شعار الموقع

شكر نعم الله

61

الحمد لله المتفضل على عباده بجزيل النعم، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يجزي الشكور بالزيادة ويصرف عنه السوء والنقم، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله  من خلقه، قدوة عباد الله في عبادة الرب جل وعلا بإحسان القول والاستقامة في العمل، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه في هذه الدنيا قبل حلول الأجل، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى واشكروا نعم الله عليكم فلقد أسبغ عليكم نعمه ظاهره وباطنه، وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض، وسخر لكم الليل والنهار، وسخر لكم البحر والجوّ وسخر لكم الشمس والقمر: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ ۝ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۝ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم :32-34].

أيها المسلمون: لقد قصّ الله علينا في القرآن الكريم قصة فيها العبرة والعظة لأهل النعم ألا وهي قصة سبأ، وهي قبيلة معروفة في اليمن ومسكنهم بلدة يقال لها مأرب، فقد بيّن الله جل وعلا أنّ لسبأ في مسكنهم آية، وهي ما أدرّ الله عليهم من النعم وصرف عنهم من النقم الذي يقتضي ذلك منهم أن يعبدوا الله ويشكروه، ثم فسّر الآية بأنها: جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ [سبأ :15]، وكان لهم وادٍ عظيم تأتيه سيول كثيرة، وكانوا قد بنوا سدّاً محكماً يكون مجمعاً للماء فكانت السيول تأتيه فيجتمع فيه ماء عظيم فيفرّقونه على بساتينهم التي عن يمين ذلك الوادي وشماله، فيُغلّ لهم تلك الجنتان العظيمتان من الثمار ما يكفيهم ويحصل لهم به الغبطة والسرور، فأمرهم الله بشكر نعمه التي أدرّها عليهم من وجوه كثيرة:

- منها: هاتان الجنتان اللتان غالب أقواتهم منها.

- ومنها: أن الله جعل بلَدَهم بلدة طيبة لحسن هوائها، وقلة وخمها، وحصول الرزق الرغيد فيها.

- ومنها: أن الله وعدهم إن شكروه أن يغفر لهم ويرحمهم.

- ومنها: أن الله لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم إلى الأرض المباركة وهي قرى صنعاء أو الشام ــ هيأ لهم من الأسباب الميسّرة وصولهم إليها بغاية السهولة من الأمن وعدم الخوف وتواصل القرى بينهم وبينها بحيث لا يكون عليهم مشقة بحمل الزاد والمزاد، وهذا من تمام نعمة الله عليهم أن أمَّنهم من الخوف، لكنّ سبأ أعرضوا عن المُنعم ــ جل وعلا ــ وعن عبادته وبطروا النعمة ومَلَّوها حتى إنهم طلبوا وتمنّوا أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى التي كان السير فيها مُيسّراً، وظلموا أنفسهم بكفرهم بالله وبنعمته، فعاقبهم الله تعالى بهذه النعمة التي أطغتهم فأبادها عليهم، فأرسل عليهم سيل العَرِم وهو السيل المتوعّر الذي خَرَّب سدّهم وأتلف جنّاتهم وخرَّب بساتينهم، فتبدّلت تلك الجنات ذاتُ الحدائق المعجبة والأشجار المثمرةُ، وصارت أشجارٌ لا نفع فيها: خَمْطٌ وأثلٌ وشيءٌ من سدر قليل، وهذا من جنس عملهم، فكما بدّلوا الشكر الحسن بالكفر القبيح بدل الله تلك النعمة إلى ضدها ولهذا قال الله تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ[سبأ :17]، أي هل نجازي جزاء العقوبة إلا من كفر بالله وبطِر النعمة ؟ فلما أصابهم ما أصابهم تفرّقوا وتمزّقوا بعد ما كانوا مجتمعين وجعلهم الله أحاديثَ يُتحدَّث بهم، وأسماراً للناس، وكان يُضرب بهم المثل فيقال: "تفرقوا أبْدى سبأ"، فكل أحدٍ يتحدث بما جرى لهم ولكن لا ينتفع بالعبرة فيهم إلا الصبّار الشكور وهو الصبّار على المكاره والشدائد يتحمّلها لوجه الله ولا يتسخطها بل يصير عليها، الشكور لنعمة الله تعالى يُقرّ بها ويعترف ويثني على مَن أولاها ويصرفها في طاعته، فهذا إذا سمع بقصتهم وما جرى منهم وعليهم عرف بذلك أن تلك العقوبة جزاءٌ لكفرهم نعمة الله، وأن من فعل مثلهم فُعل به كما فُعل بهم، وأن شكراً لله تعالى حافظ للنعمة دافع للنقمة، وأن رسل الله صادقون فيما أخبروا به، وأن الجزاء حق كما رأى أُنموذَجه في دار الدنيا.

أيها المسلمون: ومن نعم الله ولطفه بالناس عموماً وبالعرب خصوصاً أن قصَّ في القرآن أخبار المهلَكين والمعاقَبين ممن كان يجاور العرب، وتُشاهد آثارُهم ويتناقل الناس أخبارهم ليكون ذلك أدعى إلى التصديق وأقرب للموعظة، واسمعوا القرآن الكريم وهو يقصّ علينا هذه القصة ــ قصة سبأ ــ يقول الله تعالى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ۝ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ۝ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ۝ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّاماً آمِنِينَ ۝ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ :15-19].

عباد الله: لقد أمر الله بذكره وشكره، ووعد على ذلك المزيد من فضله، وبيَّن أنّ مَن شكره فشُكرُه راجع لنفسه، ومن كفر فإن الله غني عنه، وأخبر أنه سبحانه يرضى لعباده الشكر، وأن الله لا يرضى لهم الكفر، وبين أنه يجزي الشاكرين فقال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ[البقرة: 152]، وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، وقال: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ[الزمر :7]، وقال: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران :144]، وقال عن سليمان عليه السلام فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ[النمل: 40].

فاتقوا الله أيها المسلمون وحافظوا على نعم الله بالشكر بالأقوال والأعمال تبقى لكم، ويجزيكم الله جزاء حسناً، ولا تكفروها فتُسلبوها وتحلَّ بكم العقوبات والمثلات.

اللهم اجعلنا عند النعماء من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين، وعند الغفلة والزلة من المستغفرين التائبين، وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، واستغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم .

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد