الخطبة الأولى
الحمد لله الملك الخلاّق ، الكريم الرزاق ، يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ، أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله ، رغب في الآخرة وحذّر من الاغترار بالدنيا والركون إليها ، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان في إيثار الآخرة على الدنيا ، وسلّم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
أيها المسلمون .. اتقوا الله واعلموا أن الله أعطاكم الأموال والأولاد فتنة وابتلاء واختباراً ، وأن من الأزواج والأولاد ما يكون عدوّاً للإنسان ، وأن الأموال والأولاد لا تقرّب وحدها إلى الله بدون الإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى : وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
ولقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية موضّحة ومبيّنة شأن المال ومكانته والحكمة من إعطائه لأيّ شخص كان وأنه وسيلة لا غاية وأنه ليس كل من أُعطيه سعيداً ، ولا كل من حُرمه شقياً .
أيها المسلمون، إن مما يندى له الجبين ويبعثُ أشدّ الأسى في قلوب المؤمنين ما نراه مما يسود قلوب كثير من الناس اليوم ويهيمن على جلّ تفكيرهم من طغيان حبّ المادة والإِعراض بالأموال عما أُعطيت له، وتهافتِ الناس عليها تهافت الفراش على النار ، وقصر جلّ التفكير والإحساس والعمل عليها ، كأنها وحدها الطريق الموصل إلى الله وجنّته.
فلنتق الله أيها المسلمون فما للمال خُلقنا ، ولا لاتخاذه هدفاً أسمى أُمرنا.
وليس المال خيراً محضاً فنقصُرُ جل تفكيرنا عليه ، ولا شراً محضاً فنجمع قوانا على التخلص منه، إنما يكون المال خيراً إذا استُغل في أوجه الخير ، ويكون شراً إذا استعين به في الشر ، نعم يكون المال شراً وأعظم به من شر إذا جمعه صاحبه مما هبّ ودبّ ولم يرقُب في جمعه إلاًّ ولا ذمة ، إذا جُمع من غلول من أخذٍ من بيت مال المسلمين بغير حق، أو من معاملات ربوية أو اتسم بالغشّ والأيمان والأحاديث الكاذبة ، وبخس للكيل أو الوزن أو الذرع أو العدّ ، أو جمع من قمار أو رُشا ، أو كهانة أو فساد خلق ، أو معاملة في محرّم كالمخدرات والمسكرات والمفتّرات ، والمصوّرات الحيوانية والإنسانية وآلات اللهو المحرمة ، أو جُمع من أموال اليتامى أو من حقوق الناس وديونهم .
أيها المسلمون، وكما يكون المال شراً بكسبه من الطرق المذكورة ونحوها، يكون أيضاً شراً إذا أُوثر على الآخرة ولو كُسب من حلال بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى :16-17] ، ويكون شراً إذا دِيست به كرامة مسلم أو استُغل في معصية ، أو استَعبَد صاحبه وألهاه عن ذكر الله وعن الصلاة : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون :9-11] .
أيها المسلمون، وكما يكون المال شراً فيما سمعتم أمثلته يكون خيراً وسعادة إذا طاب مدخله واستعفّ واستغنى به صاحبه ، إذا بُرَّ به أبٌ أو أمٌ ، أو وُصلت به رحم ، أو صينت به كرامة ، أو سدَّت به حاجةُ فقير ونحوه، أو أنفق في الجهاد في سبيل الله ، بل إن النبي ﷺ بيَّن أنَّ من أنفق أمواله في سُبُل الخيرات ليلاً ونهاراً فهو مغبوط كمن أُوتي القرآن وعمل به ليلاً ونهاراً كل منهما محسود حسد غبطة على هذه المنحة الربانية التي حباه الله بها وخصّه بها ، قال ــ عليه الصلاة والسلام ــ : لا حسد إلا في اثنتين : رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجلٌ آتاه الله ما لا فهو نيفق منه آناء الليل وآناء النهار وفي لفظ : رجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجلٌ آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق. أخرجه الشيخان وغيرهما .
فاتقوا الله أيها المسلمون فيما ابتليتم به من الأموال، واحذروا أن تصرفوا جلّ تفكيركم وهمِكِّم في الـمال، احذروا أن تجعلوا المال أسمى غرض يُنشَد في هذه الحياة فتخسروا الدنيا والآخرة ، احذروا أن يُسيطر حبّ المال على قلوبكم فيوردكم أشدّ موارد العَطَب ، ويُصدركم أقطع مصادر الهلاك ، احذروا فإن سيطرة حب المال على النفوس لأشد الأعداء فتكاً بالذمّم والكرامة، بل والفضيلة والعفاف وسائر القيم الإسلامية ، ولا جَرَم فكم وُئد من أجل المال من فضيلة ، ودِيس من كرامة ، وأُضيع من قيمة وخُلُق مثالي ، يقول ﷺ في الحديث الذي رواه أحمد : من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته، ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه ، فآثـِروا ما يبقى على ما يفني. ويقول ــ عليه الصلاة والسلام ــ فيما يرويه البزار بسند جيّد : ما ذئبان جائعان أُرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على الـمال والشرف لدينه.
اللهم اجعل... مسكيناً ومطعمنا ومشربنا من الحلال ، وباعد بيننا وبين الحرام، وعاملنا بعفوك وكرمك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
* * *
معنى الحديث : أن حرص المرء على المال والجاه ــ المنصب ــ يفسد دين الإنسان أكثر من إفساد الذئبين الجائعين الذين أُرسلا في زريبة غنم .
واعلموا أنكم مسؤولون عن هذه الأموال التي بأيديكم عن جمعها وعن إنفاقها كما في الحديث : لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ.
وقد أخبر الله عن المترفين المكذبين أنهم افتخروا بأموالهم وأولادهم فقال سبحانه عنهم : وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
كما نفى الله تعالى اعتقاد الإنسان أن الله إذا وسع عيه فهو دليل على إكرامه ، وإذا ضيّق عليه المال فهو دليل على إهانته بقولـه : فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا [الفجر :] ، وقال تعالى : أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ