شعار الموقع

شرح كتاب مناقب الأنصار من صحيح البخاري (63-6)

00:00
00:00
تحميل
56

المتن

[69/54] حديث الإسراء وقول الله عز وجل:
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء: 1]

 ●         [3639] حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثني أبو سلمة بن عبدالرحمن، سمعت جابر بن عبدالله، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لما كذَّبني قريش قمت في الحجر، فجلَّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه».

الشرح

هذا الباب في حديث الإسراء، والإسراء: من أسرى يسري، وهو في اللغة السفر ليلًا، وشرعًا: هو السفر برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلًا على البراق من مكة إلى بيت المقدس، والمعراج: مفعال من العروج، وهو الصعود من أسفل إلى أعلى.

واختلف العلماء في الإسراء والمعراج على أقوال:

قيل: إن الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة.

وقيل: إنهما في ليلة واحدة.

وقيل: أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم مرتين وكذلك المعراج.

وقيل: كان الإسراء منامًا، وكذلك العروج كان منامًا.

وقيل: كان يقظة لكن الإسراء والمعراج بروحه دون جسده.

وقيل: إن الإسراء كان مرة يقظة ومرة منامًا.

والصواب أن الإسراء والمعراج كان في ليلة واحدة، بروحه وجسده، يقظة لا منامًا، مرة واحدة بعد البعثة، وهذا هو الذي تدل عليه النصوص، وهو مذهب الجمهور.

ومن العلماء من قال: إن الإسراء كان قبل البعثة، لكن هذا قول ضعيف.

وأسري به صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به من بيت المقدس إلى السماء، في ليلة واحدة، وهذا هو الذي تدل عليه الآية الكريمة، (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء: 1] والعبد: اسم لمجموع الجسد والروح، وأشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم العبودية الخاصة والرسالة؛ ولهذا وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) وفي مقام الدعوة (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) [الجن: 19] وفي مقام التحدي (وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) [البقرة: 23].

وصدر المؤلف هذا الباب بهذه الآية (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى)[الإسراء: 1] وسبحان للتنزيه، وهذا في الأمور العظام.

والبخاري ترجم في هذا الحديث بالإسراء، وترجم في الذي بعده بالمعراج، ولا يدل هذا على أن الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة؛ وإنما أفرد كلًّا بالترجمة؛ لأن كلًّا منهما يشتمل على قصة مفردة وإن كانا وقعا معًا في ليلة واحدة.

والحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج أولًا أن يكون توطئة ويظهر فضله صلى الله عليه وسلم ويتقدم ويصلي بالأنبياء إمامًا ولأجل أن يخبر قريشا أولًا بأنه سار إلى بيت المقدس فإنه يخبرهم بأوصافه فإذا صدقوه في الإسراء صدقوه في المعراج، وهو الصواب .

  • وقد قال بعضهم: ليحصل العروج مستويًا؛ لأن البيت المعمور بيت في السماء الدنيا يوازي بيت المقدس، وهذا ليس بشيء.

قال الحافظ ابن حجر /: «قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحق لمعاندة من يريد إخماده؛ لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلا إلى البيان والإيضاح، فلما ذكر أنه أسري به إلى بيت المقدس سألوه عن تعريفات جزئيات من بيت المقدس كانوا رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكره، فكان ذلك زيادة في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد والمعاند».

وأسري به صلى الله عليه وسلم على البراق بصحبة جبريل عليه السلام، والبراق: دابة فوق الحمار ودون البغل، وسمي بالبراق لما فيه من البريق واللمعان، وكان خطوه مد البصر، يعني: يقطع المسافة في وقت وجيز؛ يعني: أن سرعته كسرعة الطائرة تقريبًا.

ومما استُغرِب من أقوال العلماء في الإسراء قول ابن عبدالسلام: كان الإسراء في النوم واليقظة ووقع بمكة والمدينة.

 ●         [3639 ] قوله: «لما كذبني قريش قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» طفقت يعني: جعلت، وهذا من حكمة تقديم الإسراء على المعراج حتى يأتي قريشًا فيصف لهم بيت المقدس فيكون ذلك دليلًا على صدقه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا صُدِّق في الإسراء صُدِّق في المعراج، ولأنهم يكذبونه في خبر السماء الذي يأتيه به الملك في وقت وجيز من السماء إلى الأرض، والمعراج مثله فإذا كانوا يكذبونه في الوحي فإنهم يكذبونه في المعراج، ولهذا كشف الله عز وجل عن بيت المقدس فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فيصفه له فكشف الحجب بينه وبينه، وهذا من آيات الله عز وجل العظيمة؛ لأنه أبلغ في المعجزة.

ولا استحالة في ذلك، فقد أحضر الله عز وجل عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان عليه السلام، وهو يقتضي أنه أزيل عن مكانه حتى أُحضر إليه، وما ذاك في قدرة الله عز وجل بعزيز، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أريت الجنة والنار»([1]). وقال صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط»([2])؛ فكشفت له حتى إنه دلي إليه عنقود فجعل يتناوله وقربت إليه النار حتى تكعكع وتكعكعت الصفوف -أي: تأخرت- والله عز وجل على كل شيء قدير.


وفيه: أن قريشًا لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل مررت بإبل لنا في مكان كذا؟ قال: «نعم قد وجدتهم قد ضلوا بعيرًا لهم فهم في طلبه ومررت بإبل بني فلان انكسرت لهم ناقة حمراء» قالوا: فأخبرنا عن عدتها وما فيها من الرعاء، قال صلى الله عليه وسلم: «كنت عن عدتها مشغولا»([3]).

و من أنكر الإسراء فقد كفر؛ لأنه كذب الله عز وجل في قوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى)[الإسراء: 1].

* * *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المتن

[70/54] باب المعراج

 ●         [3640 ] حدثنا هُدبة بن خالد، قال: حدثنا همام بن يحيى، قال: حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلةَ أسري به، قال: «بينما أنا في الحطيم - وربما قال: في الحجر - مضطجعاً إذ أتاني آت - فقد قال: وسمعته يقول: فشق ما بين هذه إلى هذه - فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني: به؟ قال: من ثُغرة نحره إلى شِعْرَته، وسمعته يقول: من قَصِّه إلى شعرته - فاستخرج قلبي، ثم أُتيت بطَستٍ من ذهب مملوءة إيماناً، فغسل قلبي، ثم حشي، ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض - فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم - يضع خَطْوَهُ عند أقصى طرفه، فحملت عليه،، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به! فنعم المجيء جاء! ففتح، فلما خلصت فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه؛ فرد السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح! ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به! فنعم المجيء جاء! ففتح، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى - وهما ابنا الخالةِ - قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت؛ فردا ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح! ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به! فنعم المجيء جاء به! ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه؛ فرد ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح! ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به! فنعم المجيء جاء! ففتح فلما خلصت إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت؛ فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به! فنعم المجيء جاء! فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه؛ فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح! ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: قد أرسل إليه؟ قال نعم، قال: مرحباً به! فنعم المجيء جاء! فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه؛ فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح! فلما تجاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاًما بعث بعدي يدخل الجنةَ من أمته أكثرُ مَن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه، قال: نعم، قال: مرحباً به! فنعم المجيء جاء! فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلم عليه، قال: فسلمت عليه؛ فرد السلام، فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح! ثم رُفِعَتْ لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال الهَجَر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران: فالنيل، والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك، ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت، فمررت على موسى، فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة؛ فارجع إلى ربك فسَلْهُ التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت، فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت، فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأُمرت بعشر صلوات كل يوم، فقال مثله، فرجعت، فأُمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسَلْه التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت نادى منادي: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي».

 ●         [3641 ] حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ)[الإسراء: 60]، قال: هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس، قال: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [الإسراء: 60]، قال: هي شجرة الزقوم.

الشرح

قوله: «المعراج»؛ مفعال من العروج، وهو الصعود حيث أتي بالمعراج -وهو كهيئة السلم- في بيت المقدس فعرج به نبينا صلى الله عليه وسلم بصحبة جبرائيل عليه السلام وهذا من آيات الله عز وجل العظيمة: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82]. وبعض الملاحدة ينكرون المعراج ويقولون كيف تعرج الأجسام ومن طبيعتها الثقل؟! ولا يمكن أن يصل إلى طبقات الجو إلا الشيء الخفيف! فهؤلاء عارضوا النصوص بعقولهم، والله على كل شيء قدير، هو الذي بيده تصحيح الأمور وبيده طبقات الجو وبيده العادات لا يعجزه شيء، ونقول لهم: إذا أنكرتم صعود الأجسام الثقيلة إلى طبقات الجو؛ لأنها ثقيلة، ومن طبيعة الثقل عدم الصعود إلى أعلى؛ فيلزمكم أن تنكروا نزول الملائكة؛ لأنها خفيفة ولا يمكن أن تهبط إلى الأرض وهي خفيفة، وهذا كفر.

 ●         [3640 ] قوله: «أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به»، دل هذا على أن الإسراء والمعراج في ليلة واحدة.

قوله: «قال: بينما أنا في الحطيم - وربما قال: في الحجر»، الحطيم هو الحجر، فيسمى الحطيم ويسمى الحِجر، وسمي الحطيم لأنه حطم من الكعبة وأخذ منها، وسمي حِجرًا لأنه محجور، وذلك أن قريشًا لما بنت الكعبة حين تصدعت قبيل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بخمس سنين - والنبي صلى الله عليه وسلم عمره في ذاك الوقت خمسة وثلاثون سنة -قالوا: لا نبنيها إلا بمال حلال، ولا يمكن أن نضع في الكعبة مالًا جاء عن الربا أو عن الرشوة أو عن الزنا؛ فجمعوا مالًا حلالًا فلم يجدوا مالًا من الحلال ما يكفي لبناء الكعبة! فقد كان الحرام طبق الأرض في الجاهلية؛ فلما لم يجدوا قالوا: نبني بقدر المال الذي عندنا؛ فبنوا بقدر المال وأخرجوا الحجر.

وأما تسمية بعضهم له: حجر إسماعيل. فلا أصل له؛ فإبراهيم عليه السلام كان يبني الكعبة وإسماعيل عليه السلام كان يناوله الحجارة، فليس إسماعيل عليه السلام هو الذي سماه حجرًا، ولم يكن هناك حجر في زمان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، والذي أخرج الحجر قريش بعد إبراهيم عليه السلام بدهور؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني والحجر الأسود؛ لأنهما على قواعد إبراهيم عليه السلام، ولا يستلم الركنين الشامي والعراقي وهما اللذان يليان الحجر؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم عليه السلام؛ ولهذا لما بناها ابن الزبير م بعد ذلك وأدخل الحجر صار يستلم الأركان الأربعة كلها الركن الأسود واليماني والشامي والعراقي؛ لأنها صارت كلها على قواعد إبراهيم عليه السلام.

وبعض العامة وبعض الجهال الذين يقدمون إلى مكة يعتقدون أن إسماعيل عليه السلام دفن في الحجر، ويبحثون عنه، وهذا كله بسبب هذه التسمية الخاطئة، والمقصود أنه يسمى الحجر ويسمى الحطيم.

قوله: «من ثغرة نحره إلى شعرته»، يعني: شُق من النحر إلى ما تحت السرة. والشعرة: الشعر الخشن الذي حول الفرج.

قوله: «فاستخرج قلبي، ثم أُتيت بطَستٍ من ذهب مملوءة إيمانًا، فغسل قلبي، ثم حشي، ثم أعيد»، أي: استخرج القلب ثم أتي «بطست من ذهب مملوءة إيمانًا»، فغسل قلبه، ثم حشي وملئ إيمانًا وحكمة، ثم أعيد.

والحكمة في هذا الشق حتى يتهيأ لمناجاة الله عز وجل، فشق والتأم في الحال، وما أصابه شيء، ولم يحتج إلى عملية جراحية ولا بنج ولا إبر ولا مغذيات ولا شيء، ثم أسري به ثم عرج به لمناجاة الله عز وجل؛ فالأمر بيد الله عز وجل: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82].

ولقد شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات:

المرة الأولى: وهو صغير يلعب مع الصبيان -حيث كانت قريش يعطون أولادهم لمن في البادية حتى يتعودوا ويتعلموا اللغة- فجاءه ملك فشق صدره واستخرج علقة سوداء، وقال: هذه حظ الشيطان ثم أعاده في الحال؛ ففزع أولاد المرضعة وذهبوا إلى أمه وقالوا إن أخانا قد قتل.

المرة الثانية: قبل البعثة ليتهيأ للوحي.

المرة الثالثة: قبل الإسراء والمعراج ليتهيأ لمناجاة الله عز وجل.

قوله: «ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض»، أي: أتي بدابة موصوفة بأنها أصغر من البغل وأكبر من الحمار، والبغل هو المتولد من الخيل والحمير فأمه حمارة وأبوه فرس، وهو محرم الأكل؛ لأنه متولد من محرم ومباح، فالحمار حرام والخيل حلال، وهذا متولد منهما.

قوله: «فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟» أبو حمزة كنية أنس بن مالك رضي الله عنه، وسمي براقًا لما فيه من البريق واللمعان، «قال أنس: نعم، يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه»، يعني: الخطوة مد البصر؛ ولهذا قطع المسافة في وقت وجيز.

ثم عرج به صلى الله عليه وسلم وجاوز السبع الطباق كلها ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام فجاوزها ووصل إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام، وكلمه الله عز وجل وفرض عليه الصلاة خمسين صلاة، ثم تردد بين ربه وبين موسى عليه السلام مرات، ثم نزل إلى الأرض قبل الفجر في ليلة واحدة.

قوله: «فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح قيل: من هذا؟» أي: صعد جبريل عليه السلام في طبقات الجو فقطع مسافة طويلة في وقت وجيز حتى أتى السماء الدنيا، وهذا دليل على أن السموات لها بوابون وليست مهملة بل محفوظة ولا يدخل إليها إلا من الأبواب؛ ولهذا استفتح فقيل من؟ «قال: جبريل» عليه السلام،
وفيه: دليل على أن السموات ليست شفافة؛ لأنها لو كانت شفافة لرآه مَن وراءها.

قوله: «هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح!» لأن آدم عليه السلام أبو البشر.

قوله: «فلما خلصت إذا يحيى وعيسى - وهما ابنا الخالةِ - قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت؛ فردا ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح»، أي: أقرا بنبوته وقالا: «مرحبًا بالأخ الصالح»؛ لأنهما أخوان وليسا من السلالة الأبوية بخلاف آدم عليه السلام فإنه أب.

قوله: «فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه؛ فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح!» ، كذلك قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح؛ لأنه ليس له السلالة الأبوية.

قوله: «ففتح فلما خلصت إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت فرد، ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح» وهذا فيه أن إدريس عليه السلام قال: «مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح»،
وفيه: الرد على من قال: إن إدريس عليه السلام هو جد لنوح عليه السلام؛ لأنه لو كان جدًّا لنوح عليه السلام لقال مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح، وهو عليه السلام ليس في السلالة الأبوية، وإنما هو في سلالة الأخوة.

وقد اختار البخاري كما سبق في كتاب الأنبياء أن إدريس عليه السلام في السلالة الأبوية وأنه قبل نوح عليه السلام، والصواب أن إدريس عليه السلام ليس قبل نوح عليه السلام بل بعده من أنبياء بني إسرائيل.

قوله: «فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه؛ فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح! فلما تجاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنةَ من أمته أكثرُ مَن يدخلها من أمتي» وبكاء موسى عليه السلام ليس حسدًا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأمته، ولكنه تألمًا وحزنًا على بني إسرائيل؛ حيث لبث فيهم مدة طويلة، ولم يؤمن به كثير منهم، ومع ذلك فإن أتباعه كثيرون كما في حديث ابن عباس م عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي معه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد ثم رفع لي سواد عظيم حتى ظننت أنهم أمتي فقيل: هذا موسى وقومه»([4]).

قوله: «فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلم عليه، قال: فسلمت عليه؛ فرد السلام، فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح»، قال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح؛ لأنه في السلالة الأبوية، ولم يكن في السلالة الأبوية سوى آدم وإبراهيم، وأما بقية الأنبياء فإنهم إخوة.

وإبراهيم عليه السلام هو أفضل الأنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم يليه موسى وعيسى، والثلاثة من أولي العزم.

وعلى الرغم من أن هؤلاء الأنبياء قد ماتوا ودفنوا في قبورهم، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم التقى بهم، وعن ذلك يقول بعض العلماء: إن الأجساد نقلت - كما ذكره الحافظ - لمقابلته مع الأرواح، ولكن هذا قول مرجوح، والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء في أرواحهم؛ فالروح تأخذ شكل الجسد، وهذا ما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية /، أن الرؤية لأرواحهم أخذت شكل أجسامهم، ما عدا عيسى عليه السلام فإنه رفع حيًّا بجسده وروحه وهو لا يزال حيًّا، وسينزل في آخر الزمان، ويحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم ثم يموت ويدفن في الأرض، وهو شرط من أشراط الساعة الكبرى، وكان شيخنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز يرى أولًا أنه صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء بأجسادهم وأرواحهم، ثم بعد ذلك رجع ورأى أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأرواحهم التي أخذت شكل أجسادهم.

قوله: «ثم رُفِعَتْ لي سدرة المنتهى»، وهذه السدرة فوق السماء السابعة، وسميت سدرة المنتهى؛ لأنه ينتهي إليها ما يعرج به من الأرض وينتهي إليها كذلك ما ينزل من أمر الله عز وجل، وهذه السدرة وصفها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «فإذا نبقها مثل قلال الهجر» يعني: ثمرها مثل قلال هجر، والنبقة: الحبة الكبيرة من السدرة، ومعروف أن السدر له حبات - يسميه بعض الناس العبري -وتكون الحبة الكبيرة منه أقل من حجم التفاحة، لكن سدرة المنتهى حباتها كبيرة جدًّا فهي مثل قلال هجر، والقلة تساوي قربتين ونصف؛ «وإذا ورقها» أي: ورق السدرة «مثل آذان الفيلة».

قوله: «وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران: فالنيل، والفرات» فالنيل والفرات أصلهما من الجنة مع حصول بعض التغيير لهما عما كانتا عليه في الأرض، وجاء في حديث آخر أن أصلها في السماء السادسة؛ ولهذا فإن النيل والفرات من أحلى أنهار الدنيا.

قوله: «ثم رفع لي البيت المعمور» البيت المعمور: هو بيت في السماء السابعة، وهو كعبة سماوية «يدخله كل يوم سبعون ألف ملك»، أي: يدخله الملائكة للطواف والعبادة، وجاء في حديث آخر «لا يعودون إليه»([5])، أي: كل يوم يدخل البيت المعمور سبعون ألفًا ولا يصلهم الدور إلى يوم القيامة من كثرة الملائكة، ومن دخل مرة فهي تكفيه،
وفي الحديث: الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه، وهذا البيت المعمور يحاذي الكعبة بحيث إنه لو سقط لسقط عليها.

وفي لفظ آخر في حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى إبراهيم عليه السلام في السماء السابعة مسندًا ظهره إلى البيت المعمور؛ والحكمة في ذلك أن إبراهيم عليه السلام باني الكعبة الأرضية مسند ظهره إلى الكعبة السماوية التي تحاذي الكعبة الأرضية.

قوله: «ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك»، الحمد لله عز وجل على هذا، وفي لفظ آخر: أنه أتي بإناء من خمر وإناء من لبن وقيل: اختر فاختار اللبن فقال: هديت الفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك([6]).

قوله: «فارجع إلى ربك فسَلْهُ التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله»، وهذا يعني: أنه في كل مرة يأتي إلى موسى عليه السلام فيقول له: ارجع إلى ربك وسله التخفيف لأمتك فإنها ضعيفة لا تطيق خمسين صلاة، وفي اللفظ الآخر: «أنه يستشير جبريل فيشير إليه جبريل أي: نعم، فيصعد به جبريل إلى الجبار جل جلاله فيسأل ربه التخفيف»؛ وفي لفظ آخر: «أنه في كل مرة يخفف عنه خمسة»([7])؛ فإذا كانت عشرًا يتردد خمس مرات، وإذا كانت خمسًا يتردد عشر مرات.

وفي هذا الحديث إثبات الكلام لله عز وجل، وإثبات أن نبينا صلى الله عليه وسلم كلمه الله عز وجل بدون واسطة؛ فهو صلى الله عليه وسلم شارك موسى عليه السلام في التكليم، وعليه فموسى عليه السلام كليم الله عز وجل ومحمد صلى الله عليه وسلم كليم الله عز وجل، إلا أنه لم يره، ولكن الله عز وجل كلمه من وراء حجاب.

وقال بعض العلماء إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل بعيني رأسه، وقالوا: الرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم والخلة لإبراهيم عليه السلام والتكليم لموسى عليه السلام.

والصواب: أن نبينا صلى الله عليه وسلم شارك إبراهيم عليه السلام في الخلة فهو خليل الله عز وجل، وشارك موسى عليه السلام أيضًا في التكليم، كلمه الله عز وجل من وراء حجاب، أما الرؤية فلم يره -في أصح قولي العلماء - وإنما رآه بعين قلبه لا بعين رأسه؛ لأنه في الدنيا ولا يستطيع أن يرى الله عز وجل كما دل عليه حديث أبي ذر رضي الله عنه «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»([8])، فحجابه النور، واحتجب من خلقه، والرسول صلى الله عليه وسلم من خلقه؛ ولأن رؤية الله عز وجل نعيم اختصه الله عز وجل لأهل الجنة في الآخرة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزال في الدنيا فلم ير ربه، وما ورد من النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه فهو محمول على أنه رآه بعين قلبه، وما ورد من النصوص بأنه لم يره فهو محمول على الرؤية بالعين، وبهذا تجتمع الآثار والنصوص، وهذا هو الصواب الذي عليه المحققون، والذي تدل عليه النصوص؛ فقول العلماء كالنووي والقرطبي وجماعة إنه رآه بعيني رأسه قول مرجوح؛ لقول عائشة ل لما قال لها مسروق: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ قالت: لقد قف شعري بما قلت! ثم قالت: من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب.

قوله: «فلما جاوزت نادى منادي: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي» هذا قول الله عز وجل؛ فالله تعالى هو الذي نادى، ويحسن أن يقال: إن ملكًا نادى فقال: يقول الله عز وجل: «خففت عن عبادي».

وفي هذا الحديث جواز النسخ قبل التمكن من الفعل؛ فالله تعالى فرض خمسين صلاة، ثم نسخها إلى خمس صلوات قبل أن يتمكن العباد من الفعل قبل أن ينزل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأرض؛ وفي اللفظ الآخر أن المنادي قال: «أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وأجزي الحسنة عشراً»([9])، «لا يبدل القول لدي»([10])، هي خمس في العدد وخمسون في الأجر، فالحسنة بعشر أمثالها، كل صلاة بعشر.

 ●         [3641 ] قوله: «هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم»، أي: رؤيا الآيات في الإسراء والمعراج، هي رؤيا عين رآها صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس، قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ)[الإسراء: 60] ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر.

قوله: «( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)[الإسراء: 60] ، قال: هي شجرة الزقوم» الشجرة الملعونة يعني: المذمومة؛ فاللعن بمعنى الذم، وهي شجرة الزقوم، ذمها الله عز وجل فقال: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) [الدخان: 43- 45].

* * *

المتن

[71/54] وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة

 ●         [3642] حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب. ح ونا أحمد بن صالح، قال: حدثنا عنبسة قال: حدثنا يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك، أن عبدالله بن كعب - وكان قائد كعب حين عمي - قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك... بطوله. قال ابن بكير في حديثه: ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها.

 ●         [3643] حدثنا علي بن عبدالله، قال: حدثنا سفيان، قال: كان عمرو يقول: سمعت جابر بن عبدالله يقول: شهِد بي خالأي: العقبة.

قال عبدالله بن محمد: قال ابن عيينة: أحدهما البراء بن معرور.

 ●         [3644] حدثني إبراهيم بن موسى، قال: أنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم، قال عطاء: قال جابر: أنا وأبي وخالَيَّ من أصحاب العقبة.

 ●         [3645] حدثني إسحاق بن منصور، قال: أنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، قال: أخبرني أبو إدريس عائذ الله، أن عبادة بن الصامت من الذين شهدوا بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه ليلة العقبة، أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وحوله عصابة من أصحابه: «تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن أوفىَ منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله: إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه»، قال: فبايعته على ذلك.

 ●         [3646 ] حدثنا قتيبة، قال: حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن الصُّنابِحي، عن عبادة بن الصامت أنه قال: إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل النفس التي حرم الله، ولا ننتهب، ولا نعصي : بالجنة إن فعلنا ذلك، فإن غَشِينا من ذلك شيئا كان قضاء ذلك إلى الله عز وجل.

الشرح

هذالترجمة معقودة لوفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في بيعة العقبة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لما توفي عمه أبو طالب وزوجته خديجة ل صار يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج، يقول: «من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي؟»([11])، «فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي»([12])، فردته قبائل العرب كلهم، حتى جاء وفد من الأنصار وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة التي في منى على أن يمنعوه مما يمنعوا منه أنفسهم وأبناءهم حتى يبلغ رسالة الله عز وجل ويدعو إلى الله عز وجل ويأتي إليهم في المدينة، وتواثقوا وتعاهدو،ا فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لهم الجنة مقابل ذلك.

 ●         [3642 ] قوله: «ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة» القائل كعب بن مالك رضي الله عنه وكان هذا في الموسم، ولما علمت قريش بعد ذلك بالبيعة تكلمت مع بعض الأنصار وأنكرت عليهم فنفوا ما حصل، وكانوا من الأنصار الذين لم يعلموا بهذه البيعة، ثم في السنة الثانية أيضًا جاءوا وبايعوا بيعة أخرى وجاء معهم جماعة آخرون.

قوله: «وما أحب أن لي بها مشهد بدر»، يعني: ما أحب أن لي بدلها مشهد بدر -وقد تخلف عن غزوة بدر- فكأنه يقول: إن ليلة العقبة أهم عندي من بدر، «وإن كانت بدر أذكر في الناس منها»، يعني: وإن كان لها شهرة عند الناس.

هذا رأي: كعب رضي الله عنه؛ والصواب أن بدرًا أفضل من العقبة، وإن كانت العقبة فيها خير عظيم، والدليل على أن بدرًا أفضل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: «لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»([13]).

 ●         [3643] الخال الثاني لجابر رضي الله عنه لم يسمه سفيان، وشهدا به العقبة؛ يعني: المعاهدة والمعاقدة بين الأنصار وبين النبي صلى الله عليه وسلم في الموسم عند جمرة العقبة في موسم الحج.

 ●         [3644 ] قوله: «قال جابر: أنا وأبي وخالَيَّ من أصحاب العقبة»، يعني: أنهم شهدوا المعاهدة والمعاقدة بين الأنصار وبين النبي صلى الله عليه وسلم في الموسم عند جمرة العقبة في موسم الحج.

 ●         [3645 ] قوله: «أن عبادة بن الصامت من الذين شهدوا بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه ليلة العقبة»، أي: عبادة بن الصامت رضي الله عنه حضر بدرًا وحضر العقبة، وأما جابر رضي الله عنه فقد حضر العقبة ولم يحضر بدرًا.

قوله: «تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف» هذه بيعة العقبة، حيث بايعهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يوحدوا الله عز وجل ولا يشركوا به شيئًا، وأن يبتعدوا عن السرقة، وألا يزنوا، وألا يقتلوا أولادهم، وألا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، وألا يعصونه في معروف؛ فمن وفى بهذه البيعة في هذه الأمور الخمسة فأجره على الله عز وجل، ومن أصاب من ذلك شيئًا ولم يف بأن وقع في الزنا أو في السرقة فعوقب به في الدنيا، فهو كفارة له.


وفيه: دليل على أن الحد كفارة ولو لم يتب؛ فإذا سرق السارق فقطعت يده فيكون الحد كفارة له ولو لم يتب، والله سبحانه وتعالى أكرم من أن يجمع له بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، وإذا تاب بينه وبين الله عز وجل فهو كفارة له وطهر ولو لم يقم عليه الحد، والأولى للإنسان أن يتوب بينه وبين الله عز وجل ولا يفضح نفسه، ومن تاب وأقيم عليه الحد فقد جمع بين طهارتين، ومن لم يتب ولم يقم عليه الحد وقع تحت المشيئة؛ قال النبي: «فأمره إلى الله: إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه»، كما قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)[النساء: 48].

وهذه البيعة التي بايع بها النبي صلى الله عليه وسلم الرجال بايع بها النساء بنص القرآن الكريم، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الممتحنة: 12]. فالبيعة التي أخذها صلى الله عليه وسلم على الرجال هي التي أخذها على النساء، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يبايع الرجال بالمصافحة باليد، أما النساء فما صافحهن بل كان يبايعهن بالكلام؛ ولهذا قالت عائشة ل: والله ما مست يد النبي صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه بايعهن بالكلام([14]).

ويستبيح بعض الناس أن يصافح المرأة، والبعض يقول: يصافحها من وراء حائل، والصواب أنه لا يجوز مصافحة المرأة الأجنبية ولو كانت بنت العم أو بنت الخال، وإذا سلم عليها يسلم بالكلام من بعيد بدون مصافحة، وبشرط أن تكون متحجبة، وبشرط ألا يخلو بها بأن يكون معهما ثالث من غيرهما تزول به الخلوة، أما المصافحة والتقبيل فما يجوز لغير المحارم، وكذلك الخلوة والسفور وعدم الحجاب فكل هذا محرم.

 ●         [3646 ] قوله: «بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل النفس التي حرم الله ولا ننتهب ولا نعصي بالجنة إن فعلنا ذلك» هذه البيعة على ألا يشركوا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا ينتهبوا نهبة - والنهبى هي سرقة الشيء إعلانًا بقوة - وفي بعض روايات البخاري: «ولا نقضي بالجنة إن فعلنا ذلك»، يعني: ما نحكم على أحد بالجنة إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم فما يقال فلان في الجنة، ولكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء «فإن غشينا من ذلك شيئًا»، يعني: إن أصابوا شيئًا من ذلك «كان قضاء ذلك إلى الله عز وجل»، أي: من فعل شيئًا من ذلك ولم يتب ولم يقم عليه الحد فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء الله عز وجل عفا عنه بالتوحيد والإيمان والإسلام وأدخله الجنة وإن شاء عذبه على قدر جريمته.

قال الحافظ ابن حجر /: «قوله في الرواية الثانية: «ولا نقضي» بالقاف والضاد المعجمة للأكثر، وفي بعض النسخ عن شيوخ أبي ذر «ولا نعصي»، بالعين والصاد المهملتين، وقد بينت الصواب من ذلك في أوائل كتاب الإيمان، وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع الإثني عشر رجلاً مصعب بن عمير العبدري رضي الله عنه، وقيل: بعثه إليهم بعد ذلك بطلبهم ليفقههم ويقرئهم، فنزل على أسعد بن زرارة رضي الله عنه، فروى أبو داود من طريق عبدالرحمن بن كعب بن مالك قال: كان أبي إذا سمع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة رضي الله عنهفسألته؛ فقال: كان أول من جمع بنا بالمدينة. وللدارقطني من حديث ابن عباس م: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه أن اجمع بهم. اهـ.

فأسلم خلق كثير من الأنصار على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه بمعاونة أسعد بن زرارة رضي الله عنه حتى فشا الإسلام بالمدينة؛ فكان ذلك سبب رحلتهم في السنة المقبلة، حتى وافى منهم العقبة سبعون مسلمًا وزيادة؛ فبايعوا كما تقدم».

المتن

[72/54] تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وقدومها المدينة وبناؤه بها

 ●         [3647] حدثني فروة بن أبي المغراء، قال: حدثنا علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة، فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج، فوعكت فتمزَّق شعري فوفى جميمة، فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي، فصرخت بي، فأتيتها لا أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئاً من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر! فأسلمتني إليهن، فأصلحن من شأني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأسلمْنَنِي إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين.

 ●         [3648] حدثنا معلى، قال: حدثنا وهيب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «أريتك في المنام مرتين، أرى أنك في سرقة من حرير، ويقول: هذه امرأتك، فأَكشِفُ عنها فإذا هي أنت؛ فأقول: إن يَكُ هذا من عند الله يُمضِه!».

 ●         [3649] حدثنا عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين، فلبث سنتين أو قريبا من ذلك، ونكح عائشة وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها وهي بنت تسع.

الشرح

 ●         [3647 ] قوله: «عن عائشة قالت: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم»، يعني: عقد عليّ، فالمراد بالزواج هنا العقد.

قوله: «وأنا بنت ست سنين» وجاء في اللفظ الآخر: «وهي بنت سبع سنين»([15]) فهو صلى الله عليه وسلم عقد عليها وهي بنت ست سنين وأشهر، فأحيانًا تقول: بنت ست سنين بحذف الكسر، وأحيانًا تقول: بنت سبع سنين، وتكمل الكسر، ومن عادة العرب حذف الكسر أو إكماله؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وهي بنت ست سنين، وبنى بها - يعني: دخل عليها - وهي بنت تسعة.

قوله: «فوعكت» يعني: فمرضت.

قوله: «فتمزق شعري»، وفي رواية «فتمرق شعري»، أي: سقط شعرها من المرض.

قوله: «فوفى جميمة»؛ جميمة تصغير جمة، وهي مجتمع شعر الناصية، ويقال للشعر إذا سقط عن المنكبين جمة، والمعنى أنها أصابتها الحمى فسقط شعرها ثم بدأت تتعافى شيئًا شيئًا حتى نبت الشعر وكثر حتى وصل إلى الكتفين.

قوله: «فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي فصرخت بي»، يعني: جاءتها أمها فوجدتها تلعب على أرجوحة مع صواحب لها من البنات الصغار -واحدة تجلس في طرف الخشبة والأخرى في الطرف الآخر منها- فنادتها.

قوله: «فأتيتها لا أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأنهج»، يعني: تلهث النفس، من نَهَج ينهَج بفتح الهاء على القاعدة، وهي أن الفعل إذا كان ثانيه من حروف الحلق يفتح في المضارع كظهر يظهر.

قوله: «على الخير والبركة وعلى خير طائر»، يعني: على خير حظ ونصيب، أي: يباركن لها زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني» يعني: سلمتها إلى النسوة في دارها فجهزنها للنبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «فلم يرُعْني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحًى» يرعني بضم الراء وسكون العين؛ أي: لم يفزعني شيء إلا دخول النبي صلى الله عليه وسلم عليّ ضحًى،
وفيه: جواز دخول الرجل على أهله نهارًا، ولا مانع من أن يكون الزفاف بالنهار أو بعد صلاة الفجر، وإن كان الناس الآن اعتادوا الدخول على أزواجهم بالليل.

قوله: «فأسلمنني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين» يعني: أن دخول النبي صلى الله عليه وسلم عليها كان وهي بنت تسع سنين، وكان العقد عليها وهي بنت سبع سنين.

هذا الحديث دليل على أنه يجوز للأب خاصة أن يزوج ابنته الصغيرة التي دون البلوغ والتي ليس لها إذن بالكفء إذا خيف فواته، بشرط أن يكون الحظ والمصلحة للبنت لا للأب، أما إذا لم يكن لها أب فالأخ وابن الأخ لا يزوجها حتى تبلغ؛ وذلك لأن الأب كامل الشفقة.

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز للأب ولا لغيره أن يزوج إلا بعد البلوغ والاستئمار والاستئذان للأحاديث كحديث: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت»([16])؛ وحديث المرأة البكر التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «يا رسول الله إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء»([17]).

قال ابن القيم /: «البكر لا يجوز أن تزوج إلا بإذنها ولو كان الأب»([18]) خلافًا للجمهور وخلافًا للحنابلة([19]) الذين يقولون: يجوز للأب خاصة أن يزوج ابنته البكر ولو كانت بالغة، واستدلوا بحديث عائشة ل والمعارضون قالوا: إما أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أو أنه خاص بالصغيرة التي دون البلوغ التي يخشى فوات الكفء، والراجح أن الأب لا يجوز أن يزوجها إلا بإذنها إذا كانت بالغة؛ لكن إذا كانت دون البلوغ وخيف فوات الكفء والمصلحة لها لا للأب خاصة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

 ●         [3648 ] قوله: «أريتك في المنام» يعني: رأى صورتها، وهذا من فضائل عائشة ل أن الله سبحانه وتعالى أراه صورتها في المنام.

قوله: «سرقة» بفتح المهملة والراء والقاف هي القطعة؛ يعني: من الحرير.

قوله: «ويقول: هذه امرأتك، فأَكشِفُ عنها فإذا هي أنت» يعني: أن الملك كان يقوله للنبي صلى الله عليه وسلم فلما كشف عنها فإذا هي عائشة ل.

قوله: «إن يك هذا من عند الله يمضه» هذا فيه فضل عائشة ل.

 ●         [3649 ] قوله: «ونكح عائشة وهي بنت ست سنين»، يعني: عقد عليها وهي بنت ست سنين، وفي رواية أخري: «بنت سبع سنين»([20]) جبرًا للكسر.

وقوله: «ثم بنى بها وهي بنت تسع»، يعني: دخل بها وهي بنت تسع سنين.

* * *

المتن

[73/54] هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة

وقال عبدالله بن زيد وأبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا الهجرة لكنت امرًا من الأنصار».

وقال أبو موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وَهَلي إلى أنها اليمامة أو الهجر، فإذا هي المدينة يثرب».

 ●         [3650] حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، قال: سمعت أبا وائل يقول: عُدْنا خَبَّابًا فقال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئًا منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، وترك نمرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئًا من إذخر، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يَهدُبُها.

 ●         [3651] حدثنا مسدد، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقاص، سمعت عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الأعمال بالنية، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه، ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله».

 ●         [3652] حدثني إسحاق بن يزيد الدمشقي، قال: حدثنا يحيى بن حمزة، قال: حدثني أبو عمرو الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد بن جبر المكي، أن عبدالله بن عمر كان يقول: لا هجرة بعد الفتح.

 ●         [3653] وحدثني الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير الليثي، فسألها عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما اليومُ فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية.

 ●         [3654] حدثني زكرياء بن يحيى، قال: حدثنا ابن نمير، قال هشام: فأخبرني أبي، عن عائشة، أن سعدًا قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه! اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم!

وقال أبان بن يزيد: حدثنا هشام، عن أبيه، قال: أخبرتني عائشة: مِن قوم كذَّبوا نبيَّك وأخرجوه: من قريش.

 ●         [3655] حدثني مطر بن الفضل، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس قال: بُعث النبي صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين.

 ●         [3656] حدثني مطر، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا زكرياء بن إسحاق، قال: حدثنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: مَكُثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثةَ عشرَ، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين.

قال الفِرَبْري: كان مطر عندنا، ومات بفِرَبْرَ، وهو مَرْوَزِي. هكذا وَصفَه.

 ●         [3657] حدثنا إسماعيل بن عبدالله، قال: حدثني مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيدالله، عن عبيد، يعني: ابن حنين، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: «إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده»، فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا! فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا! فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّرَ، وكان أبو بكر هو أعلمُنا به، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر إلا خلة الإسلام لا تَبقَيَنَّ في المسجد خوخةٌ إلا خوخةُ أبي بكر».

 ●         [3658] حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ بَرْكَ الغِماد لقيه ابن الدَّغِنَةِ - وهو سيد القارة - فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدَّغِنَةِ: فإن مثلك يا أبا بكر لا يَخرُج ولا يُخرَج؛ إنك تَكْسِب المعْدُومَ، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك فرجع، وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يُخرَج مثله ولا يَخرُج، أتخرجون رجلًا يُكسب المُعْدِمَ، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلنْ به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلنُ بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن؛ فيَتقذَّفُ عليه نساء المشركين وأبناؤهم يَعجَبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكَّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين؛ فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدًا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يَفتِنَ نساءَنا وأبناءَنا، فانْهَهُ فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نُخفِرك، ولسنا مُقِرِّينَ لأبي بكر الاستعلانَ، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن تَرجعَ إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أُخفرت في رجل عَقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: «إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين»، وهما الحَرَّتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي»، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم»، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورَقَ السَّمُرِ - وهو الخَبَطُ - أربعة أشهر، قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها! فقال أبو بكر: فدًى له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمرٌ، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أَخْرِجْ مَن عندك»، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: «فإني قد أذن لي في الخروج»، قال أبو بكر: الصحابةَ بأبي أنت يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم»، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بالثمن»، قالت عائشة: فجهزناهما أحَثَّ الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب؛ فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر - وهو غلام شاب ثَقِفٌ لَقِن - فيَدَّلِجُ من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يُكتادَان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْلٍ - وهو لبنُ مِنْحَتِهما ورَضِيفِهما - حتى يَنعِقَ - قال عكرمة: ينعق الكافر كالبهيمة تسمع الصوت ولا تعقل - بهما عامر بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلًا من بني الدِّيلِ - وهو من بني عبد بن عدي - هاديًا خريتًا - والخريت: الماهر بالهداية - قد غمس حلفًا في آل العاصي بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صُبْحَ ثلاثٍ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل.

 ●         [3659] قال ابن شهاب: وأخبرني عبدالرحمن بن مالك المدلجي - وهو ابن أخي سراقة بن جُعْشُمٍ، أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني قد رأيت آنفًا أسودة بالساحل أراها محمدًا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم؛ فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسَها عليَّ، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فحَطَطت بزُجِّه الأرض وخَفَضتُّ عاليَه حتى أتيت فرسي، فركبتُها فرَفَعْتُها تُقَرِّبُ بي حتى دنوت منهم، وعثَرتْ بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضُرُّهم أم لا؟ فخرج الذي أكرَهُ، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات - ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين؛ فخررت عنها، ثم زجرتها، فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبارٌ ساطعٌ في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان؛ فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتُهُم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يَرْزَآني ولم يسألاني إلا أن قال: «أَخْفِ عنَّا»، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن؛ فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أَدَمٍ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 ●         [3660] قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبيرَ في ركب من المسلمين كانوا تِجارًا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياضٍ، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يَرُدَّهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أَوَوْا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهودَ على أُطُم من آطامهم لأمر ينظرُ إليه،، فبصُر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيَّضِينَ يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جَدُّكم الذي تنتظرون؛ فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدًا للتمر لسهيل وسهل -غلامين يتيمين في حجر سعد بن زرارة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل»، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدًا، فقالا: بل نَهَبُه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدًا، وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللَّبِن في بنيانه، ويقول وهو ينقل اللَّبِن:

«هـذا الحِمـالُ لا حِمالُ خيبرْ هــذا أبَــرُّ ربَّنـا وأطهـــرْ»

ويقول:

«إنَّ الأجـر أجـر الآخـــره فارحم الأنصار والْمُهاجِره»

فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يُسَمَّ لي، قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تامٍّ غيرِ هذه الأبيات.

 ●         [3661] حدثني عبدالله بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا هشام، عن أبيه، وفاطمةُ، عن أسماء: صنَعْتُ سفرة للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حين أرادا المدينة، فقلت لأبي: ما أجد شيئًا أربطه إلا نطاقي، قال: فَشُقِّيه، ففعلتُ؛ فسُمِّيتُ ذاتَ النطاقين. قال ابن عباس: أسماء ذات النطاق.

 ●         [3662] حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء قال: لما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تبعه سراقة بن مالك بن جعشم، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فساخت به فرسه، قال: ادع الله لي ولا أضرُّك؛ فدعا له، قال: فعطش رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر براعي، فقال أبو بكر: فأخذت قدحًا فحلبت فيه كثبة من لبن، فأتيته فشرب حتى رضيتُ.

 ●         [3663] حدثني زكرياء بن يحيى، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء أنها حملت بعبدالله بن الزبير، قالت: فخرجت وأنا متم، فأتيت المدينة فنزلت بقباء، فولدته بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بتمرة، ثم دعا له، وبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام.

تابعه خالد بن مخلد، عن علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء، أنها هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى.

 ●         [3664] حدثنا قتيبة، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: أول مولود ولد في الإسلام عبدالله بن الزبير، أتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم تمرة فلاكها، ثم أدخلها في فيه، فأول ما دخل بطنه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 ●         [3665] حدثني محمد، قال: حدثنا عبدالصمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عبدالعزيز بن صهيب، قال: حدثنا أنس بن مالك قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، والنبي صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني: بالطريق، وإنما يعني: سبيل الخير، فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم؛ فقال يا رسول الله: هذا فارس قد لحق بنا؛ فالتفت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم اصرعه!»، فصرعه فرسه، ثم قامت تُحمحم؛ فقال: يا نبي الله، مرني بما شئت، قال: «فقف مكانك، لا تتركنَّ أحدًا يلحق بنا» قال: فكان أول النهار جاهدًا على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر النهار مَسْلَحَةً له، فنزل رسول الله جانب الْحَرَّة، ثم بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمِنَيْنِ مُطاعَيْنِ، فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وحفُّوا دونهما بالسلاح، فقيل في المدينة: جاء نبي الله! جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم! فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله! جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم! فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب، فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبدالله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم، فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أي: بيوت أهلنا أقرب؟» فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري، وهذا بابي، قال: «فانطلق فهيئْ لنا مَقِيلًا»، قال: قوما على بركة الله، فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبدالله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمتْ يهودُ أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فَسَلْهُم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت؛ فإنهم إِن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيَّ ما ليس فيَّ، فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم، فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله! فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقًا وأني جئتكم بحق فأسلموا»، قالوا: ما نعلمه، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، قالها ثلاث مرار، قال: «فأي: رجل فيكم عبدالله بن سلام؟»، قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: «أفرأيتم إن أسلم؟» قالوا: حاشى لله، ما كان ليسلم، قال: «أفرأيتم إن أسلم؟» قالوا: حاشى لله، ما كان ليسلم، قال: «أفرأيتم إن أسلم؟» قالوا: حاشَ لله، ما كان ليسلم، قال: «يا ابن سلام، اخرج عليهم» فخرج فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله! فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق؛ فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 ●         [3666] حدثني إبراهيم بن موسى، قال: أنا هشام، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن عمر بن الخطاب قال: كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبواه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه.

 ●         [3667] حدثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن خباب قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم...

ونا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن الأعمش، قال: سمعت شقيق بن سلمة، قال: حدثنا خباب قال: هاجَرْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، ووجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئًا منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم نجد شيئًا نكفنه فيه إلا نمرة، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، فإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه بها، ونجعل على رجليه من إذخِرٍ، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدِبُها.

 ●         [3668] حدثنا يحيى بن بشر، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا عوف، عن معاوية بن قرة، قال: حدثني أبو بردة بن أبي موسى الأشعري قال: قال لي عبدالله بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قال: قلت: لا، قال: فإن أبي قال لأبيك: يا أبا موسى، هل يسرك إسلامنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله معه بَرَد لنا وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافًا رأسًا برأس؟ فقال أبي: لا والله، قد جاهدنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلينا، وصمنا، وعملنا خيرًا كثيرًا، وأسلم على أيدينا بشر كثير، وإنا لنرجو ذلك، فقال أبي: لكني أنا والذي نفس عمر بيده، لوددت أن ذلك برد لنا، وأن كل شيء عملنا بعد نجونا منه كفافًا رأسًا برأس، فقلت: إن أباك والله خير من أبي!

 ●         [3669] حدثني محمد بن صَبَّاحٍ - أو بلغني عنه، قال: حدثنا إسماعيل، عن عاصم، عن أبي عثمان قال: سمعت ابن عمر إذا قيل له: هاجر قبل أبيه - يغضب، قال: فقدمت أنا وعمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدناه قائلًا؛ فرجعنا إلى المنزل، فأرسلني عمر فقال: اذهب فانظر هل استيقظ؟ فأتيته فدخلت عليه فبايعته، ثم انطلقت إلى عمر فأخبرته أنه قد استيقظ؛ فانطلقنا إليه نهرول هرولة حتى دخل عليه، فبايعه، ثم بايعته.

 ●         [3670] حدثني أحمد بن عثمان، قال: حدثنا شريح بن مسلمة، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يحدث قال: ابتاع أبو بكر من عازب رحلًا، فحملته معه، قال: فسأله عازب عن مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أخذ علينا بالرصد؛ فخرجنا ليلًا، فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى قام قائم الظهيرة، ثم رفعت لنا صخرة، فأتيناها ولها شيء من ظل، قال: ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة معي، ثم اضطجع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقت أنفض ما حوله، فإذا أنا براعي قد أقبل في غنيمته يريد من الصخرة مثل الذي أردنا، فسألته: لمن أنت يا غلام؟ فقال: أنا لفلان، فقلت له: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت له: هل أنت حالب؟ قال: نعم، فأخذ شاة من غنمه، فقلت له: انفض الضرع، قال: فحلب كثبة من لبن، ومعي إداوة من ماء عليها خرقة قد روأتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت، ثم ارتحلنا والطلب في أَثَرنا، قال البراء: فدخلت مع أبي بكر على أهله فإذا عائشة ابنته مُضْطجعةً قد أصابتها حمى، فرأيت أباها فقبل خدها، وقال: كيف أنت يا بنية؟

 ●         [3671] حدثنا سليمان بن عبدالرحمن، قال: حدثنا محمد بن حِمْيَر، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي عَبلة، أن عقبة بن وسَّاجٍ حدثه عن أنس خادم النبي صلى الله عليه وسلم قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وليس في أصحابه أشمطُ غيرُ أبي بكر، فغلَّفها بالحناء والكتم.

 ●         [3672] وقال دحيم: حدثنا الوليد، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني أبو عبيد، عن عقبة بن وساج، حدثني أنس بن مالك قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان أسنَّ أصحابه أبو بكر، فغلفها بالحناء والكتم حتى قنأ لونها.

 ●         [3673] حدثنا أصبغ، قال: أنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن أبا بكر تزوج امرأة من كلب يقال لها: أم بكر، فلما هاجر أبو بكر طلقها، فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر الذي قال هذه القصيدة رثى كفار قريش:

مـاذا بالقَليـب قَليب بدر مِـن الشِّيـزَى تُزَيَّـن بالسَّنام

ومـاذا بالقَليب قَليب بدر من القَيْنات والشَّرْب الكِرام

تُحَيِّينـا بالسَّلامـةِ أم بكـر فهل لي بعد قومي من سلام

يحدثنا الرسول بأن سنحيا وكـيف حيـاةُ أصـداءٍ وهـام

 ●         [3674] حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا همام، عن ثابت، عن أنس، عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم؛ فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال: «اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما».

 ●         [3675] حدثنا علي بن عبدالله، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي. ح وقال محمد بن يوسف: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، قال: حدثني عطاء بن يزيد الليثي، قال: حدثني أبو سعيد قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الهجرة؛ فقال: «ويحك! إن الهجرة شأنها شديد، فهل لك من إبل؟» قال: نعم، قال: «فتعطي صدقتها؟» قال: نعم، قال: «فهل تمنَحُ منها؟» قال: نعم، قال: «فتَحلُبُها يوم وِرْدِها؟» قال: نعم، قال: «فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئًا».

الشرح

هذه الترجمة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة،
وفيه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه المعلق في فضل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا الهجرة لكنت امرًءا من الأنصار» يعني: لأحببت أن أكون من الأنصار، فالهجرة لها فضل عظيم؛ ولهذا فإن المهاجرين أفضل من الأنصار. والمعنى: لولا أن يفوتني ثواب فضل الهجرة لأحببت أن أكون من الأنصار، فالمهاجرون تركوا ديارهم وأموالهم وهاجروا، والأنصار بقوا في ديارهم وأموالهم، وإن كانوا واسوا المهاجرين وأحسنوا وفادتهم وضيافتهم وواسوهم بأموالهم وأهليهم، لكن الهجرة أفضل.

قوله: «فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو الهجر» يعني: ذهب ظني، واليمامة هنا في نجد، وهجر في الأحساء؛ لأن كليهما فيها نخل.

قوله: «فإذا هي المدينة يثرب» يثرب اسم قديم جاهلي للمدينة، ثم سميت بعد ذلك المدينة، وطابا، وطيبة.

 ●         [3650] هذا الحديث فيه أن الكفن إذا كان لا يكفي لتغطية الجسد فإنه يغطى الرأس وأعلى الجسد؛ لأنه أشرف، ويوضع على رجليه بعض الحشائش؛ فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنهقتل يوم أحد ولم يوجد له كفن يكفي إلا قطعة قماش قصيرة، إن غطي الرأس ظهرت الرجلان وإن غطي الرجلان ظهرت الرأس، وما عندهم شيء؛ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا الرأس، ووضع على رجليه شيء من الإذخر وهو من الحشائش؛ فخباب رضي الله عنه يتذكر حالة المهاجرين قال: «هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئًا»؛ يعني: منهم من مضى قبل أن تفتح الدنيا فأجره كامل، منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه مضى وما معه شيء، حتى إنه لما مات ما وجد كفنًا يكفيه.

قوله: «ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدُبُها» ذكر ابن حجر ضبطا آخر فقال: «قوله: «يهدبها»،بفتح أوله وكسر المهملة»، أي: يجتنيها، خشي رضي الله عنه أن يكون نقص أجره كأنه يقول: فتحت علينا الدنيا وصرنا نأكل منها؛ فالسابق سبق إلى الخير، واللاحق كذلك له أجره، بلغوا دين الله عز وجل ونصروا دين الله عز وجل لكن من ورعهم ي قالوا: منا من مات ولم تفتح عليه الدنيا فأجره كامل، وأما نحن فتأخرنا حتى فتحت لنا الدنيا وتمتعنا بخيراتها.

 ●         [3651] هذا الحديث مداره على يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر رضي الله عنه وهو حديث غريب، وهو من أصح الأحاديث، واشتهر الحديث عن يحيى حتى رواه عنه مائة أو مائتان.

وهذا الحديث فيه: دليل على أن الأعمال مدارها على النية؛ فالذي هاجر لله عز وجل فعمله صالح، والذي هاجر للدنيا فنيته للدنيا، والأعمال بالنيات، وهذا أصل عظيم من أصول الدين، وأصل الدين وأساس الملة الإخلاص لله عز وجل والعمل لله عز وجل، وهذا هو إخلاص قول لا إله إلا الله، ومناسبته للهجرة أن من هاجر لله عز وجل فهجرته لله عز وجل، ومن هاجر للدنيا فهجرته للدنيا.

 ●         [3652] قوله: «لا هجرة بعد الفتح»، لأن الهجرة كانت من مكة إلى المدينة، وقد صارت مكة دار إسلام لما فتحت فانتهت الهجرة، ولكن الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام باقية وواجبة، وهي مستحبة من بلد المعاصي، وفي اللفظ الآخر يقول: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»([21])،أي: بقي الجهاد والنية الصالحة.

 ●         [3653] قوله: «فسألها عن الهجرة»، يعني: سأل عائشة لعن الهجرة الواجبة؛ «فقالت: لا هجرة اليوم»، يعني: واجبة؛ لأنه فتحت مكة.

قوله: «كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن» لما كان المشركون يعذبونهم بمكة، وكان المسلمون مستضعفين، ولم تكن لهم منعة.

قوله: «فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام واليوم يعبد ربه حيث شاء»، لأنه فتحت مكة، وصار المسلمون أعزاء، وكتب الله لهم السيادة والغلبة.

قوله: «ولكن جهاد ونية»، يعني: بقي الجهاد في سبيل الله عز وجل والنية الصالحة.

 ●         [3654] سعد بن معاذ رضي الله عنه هو سيد الأوس، ولما أصيب بأكحله في غزوة الخندق ووضع في خيمة بالمسجد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوده من قرب فظن أنه انتهت الحرب بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش فقال: «اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك»، يعني: اليهود من بني قريظة.

قوله: «اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم» وقال في اللفظ الآخر: «فافجرها واجعل موتتي فيها» وهذا ليس تمنيًا للموت، ولكن طلبًا للشهادة، كأنه يقول: إن كان بقي حرب بيننا وبين قريش فأمهلني حتى أقاتلهم، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجر هذا الجرح حتى أموت شهيدًا.

وهذا يعتبر شهادة؛ لأنه مات رضي الله عنه بعد ذلك من جرح تلك المعركة.

 ●         [3655]، [3656] هذا هو الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث على رأس الأربعين، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وأقام بالمدينة عشر سنين، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين، وقيل: توفي وهو في الستين، وقيل: خمس وستين.

 ●         [3657] هذا الحديث فيه فضل لأبي بكر رضي الله عنه وعلمه ومكانته ومنزلته عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس وقال: «إن عبدًا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده» عرف أبو بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المخير، وعرف أن هذا قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه خيره الله عز وجل فاختار الآخرة، وأنه سيموت فجعل يبكي رضي الله عنه.

قوله: «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا» هذا فضل أبي بكر رضي الله عنه، ومن فضله أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر إلا خلة الإسلام» والخلة هي كمال المحبة، والقلب لا يتسع لأكثر من خليل واحد، لكن يتسع القلب لأكثر من حبيب؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يحب أبا بكر ويحب عمر ويحب عثمان ويحب عليًا ويحب عائشة ويحب أسامة ي، فقد امتلأ قلبه بخلة الله عز وجل، ولو كان فيه متسع لكان لأبي بكر رضي الله عنه.

قوله: «لا تبقين في المسجد خوخةٌ إلا خوخةُ أبي بكر» والخوخة هي الباب الصغير، كان الصحابة ي يجعلون أبوابًا صغيرة على المسجد وأبوابًا كبيرة، ويجعلون الباب الصغير بابًا يدخل إلى المسجد؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تسد الأبواب كلها إلا باب أبي بكر رضي الله عنه، وفي هذا إشارة إلى أنه سوف يكون خليفة وسيكون إمام الناس بعده، لفضله رضي الله عنه.

 

([1]) أحمد (1/358)، وأبو يعلى (6/361).

([2]) أحمد (3/162)، والبخاري (540)، ومسلم (2359).

([3]) الطبراني في «الكبير» (24/433).

([4]) أحمد في «المسند» (1/271).

([5]) أحمد (4/208)، ومسلم (162).

([6]) أحمد (2/282)، والبخاري (3394)، ومسلم (168).

([7]) أحمد (3/148)، ومسلم (162).

([8]) أحمد (4/405)، ومسلم (179).

([9]) أحمد (4/207)، والبخاري (3207).

([10]) أحمد (5/143)، والبخاري (349).

([11]) أحمد (3/322).

([12]) أحمد (3/390)، وأبو داود (4734)، والترمذي (2925)، وابن ماجه (201).

([13]) أحمد (1/79)، والبخاري (4890)، ومسلم (2494).

([14]) أحمد (6/270)، والبخاري (5288)، ومسلم (1866).

([15]) أحمد (6/280)، ومسلم (1422).

([16]) أحمد (2/434)، والبخاري (5136)، ومسلم (1419).

([17]) أحمد (6/136)، وابن ماجه (1874).

([18]) انظر «حاشية ابن القيم على سنن أبي داود» المسماة: «تهذيب السنن» (6/86).

([19]) انظر«الفروع» (5/172).

([20]) أحمد (6/280)، ومسلم (1422).

([21]) أحمد (6/465)، والبخاري (2783)، ومسلم (1864).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد