الحمد لله معزّ من أطاعه ومذلّ من عصاه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل الذلة في معصيته والعزّ في طاعته ورضاه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أكمل الناس لربهم في تقواه، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى والزموا طاعة ربكم واحذروا معصيته والجرأة على محارمة الظاهرة والباطنة، واعلموا أن للذنوب والمعاصي عقوبات، فمن عقوباتها أنها تزيل النعم وتُحلّ النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بسبب ذنب، ولا حلّت به نقمة إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب : "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة" [1].
وقد أخبر الله تعالى أنه لا يُغيّر نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يُغيّر ما بنفسه، من طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ[الأنفال:53]، فإن غيّر المعصية بالطاعة غيّر الله عليه العقوبة بالعافية، والذلّ بالعز قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد :11] ، و لقد أحسن القائل:
إذا كنت في نعمة فارعها | فإن المعاصي تزيل النعم |
وحُطها بطاعة رب العباد |
فربُّ العباد سريع النقم |
عباد الله: ومن عقوبات المعاصي حرمانُ الرزق، وفي المسند عنه ﷺ قال: إن العبد ليُحرَم الرزق بالذنب يصيبه [2]، وما استجلب رزق الله بمثل ترك المعاصي، وتقوى الله مجلبة للرزق، وترك التقوى مجلبة للفقر.
ومن عقوباتها: الوَحْشَةُ التي تحصل بين العاصي وبين الناس ولا سيما أهلَ الخير منهم فإنه يجد وحشة بينه وبينهم ،فبعدُ عنهم وحُرم بركة الانتفاع بهم وَقَرُب من حزب الشيطان بعد ما بعد من حزب الرحمن، ومن عقوباتها تعسير أموره فلا يتوجه لأمرٍ إلا ويجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه، فمن عطّل التقوى جعل الله له من أمره عسراً كما أن من اتقى الله جعل الله له من أمره يسراً.
ومن عقوباتها: أنها تقصر العمر وتمحق بركته، فإن الفجور ينقص العمر كما أن البر يزيد في العمر لأن عمر الإنسان مدة حياته ولا حياة له إلا بإقباله على ربه والتنعم بحبه وذكره وإيثار مرضاته.
ومن عقوبات المعاصي: أنها تزرع أمثالها ويُولد بعضها بعضا ًحتى يعزّ على العبد مفارقتها والخروج منها، ومن عقوباتها أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج :18].
ومن عقوباتها: أن المعصية تورث الذل ولابد، فإن الذل في معصية الله كما أن العزّ في طاعة الله، ولهذا أحسن القائل :
رأيت الذنوب تميت القلوب | وقد يورث الذُّلّ إدمانُها |
ومن عقوباتها: أنها تستدعي نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه، وهناك الهلاك قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [الحشر :18].
ومن عقوباتها: سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه.
ومن عقوباتها: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف وتكسوه أسماء الذم والصَّغار، فتسلبه اسم المؤمن والبرَّ والمحسن والتقي والمطيع وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيء والمفسد والخبيث.
ومن عقوباتها: أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة، فهي تمحق بركة الدين والدنيا، وما مُحِيت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف :96]، وقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ[المائدة: ٦٦] .
ومن عقوباتها: أنها تُجرِّئ على العبد ما لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات، فتجرّئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة والتخويف والتعزير وإنسائه ما مصلحته في ذكره ومضرته في نسيانه حتى تؤزّه إلى المعصية أزَّاً.
ومن عقوباتها: أنها مَدَد من الإنسان يمدُّ بها عدوه عليه وجيش يقوِّيه به على حربه.
ومن عقوباتها: أنها إذا ظهرت تعدَّى ضررها إلى غير العاصي كما روى الإمام أحمد من حديث قيس بن أبي حازم قال: قال أبوبكر الصديق : "يا أيها الناس إنكم تتلون هذه الآية وإنكم تضعونها في غير موضعها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة :105] ، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه.وفي لفظ: إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعُمّهم الله بعقاب من عنده [3]. فالخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تُغيّر ضرت العامة.
ومن عقوباتها: أن الافتتان بالمعاصي يورث سوء الخاتمة، ويُحال بينهم وبين حسن الخاتمة عقوبة لهم على الأعمال السيئة، ومن أعظم أسباب سوء الخاتمة الانكباب على الدنيا وطلبُها والحرصُ عليها، والإعراض عن الآخرة، والإقدام والجرأة على معاصي الله، وسوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى فيها لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، وإنما تكون لمن لـه فساد في العقيدة، أو إصرار على الكبيرة، وإقدام على العظائم.
وينبغي للمسلم أن لا يتساهلَ بالمعاصي ولا يستصغرها ولا يحتقرها فربما كان فيها هلاكه وهو لا يشعر ، ففي مسند أحمد[4] عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: إياكم ومُحقرات الذنوب فإنهنّ يجتمعن على الرجل حتى يُهلكنه، وإن رسول الله ﷺ ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاةٍ فحضر صنيع القوم (أي حليفهم) فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالبعرة، حتى جمعوا سواداً وأجّجوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها، وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، وإنا كنا لنعدّها على زمن رسول الله ﷺ من الموبقات "[5].
وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: عُذّبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض[6].
وفي المسند والترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن المؤمن إذا أذنب ذنباً نُكت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلوَ قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله : كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين :14] "[7].
فاتقوا الله في أنفكسم أن توردوها موارد الهلاك وتوبوا إلى ربكم فإن باب التوبة مفتوح يمسح الله سيئاتكم، ويبدلها حسنات ولا تصروا على المعاصي فإن المصرّ على خطر عظيم، اللهم وفقنا لما يرضيك، وجنبنا محارمك ومعاصيك وأعزنا بطاعتك، وانفعنا بتلاوة كتابك.
- ^ ذكره ابن القيم في "الجواب الكافي"، صـ114.
- ^ مسند الإمام أحمد ، برقم (33438).
- ^ مسند الإمام أحمد ، برقم (30)، سنن أبي داود ، كتاب الحدود (4338)، سنن الترمذي ، الفتن (2168).
- ^ مسند الإمام أحمد ، برقم (3818).
- ^ صحيح البخاري، كتاب الرقاق (6492).
- ^ صحيح البخاري ، كتاب المساقاة (2356)، صحيح مسلم ، كتاب السلام (2242).
- ^ مسند الإمام أحمد ، برقم (7952)،سنن الترمذي ، تفسير القرآن (3334).