الحمد لله الذي أباح من المكاسب كل بيع مبرور ،أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله حرَّم في البيع الغش والكذب والظلم والجهالة والغرر، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله أبر الناس وأصدقهم في جميع الأمور، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وامتثلوا قولـه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء :29].
واسمعوا شيئا ًمن أحكام البيع والشراء، فمن أحكامه أن يكون البيع عن تراضٍ بأن يقع العقد برضى الطرفين، فمن أُخذ ماله بغير رضاً منه ببيع أو إجارة أو غيرهما فالعقد حرام باطل إلا أن يكون ذلك بطريق شرعي لقول الله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ولقول النبي ﷺ : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه[1].
ومن أحكام البيع: أنه لا يجوز بيع ما لا يملكه الإنسان كأن يبيع سلعة لا يملكها ــ وهي في السوق ــ ثم يذهب فيشتريها ويسلمها للمشتري، لما روى حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله، يأتي الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه، ثم ابتاعه من السوق، فقال: لا تبع ما ليس عندك .رواه أحمد وأبوداود وغيرهما[2].
ومن أحكام البيع: أنه لا يجوز للمشتري أن يبيع ما اشتراه قبل قبضه، فعن حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعاً فما يحل لي منها وما يحرم عليَّ ؟ قال: إذا اشتريتَ بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه.رواه أحمد[3].
وعن زيد بن ثابت "أن النبي ﷺ نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم". رواه أبوداود والدارقطني[4].
وعن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: إذا ابتعت طعاماً فلا تبعه حتى تستوفيه.رواه أحمد ومسلم[5].
وعن أبي هريرة قال : "نهى رسول الله ﷺ أن يُشترى الطعام ثم يباع حتى يُستوفى". رواه أحمد ومسلم[6].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كانوا يبتاعون الطعام جزافاً بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله ﷺ أن يبيعوه حتى ينقلوه".رواه الشيخان وغيرهما[7]، وفي لفظ الصحيحين حتى يحوّلوه، وللجماعة إلا الترمذي: من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه. ولأحمد: من اشترى طعاماً بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه[8]، ولأبي داود والنسائي: نهى أن يبيع أحدٌ طعاماً اشتراه بكيل حتى يستوفيه[9].
ومن أحكام البيع: أنه لا يجوز بيع الطعام ونحوه الذي اشتراه مكايلةً أو موازنةً حتى يكيله أو يزنه مرة ثانية ولا يبعه بالكيل أو الوزن الأول لما روى جابر قال: "نهى النبي ﷺ عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري". رواه ابن ماجه والدارقطني[10]، وعن عثمان أن النبي ﷺ قال له: يا عثمان، إذا ابتعت فاكْتَلّ، وإذا بعتَ فكِلّْ رواه أحمد والدارقطني والبخاري معلقا[11].
ومن أحكام البيع: أنه لا يجوز النَجْش لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى النبي ﷺ عن النَجْش".متفق عليه[12]. والنَجْش: هو أن يزيد الرجل في السلعة وهو لا يريد شراءها وإنما يريد أن يضرّ المشتري أو ينفع البائع أو يجمع بين الأمرين، وقد قرر العلماء أن الناجش عاصٍ بفعله.
ومن أحكام البيع: أنه لا يجوز بيع الرجل على بيع أخيه، ولا يجوز شراء الرجل على شراء أخيه، ولا يجوز سوم الرجل على سوم أخيه بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر، وصورة بيع الرجل على بيع أخيه، هو أن يقول شخص لمن اشترى في زمن الخيار افسخ البيع لأبيعك سلعة مثلها بأنقص من ثمنها، وصورة شراء الرجل على شراء أخيه، هو أن يقول شخص لمن باع سلعة في زمن الخيار افسخ البيع لأشتريها منك بأزيد من ثمنها، وصورة سوم الرجل على سوم أخيه، هو أن يقول شخص لمن يأخذ شيئاً ليشتريَه رُدّه لأبيعك خيراً منه بثمنه أو مثله بأرخص من ثمنه، أو يقول للمالك استردَّه لاشتريَه منك بأكثر من ذلك ويكون هذا بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر.
والدليل على ذلك ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: لا يبعْ أحدُكم على بيع أخيه، ولا يخطُب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له. رواه أحمد[13].وللنسائي: لا يبعْ أحدكم على بيع أخيه حتى يتباعَ أو يذرْ[14].
وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: لا يخطُبُ الرجل على خطبة أخيه، ولا يَسُومُ على سومه[15].وفي لفظ: لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطُبُ على خطبة أخيه.متفق عليه[16].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا تحاسدوا، ولا تنجاشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبعْ بعضُكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذُلُه ولا يكذبُه ولا يحقره، التقوى هاهنا ــ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ــ، بحسب امرئ من الشر أن يحقرَ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمُه ومالُه وعِرضُه.رواه مسلم[17].
أيها المسلمون: تدبّروا هذا الحديث العظيم، واعملوا بما فيه أمراً ونهياً، فإن من أسباب المحبة والألفة والإخاء والمودة، فقد نهى المسلمين أن يحسد بعضهم بعضاً، والحسد تمني زوال النعمة عن الغير، ونهاهم عن النَجْش وهو: أن يزيد بعضهم في ثمن سلعة لا يريد شراءها ليخدع بذلك غيره ممن يرغب فيها، ونهى المسلمين عن تعاطي أسباب التباغض، ونهاهم عن التدابر وهو المعاداة والمقاطعة بأن يولِّي أحدُهم أخاه دُبَرَه حين يلقاه، ونهاهم أن يبيع بعضهم على بيع بعض، وأمرهم أن يتعاملوا معاملة الإخوة في المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون في الخير مع صفاء القلوب والنصيحة بكل حال فقال: وكونوا عباد الله إخواناً ؛ لأن المسلم أخو المسلم يجمعهما دين واحد إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات :10]، ونهى المسلم أن يظلم أخاه المسلم بأن يُدخل عليه ضرراً في نفسه أو دينه أو عرضه أو ماله بغير إذن شرعي، ونهاه أن يخذِل أخاه بأن يترك نصرته المشروعة التي هي حق من حقوق أُخوة الإسلام، ونهاه أن يكذبه وهو أن يخبره بأمر خلاف الواقع، ونهاه أن يَحقره بأن يستصغر شأنه ويضع من قدره ويتكبر عليه، لأن الله لما خلقه لم يحقره بل رفعه وخاطبه وكلّفه، وبيَّن أن عمدة التقوى ما في القلب من عظمة الله وخشيته ومراقبته، وأنه لا اعتبار بمجرد الأعمال الصالحة بدون ذلك، وحذّر تحذيراً عظيماً من تحقير المسلم وأن ذلك يكفيه من الشر ؛ لأن الله خلقه ورزقه وأحسن تقويم خَلقه وسخّر ما في السموات وما في الأرض له ولغيره وسمَّاه مسلماً ومؤمناً وعبداً، فمن حقَّر مسلماً فقد حقَّر ما عظَّم الله وكافيه ذلك، وليس من الاحتقار ما ينقمه العاقلُ على الجاهل، والعدلُ على الفاسق، بل لِمَا اتصف به الجاهل من الجهل، والفاسق من الفسق، فمتى فارق ذلك عاد إلى اعتنائه به ورفع قدره، وحرَّم الحديث دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم.
فيا له من حديث عظيم جامع للحقوق والآداب من قول أو فعل بغير حق.
رزقني الله وإياكم العمل بكتابه وسنة نبيه ﷺ وتطبيق هذه الحقوق والآداب الإسلامية، ونفعني وإياكم بالقرآن وما فيه من المواعظ الربانية، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
- ^ مسند الإمام احمد ، برقم (20695).
- ^ سبق تخريجه .
- ^ مسند الإمام أحمد ، برقم (15316).
- ^ سبق تخريجه .
- ^ سبق تخريجه .
- ^ سبق تخريجه .
- ^ سبق تخريجه .
- ^ سبق تخريجه .
- ^ سبق تخريجه .
- ^ سنن ابن ماجه ، كتاب التجارات (2228) ، سنن الدارقطني ، كتاب البيوع (2819).
- ^ مسند الإمام أحمد، برقم (560)، سنن الدارقطني ، كتاب البيوع (2818)، صحيح البخاري ، كتاب البيوع ، باب: الكيل على البائع والمعطي.
- ^ صحيح البخاري ، كتاب البيوع (2142)، صحيح مسلم ، كتاب البيوع (1516).
- ^ مسند الإمام أحمد ، برقم (4722).
- ^ سنن النسائي ، كتاب البيوع (4504).
- ^ صحيح مسلم ، كتاب النكاح (1408).
- ^ صحيح البخاري ، كتاب البيوع (2140)، صحيح مسلم ، كتاب النكاح (1412).
- ^ سبق تخريجه .