شعار الموقع

أدلة وجوب شكر النعم، وأنواع ما تجب فيه (1)

19

الحمد لله  المنعم الوهاب الولي الحميد، باسط الرزق على عباده فهو الرازق،  أحمده سبحانه حمد مؤمن صادق، وأشكره والشكر لحفظ نعمه أوثق الوثائق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المستحق للحمد والشكر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المعظم لربه بالتكبير والحمد والشكر، صلى الله وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والمناقب والذكر، ومن تبعهم بإحسان في سيره إلى الله في العبادة والذكر والفكر، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد: أيها الناس .. اتقو الله تعالى، واعلموا أن الله تعالى أوجب عليكم شكر نعمه وحرّم عليكم الكفر بنعمه فقال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ[البقرة :152]، فهذا تذكير من الله لعباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول ﷺ وقد بيَّن الله جل وعلا أن بعثة نبيه ﷺ من مِنَن الله تعالى عليهم فقال: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ[آل عمران :164]، وبيَّن الله في موضع آخر أن الكفار قابلوا هذه النعمة بالكفران فقال تعالــى: أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [إبراهيم :28]، وبيَّن سبحانه أنهم أنكروا هذه النعمة بعد معرفتها فقال: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ [النحل :86]، وقيل: المراد بالنعمة ما عدَّد الله عليهم من النعم ينكرونها بعد معرفتها فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم.

أيها المسلمون: لقد أمر الله تعالى بشكره ووعد على شكره بمزيد الخير فقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم :7].

والشكر أركان ثلاثة لا يقوم إلا بها:

أحدها: الإقرار بالنعمة.

الثاني: نسبتها إلى المنعِم.

الثالث: بذلها فيما يحب ويرضى.

فلابد من الإقرار بالنعمة والتحدث بها والثناء على صاحبها، قال تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ[الضحى :11]، ولابد في شكر النعمة من نسبتها إلى الله، ونسبتها إلى غيره من أبواب الشرك الخفي، كما أن نسبتها إليه من أبواب الشكر كما في الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن جابر مرفوعاً: من أُولِي معروفاً فلم يجد له جزاءً إلا الثناء فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره [1]. وفي رواية لأبي داود: من أُبلي فذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره [2]. أي من أُنعم عليه فإذا كان ذكر المعروف الذي يُقدِّره الله على يدي إنسان من شكره، فذكرُ معروف رب العالمين وآلائه وإحسانه ونسبةُ ذلك إليه أَوْلى بأن يكون شكراً، فنسبة النعمة إلى غير مُسديها وموليهَا إنكارٌ لها وكفرٌ لها، ولو كان ذلك بعد معرفتها كما قال تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ [النحل:83]،  فسَّر السلفُ ذلك بنسبة النعم إلى غير الله كما قال مجاهد ما معناه: هو كقول الرجل هذا مالي ورثته عن آبائي، مع أنها إذا كانت موروثة عن الآباء أبلغُ في إنعام الله عليهم، إذْ أنعم بها على آبائهم، ثم ورَّثَهم إياها فتمتّعوا هم وآباؤهم بنعمه.

وقال عون بن عبدالله في تفسير قولـه تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ[النحل:83]: يقولون لولا فلان لم يكن كذا، أي لولا فلان أصابني كذا وكذا، ولولا فلان لم أُصِب كذا وكذا، وهذا يتضمن قطع إضافة النعمة عمن مَنْ لولاه لم تكن، وإضافتها إلى مَنْ لم يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره.

وقال ابن قتيبة: يقولون هذا بشفاعة آلهتنا، وهذا يتضمن الشرك مع إضافة النعمى إلى غير وَلِيّها، والآية تعمّ ذلك كله، وقال تعالى في ذمِّ الإنسان الكافر في نسبته نعم الله إلى كسبه وقوّته وعلمه وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً[فصلت:50]  في معناها قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوقٌ به.وقال ابن عباس: يريد: من عندي.

وقال تعالى حكاية عن قارون أنه لما نصحه قوُمه أن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة : قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]،  قال قتادة على علم مني: بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أنِّي له أهل .وهذا معنى قول مجاهد: أُوتيته على شرف.

وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى الآية، وقال تعالى في ذمّ الإنسان في نسبته نعمة الله إلى نفسه: فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ [الزمر :49]  يخبر اللهُ أن الإنسان في حال الضر يتضرع إلى الله تعالى ويُنيب إليه ويدعوه، فإذا أنعم الله عليه طغى وبغى ونسب النعمة إلى نفسه فيقول: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أي لما يعلم من استحقاقي له، ولولا أني عند الله حظيظ لما خوّلني هذا، قال الله تعالى ردّاً عليه، ليس الأمر كما زعمت بل هي فتنة واختبار أيطيع فيشكر النعمة أم يعصي فيكفر النعمة؟.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذمّ سبحانه من يُضيف إنعامه إلى غيره ويُشرك به، وقال بعض السلف: هو كقولهم كانت الريح طيبة والملاَّح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير " [3].

والمعنى: أن السفن إذا جرَين بريح طيبة بأمر الله جرياً حسناً نسبوا ذلك إلى طيب الريح وحذْق الملاح في سياسة السفينة ونسوا ربهم الذي أجرى لهم الفلكَ في البحر رحمة بهم، وإن كان المتكلم بذلك لم يقصد أن الريح والملاّح هو الفاعل لذلك من دون خلق الله وأمره وإنما أراد أنه سببٌ لكن ينبغي أن يُضيف ذلك إلى الله وحده مولاه المنعِم بها وهو المنعم على الإطلاق كما قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ[النحل :53].

فاتقوا الله أيها المسلمون وقيّدوا نعم الله بالشكر بطاعته والقيام بأوامره ونواهيه، وصرف هذه النعم فيما يرضيه سبحانه واللهج بذكره وحمده وتسبيحه وتقديسه والمسارعة فيما يرضيه، واحذروا من الجرأة على محارم الله والكفر بنعمه واستعمالها في معاصيه، فتحل بكم النكبات والعقوبات.

  1. ^ صحيح ابن حبان (8/204)، برقم (3415).
  2. ^ سنن أبي داود ، كتاب الأدب (4814).
  3. ^ مجموع الفتاوى (8/33).
logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد