرم عبدالله بن سلام وعلى مكارم أخلاقه.

قوله: «إنك بأرض الربا بها فاش» قد أهدى عبدالله بن سلام رضي الله عنه نصيحة لأبي بردة /، وهو بذلك جمع له بين الإحسان إلى بدنه بعرضه الطعام عليه، وبين النصيحة له في الدين، و«فاش» يعني: منتشر، والمعنى: أنت في أرض منتشر بها الربا.

قوله: «إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه؛ فإنه ربا»، يعني: لا تأخذه أبدًا؛ لأن هذا الإهداء في المعنى إنما هو طلب منه أن يمهله وأن يؤخر قضاءه لحقه أو دينه، أو أن يسقط من الحق شيئًا.

ويستثنى من هذا إذا كان الذي عليه الدين أو الحق من عادته - قبل الدين أو الحق - الإهداء إلى من له الحق، بمعنى أن العادة جرت بينهما على ذلك، فلا بأس إذن بأن يقبل الهدية منه، ولكن يحذر الزيادة على ما كان يهاديه قبل الدين؛ لكي لا يكون ربًا.

وإذا أراد الدائن قبول الهدية من المدين فيشترط أن يحسب الهدية من أصل الدين، أي: أن يقدر الهدية تقديرًا مناسبًا، ثم يسقط ثمنها من الدين.

وهذه فائدة نفيسة يعض عليها بالنواجذ، وقد خفيت على بعض الناس، فظنوا أن البخاري لم يرو حديثًا ينص على أن الهدية ممن عليه الحق ربًا، ولكن المتأمل يرى أنه قد رواه هنا في «مناقب عبدالله بن سلام رضي الله عنه».

قوله: «إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن» التبن هو الدياس.

قوله: «أو حمل شعير أو حمل قت» القت: علف الدواب الأخضر.

قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «إنك بأرض»، يعني: أرض العراق، «الربا بها فاش»، أي: شائع، قوله: «حمل» بكسر المهملة، «تبن» بكسر المثناة وسكون الموحدة معروف.

قوله: «حمل قت»، بفتح القاف وتشديد المثناة وهو علف الدواب، قوله: «فإنه ربًا»، يحتمل أن يكون ذلك رأي: عبد الله بن سلام، وإلا فالفقهاء على أنه إنما يكون ربًا إذا شرطه، نعم الورع تركه».

حكاية الحافظ رحمه الله أن الفقهاء على أنه يكون ربًا إذا شرطه ليس بجيد، فهذا قيد لا وجه له، والحافظ ليس محققًا في الفقه إنما اختصاصه وتحقيقه في الحديث وعلومه، وإلا فالذي قرره العلماء وذكروه: أن الهدية ممن عليه حق أو دين لمن لا يهاديه قبل الحق أو الدين ربًا ولو لم يشترطه، أما إذ اشترطه فالأمر واضح لا إشكال فيه.

* * *

المتن

[48/54] تزويجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم خديجةَ وفضلُها

 ●         [3576] حدثني محمد، قال: أنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سمعت عبدالله بن جعفر، قال: سمعت عليًّا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. ح وحدثني صدقة، قال: أنا عبدة، عن هشام، عن أبيه، قال: سمعت عبد الله بن جعفر، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة».

 ●         [3577] حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثنا الليث، قال: كتب إليَّ هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة هلكت قبل أن يتزوجني؛ لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله عز وجل أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يتَّسِعُهُنَّ.

 ●         [3578] حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا حميد بن عبدالرحمن، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، قالت: وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه - أو جبريل - أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب.

 ●         [3579] حدثني عمر بن محمد بن حسن، قال: حدثنا أَبي، قال: حدثنا حفص، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة! فيقول: «إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد».

 ●         [3580] حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن إسماعيل قال: قلت لعبدالله بن أبي أوفى: بشر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة؟ قال: نعم، ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.

 ●         [3581] حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: أتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام - أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.

وقال إسماعيل بن خليل: أنا علي بن مُسْهر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة؛ فارتاع لذلك فقال: «اللهم هالـةَ»؛ فَغِرتُ فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراءِ الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرًا منها؟!

الشرح

ذكر الحافظ أنه وقع ذكر جرير وحذيفة م مؤخرًا عن ذكر خديجة ل، وفي مواضع أخرى وقع ذكرهما مقدمًا، فيقول /: «وهو أليق، فإن الذي يظهر أنه أخر ذكر خديجة عمدًا لكون غالب أحوالها متعلقة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث، فوقع له في ذلك حسن التخلص من المناقب التي استطرد من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فلما فرغ منها رجع إلى بقية سيرته ومغازيه».

 ●         [3576 ] قوله: «خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة» يعني: خير نساء الدنيا مريم، وخير نساء الدنيا خديجة.

 ●         [3577 ] قوله: «ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة» الغيرة معروفة بين الضرات، وقد غارت عائشة ل من خديجة ل رغم أن خديجة ل توفيت قبل أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة ل بثلاث سنين! فعائشة ل لا تعرفها ولا رأتها لكن غارت منها بسبب كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها وثنائه عليها.

قوله: «وأمره الله عز وجل أن يبشرها ببيت من قصب»، يعني: بيت في الجنة من قصب اللؤلؤ، «لا صخب فيه ولا نصب».

قوله: «وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يتَّسعهنَّ»، أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي اللحم لصديقات خديجة؛ وذلك لعلو قدر خديجة عند النبي صلى الله عليه وسلم وحبه لها.

 ●         [3578 ] قوله: «وتزوجني بعدها بثلاث سنين»، يعني: تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة ل بثلاث سنين، وقد توفيت خديجة ل قبل الهجرة بثلاث سنين، ثم تزوج عائشة بعد الهجرة.

قوله: «وأمره ربه - أو جبريل - أن يبشرها ببيت في الجنة» يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِر أن يبشر خديجة ل ببيت في الجنة.

قوله: «من قصب» يعني: من اللؤلؤ، وهذه منقبة لخديجة ل، وشهادة لها بأنها من أهل الجنة.

 ●         [3579 ] قوله: «ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها» أي: غارت عائشة ل من خديجة ل ولم ترها، فكيف لو كانت معها؟!

قوله: «ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة» يعني: أن غيرة عائشة من خديجة م كانت بسبب كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم خديجةرررا، وكذلك إكرامه لصديقاتها.


وفيه: دليل على أن بر صديق المحبوب بر له، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يبر صديقات خديجة، فيذبح الشاة ويوزعها عليهن، وهذا من بره لها.

قوله: «إنها كانت وكانت»، يعني: يعدد أوصافها ومحاسنها.

قوله: «وكان لي منها ولد»، فأولاد النبي صلى الله عليه وسلم كلهم من خديجة ل، إلا إبراهيم فمن مارية القبطية ل.

والحديث فيه: دليل على أن أم الأولاد لها شأن خاص، فقد عدد النبي صلى الله عليه وسلم فضائل خديجة ل ومحاسنها، ثم قال: «وكان لي منها ولد»، كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن خديجة لها من الفضائل والمحاسن الكثير وزيادة على هذه المحاسن والفضائل أن لي منها ولدًا، وهذه كلها أسباب لعلو شأنها وكثرة ذكرها وبرها بعد موتها.

 ●         [3580 ] قوله: «من قصب» يعني: قصب اللؤلؤ.

قوله: «لا صخب فيه»، يعني: ليس فيه أصوات مرتفعة.

قوله: «ولا نصب» أي: ولا تعب.

 ●         [3581 ] قوله: «فاقرأ عليها السلام من ربها ومني» يعني: اقرأ عليها السلام من رب العالمين، وكذلك من جبريل عليه السلام، فلله درها من امرأة صالحة تقية نقية، استحقت أن يقرأ عليها النبي صلى الله عليه وسلم السلام من ربها ومن جبريل، وهذه منقبة عظيمة لم نسمع أن أحدًا من العالمين نالها غير خديجة ل، حتى عائشة ل قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل يقرئك السلام»([20])، فجبريل عليه السلام هو الذي يقرئها السلام، لكن خديجة ل أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم السلام من رب العالمين ومن جبريل عليه السلام.

قوله: «وقال إسماعيل بن خليل»، وهو من شيوخ البخاري، وعلقه عنه ولم يصرح بالتحديث؛ لاحتمال أن يكون سمعه عنه بواسطة، وكثيرًا ما يعلق البخاري عن شيوخه.

قوله: «فارتاع لذلك»، المراد: فارتاح لذلك.

قوله: «ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرًا منها؟!» قالت عائشة ل ذلك من شدة غيرتها من خديجة ل وذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها.

قال الحافظ ابن حجر /: «قال القرطبي: قيل معنى حمراء الشدقين: بيضاء الشدقين، والعرب تطلق على الأبيض الأحمر كراهة اسم البياض؛ لكونه يشبه البرص؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة: «يا حميراء»([21])».

جزم الحافظ بثبوت قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: «يا حميراء»، وذكر أبو العباس بن تيمية أن كل حديث فيه قوله لعائشة: «يا حميراء» لم يثبت.

وجاء في لفظ ذكره الحافظ ابن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها»([22]).

وقد اختلف العلماء في: أيهما أفضل خديجة أم عائشة م؟ فقد جاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»([23]).

فمن العلماء من قال: عائشة أفضل لهذا الحديث؛ فالثريد طعام فيه خبز ولحم، واللحم أفضل الطعام وهذا يدل على أنها أفضل.

ومنهم من قال: إن خديجة أفضل؛ لما جاء في الحديث: «اقرأ عليها السلام من ربها ومني».

ورجح الحافظ هنا أن خديجة ل أفضل النساء، وكان شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز يرجح أن عائشة أفضل، ويقول: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم عائشة على قولها: «قد أبدلك الله خيرًا منها» يدل على أن عائشة أفضل من خديجة، وقال: يدل على ذلك أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»([24]). أما الحديث الذي ذكره الحافظ /، وأشار إليه عند أحمد والطبراني قال: «ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها»([25])، فهو شاذ ضعيف مخالف لهذا الحديث الصحيح.

وأنا أميل إلى أن خديجة أفضل؛ لأن جبريل أقرأها السلام من ربها ومنه.

قال الحافظ ابن حجر /: «وقد تقدم في أبواب بدء الوحي بيان تصديقها للنبي صلى الله عليه وسلم في أول وهلة، ومن ثباتها في الأمر ما يدل على قوة يقينها ووفور عقلها وصحة عزمها، لا جرم كانت أفضل نسائه على الراجح».

وبالنسبة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة»([26]). قال الحافظ ابن حجر /: «قال القرطبي: الضمير عائد على غير مذكور، لكنه يفسره الحال والمشاهدة، يعني: به الدنيا، وقال الطيبي: الضمير الأول يعود على الأمة التي كانت فيها مريم، والثاني على هذه الأمة، قال: ولهذا كرر الكلام تنبيهًا على أن حكم كل واحدة منها غير حكم الأخرى. قلت: ووقع عند مسلم من رواية وكيع عن هشام في هذا الحديث: وأشار وكيع إلى السماء والأرض، فكأنه أراد أن يبين أن المراد: نساء الدنيا، وأن الضميرين يرجعان إلى الدنيا، وبهذا جزم القرطبي أيضًا، وقال الطيبي: أراد أنهما خير من تحت السماء وفوق الأرض من النساء، قال: ولا يستقيم أن يكون تفسيرًا لقوله: «نسائها»؛ لأن هذا الضمير لا يصلح أن يعود إلى السماء، كذا قال، ويحتمل أن يريد أن الضمير الأول يرجع إلى السماء والثاني إلى الأرض إن ثبت أن ذلك صدر في حياة خديجة، وتكون النكتة في ذلك أن مريم ماتت فعرج بروحها إلى السماء، فلما ذكرها أشار إلى السماء، وكانت خديجة إذ ذاك في الحياة فكانت في الأرض، فلما ذكرها أشار إلى الأرض، وعلى تقدير أن يكون بعد موت خديجة فالمراد أنهما خير من صعد بروحهن إلى السماء وخير من دفن جسدهن في الأرض، وتكون الإشارة عند ذكر كل واحدة منهما، والذي يظهر لي أن قوله: «خير نسائها» خبر مقدم والضمير لمريم، فكأنه قال: «مريم خير نسائها»، أي: نساء زمانها، وكذا في خديجة، وقد جزم كثير من الشراح أن المراد نساء زمانها؛ لما تقدم في أحاديث الأنبياء في قصة موسى وذكر آسية من حديث أبي موسى رفعه: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية»([27]). فقد أثبت في هذا الحديث الكمال لآسية كما أثبته لمريم، فامتنع حمل الخيرية في حديث الباب على الإطلاق، وجاء ما يفسر المراد صريحًا فروى البزار والطبراني من حديث عمار بن ياسر رفعه: «لقد فضلت خديجة على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين»([28])، وهو حديث حسن الإسناد، واستدل بهذا الحديث على أن خديجة أفضل من عائشة، قال ابن التين: ويحتمل ألا تكون عائشة دخلت في ذلك؛ لأنها كان لها عند موت خديجة ثلاث سنين، فلعل المراد النساء البوالغ، كذا قال، وهو ضعيف؛ فإن المراد بلفظ «النساء» أعم من البوالغ، ومن لم تبلغ أعم ممن كانت موجودة وممن ستوجد، وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح، وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعًا: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية»([29])، وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل. قال القرطبي: لم يثبت في حق واحدة من الأربع أنها نبية إلا مريم».

والصواب أنه ليس في النساء نبية، فالنبوة خاصة بالرجال؛ لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) [يوسف: 109]، وأما كونها كلمتها الملائكة فلا يدل على أنها نبية.

قال الحافظ ابن حجر /: «فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر بي الناس»([30]) الحديث. قال عياض: قال الطبري وغيره من العلماء: الغيرة».

فالمقصود أن هذا الحديث إن ثبت يكون نصًّا في ترجيح فضيلة خديجة، وهو الأقرب والله أعلم.

وقال بعض العلماء: إن خديجة أفضل النساء في أول الإسلام، وعائشة أفضلهن في آخر الإسلام؛ لأن خديجة ثبتت النبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة نقلت العلم لأهل الإسلام؛ فقد يكون هذا جمعًا بين القولين.

* * *

المتن

[49/54] ذكرُ جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه

 ●         [3582 ] حدثنا إسحاق الواسطي، قال: حدثنا خالد، عن بيان، عن قيس قال: سمعته يقول: قال: جرير بن عبدالله: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا ضحك.

وعن قيس، عن جرير بن عبدالله قال: كان في الجاهلية بيت يقال له: ذو الخلصة، وكان يقال له: الكعبة اليمانية، والكعبة الشامية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل أنت مريحي من ذي الخلصة؟» قال: فنفرت إليه في خمسين ومائة فارس من أحمس، قال: فكسرنا وقتلنا من وجدنا عنده، فأتيناه فأخبرناه، فدعا لنا ولأَحْمَسَ.

الشرح

 ●         [3582 ] قوله: «ما حجبني»، يعني: ما منعني النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول عليه إذا استأذنت؛ وذلك لأن جريرًا رضي الله عنه كان سيدًا ورئيسًا في قومه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقدر الناس وينزلهم منازلهم، فمن كان رئيسًا في قومه لو حجب أو منع أثر ذلك في نفسه تأثيرًا كبيرًا، وأحزنه حزنًا يفوق حزن الرجل العامي إذا منع.

وهناك حديث في مقدمة «صحيح مسلم» -وإن كان فيه انقطاع- عن عائشة ل: «أنزلوا الناس منازلهم»([31]).

قوله: «ذو الخلصة» هو صنم كان يعبد في الجاهلية، يقال له: «الكعبة اليمانية» أو «الشامية»، فيقال: يمانية لمن يكون في جهة الشمال، ويقال: شامية لمن يكون في أقصى اليمن في الجنوب.

قوله: «هل أنت مريحي من ذي الخلصة؟» وفي رواية قال: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟»([32]) يعني: يهدم هذا الصنم ويزيله.

قوله: «فنفرت إليه في خمسين ومائة فارس من أحمس»، يعني: خرج جرير وهو يقود مائة وخمسين فارسًا من قبيلة أحمس -وقبيلة أحمس من بجيلة- فأتوه وكسروه وقتلوا كل من كان عند الصنم يعبدونه، ثم عاد وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا له ولأحمس.

وفي لفظ أنه قال: يا رسول الله ما جئنا حتى جعلناه كالجمل الأسود الأجرب حرقناه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم لأحمس ورجاله وبرك عليهم خمس مرات؛ ففي اللفظ الآخر قال: «اللهم بارك في أحمس وخيلها ورجالها»([33]).

ومن علامات الساعة أن يعبد ذو الخلصة مرة أخرى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة»([34]) يعني: يطفن به مرة ثانية.

* * *

المتن

[50/54] ذكر حذيفة بن اليمان العبسي رضي الله عنه

 ●         [3583] حدثني إسماعيل بن خليل، قال: أنا سلمة بن رجاء، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما كان يومُ أُحُدٍ هُزم المشركون هزيمةً بيِّنةً؛ فصاح إبليسُ: أي: عبادَ الله أُخْراكم؛ فرجعت أُولاهم فاجتلدتْ أُخراهم، فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه فنادى: أي: عبادَ الله، أبي! أبي! فقالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: غفر الله لكم! قال أبي: فوالله ما زالت في حذيفة منها بقيةُ خيرٍ حتى لقيَ الله.

الشرح

 ●         [3583 ] قوله: «لما كان يومُ أُحُدٍ هُزم المشركون هزيمةً بيِّنةً»، يعني: هزم المشركون في غزوة أحد هزيمة بينة، ثم أخلى الرماة المسلمون الجبل، فكر عليهم المشركون مرة أخرى، فحدثت الهزيمة.

قوله: «أي: عباد الله» حرف نداء بمعنى يا، فإبليس يحثهم ويقول: يا «عباد الله أخراكم».

قوله: «أخراكم» يعني: أقبلوا أخراكم، أو احذروا أخراكم، أو انصروا أخراكم.

قوله: «فرجعت أولاهم فاجتلدت أخراهم» يعني: «فرجَعت أولاهم» على «أخراهم» وتجالدوا بالسيوف، واختلط المشركون بالمسلمين، وصار اليمان رضي الله عنه والد حذيفة رضي الله عنه في وسطهم مختلطًا مع المشركين، فلما نظر حذيفة رضي الله عنه فإذا هو بأبيه تحتهم.

قوله: «فنادى: أي: عباد الله أبي! أبي!» يعني: لا تقتلوه.

قوله: «فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه»، يعني: ما انفصلوا «حتى قتلوه» عن طريق الخطأ.

قوله: «غفر الله لكم»، يعني: لم يعنف حذيفة من قتلوا أباه، بل دعا لهم؛ لأنهم لم يتعمدوا قتله.

قوله: «فوالله ما زالت في حذيفة منها بقيةُ خيرٍ»، يعني: حتى لقيَ الله عز وجل؛ بسبب صبره وتحمله العظيم، ودعائه لإخوانه بالمغفرة وعدم لومهم؛ فهم لم يتعمدوا قتل أبيه.

 

([1]) أحمد (3/143)، ومسلم (12)، وبنحوه البخاري (63).

([2]) انظر «البداية والنهاية» (9/134).

([3]) البخاري (4889).

([4]) أحمد (2/464)، والبخاري (2826)، ومسلم (1890).

([5]) أحمد (2/302)، والبخاري (3010).

([6]) مسلم (2054).

([7]) البخاري (4889).

([8]) «فتح الباري شرح صحيح البخاري» (7/120).

([9]) أحمد (6/181)، وأبو داود (4375).

([10]) ابن حبان (15/495)، والحاكم (3/225).

([11]) أحمد (5/37)، والبخاري (1040).

([12]) أحمد (3/433)، والبخاري (2892).

([13]) أحمد (4/24)، وأبو داود (4806).

([14]) ابن هشام في «السيرة» (4/200)، والحديث أصله في «الصحيحين».

([15]) أحمد (3/190).

([16]) أحمد (6/194)، والبخاري (2661)، ومسلم (2770).

([17]) الطبراني في «الكبير» (1/200).

([18]) أحمد (5/127)، ومسلم (820).

([19]) أحمد (2/346)، والبخاري (3941)، ومسلم (2793).

([20]) أحمد (2/230)، والبخاري (3768)، ومسلم (2447).

([21]) ابن ماجه (2474).

([22]) أحمد (6/117).

([23]) أحمد (3/156)، والبخاري (3411)، ومسلم (2431).

([24]) أحمد (3/156)، والبخاري (3411)، ومسلم (2431).

([25]) أحمد (6/117)، والطبراني في «الكبير» (23/13).

([26]) أحمد (1/84)، والبخاري (3432)، ومسلم (2430).

([27]) أحمد (4/394)، والبخاري (3411)، ومسلم (2431).

([28]) البزار (4/255)، وابن عساكر (70/114).

([29]) أحمد (1/293).

([30]) أحمد (6/117).

([31]) أبو داود (4842)، وعلقه مسلم في مقدمة «صحيحه» (1/4).

([32]) أحمد (4/360)، والبخاري (3020)، ومسلم (2476).

([33]) أحمد (4/315).

([34]) أحمد (2/271)، والبخاري (7116)، ومسلم (2906).

 
logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد